التَّربية على الفرح
أنتونيلا فيردياني
الشَّباب مستعدون للتَّغيير.
مستعدٌّ أنت للتَّغيير؟
هل أنت مستعدٌّ؟
معًا، معًا معًا...
MGMT, the youth[1]
"سخافة" في عالمٍ مأزوم: الفرح
لا ينقضي يوم من غير أن يقوم خبراء - بحسب اختصاصاتهم العلميَّة –
بتحليل الأزمة التي يجتازها العالم حاليًّا: فمن الانهيارات
الاقتصاديَّة إلى تلوُّث البيئة، ومرورًا بفقدان القيم الأخلاقيَّة،
تصيبنا بالتُّخمة وتستهدفنا وغالبًا ما تحشرنا في مواجهة جدار من
التَّشاؤم، المعطياتُ المختلفة والنَّظريَّات والتَّخمينات، الكارثيَّة
بالأولى، التي يقدِّمها العلماء بهدف إنذار الجنس البشريِّ وكوكبه.
ينبئنا المنطق إذًا أنَّ الوقت قد حان كي يلجأ البشر إلى تحت الأرض، كي
يكدِّسوا احتياطاتٍ غذائيَّة في مخازن محصَّنة عميقة، وفي أسوأ
الأحوال، كي يستعدوا للجلاء في حشود إلى كواكب أخرى.. إنَّ اقتراحي هنا
هو عدم الاستسلام إلى النظرة التَّشاؤميَّة. ألاَّ نقتصر على اتِّباع
طريق المنطق العلميِّ (الضروريِّ مع ذلك) بل، عبر قلبٍ فعليٍّ للوجهة،
أن نغتنم الفرصة[2]
التي تقدِّمها لنا هذه الأزمة لكي ندمج في حياتنا قيمةً يبدو أنَّ
الناس قد نسَوها ألا وهي الفرح.
يمكن للتَّربية أن تلعب دورًا أساسيًّا على درب الأمل هذا. بأن تعيد
تكييف نفسها لتستعيد الدَّور الإدخاليَّ[3]
الذي هو دورها في نموِّ الكائن الإنسانيِّ.
ليست المدرسة بخير. والإصلاحات الوزاريَّة المتوالية واحدةً بعد أخرى
في بلداننا الغربيَّة تبدو مصمتة أمام أيِّ تجديد يمضي في اتجاه أخذ
البعد الوجوديِّ للأفراد (طلاَّبًا وأساتذة) بعين الاعتبار. إنَّه
إهمالٌ يمكن اعتباره واحدًا من الأسباب العديدة لهذا الوضع الشَّاذ.
يُضاف إلى ذلك التَّقسيمُ المتزايد للمعرفة في مناهج متعدِّدة: فمن
خمسين اختصاص عام 1950 تجاوزنا الـ 8000 عام 2000[4].
يعتاد التَّلاميذ، في "أبراج بابل" هذه من مدارسنا وجامعاتنا، على
تركيز كلِّ انتباههم على مناهج تدرس الواقع من خلال عدساتٍ مكبِّرة،
محلِّلين إيَّاه من وجهات نظرٍ مختلفة. ومن فرط تركيز الأذهان على أوجه
متفرِّقة من الواقع، يتعلَّم الطُّلاَّب تفسيرها كمجموعةٍ من قطع
البازل غير المركَّبة أي "المُشتَّتة". تتَّجه الجامعة خصوصًا إلى
تجزيئ وتقطيعٍ للمعرفة، التي تصبح أكثر بكثير من ضبابيَّة وضائعة
(موران 1990).
يقابل تجزئة المناهج التجزئة الأخطر للكائن البشريِّ، فيُفصَل الجسد عن
مشاعره، التي تُفصَل عن العقل، والذي يُفصَل عن الرُّوح... إنَّ
النتيجة الأكثر حتميَّةً هي فقدان فرح التَّعلُّم، وفرح نقل العلم،
وببساطة فقدان فرح الحياة. إنَّ طرحي هو أنَّه يمكن للتَّربية أن تعيد
الإنسان إلى هذه الطبيعة التي هي جوهر الكائن الإنسانيِّ. إنَّ
التَّربية على الفرح ممكنة. وثمَّة أمثلةٌ واقعيَّة وقابلة للإعادة.
