التجذُّر 4
سيمون ڤـايل
على
صعيد الخير والشر، يمكن أن يكون هناك امتثال أو عدم امتثال لإرادة الله
بحسب العلاقة بالخير وبالشر. يقوم الإيمان بالعناية الإلهية على اليقين
بأن الكون في كُلِّيَّته ممتثل لإرادة الله ليس فقط بالمعنى الأول ولكن
بالمعنى الثاني أيضًا؛ أي أن الخير يغلب الشرَّ في هذا الكون. وهنا لا
يمكن أن نقصد سوى الكون بكُلِّيَّته[1]،
لأننا في الأمور الجزئية لا يمكننا للأسف أن نشكَّ في وجود الشر. وهكذا
فإن موضوع هذا اليقين هو ترتيب أزلي وكلِّي يشكِّل أساسَ النظام الثابت
للعالَم. إذا لم أخطئْ، لا تظهر العنايةُ الإلهية أبدًا بغير هذا الوجه
لا في الكتب المقدسة للصين والهند واليونان ولا في الأناجيل.
إلا أنه عندما اعتمدَت الإمبراطوريةُ الرومانية الدينَ المسيحي رسميًا
عتَّمَت على الجانب اللاشخصي لله وللعناية الإلهية. وجعلوا من الله
نسخةً بديلةً عن الإمبراطور. وقد جعل هذه العمليةَ سهلةً التيارُ
اليهوديُّ الذي لم تستطعِ المسيحيةُ التطهرَ منه بحكم كونه أصلاً
تاريخيًا لها. كانت علاقةُ يَهْوَه بالعبريين في النصوص السابقة للسبي
كالعلاقة القانونية بين السيِّد وعبيده. لقد كانوا عبيدًا للفرعون؛
فقام يَهْوَه بعد أن انتزعَهم من بين يدَي الفرعون وحلَّ محلَّه وأخذَ
حقوقَه. فأصبحوا ملْكًا له، وسيطر عليهم كأي رجل يسيطر على عبيده،
إلاَّ أنه كان يمتلك خيارًا أوسع في المكافآت والعقوبات. فأوصاهم بدون
مبالاة بالخير أو بالشر، ولكنه أوصاهم في أغلب الأحيان بالشر، وفي كلتا
الحالتين لم يكن عليهم إلاَّ الطاعة. ولا يهم إن أبقَتْهم في الطاعة
أكثرُ الدوافع دناءةً مادام أنهم ينفِّذون الأوامرَ.
كان مثلُ هذا المفهوم يليق تحديدًا بقلوب الرومان وعقولهم. لقد دخلَت
العبوديةُ فيهم فأفسدَت جميعَ العلاقات الإنسانية. وحطّوا من قيمة أجمل
الأشياء. ودنَّسوا المتوسِّلين بإرغامهم على الكذب. ودنسوا الاعترافَ
بالفضل عندما اعتبروه عبوديةً مخفَّفة؛ ففي مفهومهم عندما يتلقَّى
المرءُ إحسانًا يتخلَّى بالمقابل عن جزء من حريته. وإذا كان الإحسان
كبيرًا كانت الأعرافُ السائدة تُرغِم على القول للمحسن بأن هذا المرء
عبد له. لقد دنسوا الحبَّ؛ فأنْ يكون المرءُ عاشقًا يعني بالنسبة لهم
إما اقتناءَ المحبوب كمُلْكية وإما الخضوع له بتذلل إذا لم يستطع
المرءُ امتلاكَ محبوبه وذلك من أجل الحصول منه على ملذات حسية، حتى وإن
كان عليه القبول بمشاركة عشرة أشخاص غيره فيه. وقد دنسوا الوطنَ عندما
تصوروا الوطنيةَ كإرادة استعباد جميع الناس من غير أبناء البلد. لكنْ
قد يكون من الأسهل أن نعدَّ الأشياءَ التي لم يدنسوها. وقد لا نجد على
الأرجح شيئًا.
من بين الأمور الأخرى التي دنسوها تأتي السيادة. إذْ إن المفهوم القديم
للسيادة الشرعية، بمقدار ما يمكن أن نعرف عنه، يبدو أنه كان جميلاً
جدًا. لا يمكن سوى التنبؤ به لأنه لم يكن موجودًا عند اليونان. لكنه هو
الذي بقي على الأرجح في إسبانيا حتى القرن السابع عشر وهو الذي بقي في
إنكلترا حتى أيامنا هذه بدرجة أقل بكثير.
لقد حظيَ لوسيدُ [السيِّد]
le Cid
[في مسرحية كورناي] بمقابلة الملِك بعد نفْيٍ قاسٍ وجائر وبعد أن غزا
وحيدًا أراضيَ أوسعَ من المملكة التي وُلِدَ فيها؛ وما أن لمحَه من
بعيد حتى ترَجَّـلَ عن فَرَسِه وارتمى أرضًا متَّكِئًا على يديه
وركبتيه وقَـبَّـلَ الأرضَ. وفي [مسرحية] نجمة إشبيليا
l'Étoile de Séville
للكاتب [الإسباني] [فيليكس] لوﭙـي دي ﭭـيغا
[Félix] Lope de Vega
[1562 – 1635]، يريد المَلِكُ منْعَ إعدامِ قاتل لأنَّ القاتلَ نفسَه
قد أدان فِعلَتَه سرًا؛ فاستدعى كلَّ قاضٍ من القضاة الثلاثة على حِدة
ليُـبلغَهم أوامرَه؛ فجثا كلُّ واحد منهم على ركبتيه وأكَّدَ امتثالَه
التام. بعد ذلك، حالما اجتمعوا في المحكمة أصدروا بالإجماع حُكْمًا
بالإعدام. وأجابوا الملِكَ الذي طلبَ تفسيراتٍ لهذا الأمر: "نحن كرعايا
نخضع لكَ في كل شيء، ولكننا كقضاة لا نطيع إلاَّ ضميرَنا."
هذا المفهومُ هو مفهوم خضوع غير مشروط، تام، لكنه خضوع للشرعية فقط
بدون أي اعتبار للقوة ولا لاحتمالات السَّرَّاء أو الضرَّاء ولا
للمكافأة أو العقاب. إن هذا المفهوم هو بالضبط مفهوم الخضوع نفسه
للرئيس في الأنظمة الرهبانية. كان الملِكُ المطاعُ على هذا النحو صورةً
عن الله في الواقع عند رعاياه، كرئيس الدير الذي يطيعه الرهبانُ ليس
بسبب وهْمٍ يجعله يبدو إلهيًا بل فقط نتيجة اتفاق كانوا يعتقدون أنه
أُقِرَّ إلهيًا. كان هذا احترامًا دينيًا خاليًا تمامًا من الشِّرْك.
هذا المفهوم نفسُه عن السيادة الشرعية قد انتقل إلى ما هو أدنى من
الملِك، من أعلى السُّـلَّم الاجتماعي إلى أسفله. وهكذا أصبحَت الحياةُ
العامة برُمَّتِها متشرِّبةً بالفضيلة الدينية التي هي الطاعة، شأنُها
كشأن الحياة في دير بِنْدِكْتي من أفضل عصر.
في العصور التي نعرفها، نجد هذا المفهومَ عند العرب، حيث لاحظَه ت. إ.
لَوْرَنْسُ
T. E. Lawrence[2]
[لورنس العرب]؛ وفي إسبانيا حتى اللحظة التي كان فيها على هذا البلد
البائس أنْ يعانيَ من حُكْم حفيد لويس الرابع عشر ويفقدَ بذلك روحَه؛
وفي بلاد جنوب الوار حتى اجتياح فرنسا لها وحتى بعد ذلك، لأنَّ هذا
الإلهامَ مازال محسوسًا عند
تيوفيل دو ﭭـيو
Théophile de Viau.
لقد تردَّدَتِ المَلَكيةُ الفرنسيةُ طويلاً بين هذا المفهوم وبين
المفهوم الروماني، لكنها اختارت المفهومَ الرومانيَّ، ولذلك لا يمكن
طرْحُ مسألة إحيائه في فرنسا. سنكون سعداء جدًا لو كانت هناك أيةُ
إمكانية لنا في مَلَكية شرعية حقًا.
هناك عدد لا بأس به من المؤشرات التي تقود إلى الاستنتاج بأن المفهوم
الإسباني للمَلَكية الشرعية كان هو مفهومَ المَلَكيات الشرقية القديمة.
لكنه ما فتِئَ يُساءُ إليه غالبًا جدًا. فالآشوريون سبَّبوا له أذىً
كبيرًا. وكذلك الإسكندر – ذلك النتاج لمنهج أرسطو التربوي والذي لم
يتنكَّرْ له أستاذُه أبدًا. وقد تجاهلَه دائمًا العبريون، هؤلاء العبيد
الآبِقُون. وكذلك الرومانُ بلا شك، وهُمْ حفنةٌ من المغامرين الذين
جمعَتْهم الحاجةُ.
إن ما حلَّ محلَّ هذا المفهومَ في روما كانت علاقة السيد بالعبد. كان
شيشرون يعترف أصلاً وبخجل بأنه يَعتبِر نفسَه نصفَ عبد للقيصر.
وابتداءً من أُغسطس كان الإمبراطورُ يُعتبَر سيدًا على جميع سكان
الإمبراطورية الرومانية بمعنى مالكِ عبيد.
لا يتخيلُ البشرُ أنه يمكن أن تُنْزَلَ بهم المصائبُ التي يجدون من
الطبيعي إنزالها بالآخرين. ولكنه عندما يحصل ذلك في الواقع، وأمام
هلعهم، يجدون ذلك طبيعيًا؛ فلا يجدون في أعماق قلوبهم أيةَ حيلة في
السخط وفي مقاومةِ معاملةٍ لم تشمئزَّ قلوبُهم أبدًا من معاملة الآخرين
بها. هكذا يكون الأمر على هذا النحو على الأقل عندما تجري الظروفُ بحيث
لا يكون هناك شيء، حتى بالنسبة للمخيلة، يمكنه أنْ يفيدَ كدعم خارجي،
عندما لا يمكن أن يكون هناك أية وسيلة إلاَّ في سريرة القلب. فعندما
تهدِم الجرائمُ الماضية هذه الوسائلَ يصبح الضعفُ كليًا فيقْبَل المرءُ
أيةَ درجة من الخزي. إنه على هذه الآلية الخاصة بالقلب البشري يقوم
قانون المعاملة بالمثل المعبَّر عنه في سِفْر الرؤيا بالعبارة: "إنْ
كان أحدٌ يجمعُ سَبْيًا فإلى السبي يذهب." [رؤيا، 13، 10]
وهكذا بعدَ أنْ وجدَ كثيرٌ من الفرنسيين أنه من الطبيعي جدًا الكلام عن
تعاوُن مع السكان الأصليين المضطهَدين في المستعمَرات الفرنسية،
استمروا في لفظ هذه الكلمة بدون أي عناء عند التكلم مع أسيادهم
الألمان.
كذلك الأمرُ بعد أن اعتَبرَ الرومانُ العبوديةَ المؤسسةَ الأساسيةَ لم
يجدوا شيئًا في قلوبهم يمكنه أن يقولَ لا لإنسان كان يؤكِّد امتلاكَه
لِحَقِّ الملكية عليهم وكان قد دعمَ منتصرًا تأكيدَه هذا بالأسلحة. كما
لم يجدوا شيئًا يمكنه قولُ لا لورثتهم الذين امتلكوهم بحق الوراثة. من
هنا جاءت جميعُ حالات الجُبْن التي كان تعدادها يثير اشمئزازَ تاسيتوسَ
Tacite[3]،
فضلاً عن أنه كان هناك مشاركة فيها. فقد كانوا ينتحرون لمجرَّد أنْ
يتلَقَّوا أمرًا بذلك، لا لشيء آخر؛ العبد لا ينتحر، فلو انتحرَ لكان
بانتحاره يسرق مال سيِّدِه. كان وراء كاليغولا
Caligula[4]،
عندما كان يأكل، أعيانٌ من مجلس الشيوخ
sénateurs
يقِفون لابسين جلابيبَ، وهو ما كان يُـعَـدُّ في روما علامةً مميَّزة
على الإهانة حتى بالنسبة للعبيد. وكان يغيب أثناء الولائم لمدة ربع
ساعة ليصطحب امرأةً من النبلاء إلى حجرتها الخاصة ثم يعود بها
محْمرَّةً شَعْثاءَ الشَّعر بين المدعوين الذين يكون من بينهم زوجُها.
لكنَّ هؤلاء الناس كانوا دائمًا يجدون من الطبيعي جدًا ليس فقط معاملة
العبيد بهذه الطريقة بل أيضًا معاملة الشعوب المستعمَرة في الأقاليم.
وهكذا في عبادة الإمبراطور، كان الشيء الذي أُلِّهَ هو مؤسسةُ الرق.
كان ملايينُ العبيد يؤدون عبادةً وثنيةً لمالكهم.
وهذا ما حدَّدَ موقفَ الرومان بشأن الدين. فقد قيل بأنهم كانوا
متسامحين. وفي الواقع كانوا يتساهلون مع جميع الممارسات الدينية
الخالية من مضمون روحي.
على الأرجح أنه كان بإمكان هتلر أن يتساهل مع الثيوصوفيا بدون خطر لو
كانت تُوافِقُ هواه. كان بإمكان الرومان بسهولة أن يتساهلوا مع عبادة
ميثرا [إله النور عند الفُرْس]، كاستشراق مزيَّف للمتشبهين بالأكابر
snobs
وللنساء العاطلات عن العمل.
هناك استثناءان لتسامُحِهم. أولاً، هم لا يستطيعون بالطبع أن يتحمَّلوا
أنْ يدَّعيَ أيٌّ كان حقَّه في ملكية عبيدهم. ومن هنا تأتي عدائيُهم
لـ"يَهْوَه". لقد كان اليهود ملْكيةً لهم ولا يمكن أن يكون لهم مالك
آخر بشري أو إلهي. كان الأمر ببساطة يتعلق بنزاع بين أنصار الاسترقاق.
أخيرًا فإن الرومان، يدفعهم قلقُ النفوذ ولكي يثبتوا عمليًا أنهم
السادة، قاموا بقتل القطعان البشرية كلها تقريبًا والتي كان هناك
تنازُع على ملْكيتها.
الاستثناء الثاني كان يتعلق بالحياة الروحية. فالرومان لا يمكنهم أن
يتسامحوا مع ما هو غني روحيًا. إذْ إن حب الله نار خطيرة قد يكون
الاحتكاكُ بها ضربةً قاضيةً لتأليههم البائس للرق. ولذلك دمَّروا بدون
رحمة الحياةَ الروحية بكل أشكالها. فقد اضطَهَدوا بقسوة فظيعة جدًا
الفيثاغوريين وجميعَ الفلاسفة المنتسبين إلى موروثات حقيقية.
بالمناسبة، من المحيِّر جدًا أن يتيحَ انفراجٌ ذات مرة لرُواقيٍّ
stoïcien
حقيقي ذي إلهام يوناني لا روماني باعتلاء العرش؛ ويزداد اللغزُ غموضًا
بكون هذا الرواقي قد أساء معاملةَ المسيحيين. لقد أبادوا جميعَ الكهنة
الكلتيين الغاليين
druides de Gaule؛
وقضَوا على العبادات المصرية؛ وأغرقوا بالدم عبادةَ ديونيسوس
[5]Dionysos
ودنَّسوها بافتراءات محبوكة بذكاء. ونعرف ماذا فعلوا بالمسيحيين
الأوائل.
مع ذلك فقد كانوا يشعرون بعدم ارتياح في وثنيتهم البدائية. فكانوا،
كهتلر، يعرفون ثمنَ غطاء وهمي من الروحانية. ربما كانوا يريدون أن
يأخذوا الغلافَ الخارجي لموروث ديني حقيقي ليطبقوه على إلحادهم الواضح
أكثر مما ينبغي. كان هتلرُ يوَدُّ أيضًا إيجادَ أو تأسيسَ دين.
لقد قام أُغسطسُ بمحاولة لدى رجال الدين في [مدينة]
ألفسينا
Éleusis[6].
وكانت مؤسسةُ أسرار إلفسينا قد انحطَّت أساسًا إلى العدم تقريبًا، ولا
ندري نتيجةَ ماذا حصلَ ذلك، في زمن خلفاء الإسكندر. إن مجازر سيلاَّ
Sylla
التي
جعلَت الدمَ يرتفع في شوارع أثينا كما يرتفع ماءُ الطوفان لا بد أنها
لم تنفعْهم في شيء. من المشكوك فيه جدًا أن يبقى في زمن الإمبراطورية
أيُّ أثر لموروث حقيقي. مع ذلك رفض جماعةُ ألفسينا العمليةَ.
ووافقَ عليها المسيحيون عندما زادتْهم المجازرُ رَهَـقًا وتَعِسوا إلى
حد لا يطاق من عدم رؤيتهم حصولَ نهاية ظافرة للعالَم. وهكذا تمَّ تكييف
أب المسيح ليتلاءمَ مع الزي الروماني فأصبحَ سيِّدًا ومالكًا للعبيد.
وقد أمَّنَ يَهْوَه المرحلةَ الانتقالية. فلم يعدْ هناك أيُّ ضرر في
احتضانه. ولم يعد هناك تنازُع ملْكية بين الإمبراطور الروماني وبينه،
وذلك منذ تدمير أورشليم.
لا شك في أن الإنجيل مليء بالتشبيهات المستقاة من الرق. لكن هذه الكلمة
هي في فم المسيح حيلة في الحب. العبيد هم الناس الذين أرادوا من كل
قلبهم أن يُكَرِّسوا أنفسَهم لله كعبيد. وعلى الرغم من أنه تكْمن هنا
هبةٌ قد تمَّتْ في لحظة ولكن بصورة قطعيَّة فإن هؤلاء العبيد فيما بعد
لا يتوقفون لحظةً عن التوسل إلى الله أنْ يأذنَ بإبقائهم في العبودية.
وهذا يتعارض مع المفهوم الروماني. إذا كنا ملْكًا لله فكيف يمكننا أن
نكرسَ أنفسَنا له كعبيد؟ لقد أعتقَنا لكونه خلَقَنا. فنحن خارج مملكته.
يمكن لموافقتنا وحدَها أنْ تنجِزَ مع الزمن العمليةَ العكسية وتجعلَ
منا شيئًا خاملاً، شيئًا أشْبهَ بالعدم، حيث يكون الله سيدًا مطلقًا.
إن الإلهام المسيحي بحق قد احتفظَ به التصوفُ لحسن الحظ. ولكنْ خارجَ
التصوف الخالص لَوَّثَت الوثنيةُ الرومانيةُ كلَّ شيء. وثنية، لأن
طريقة العبادة هي التي تفصل الوثنية عن الدين وليس الاسم الذي يسمَّى
به الموضوع. فإذا عبَدَ المسيحيُّ اللهَ بقلبٍ مُحِبٍّ كقلب وثني من
روما في إجلاله للإمبراطور فإن ذلك المسيحي وثنيٌّ أيضًا.
مازال المفهومُ الروماني عن الله قائمًا حتى يومنا هذا، وحتى في عقولٍ
من مثل عقل ماريتان
Maritain.
فقد كتبَ: "إن مفهوم الحق أعمقُ حتى من مفهوم الواجب الأخلاقي، لأنَّ
للهِ حقًا مطلقًا على الخلائق وليس عليه واجب أخلاقي تجاهها (على الرغم
من أنه أوجبَ على نفسه أن يعطيَهم ما تتطلَّبه طبيعتُهم)."
لا يمكن لا لمفهوم الواجب ولا لمفهوم الحق أنْ يَـلِيقا بالله، ولكنَّ
مفهوم الحق يليق أقلّ بكثير جدًا. لأن مفهوم الحق بعيد إلى أقصى درجة
عن الخير المحض. فهو ممزوج بالخير وبالشر؛ لأن امتلاكَ حق ينطوي على
إمكانيةِ استخدامٍ إما حسَنٍ وإما سيء. على العكس من ذلك فإن القيام
بواجب هو دائمًا، وبلا قيد ولا شرط، خيرٌ من جميع الوجوه. ولذلك فقد
ارتكبَتْ جماعةُ عام 1789 خطًا كارثيًا عندما اختارت مفهومَ الحق مبدًا
لإلهامها.