يلقي هذا المقال بالتَّحديد الضوء على التَّربية المتكاملة. ولكن قبل
كلِّ شيء، عن أيِّ فرحٍ نتحدَّث؟
الفرح والسَّعادة
يقترن الفرح
la joie
في اللُّغة الدَّارجة بعاطفة ما، بحالة عابرة. بيد أنَّ المعنى الأصيل
لهذه الكلمة بعيدٌ عن شيءٍ مؤقَّت لأنَّ الجذر السَّنسكريتيَّ البعيد
لكلمة
joie
يعيدنا إلى يوج
yuj
(وهو نفسه جذر كلمة يوغا
yoga)
ويُتَرجم عمومًا بـ "اتِّحاد النَّفس الفردية بالرُّوح الكونيَّة"[5].
ثمَّة هنا مفهومٌ لإعادة الرَّبط بين الأرضيِّ والسماويِّ، ربط للإنسان
مع الإلهي، وربط البشر في ما بينهم، وهو بعدٌ مقدَّس للفرح أُضيع عبر
الزَّمن ولا سيَّما في الثقافة الغربيَّة. ما أن يُعاد هذا الرَّبط،
حتَّى يعمَّ الفرح على نحوٍ غير مباشر (لأنَّه "يساهم" في ذلك) كلَّ
أوجه الحياة، ويعود إلى مفهوم فرح الحياة باعتباره شعورًا رفيعًا يجري
الشعور به عن طريق كلِّ الوعي، وكلِّ أبعاد الكائن[6].
يتحوَّل الفرح من مجرَّد عاطفة إلى شعور، إلى حالة. يعود إلى تجسُّد
لارتباط النفس الفردية ببعدٍ أعلى. عبر هذا الطَّريق، يجتاح كليَّة
الكائن ويربط "الأعلى" و"الأدنى"، الفضاء الداخليَّ والخارجيَّ،
الذَّات والموضوع، الفرد والآخرين.
تمييز دلاليٌّ لا بدَّ منه بين الفرح والسَّعادة (وهما مفهومان يجري
الخلط بينهما) ضروريٌّ أيضًا من أجل أن نباشر بالولوج أكثر في استكشاف
ميداننا، أي ميدان التَّربية.
تصف كلمة سعادة
bonheur
الحظَّ عمومًا، ولا سيِّما في جانبه الماديِّ. وتعبِّر عمَّا يصل في
الوقت المناسب، في اللحظة الموافقة (bonheur
= bonne heure)[7].
وهو مفهوم بعيد جدًّا عن غرضنا الذي لا يصف التربية بأنَّها مسيرٌ نحو
قَدَرٍ يتناسب مع حدود الثروة، بل بالأحرى بكونها درب نموٍّ للشَّخص
نحو حالة من الاكتمال يبلغ فيها الفرح كلَّ بعده الأنطولوجيِّ.
السَّعادة، بمعنى الرَّخاء، موضوع اهتمامٍ كبير في هذه الأيام. تقع
الأبحاث حول هذا الموضوع، وعبر السَّنوات العشر الماضية، في قلب اهتمام
وتفكُّر جميع المجالات، ليس فقط من وجهة نظر الصحَّة، بل كذلك من وجهة
نظر الاقتصاد والعلوم الاجتماعية التي تشكِّل علوم التربية جزءًا منها.
في علم النَّفس المعاصر بشكلٍ خاصٍّ، بدأ البحث يتكثَّف حول هذا
الموضوع في الثمانينيات من القرن الماضي. وإذا أردنا أن نذكر بعض
الأسماء الأكثر شهرةً، فقد نشر وينهوفن
Weenhoven
عام 1984 على سبيل المثال "قاعدة البيانات العالميَّة للسَّعادة"
World Database of Happiness
حيث أجرى قياسًا للسَّعادة على المستوى الدوليِّ (121 حالة في اثنين
وثلاثين من البلدان)[8].
ووضع دينر
Diener
في الوقت نفسه، وهو عالم نفس معروف، الرَّوابط في ما بين الرَّخاء وما
يحقِّقه الفرد من تقدُّم نظريٍّ[9].
في وقتٍ لاحق (1990 – 2004) دفع سيكزينتميهالي
Csikszentmihalyi
البحث قدمًا حين عرَّف السَّعادة بأنَّها حالة مستقلَّة عن الشُّروط
الخارجية، إنَّما ترتبط "بالأحرى بالطريقة التي تؤوَّل بها هذه الشروط"
لأنَّها تنتج عن توجُّهات الفرد نحو اهتماماتٍ مادِّيَّة أو غير
مادِّيَّة أو الاثنتين معًا[10].