الحق المطلق هو الحق في الملْكية بحسب المفهوم الروماني
أو أي مفهوم مماثل له في الجوهر. فأنْ يُنسَبَ إلى الله حق مطلق بدون
واجب يعني أنْ يُجعَلَ منه المعادِل اللانهائي لمالك عبيد في روما.
وهذا لا يتيح سوى إخلاصٍ استعبادي. فإخلاص عبْدٍ لرَجُـل يعتبِره
ملْكيةً له هو شيء وضيع. إن الحب الذي يدفع إنسانًا حرًا إلى التخلِّي
عن جسده ونفسه عبوديةً لما يُكَوِّن الخيرَ الكاملَ هو نقيض الحب
الاستعبادي.
في الموروث الصوفي للكنيسة الكاثوليكية، أحدُ أدوات التطهُّر الأساسية
التي يجب على النفس المرور بها هي الإلغاء التام للمفهوم الروماني عن
الله. ومادام هناك أثرٌ منه فاتِّحاد الحب مستحيل.
إلاَّ أنَّ تألُّقَ الصوفيين كان عاجزًا عن إلغاء هذا المفهوم في
الكنيسة مثلما أُلغيَ في نفوسهم، ذلك لأن الكنيسة تحتاج إليه كما
احتاجت الإمبراطوريةُ إليه. فهي تحتاج إليه من أجل سيطرتها الزمنية.
بحيث أن تقسيم السلطة إلى روحية وزمنية، ذلك التقسيم الذي يتحدثون
مرارًا عنه في معرِض الحديث عن القرون الوسطى، هو أمر أكثر تعقيدًا مما
يُخيَّـل إلينا. إن طاعة الملِك بحسب المفهوم الإسباني التقليدي هو شيء
أكثر تديُّنًا بكثير جدًا وأكثر نقاءً من طاعة كنيسة مسلَّحةٍ بمحاكم
التفتيش وتطرح مفهومًا استعباديًا لله، كما كانت إلى حد كبير الحالةُ
في القرن الثالث عشر. قد يحصل مثلاً في القرن الثالث عشر في أراغون
Aragon[7]
أنْ يكون الملِكُ قابضًا على سلطة روحية في الحقيقة وتكون الكنيسة
قابضةً على سلطة زمنية في الحقيقة. ومهما كان من أمر، فإن العقلية
الرومانية في التوسع والسيطرة لم تفارق الكنيسةَ أبدًا بما يكفي لكي
تتمكَّن الكنيسةُ من إلغاء المفهوم الروماني عن الله.
بالنتيجة، أصبحَ مفهومُ العناية الإلهية مفهومًا تغيَّرَ إلى درجة أننا
لم نعد نعرفه. فقد أصبحَ عبثيًا عبثيةً صارخةً إلى حد أنه يذهل الفكرَ.
وأسرارُ الإيمان الحقيقية هي الأخرى عبثية، لكنَّ عبثيتها تضيء الفكرَ
وتجعله يُنتِج بغزارةٍ بديهياتٍ للعقل. ربما تكون العبثياتُ الأخرى
أسرارًا شيطانية. لقد أصبحَت جميعًا مختلطةً في الفكر المسيحي الشائع
كاختلاط القمح بالزُّؤان.
إن مفهوم العناية الذي يقابلُ النموذجَ الروماني لله هو تدَخٌّـل شخصي
لله في الكون لكي يضبطَ بعضَ الوسائل بهدف غايات خاصة. إننا نُقِرُّ
بأن نظام العالَم، إذا ما تُرِكَ لنفسه بدون تدَخُّل خاص من الله في
المكان المناسب واللحظة المناسبة وللغاية المناسبة، يمكنه ربما أن
يسبِّبَ نتائجَ لا تتناسب مع إرادة الله. ونقِرُّ بأن الله يُجري
تدخُّلاتٍ خاصةً. لكننا نقرُّ بأن هذه التدخلاتِ الخاصةَ التي تهدف إلى
تصحيح لعبة السببية هي نفسها خاضعة للسببية. فالله يخرِقُ نظامَ
العالَم لا ليُظهِرَ فيه ما يريد أنْ يُحدِثَ، بل ليُظهِر فيه أسبابًا
تسبِّبُ ما يريد أنْ يُحْدِثَ بصفة نتيجة.
إذا فكَّرْنا بالأمر فإن هذه الافتراضاتِ تقابِلُ تمامًا وضْعَ الإنسان
أمام المادة. فللإنسان غاياتٌ خاصة تجبره على تدخلات خاصة، هذه
التدخلاتُ تخضع لقانون السببية. لنتخيَّـلْ مَلاَّكًا رومانيًا كبيرًا
يمتلك أملاكًا واسعةً وعبيدًا كثيرين؛ ثم لنوسِّع الملْكَ ليشملَ
الأبعاد َنفسَها للكون. كذلك هو مفهوم الله الذي يسيطر في الواقع على
جزء من المسيحية والذي يُعْدي بدناسته حتى المسيحيةَ برُمَّتِها إلى حد
ما، باستثناء المتصوفين.
إذا افترضنا أن مثلَ هذا الملاَّك يعيش وحدَه بدون أن يجد أبدًا
أندادًا له وبدون أن تكون له أيةُ علاقة إلاَّ اللهمَّ مع عبيده فإننا
نتساءل كيف يمكن أن تَظهَر في فكره غايةٌ خاصة. فهو نفسُه ليست لديه
حاجاتٌ غير مشبعة. فهل سيسعى إلى خير عبيده؟ في هذه الحالة سيتصرف بشكل
سيء جدًا، لأن العبيد في الواقع يستولي عليهم الجريمةُ والشقاءُ. ولو
تمَّ السعيُ إلى خَلْق مشاعرَ طيبةٍ فيهم من خلال تعداد كل ما هو سعيد
في مصيرهم – كما كان يفعل بلا شك المبشِّرون الاستعباديون في أمريكا
سابقًا – فسيتَّضح أكثرَ كم كان هذا الجزءُ من الخير محدودًا وكم كان
هناك تفاوُتٌ بين القوة الممنوحة للسيد وبين الجزء الخاص بكل من الخير
والشر. وبما أنه لا يمكن إخفاء ذلك فسيقال للعبيد بأنهم إذا كانوا
أشقياءَ فذلك بسببهم. إلاَّ أنَّ هذا التأكيد، فيما لو قَبِلْناه، لا
يقدِّم أيَّ إيضاح لمشكلة معرفة ما يمكن أن تكون رغباتُ المالك
[وأهواؤه]. ومن المستحيل أن نتصورَ هذه الرغباتِ غيرَ نزواتٍ بعضُها
طيِّب. وفي الواقع نتصورها على هذا النحو.
إن جميع المحاولات لكشف دلائل عطف المالك في بنية الكون
هي بدون أي استثناء محاولات من المستوى نفسه لعبارة برناردان دو
سان-ﭙـيير
Bernardin
de Saint-Pierre
عن البطيخ الأصفر [الشَّمَّام] والوجبات مع العائلة.[8]
هناك في هذه المحاولاتِ العبثيةُ الأساسيةُ نفسُها الموجودة في
الاعتبارات التاريخية حول نتائجِ تجسُّدِ المسيح. إن الخير المحدَّد
للإنسان ملاحظتُه في الكون منتهيًا ومحدودًا. ومحاولةُ إيجاد علامة على
الفعل الإلهي فيه يعني جعْلَ اللهِ نفسِه خيرًا منتهيًا ومحدودًا. وهذا
تجديف.
يمكن إيضاح النوع نفسه من المحاولات في تحليل التاريخ من خلال فكرة
ذكية تمَّ التعبيرُ عنها في إحدى المجلات الكاثوليكية في نيويورك خلال
الذكرى الأخيرة لاكتشاف أمريكا. كانت الفكرةُ تقول بأن الله أرسلَ
كريستوفَ كولومبوس إلى أمريكا لكي يكون هناك بعد عدة قرون بلدٌ قادر
على هزيمة هتلر. وهذا أقلُّ بكثير مما قاله برناردان دو سان-ﭙـيير؛
إنَّ هذا لفظيع. يحتقر اللهُ، على ما يبدو، الأعراقَ الملونة؛ فإبادةُ
شعوب أمريكا في القرن السادس عشر كانت تبدو له شيئًا تافهًا مقارنةً
بخلاص الأوروبيين في القرن العشرين؛ إذْ إنه لم يكن يستطيع جَلْبَ
الخلاصِ لهم بوسائلَ أقلِّ دمويةً. بإمكاننا أن نعتقدَ بأنه بدلاً من
أنْ يرسلَ كريستوفَ كولومبوس إلى أمريكا قبل أكثر من أربعة قرون كان من
الأسهل أن يرسلَ أحدًا يغتال هتلرَ في حوالي عام 1923.
قد نكون مخطئين إذا ظنَنَّا بأن هذه الدرجةَ من الحماقة استثنائية.ٌ
فكل تفسير رباني للتاريخ يقع بالضرورة في هذا المستوى تمامًا. وهذه هي
الحالة بالنسبة للمفهوم التاريخي عند بوسويه
Bossuet[9].
فهو فظيع وسخيف في آنٍ معًا، كما أنه مثير للإشمئزاز بالنسبة للعقل
والقلب. يجب على المرء أن يكون حسَّاسًا لجَرْس الكلمات حتى يرى هذا
الحَـبْرَ المتملِّقَ مفكرًا كبيرًا.
عندما أُدخِلَ مفهومُ العناية الإلهية في الحياة الخاصة لم تكن
النتيجةُ أقلَّ هزلية. فعندما تَنزِلُ صاعقةٌ على بُعد سنتيمتر واحد من
أحدهم دون أنْ تمسَّه يظنُّ غالبًا أن العنايةَ الإلهية قد حفِظَتْه.
والذين يكونون على بعد كيلومتر واحد من مكان نزول الصاعقة لا يظنون
أنهم مَدينون بحياتهم لتدَخُّـل الله. على ما يبدو عندما تكون هناك
آليةٌ في الكون على وشك قتل كائن بشري يتساءل اللهُ إنْ كان يرضيه
إنقاذ حياته أو لا، فإذا قرَّر أن ينقذَ حياةَ هذا الكائن فإنه يسدِّد
ضربةً لا تكاد تُرى بإبهامه على هذه الآلية. يمكنه تمامًا إزاحة
الصاعقة لمسافة سنتيمتر واحد لكي ينقذَ حياةَ أحدهم، ولكنْ ليس لمسافة
كيلومتر، والأقل من ذلك أنه لا يمكنه أن يمنعَ الصاعقة من السقوط بلا
قيد ولا شرط. لا بد أن نُصَدِّقَ بأننا نفكر بهذه الطريقة. وإلا لقلنا
في أنفسنا بأن العناية الإلهية تتدخَّل لتمنعَنا من أنْ نُقتَلَ
بالصاعقة في كل لحظة من حياتنا، وبالدرجة نفسها لحظةَ نزول الصاعقة على
بُعد سنتيمتر واحد منا. إن اللحظة الوحيدة التي لا تتدخَّل فيها
العنايةُ لمنع مثل هذا الكائن البشري من أن تقتلَه الصاعقةُ هي اللحظة
نفسها التي تقتلُه فيها الصاعقةُ، على الأقل فيما لو حصل ذلك. فكل ما
لا يحصل يمنعه اللهُ بالدرجة نفسها. وكل ما يحصل يسمح به اللهُ بالدرجة
نفسها.
إن المفهوم العبثي للعناية الإلهية كتدَخُّـل شخصي وخاص لله من أجل
غايات خاصة يتعارض مع الإيمان الحقيقي. لكنَّ هذا التعارضَ ليس واضحًا.
ويتعارض مع المفهوم العلمي للعالَم؛ وهنا التعارض واضح. والمسيحيون
الذين يمتلكون، تحت تأثير التربية والمحيط، هذا المفهومَ عن العناية
الإلهية يمتلكون أيضًا المفهومَ العلمي للعالَم، وهذا يفْصِلُ فكرَهم
إلى حجرتين بينهما حاجزٌ منيع؛ إحداها للمفهوم العلمي للعالَم، والأخرى
لمفهوم العالَم كمجال تتصرَّف فيه العنايةُ الشخصية لله. وبذلك لا
يستطيعون التفكيرَ لا بهذا المفهوم ولا بذاك. فضلاً عن أن المفهومَ
الثاني لا يمكن التفكير فيه. يَعرِف غيرُ المؤمنين بسهولة، نظرًا لأنه
لا يعيقُهم أيُّ اعتبار، أن هذه العنايةَ الشخصية والخاصة مُضحِكةٌ وأن
الإيمان نفسه بالنتيجة يبدو في نظرهم موصومًا بالسخرية.
المقاصد الخاصةُ التي نعزوها لله هي تقطيعاتٌ نقوم بها في التعقيد
الأكثر من لانهائي لترابطات السببية. نقوم بها من خلال وصل بعض الأحداث
عبر الزمن ببعض نتائجها التي يتم اختيارها من بين آلافٍ من النتائج
الأخرى. عندما نقول عن هذه التقطيعات بأنها مطابِقة لإرادة الله نكون
مُحِقِّين. غير أنَّ هذا صحيح بالدرجة نفسها وبدون أي استثناء في جميع
التقطيعات التي يمكن أن تقومَ بها أيةُ روح بشرية أو غير بشرية وعلى
أية درجة من الحجم عبر الزمان والمكان في تعقيد الكون.
لا يمكن تقطيع حدث يكون كالذَّرَّة في استمرارية المكان والزمان؛ لكنَّ
عجْزَ اللغة البشرية يُجبِر على الكلام وكأنه يمكن ذلك.
جميع الأحداث التي تؤلِّف الكونَ في مجمل سير الأزمان، كلُّ حدثٍ من
هذه الأحداث، كلُّ تجميع ممكن لعدة أحداث، كلُّ علاقة بين حدثَين أو
أكثر، بين مجموعتَي أحداث أو أكثر، بين حدث وبين مجموعة أحداث – جميع
هذا سمحَت به إرادةُ الله بدرجة واحدة. جميع هذا هو المشيئات الخاصة
لله. ومجموع المشيئات الخاصة لله هو الكون نفسه. ما يُستثنى فقط هو ما
هو شر، وهذا نفسه يجب استثناؤه ليس بكامله وبجميع روابطه بل فقط بسبب
أنه شر. ففي جميع الروابط الأخرى هذا مطابق لإرادة الله.
إن الجندي الذي يصاب بجرح شديد الألم يعيقه عن المشاركة في معركة
قُتِلَ فيها جميعُ عناصر كتيبته يمكنه أن يعتقدَ بأن الله لم يُـرِدْ
أنْ يسبِّبَ له الألمَ، بل أراد أن ينقذَ حياتَه. هذه هي سذاجة ما
بعدَها سذاجة وفخ من حب الذات. لقد أرادَ اللهُ أن يسبِّبَ له ألمًا
وأن ينقذَ حياتَه وأن يُحْدِثَ جميعَ النتائج التي حدثَت بالفعل، ولكنه
لم يُرِدْ إحداها أكثرَ من الأخرى.
ليس هناك سوى حالة واحدة يكون فيها من المشروع الكلام عن إرادة خاصة
لله؛ ألا وهي عندما ينبثق في النفس دافِعٌ خاص يحمل علامةَ وصايا الله،
تلك العلامة التي يمكن التعرف عليها بسهولة. لكنَّ المقصودَ هو الله
بصفته مَصْدر إلهام.
فالمفهوم الحالي للعناية الإلهية يشبه التمرينَ المدرسي الذي نُسمِّيه
الشرحَ الفرنسي عندما ينفِّذه مُدَرِّسٌ رديء على نص شعري جميل كلَّ
الجَمال. سيقول المدرس: "وضعَ الشاعرُ الكلمةَ الفُلانةَ ليحصلَ على
النتيجة الفُلانة." وهذا لا يمكن أن يكون صحيحًا إلاَّ في الشعر من
الدرجة الثانية أو العاشرة أو الخمسين. إن جميعَ الأغراض، في مقطع شعري
في قمة الجَمال، وجميعَ الأصداء وجميعَ الإيحاءات التي يمكن أنْ
تستدعيَها الكلمةُ الفُلانةُ في المكان الفُلان تلبِّي درجةً واحدةً،
أيْ إلهامَ الشاعر تمامًا. كذلك الأمر في جميع الفنون، وعلى هذا النحو
يحاكي الشاعرُ اللهَ. فالإلهام الشعري في نقطة كماله القصوى هو أحد
الأشياء البشرية التي يمكن، بطريق القياس، أن تعطيَ مفهومَ إرادة الله.
الشاعرُ شخصٌ؛ ومع ذلك فهو يخترقه إلهامٌ لاشخصي في اللحظات التي يلامس
فيها الكمالَ الشعري. إنه لفي اللحظات الرديئة يكون إلهامُه شخصيًا؛
وحينئذٍ لا يكون إلهامًا بحق. عندما يستخدم الإلهامَ الشعريَّ كصورة
ليتصوَّرَ بطريق القياس إرادةَ الله، يجب ألاَّ يأخذَ الشكلَ الرديءَ
للإلهام، بل الشكل الكامل.
ليست العنايةُ الإلهية اضطرابًا أو شذوذًا في نظام العالَم. إنها نظام
العالَم نفسُه. أو لنقُـلْ إنها المبدأ المنظِّم لهذا العالَم. إنها
الحكمة الأزلية الفريدة الممتدة عبر كل الكون في شبكة مطلقة من
العلاقات.
هكذا تصوَّرَها جميعُ الأقدمين قبل الرومان. فجميع أجزاء العهد القديم
التي دخل فيها الإلهامُ الكوني للعالَم القديم تُقدِّم لنا عن العناية
المفهومَ الذي يغلِّفه رونقٌ كلامي لا يضاهَى. لكننا عُمْيٌ. ونقرأ من
دون فهم.
القوة الطبيعية ليست ذاتَ سيادة على هذه الأرض. إنها بطبيعتها عمياء
ومبهمة. ما لَه سيادةٌ على هذه الأرض هو التعيين والتحديد. فالحكمة
الأزلية تحبس هذا العالَمَ في شبكة، في شَرَكٍ من التحديدات. والعالَمُ
لا يتخبَّط فيها. فالقوة الطبيعية للمادة والتي تبدو لنا ذاتَ سيادة
ليست في الواقع غيرَ طاعة تامة.
هذا هو الضمان المقدَّم للإنسان، تابوتُ العهد، الميثاق، الوعد المرئي
والملموس على الأرض، الدعم الأكيد للرجاء. هذه هي الحقيقة التي تلسع
قلوبَنا كلما كنا حسَّاسين لجَمال العالَم. إنها الحقيقة التي تتفجَّر
بتعبيراتِ ابتهاجٍ لا تضاهى في الأجزاء الجميلة والنقية من العهد
القديم وفي اليونان عند الفيثاغوريين وجميع الحكماء وفي الصين عند
لاوتسه وفي جميع الكتب الهندوسية المقدسة وفي المقتطفات المصرية. وربما
تختبئ في أساطيرَ وحكاياتٍ لا حصر لها. وستَظهَر أمامنا، أمام أعيننا،
في عِلْمنا، عندما يفتح اللهُ أعينَنا يومًا ما كما فتحَ عينَي هاجَر
Agar[10].
نكتشفها عبر الكلمات نفسِها التي أكَّدَ فيها هتلرُ الخطأَ المعاكسَ:
"... في عالَم تتْبع فيه الكواكبُ والشموسُ مساراتٍ دائريةً، وتدور فيه
أقمارٌ حول كواكبَ، وتسيطر فيه القوةُ على كل مكان وتبقى وحدها سيِّدةَ
الضعف الذي تُرغِمُه على خدمتها مُذْعنًا أو تحطِّمَه..." كيف تُحْدِثُ
القوةُ العمياءُ دوائرَ؟ وليس الضعفُ هو الذي يخدم القوةَ بإذعان. إنما
القوةُ هي التي تُذْعِنُ للحكمة الأزلية.
لم يشعرْ هتلرُ ولا شبيبتُه المتعصبة أبدًا بذلك عندما كانوا ينظرون
إلى النجوم في الليل. ولكن من الذي حاولَ مرةً أنْ يُعَـلِّمَهم ذلك؟
لقد فعلَت الحضارةُ التي نفتخر بها أيَّما افتخارٍ كلَّ شيء لكي تخفيَ
ذلك؛ فمادام هناك شيءٌ في نفوسنا يمكنه الافتخار بها فإننا لسنا بريئين
من أية جريمة من جرائم هتلر.