نشير هنا أيضًا إلى دانييل كانِمان
Daniel Kahneman
الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والذي نال الاستحقاق أوَّلاً
لتقريبه بين علم النَّفس والاقتصاد عبر مفهومه لمؤشِّر الرَّخاء القومي
audit du bien être national[11].
الجدير بالملاحظة في تصنيفه هو التَّفاوت بين قياسات الرَّخاء وقياسات
الخصائص الاقتصادية، ما نستنتج منه أنَّ الرَّخاء المادِّيَّ يسهم على
نحوٍ ضئيل جدًّا في الشُّعور بالسَّعادة[12].
2. 1 علوم الأعصاب والفلسفة
يؤثر البحث حول السَّعادة، كما رأينا، الجمع بين مناهج ونظريَّات
مختلفة. ذاك أيضًا حال العلوم "الإدراكية – العصبية" التي تضع صلاتٍ مع
الفلسفة طالما يلامس الأمر مسألة الفرح[13].
تفيدنا البحوث حول نصفي الدِّماغ (سبيري
Sperry،
1981) على سبيل المثال، أنَّ عواطف ومشاعر الفرح والحبِّ والرَّحمة تقع
في منطقة محدَّدة من القشرة الدِّماغيَّة هي نفسها التي تُنبَّه في
حالة التأمُّل العميق. هذا الاكتشاف أساسيٌّ بالنسبة لنا، نحن الباحثين
في علوم التربية، طالما أنَّه بفتحه الباب على مستوىً آخر من الواقع،
يفتح إمكانية الوصول إلى العمق الذي يمكن بلوغه عبر التربية على
اللاعنف (باربييه
Barbier،
2003) أفلا ينبثق كلٌّ من الفرح وموقف السَّلام من النَّبع نفسه في
الكائن الإنسانيِّ؟
سعى عالما نفس الأعصاب بوروغارد وداماسيو على نحو أكثر خصوصيَّة لأن
يجيبا عن هذا السُّؤال بتركيز انتباههما على حالات وانفعالات أكثر
تعقيدًا أيضًا مثل الانجذاب الصوفيِّ أو خبرة الرَّحمة وتوصَّلا إلى
نتائج تميِّزهما عمَّن سبقهما. بالنسبة لبوروغارد (وفق اختبار جرى على
راهباتٍ كرمليَّات وهنَّ في حالة تأمُّل) ليس ثمَّة منطقة خاصة من
الدِّماغ تكون نشيطةً أثناء الخبرة الصوفيَّة. بعبارة أخرى، ليس هناك
"معيارٌ لله" في الدِّماغ ( بوروغارد
Beauregard،
2005) إنَّ ما يبدو لنا مهمًّا للاحتفاظ به من نتائج هذا الموضوع هو
الخلاصة ذات الطبيعة الأكثر فلسفيةً (ما يمكن تعريفه بفكرة الفيض عند
سبينوزا) التي توصَّل إليها داماسيو
Damasio
(2003): آخذين بعين الاعتبار قدرة الكائن البشري على الإنتاج،
والتَّفكير، والعمل على عواطفه، فمن اللِّقاء بين العواطف والدِّماغ
العقلانيِّ ينبثق الوعي.
فلاسفة الفرح: من سبينوزا إلى شري أوروبندو
يؤكِّد سبينوزا (1632 – 1677) الذي لا تزال فلسفته الشَّفافة تلهم
الفلاسفة المعاصرين[14]:
يغذِّي الحبُّ الموجَّه إلى شيءٍ أبديٍّ ولانهائيٍّ النَّفسَ بفرحٍ
صافٍ، بفرحٍ لا يشوبه أي حزن[15].