في الهند، هناك كلمةٌ معناها الأصلي هو "التوازن" وتعني نظامَ العالَم
والعدلَ في آنٍ معًا. هذا هو نص مقدس بهذا الشأن يتعلق بشكل رمزي
بخَلْق العالَم وبالمجتمع البشري في آنٍ معًا.
"كان اللهُ في الحقيقة منذ البدء، وحيدًا تمامًا. ولكونه وحيدًا لم
يَظْهَر. خَلَقَ شكلاً أسمى، السيادة... لذلك لا شيءَ فوق السيادة.
ولذلك في الطقوس يجلس الكاهنُ فوق السيد...
"لم يكن اللهُ متجلِّيًا بعدُ. خلقَ طبقةَ الفلاحين والصُّنَّاع
والتُّجَّار.
"لم يتجلَّ بعد. خلقَ طبقةَ الخدَم.
"لم يتجلَّ بعد. خلقَ شكلاً أسمى، العدلَ. فالعدالةُ هي سيادة السيادة.
لذلك ليس هناك شيء فوق العدل. من كان بلا قوة يمكن أن يساويَ من هو قوي
جدًا بواسطة العدالة، مثلما يكون الأمر بواسطةِ سلطةٍ مَلَكية.
"ما هو عدل يكون حقيقةً. لذلك عندما يقول أحدهم الحقيقةَ يقال: "هذا
عدل." وعندما يقول أحدهم العدلَ يقال: "هذا حق." ما يعني في الحقيقة
أنَّ العدلَ والحقيقةَ شيء واحد."
هذا الذي منه الشمسُ تشرق،
هذا الذي فيه الشمسُ تغيب،
هذا الذي جعلَتْه الآلهةُ عدلاً،
نفسُه اليومَ، نفسُه غدًا
وكتب أناكسيماندرُ [أَنَكْسيمَنْدرُس]
Anaximandre[11]:
إنه انطلاقًا من اللاَّمُـتَـعَـيِّـن تحصل ولادةُ الأشياء؛ والدمارُ
هو عودةٌ إلى اللامُتعيِّن، والذي يتم بمقتضى الضرورة. لأنَّ الأشياءَ
تخضع لعقابٍ وتكفيرٍ [عن الذنوب]، تُعاقِبُ إحداها الأخرى، بسبب ظلمها،
وبحسب تسلسل الزمن.[12]
هذه هي الحقيقةُ، وليست المفهومَ الفظيعَ الذي يقتبسه هتلرُ من العِلْم
الحديث المعمَّم. كلُّ قوة مرئية وملموسة تخضع لحدود غير مرئية لا
تتجاوزُها قط. ففي البحر، تصعد الموجةُ وتصعد وتصعد؛ لكنْ هناك نقطة
حيث لا يكون فيها مع ذلك سوى الفراغ تُوقِفُ الموجةَ وتجعلها تنزِل من
جديد. بالطريقة نفسِها توقَّفَت الموجةُ الألمانية بدون أن يعرِفَ أحدٌ
لماذا، على شاطئ بحر المانش.
كان الفيثاغوريون يقولون بأن الكون يتشكَّل ابتداءً من اللامُتعيِّن
ومن المبدأ الذي يُـعَـيِّن، الذي يحدِّد، الذي يقيِّد. وهو المبدأ
الذي يسيطر دائمًا.
إنَّ الموروثَ المتعلِّقَ بقوس قُزَح والذي لا بد أنْ يكون قد اقتبسَه
[النبيُّ] موسى من المصريين يُعَبِّر بأكثر الطُّرُق تأثيرًا عن الرجاء
الذي لا بد أن يعطيَه نظامُ العالَم للبشر:
يقولُ الربُّ: فيكونُ متى أَنشُرْ سحابًا على الأرض وتَظْهَرَ القوسُ
في السَّحَاب، إنِّي أَذْكُرُ ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كلِّ نفْسٍ
حيةٍ في كلِّ جسد فلا تكون أيضًا المياهُ طوفانًا لتهلِكَ كلَّ ذي جسد.
[تكوين، 9، 14-15]
نِصْفُ الدائرةِ الجميلُ لقوس قُزَح هو الشهادةُ على أنَّ الظواهرَ على
الأرض، مهما كانت مخِيْـفةً، تخضع جميعًا لحدود. تريد الشاعريةُ
البديعةُ لهذا النص أنْ تُـذَكِّرَ اللهَ بممارسة وظيفتِه كمبدأ
محدِّد.
وضعْتَ للمياهِ تَخْمًا لا تتعدَّاه لتمنعَها من أنْ ترجعَ لتغطِّيَ
الأرضَ. (مَزْمور 104)
وكتقلُّبات الأمواج فإنَّ جميعَ تعاقُبات الأحداث على الأرض، لكونِها
جميعًا اختلالاتٍ في التوازن متوازنةً فيما بينها، ولاداتٍ وإباداتٍ،
زياداتٍ وإنقاصاتٍ، تُـبْـرِزُ جميعًا الحضورَ اللامرئيَّ لشبكةِ حدودٍ
لا قِوامَ لها وأقسى من أية ألماسة. لذلك فإنَّ تقلُّباتِ الأشياء
جميلةٌ، على الرغم من أنها تُبْدي ضرورةً لا ترحم. هي لا ترحم، لكنها
ليست القوةَ التي هي سيدة مطلقة على كل قوة.
لكنَّ الفكرةَ التي أسكرَتِ القدماءَ حقًا هي أنَّ الذي أخضعَ القوةَ
العمياءَ في المادة ليس قوة أخرى أقوى منها. إنما المحبة. كانوا
يعتقدون بأن المادة طائعةٌ للحكمة الأزلية بقوة المحبة التي تجعلُها
تُوافقُ على الطاعة.
يقول أفلاطونُ في
[محاورته] طيمايوس
Timée
بأنَّ العنايةَ الإلهية تسيطر على الضرورة من خلال ممارسة إقناع حكيم
عليها. هناك قصيدة رُواقية من القرن الثالث قبل الميلاد ولكنه ثَبُتَ
بأن إلهامَها أقدم من ذلك بكثير، تقول القصيدةُ لله:
لكَ طائعٌ هذا العالَمُ الذي يجري حولَ الأرض
يطيعُ أينما تذهبُ به ويوافقُ على سيطرتِكَ.[13]
هذه هي صفةُ العبد الذي تتَّخِذُه بين يديكَ القاهرتَين،
ذات حدَّين، مشتعلة، حية إلى الأبد، الصاعقة.
الصاعقةُ، سهمُ النار العمودي الذي ينبعثُ من السماء إلى الأرض، هي
تبادلُ الحب بين الله ومخلوقاته، ولهذا كان يُنعَتُ زيوسُ[14]
بأنه "رامي الصاعقة" بامتياز.
من هنا جاء المفهومُ الرُّواقيُّ المتمثل في "آمور فاتي"
amor fati
[حُـبُّ القَدَر]، وهو حُبُّ نظام العالَم، الذي وضعوه في مركز
كل فضيلة. يجبُ حُبُّ نظام العالَم لأنه طاعة خالصة لله. فمهما يمنحنا
هذا الكونُ أو يُنزِلُ بنا فإنه يفعل ذلك عن طاعة فقط. عندما يأتي
صديقٌ غائبٌ عنا منذ زمن طويل وننتظر قدومَه بقلق فيصافحنا فإنه لا
يهمُّ إنْ كان الضغطُ بحد ذاته على يدنا مريحًا أم شديدًا؛ وإذا
صافحَنا بقوةٍ وأوجعَنا لن ننتبهَ حتى إلى ذلك. وعندما يتكلم فلن
نتساءل إن كانت نغمةُ الصوت بحد ذاتها ممتعةً. فضغطُ اليد بالمصافحة
والصوت وكلُّ شيء هو بالنسبة لنا فقط علامة حضور، وبهذا فهي عزيزة جدًا
علينا. كذلك فإن كلَّ ما يحصلُ لنا خلال حياتنا، بما أن طاعة هذا الكون
التامة لله هي التي تأتي به، يضعنا على تماسٍّ مع الخير المطلق الذي
تشكِّله الإرادةُ الإلهية؛ بهذا المعنى ينبغي تلَقِّي الأفراحِ
والأتراح بدون تمييز جميعًا بلا استثناء بموقف داخلي واحد من الحب
والامتنان.
يعصي الناسُ، الذين يجهلون الخيرَ الحقيقيَّ، اللهَ بمعنى أنهم لا
يطيعونه كما ينبغي على مخلوق مفكِّر من خلال موافقة الفكر. لكنَّ
أجسادَهم ونفوسَهم خاضعةٌ قطعًا لقوانين الآليات التي تحكم بصورة مطلقة
المادةَ الفيزيائيةَ والنفسية. فالمادةُ الفيزيائية والنفسية فيهم تطيع
طاعةً تامة؛ إنهم طائعون طاعةً تامةً بصفتهم مادة، ولن يكونوا غيرَ ذلك
إذا لم يمتلكوا ولم يرغبوا النورَ الفائقَ الذي يرفع وحدَه الإنسانَ
إلى ما فوق المادة. ولذلك فإنَّ الشرَّ الذي يفعلونه بنا يجب تلَقِّيه
كما نتلقَّى الشرَّ الذي تفعله بنا المادةُ الجامدة. بالإضافة إلى
الرحمة التي ينبغي منحُها إلى فكرٍ إنساني تائه ومتألم، يجب علينا أن
نحبَّهم كما يجب أنْ نحبَّ المادةَ الجامدة بصفتها وبصفتهم أجزاء من
النظامِ كاملِ الجَمال للكون.
طبعًا عندما اعتقدَ الرومانُ بأنه يجب تدنيسُ الرواقية من خلال
تبَـنِّيها فإنهم وضعوا مكانَ الحب نوعًا من اللامبالاة التي تقوم
أساسًا على الكبرياء. من هنا جاء الحُكْمُ المسبَّق الذي مازال شائعًا
اليوم عن تعارُض الرواقية مع المسيحية، بينما هما فكران توأمان.
فالأسماءُ نفسُها لأقانيم الثالوث، اللوغوس
Logos
والـﭙـنوما
Pneuma
[النفَس، الروح] مقتبسةٌ من المفردات الرواقية. ومعرفةُ بعض النظريات
الرواقية تلقي ضوءًا قويًا على عدة مقاطعَ غامضةٍ من العهد الجديد.
هناك تبادُلٌ بين الفكرَين بسبب قرابتهما. ففي قلب كليهما هناك التواضع
والطاعة والمحبة.
إلاَّ أنَّ عدةَ نصوص تشير إلى أنَّ الفكرَ الرواقيَّ كان أيضًا فكرَ
العالَم القديم بِرُمَّتِه، وحتى الشرق الأقصى. فكلُّ البشرية في
الماضي عاشت انبهارَ الفكرة التي تقول بأن الكون الذي نحن فيه ليس
شيئًا آخر غير الطاعة التامة.
وصلَ اليونانيون إلى النشوة باكتشاف تأكيد ساطع لها في العلْم، وكان
هذا هو الدافع لتحمُّسهم لها.
إنَّ عمليةَ العقل في الدراسة العلمية تُظهِر للفكر الضرورةَ المسيطرةَ
على المادة كشبكة علاقات لامادية وبدون قوة. فالضرورةُ لا يتمُّ
تصوُّرُها تمامًا إلاَّ لحظةَ ظهور العلاقات لاماديةً تمامًا. عندئذٍ
لا تكون حاضرةً في الفكر إلاَّ بنتيجةِ انتباهٍ عالٍ وصافٍ يبدأ من
نقطة من النفس غيرِ خاضعة للقوة. ما يخضع في النفس البشرية للقوة هو ما
يكون تحت سيطرة الحاجات. يجب نسيانُ كل حاجة من أجل إدراك العلاقات في
صفائها اللامادي. وإذا بلَغْنا ذلك فسندرك لعبةَ القُوى التي من خلالها
تلبَّى الحاجاتُ أو تُرفَضُ تلبيتُها.
إنَّ القُوى على هذا الأرض تُحدِّدها الضرورةُ بمنتهى التحديد؛
والضرورةُ تتألف من علاقات هي أفكار؛ وبالتالي فإن القوة المطلقة على
هذه الأرض يسيطر عليها الفكرُ سيطرةً مطلقة. فالإنسان كائن عاقل؛ فهو
في جهةِ ما يسيطر على القوة. وليس بالتأكيد سيدًا وربًا للطبيعة،
فهتلرُ كان مُحِقًا عندما قال بأنَّ الإنسانَ مخطئٌ إذا اعتقدَ ذلك؛
إلاَّ أن الإنسانَ ابنُ المعلِّم، طفلُ البيت. والعلْم دليل على ذلك.
فالطفلُ الصغير في منزل غني يخضع في كثير من الأشياء لخدم البيت؛ لكنه
عندما يكون على ركبتَي أبيه ويتماهى معه حبًا فإنه يشارك في السلطة.
مادام الإنسانُ يتساهلُ في أنْ يملأَ نفسَه بأفكاره الخاصة، بأفكاره
الشخصية، فإنه خاضع بالكامل وحتى أعمق أفكاره لمتطلَّبات الحاجات
وللُّعبة الآلية للقوة. وإذا ظنَّ غيرَ ذلك فإنه مخطئ. لكنَّ كلَّ شيء
يتغيَّر عندما يُفَرِّغ نفسَه بفضلِ انتباهٍ حقيقي ليسمحَ لأفكار
الحكمة الأزلية بالدخول فيها.[15]
حينئذٍ يحمل في داخله الأفكارَ نفسَها التي تخضع لها القوةُ.
كانت طبيعةُ العلاقةِ والانتباهِ اللازمِ لإدراكها في نظر اليونانيين
دليلاً على أن الضرورةَ هي حقًا طاعة الله. كان لديهم دليل آخر على
ذلك. إنه الرموزُ المنقوشة في العلاقات نفسها كالتوقيع الذي يتركه
الرسَّامُ على اللوحة.
تفسِّر الرمزيةُ اليونانية تقديمَ فيثاغورس لأضحية بأنه فَرِحَ بإيجاد
رسم المثلث القائم الزاوية في نصف الدائرة.
كانت الدائرةُ في نظر اليونانيين صورةَ الله. لأن الدائرة التي تدور
على ذاتها إنما هي حركة لا يتغير فيها شيء وتُغلَق تمامًا على ذاتها.
كان رمزُ الحركة الدائرية يُعبِّر عندهم عن الحقيقة عينِها التي
يُعبَّر عنها في العقيدة المسيحية بمفهوم الفعل الأزلي الذي تنبثق منه
العلاقاتُ بين أقانيم الثالوث.
كان المتوسطُ النسبيُّ في نظرهم صورةَ الوساطة الإلهية بين الله
والخلائق. وكانت أعمالُ الفيثاغوريين تهدف إلى البحث عن المتوسطات
النسبية بين أعدادٍ لا تشكِّلُ جزءًا من متوالية هندسية واحدة، على
سبيل المثال بين الواحد وبين عدد غير مرفوع إلى القوة الثانية. فجاء
المثلثُ القائمُ لهم بالحل. فالمثلث القائم هو خزَّان جميع المتوسطات
النسبية. لكنْ عندما يمكن رسمُه في نصف الدائرة تحلُّ الدائرةُ مكانَه
لهذه الوظيفة. وهكذا تكون الدائرةُ التي هي صورة هندسية لله مَصْدرَ
الصورة الهندسية للوساطة الإلهية. كان اكتشافٌ رائع إلى هذا الحد يستحق
تضحيةً.
بذلك تكون للهندسة لغةٌ مزدوجة، فهي تعطي معلوماتٍ عن القُوى التي تفعل
في المادة وتتكلَّم في الوقت نفسه عن علاقات فائقة بين الله
والمخلوقات. إنها مثل هذه الرسائل المشفَّرة التي تبدو أيضًا مترابطةً
قبلَ حلِّ رموزِها وبعدَه.
لقد اختفى من علْمنا الاهتمامُ بالرمز تمامًا. مع ذلك، قد يكفي أن
يكلِّفَ المرءُ نفسَه العناءَ من أجل أن يقرأَ بسهولةٍ، في بعض الأجزاء
على الأقل من الرياضيات الحديثة كنظرية المجموعات أو حساب التكامل،
رموزًا واضحةً وجميلةً ومليئةً بالمعنى الروحي كرمز الدائرة والوساطة.
مِن الفكرِ الحديث إلى الحكمة القديمة سيكون الطريقُ قصيرًا ومباشرًا
لو أننا أردنا أن نسلكَه.
لقد ظهرَت في الفلسفة الحديثة في كل مكان تقريبًا وبأشكال مختلفة
تحليلاتٌ قادرة على إعداد نظرية كاملة عن الإدراك الحسي. والحقيقةُ
الأساسيةُ التي قد تكشف عنها نظريةٌ كهذه هي أن حقيقةَ الأشياء التي
تدركها الحواسُّ لا تكمن في الانطباعات الحسية، بل فقط في الضرورات
التي تشكِّلُ الانطباعاتُ إشاراتٍ لها.
ليس لهذا الكون المحسوس الذي نحن فيه من حقيقة غير الضرورة. والضرورةُ
هي توليف من العلاقات التي تتلاشى إذا لم يدعمْها انتباهٌ عالٍ وصافٍ.
وهذا الكونُ من حولنا هو فكْرٌ حاضرٌ ماديًا في جسدنا.
يلتقط العلْمُ بمختلف فروعه عبر جميع الظواهر علاقاتٍ رياضيةً أو
علاقاتٍ مشابهةً للعلاقات الرياضية. الرياضياتُ الأزلية، تلك اللغةُ
التي هي ذات غايتَين، هي النسيج الذي به يُحاكُ نظامُ العالَم.
كلُّ ظاهرةٍ هي تعديلٌ في توزيع الطاقة، وبالتالي تُحدِّدها قوانينُ
الطاقة. إلاَّ أنَّ هناك عدةَ أنواع من الطاقة، وهذه الأنواع تنتظم ضمن
نظام تسلسلي. إنَّ القوةَ الميكانيكية، الثقالة أو الجاذبية بحسب معنى
نيوتُن، والتي تجعلُنا باستمرار نحس بقسْرِها، ليست النوعَ الأرقى.
فالضوء الذي لا يُدرَك باللمس والذي لا وزن له هو طاقة تجعل الأشجارَ
وسنابلَ القمح ترتفع رغم الجاذبية. فنأكله في القمح والثمار فيعطينا
حضورُه فينا قوةَ الوقوف على أقدامنا والعمل.
هناك جسم لامتناهي في الصغر يعمل بطريقة حاسمة في بعض الشروط. ليس هناك
من كتلة يكون وزنُها مساويًا لنقطة؛ لأن الكتلة لا تسقط إذا سندْنا
نقطةً واحدة منها بحيث تكون هذه النقطةُ مركزَ الثقل. إن شرط بعض
التحولات الكيماوية هو عملُ جراثيمَ لا تكاد تُرى. والمحفِّزاتُ
catalyseurs
هي شذراتٌ دقيقة جدًا من المادة يكون وجودُها ضروريًا جدًا لتحولات
كيماوية أخرى. وهناك شذراتٌ دقيقة جدًا، مُرَكبَّاتٌ شِبْهُ متماثلة،
يكون لها بمجرَّد تواجدها خاصيةُ تثبيطٍ أكثر حسمًا؛ وعلى هذه الآلية
تقوم أقوى المعالَجات الطبية المكتشَفة مؤخرًا.
وهكذا فليست الرياضياتُ وحدَها بل العلْم كلُّه، وبدون أن نفكرَ في
ملاحظة ذلك، هو مرآة رمزية لحقائقَ فوق طبيعية.
يريد علْمُ النفس الحديث أن يجعلَ من دراسة النفس علْمًا. قد يكفي
تحديدٌ أكبر بقليل لبلوغ ذلك. لا بد ربما من الانطلاق كقاعدة من مفهوم
المادة النفسية المرتبطة بمسَلَّمة لاﭭوازييه
Lavoisier
الصالحة لكل مادة، "لا شيءَ يتلاشى ولا شيءَ يُخْـلَق"؛ بتعبير آخر فإن
التغيُّراتِ هي إما تحوُّلاتٌ في الشكل يستمرُّ من خلالها الشيءُ وإما
انتقالاتٌ ولكنْ ليست أبدًا ببساطةٍ ظهوراتٍ واختفاءاتٍ. ينبغي إدخالُ
مفهوم الحدود فيها والافتراضُ من حيث المبدأ أنَّ كلَّ شيء في الجزء
الأرضي من النفس متناهٍ ومحدودٌ وقابلٌ للنفاد. أخيرًا ينبغي إدخالُ
مفهوم الطاقة فيها، بافتراض أن الظواهر النفسية، شأنُها شأنُ الظواهر
المادية، هي تحولاتٌ في توزيع الطاقة وفي نوعيتها وتَحْكُمُها قوانينُ
علْم الطاقة.
قد تنجح المحاولاتُ المعاصِرةُ لتأسيس علْم اجتماعي هي الأخرى لقاءَ
تحديدٍ أكبر بقليل. ينبغي أن يوضعَ كقاعدةٍ المفهومُ الأفلاطونيُّ عن
الحيوان الضخم أو مفهومُ سِفْر الرؤيا عن الوحش. فالعلْمُ الاجتماعي هو
دراسة الحيوان الضخم ويجبُ بدقةٍ وصفُ تشريحِه وفيزيولوجيتِه
ومنعكساتِه الطبيعيةِ والشرطيةِ وإمكانياتِ ترويضِه.
علْمُ النفس والعلْم الاجتماعي كلاهما مستحيل إذا لم يحدَّدْ مفهومُ ما
هو فائقٌ للطبيعة تحديدًا دقيقًا وإذا لم يتمَّ إدخالُه في العلْم
بصفته مفهومًا علميًا لكي يُستخدَمَ فيه بدقة متناهية.
إذا تأسَّسَت العلومُ الإنسانيةُ على هذا النحو باستخدام مناهجَ ذاتِ
دقةٍ رياضية وبقيَت في الوقت نفسِه على اتِّصال بالإيمان وإذا أخذَ
التأويلُ الرمزيُّ المكانَ الذي كان يشغله في الماضي في العلوم
الطبيعية والرياضيات فإنَّ وحدةَ النظام القائم في هذا الكون ستَظْهَر
بوضوحها المطلق.
إنَّ نظامَ العالَم هو جَمالُ العالَم. ما يختلف فقط هو أسلوب الانتباه
وحدَه، وهذا متوقف على محاولة فهم العلاقات الضرورية التي تؤلفه أو على
تأمُّـل روعتها.
إنه شيء واحد هو نفسُه دائمًا يكون بالنسبة لله حكمةً أزليةً ويكون
بالنسبة للكون طاعةً تامةً ويكون بالنسبة لحبِّنا جَمالاً ويكون
بالنسبة لعقلنا توازُنَ علاقاتٍ ضروريةٍ ويكون بالنسبة لجسدنا قوةً
وحشية.
العلْمُ والتاريخُ والسياسةُ وتنظيمُ العمل وحتى الدينُ لكونِه أُصيبَ
بتلوُّثٍ روماني لا يقدِّم هذا كلُّه اليومَ لفكْرِ البشر إلاَّ القوةَ
الوحشيةَ. هذه هي حضارتُنا. فهذه الشجرةُ تحملُ الثمارَ التي تليق بها.
مِن شأنِ العودة إلى الحقيقة أنْ تُظهِرَ من بين أشياء أخرى حقيقةَ
العمل الجسدي.
إنَّ العملَ الجسديَّ عن رضا هو، بعد الموت عن رضا، أكملُ شكْلٍ لفضيلة
الطاعة.
لقد أُسيءَ فهمُ الخاصية الجزائية للعمل المشار إليها في سرد سِفْر
التكوين نظرًا لعدم وجود مفهوم صحيح للعِقاب. لقد قرأْنا في هذا النص
عن خطأٍ منا شيئًا من الازدراء للعمل. على الأرجح أن هذا النص موروث من
حضارة قديمة جدًا تبجِّـل العملَ الجسدي وتضعه فوق أي نشاط آخر.
هناك عدةُ إشارات تدلُّ على وجود مثل هذه الحضارة وعلى أن العملَ
الجسدي كان منذ زمن بعيد جدًا نشاطًا دينيًا بامتياز وبالتالي شيئًا
مقدسًا. كانت الأسرارُ، وهي دينُ جميع العصور القديمة قبل الرومانية،
تقوم كليًا على عبارات رمزية عن خلاص النفس مستقاةٍ من الزراعة. نصادفُ
الرمزيةَ نفسَها في أمثال الإنجيل. يبدو أن دَورَ
هِيفايستوسَ [هيفيستوس]
[16]Héphaïstos
في [نص]
ﭙروموثيوس
Prométhée
[17]
للشاعر
إسخولوس
Eschyle
يوحي بدِينِ الحدَّادين. ﭙروموثيوسُ هو بالضبط إسقاط لازمني للمسيح،
إلهٌ مصلوب وفادٍ جاء يلقي نارًا على الأرض؛ والنارُ في الرمزية
اليونانية كما في الإنجيل هي صورةٌ للروح القدس. فأسخولوسُ الذي لم
يكنْ أبدًا يلقى الكلامَ على عواهنه قال إنَّ النارَ التي أعطاها
ﭙروموثيوسُ للبشر كانت الخاصيةَ الشخصيةَ لهيفايستوس، وهو ما يبدو أنه
يشير إلى أن هيفايستوس كان تجسيدًا لها. وهيفايستوسُ هو إلهٌ حَدَّاد.
إننا نتصور دِينَ حدَّادينَ يرى في النار التي تُطَوِّع الحديدَ صورةَ
عملية الروح القدس على الطبيعة البشرية.
ربما كان هناك زمن كانت فيه حقيقةٌ مماثلةٌ تُترجَم بأنظمة رمزية
مختلفة وكان كلُّ نظام يتكيَّف مع عمل جسدي معيَّن بحيث يُجعَلُ منه
تعبيرًا مباشرًا عن الإيمان.
عل أية حال فإن الموروثاتِ الدينيةَ للعصور القديمة بما فيها العهد
القديم تعيد المهنَ إلى تعليم مباشر من الله. ومعظمها يؤكد بأن الله
تجسَّدَ لهذه المهمة التربوية. كان المصريون على سبيل المثال يعتقدون
بأن تجسُّد أوزيريس كان هدفُه هذا التعليمَ العملي وفي الوقت نفسه
الفداءَ بالآلام.
مهما كانت الحقيقةُ التي تتضمَّنها هذه الرواياتُ السرِّية جدًا فإن
الاعتقاد بتعلُّم المهن مباشرةً عن الله ينطوي على ذكرى زمن كانت فيه
ممارسةُ المِهَن نشاطًا مقدسًا بامتياز.
لم يبقَ من ذلك أيُّ أثر عند هوميروس
Homère
ولا عند هسيودس
Hésiode
ولا في اليونان القديمة ولا في القليل الذي نعرفه عن الحضارات الأخرى
في العصور القديمة. ففي اليونان كان العمل شيئًا استرقاقيًا. ولا
يمكننا أن نعرف إنْ كان العملُ استرقاقيًا أساسًا قبل الغزو الهِلِّيني
في زمن
البلاسغيين
Pélasges
[سكان اليونان الأوائل] ولا إنْ كانت الأسرارُ تحتفظُ صراحةً في
تعليمها السرِّي بذكرى زمنٍ كان العملُ فيه مبجَّلاً. ففي بداية
اليونان القديمة نرى انتهاءَ شكْلٍ من الحضارة كانت فيه جميعُ النشاطات
البشرية مقدسةً ما عدا العمل الجسدي؛ وكان فيه الفنُّ والشعر والفلسفة
والعلْم والسياسةُ لا تتمايز إنْ صحَّ القولُ عن الدين. بعد قرن أو
قرنين من الزمن وبفعل آلية لا نميِّزها تمييزًا دقيقًا لكنَّ المال على
أية حال قد لعِبَ فيها دورًا كبيرًا، أصبحَت كلُّ هذه النشاطات دنيويةً
حصرًا وانقطعَت عن كل إلهام روحي. والقليل من الدين الذي سيبقى كان قد
عُزِلَ في أماكنَ مخصصةٍ للعبادة. لقد كان أفلاطونُ في عصره من بقايا
ماضٍ سحيق جدًا. وكان الرواقيون اليونانيون شعلةً منبعثة من شرارة
مازالت حيةً من الماضي نفسه.
لقد قضى الرومانُ، تلك الأمة الملحدةُ الماديةُ، على ما تبَقَّى من
حياة روحية على الأراضي التي كانت تحتلها من خلال استئصالها؛ ولم
يتبَنَّوا المسيحيةَ إلاَّ بعدما أفرغوها من مضمونها الروحي. وأصبحَ
تحت سيطرتهم كلُّ نشاط إنساني بدون تمييز شيئًا استعباديًا؛ وانتهوا
إلى نزع كل واقعية من مؤسسة الرق، مما هيَّأَ لزوالها، بعدما أنزلوا
جميعَ الكائنات البشرية إلى حالة العبودية.
إن الذين يُدْعَون بالهمجيين والذين يعود أصلُ أكثرهم إلى تراقيا
Thrace
وبالتالي كانت تُغذِّيهم روحانيةُ الأسرار قد أخذوا المسيحيةَ على محمل
الجد. والنتيجة هي أنه كادت أن تكون هناك حضارة مسيحية. وقد رأينا
تباشيرَها تظهر في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. لقد كانت بلادُ
جنوب الوار، التي كانت مركزَ إشعاعها الرئيسي، متشربةً بروحانية مسيحية
وبروحانية قديمة في الوقت نفسه، إذا كان صحيحًا على الأقل أن
الألبيجيين هم مانَويون
Manichéens[18]
وبالتالي فهم لا ينبثقون عن الفكر الفارسي فحسب بل ينبثـقون أيضًا عن
الفكر الغنوصي [العرفاني] والرواقي والفيثاغوري والمصري. عندئذٍ كانت
الحضارةُ الناشئةُ ستخلو من كل دنس من الرق. وكانت المِهَنُ ستحتل
مركزَ هذه الحضارة.
إن اللوحة التي قام بها ماكياﭭـيلِّي الفلورَنسي
Machiavel de la Florence
في القرن الثاني عشر هي نموذج عما تسمِّيه اللغةُ الاصطلاحية العصرية
بالديمقراطية النقابية. كان الفرسانُ والعمالُ في تولوز يقاتلون جنبًا
إلى جنب سيمونَ دو مونْفور
Simon de
Montfort
دفاعًا عن التراث الروحي نفسه المشترك فيما بينهم. وكانت الاتِّحادات
المهنيةُ التي أُنشئت خلال مرحلة التشكل تلك مؤسساتٍ دينيةً. يكفي
مشاهدة كنيسةٍ رومانيةٍ أو سماع لحن غريغوري أو قراءة قصيدة من قصائد
التروبادور التي ترقى إلى الكمال، لا بل قراءة النصوص الطقسية، يكفي
ذلك من أجل الإقرار بأن الفن لم يكن يتميز عن الإيمان مثلما كان الأمر
في اليونان في أفضل عصورها.
إلاَّ أنه لن يكون بالإمكان أن تقوم حضارةٌ مسيحيةٌ يضيء فيها النورُ
المسيحي الحياةَ كلَّها إلاَّ إذا أُلغيَ المفهومُ الرومانيُّ المتعلق
باستعباد الكنيسة للعقول. إن الصراع الضاري والمظفَّر للقديس برنار
saint Bernard
ضد أبيلار
Abélard
يُظهِر أنه ينقص الكثير. في بداية القرن الثالث عشر دُمِّرَت الحضارةُ
التي كانت قادمةً عندما قُضيَ على مركزها الرئيسي ألا وهو بلاد جنوب
الوار وعندما أُنشئت محاكمُ التفتيش وخُنِقَ الفكرُ الديني تحت مفهوم
الأُرثوذكسية[19].
إنَّ مفهوم الأُرثوذكسية، بفصله فصلاً صارمًا بين المجال المتعلق بخير
النفوس، وهو مجال خضوع الفكر خضوعًا غير مشروط لسلطة خارجية، وبين
المجال المتعلق بالأشياء المسماة دنيوية، والتي يكون فيها العقل حرًا،
يجعل من المستحيل حصولُ تداخُـلٍ بين الديني والدنيوي والذي هو جوهر
الحضارة المسيحية. إنه لا جدوى من مزج الماء بالخمر في القداس كلَّ
يوم.
كان القرنُ الثالث عشر والرابع عشر وبداية الخامس عشر مرحلةَ انحطاط
القرون الوسطى. إنه تدهوُر تدريجي وموت لحضارة لم يكن لديها الوقت
لتولد، إنه جفاف تدريجي لبذرة بسيطة.
في حوالي القرن الخامس عشر حصلَت النهضةُ الأولى التي كانت كشعور مسبق
وضعيف بانبعاث حضارة ما قبل الرومان وفكرِ القرن الثاني عشر. فأصبحَت
إذْ ذاك اليونانُ الحقيقيةُ وفيثاغورسُ وأفلاطونُ محطَّ احترام ديني
يتَّحد بانسجام تام مع الإيمان المسيحي. لكنَّ هذا الموقفَ الفكري كان
قصيرًا جدًا.
بعد ذلك بقليل جاءت النهضةُ الثانية التي كان توجُّهُها مناقضًا
تمامًا. وهي التي أنتجَت ما نسمِّيه حضارتَنا الحديثة.
فنفتخر بها جدًا ولكننا لا نجهل أنها مريضة. والجميعُ متَّفقون على
تشخيص المرض. إنها مريضة بعدم معرفتها بالضبط أيَّ مكانٍ تمنحه للعمل
الجسدي ولمن ينفِّذونه.
تُستنزَفُ كثيرٌ من العقول على هذه المشكلة وهي تتخبَّطُ خبْطَ عشواء.
فلا نعرف من أين نبدأ، من أين ننطلق، وعلامَ نستهدي؛ وهكذا تذهبُ
الجهودُ أدراجَ الرياح.
الأفضلُ هو التأمُّـلُ في الرواية القديمة للتكوين بوضعها في المحيط
الذي هو محيطها، ألا وهو محيط الفكر القديم.
عندما يضع كائنٌ إنساني ما نفسَه خارجَ الخير بارتكابه جريمةً فإن
العقابَ الحقيقي يشكِّلُ إعادةَ دمجِه في الخير بكامله بواسطة الألم.
ولا شيء أروع من العقاب.
وضعَ الإنسانُ نفسَه خارجَ الطاعة. فاختارَ اللهُ كعقوباتٍ له العملَ
والموتَ. وبالتالي فإن العمل والموت، إذا تحمَّلَهما الإنسانُ راضيًا
بتحمُّـلِهما، يشكِّلان انتقالاً إلى الخير الأسمى لطاعة الله.
يصبح هذا واضحًا وضوحَ الشمس عندما نشاهد، كما فعلَ الأقدمون، في سلبية
المادة الجامدة كمالَ طاعة الله وعندما نشاهد في جَمال العالَم روعةَ
الطاعة التامة.
مهما كان في السماء المعنى الغامضُ للموت فإنه في الأرض يعني التحوُّلَ
إلى كومة من المادة الجامدة لكائن مخلوق من لحم يرتعش ومن فكر، لكائن
يرغب ويكره، يرجو ويخاف، يريد ولا يريد.
الرضا بهذا التحول هو بالنسبة للإنسان الفعلُ الأسمى لطاعة تامة. لذلك
قال القديسُ بولس عن المسيح نفسه في مَعرِض الكلام عن آلامه: "تعلَّمَ
الطاعةَ مما تألَّمَ به وصار كاملاً".
لكنَّ الرضا بالموت لا يمكن أن يكون حقيقيًا تمامًا إلاَّ عندما يحضر
الموتُ. ولا يمكن أنْ يقتربَ الرضا من الكمال إلاَّ عندما يقترب
الموتُ. وعندما تكون إمكانيةُ الموت مجرَّدةً وبعيدةً يكون الرضا
مجرَّدًا.
العمل الجسدي موتٌ يوميٌّ.
العمل يعني أنْ يضعَ المرءُ كينونتَه، نفسَه وجسَده، في دَورة المادة
الجامدة، يعني أنْ يجعلَ من كينونتِه وسيطًا بين حالة وأخرى لجزء من
المادة، أنْ يجعلَ من كينونته أداةً. فيجعلُ العاملُ من جسده ونفسه
استطالةً للآلة التي يستخدمها. فحركاتُ الجسد وانتباهُ الفكر تتْبع
متطلَّباتِ الأداة التي تمَّ تكييفُها هي الأخرى مع مادة العمل.
الموتُ والعملُ شيئان من الضرورة لا من الخيار. فالكون لا يُكَرِّسُ
نفسَه للإنسان في الغِذاء والدفء إلاَّ إذا كرَّسَ الإنسانُ نفسَه
للكون في العمل. لكنَّ الموتَ والعملَ يمكن مكابدتُهما بتمرُّد أو
برضا. يمكن مكابدتُهما في حقيقتهما المجرَّدة أو مغلَّفين بالكذب.
يَـعْـنُفُ العملُ بالطبيعة البشرية. فتارةً يكون هناك فائض في قُوى
الشباب التي تريد أن تُصرَف فلا تجد عملاً لها لهذا الغرض؛ وتارةً أخرى
يكون هناك إعياء ولا بد للإرادة من أن تعوِّضَ باستمرار، مقابلَ توتُّر
مؤلم جدًا، نقْصَ الطاقة السلبية؛ هناك ألفُ انشغال وهَـمّ وقلق، ألفُ
رغبة، ألفُ فضول يشتِّتُ الفكرَ؛ وتُسبِّبُ الرتابةُ القرفَ؛ ويلقي
الزمنُ بثقل لا يكاد يُحتمَل.
يسيطر الفكرُ الإنساني على الزمن ويجولُ سريعًا بلا توقُّف في الماضي
والمستقبل مجتازًا كلَّ فاصل؛ لكنَّ الذي يعمل يخضع للزمن على طريقة
المادة الجامدة التي تجتاز لحظةً تلوَ أخرى. وبهذا الشكل خاصةً يعْنُفُ
العملُ بالطبيعة البشرية. ولذلك يُعبِّر العمالُ عن عذاب العمل بعبارة:
"يجد المرءُ الوقتَ طويلاً".
الرضا بالموت، عندما يحْضُرُ الموتُ ويُرى في عُرْيه، هو انتزاع أخير
وآني لما يسمِّيه كلُّ فرد بـ"أنا". الرضا بالعمل أقلُّ عنفًا. لكنه
حيثما يكون كاملاً فإنه يتجدد كلَّ صباح طيلةَ الوجود الإنساني، يومًا
بعد يوم، ويدوم كلَّ يوم إلى المساء، ويعود في اليوم التالي ليبدأَ من
جديد، ويستمر ذلك غالبًا حتى الموت. كلَّ صباح يرضى العاملُ بالعمل
لذلك اليوم وللحياة بكاملها. يرضى به سواء أكان حزينًا أم فرِحًا،
مشغولَ البالِ أم متلهِّفًا للتسلية، تعِبًا أم يفيضُ بالطاقة.
بعد الرضا مباشرةً بالموت، يكون الرضا بالقانون الذي يجعل العملَ
ضروريًا جدًا لبقاء الحياة هو أكمل فعل للطاقة يُعطَى للإنسان إنجازُه.
عندئذٍ تكون جميعُ النشاطات البشرية الأخرى من قيادة الناس إلى إعداد
الخطط التقنية إلى الفن والعلْم والفلسفة وإلى آخر ما هنالك تكون
جميعًا أدنى من العمل الجسدي بالمعنى الروحي.
من السهل تحديد المكان الذي يجب أنْ يشغلَه العملُ الجسدي في حياة
اجتماعية منظَّمةٍ جيدًا. يجب أن يكونَ مركزَها الروحي.
ترجمة: محمد علي عبد الجليل
*** *** ***
[6]
إلفسينا: (Elefsina):
مدينة يونانية تقع جنوب وسط البلاد ضمن منطقة أتيكا وتبعد عن
أثينا 21 كم.
عُرِفَتْ بطقوسها الأليوسينية.
أهم معالمها الأثرية مَجْمع معابد إليفسيس القديمة. عُرِفت
بأنها موطن البطل الإغريقي أخيلوس الذي كان شخصية أساسية في
الحروب الطروادية. (المترجِم)
[16]
هيفيستوس (هيفايستوس)
Héphaïstos:
هو إله الحدادة والنار والصناعة في الميثولوجيا اليونانية. وهو
ابن
زيوس
Zeus
وهيرا
Héra
وزوج أفريدويت. وهو من شجَّ رأس أبيه زيوس لتخرج منه
أثينا.
(المترجِم)