إنَّ الفلسفة بالنسبة له هي حبُّ الحكمة، والحبُّ هو حقيقة الفرح. إنَّ
هدفه هو إرساء أخلاق سعادةٍ وحرِّيَّة. يعطي سبينوزا للفرح مكانًا
مركزيًّا باعتباره معبرًا من حالة كمالٍ أدنى إلى حالة كمالٍ أعلى،
مرتبطًا بتحقيق الرَّغبة، إنَّه حالة قدرة وقوَّة الإنسان. لقد وصف
الفرحَ، في مؤلَّفه الأخلاق، بأنَّه مؤثِّر (شعورٌ أو هوىً
يجتاح كلَّ الجسد الذي هو موضع الرُّوح). وبأنَّه عبور (لأنَّه غير
ثابت وفي صيرورة) وبأنَّه حبٌّ (لأنَّ فرحًا غير محبٍّ يكون فرحًا
جاهلاً). يعني الأمر، كما يقول: "حبُّ كلِّ شيء في الضرورة الأبدية
لهذا الكلِّ الذي هو الله". في أخلاق حبٍّ ما هو "إيروس"
Eros
أفلاطون بل بالأحرى "فيليا"
Philia
أرسطو أو أبيقريطس، أو محبَّة "أغابي"
Agapè
يسوع أو بولس الرسول[16].
يوجهنا هذا الاعتبار إلى التقاليد الرُّوحية والدِّينية للإنسانية دون
أن يعني هذا لبس مظهرٍ متعالٍ. الفرح، بالنسبة للمسيحيَّة على نحوٍ
خاصٍّ، حالة يقظة يمكن بلوغها فحسب في بعدٍ غير أرضيٍّ، في "ملكوت
الفرح" حيث يُعاد تثبيت العهد الأبديِّ بين الله والنَّاس[17].
يمنح الفرح سلطةً لواقعٍ "أعلى" في حين أنَّ كلَّ الواقع، بحسب منظور
الفيض، هو وليد الطبيعة.
وحتى في الناحية المعارضة للنظرة المتعالية، تعيد الإيديولوجيا
المادِّيَّة للإنسان كلَّ حرِّيَّته في العمل. من وجهة نظر التعليم
العلمانيِّ، الإيجابيِّ، ينجم الفرح مبدئيًّا عن حرِّيَّة التَّعلُّم
(مركز التعليم المعاصر على سبيل المثال) حيث الطفل حرٌّ في العمل، في
الإبداع، في المراقبة وفي الفهم من خلال العمل بالمشاركة مع الآخرين.
ألهم مبدأ الحرِّيَّة أيضًا أحد المربِّين المعاصرين النادرين الذي عمل
على الفرح في المدرسة، وهو جورج شنايدر الذي أسَّس مقاربته مع ذلك على
رؤيا أكثر مادِّيَّة ماركسيَّة. تمثِّل المدرسة بالنسبة له مسرح
التغيُّر الاجتماعيِّ، مكان الأفراح "المتناسبة مع الجهود ومع الفروض
الإجبارية"[18]
من أجل دراسة الأعمال الكبرى في الأدب وفي العلم، "يجب على المرء أن
يسلم نفسه إلى التَّعب، أن يجاهد". بهذه التضحية يجري إيصال التلاميذ
إلى اكتشاف الفرح بعيش الحبِّ ضمن هذا الأسلوب، ليستطيعوا انطلاقًا من
ذلك المساهمة في تطوُّر الإنسانية.
3. 1 أناندا، الفرح الإلهي
أخذ سبرنا عمومًا، وحتى هذه المرحلة، النظرة الفلسفية الغربية. أمَّا
في المقابل الشَّرقيِّ، غير الثنائيِّ، فلم يحدث الانفصال بين الكائن
والكوزموس، والرِّباط مع كلِّيَّة الواقع يبقى قائمًا. يشكِّل الفيلسوف
الهندي شري أوروبندو (1872 – 1950) مرجعيةً لا يمكن إغفالها في ما
يخصُّ الجسر بين الروحانيَّة والتربية. لقد وُلِد مفهومه للتَّربية
الشَّاملة
intégrale
من اليوغا الشَّاملة
Purna yoga
المؤسَّسة بدورها على الـ
ananda
أي الفرح الإلهيِّ.
يعبِّر لفظ آناندا في السنسكريتية عن فرح وإشعاع الـ سوخام، حالة
الرخاء الداخليِّ، الخبرة الرُّوحيَّة الأرفع "... التي تنير بالبركة
اللَّحظة الحاضرة وتدوم في اللحظة التالية إلى أن تشكِّل متَّصَلاً
يمكنننا أن نسمِّيه فرح الحياة"[19].
إنَّه سات-شيت-آناندا، المُتَّصَل "وجود – وعي – غبطة"، "غبطة
الصَّيرورة"، بحسب التعبير الكامل الروعة لـ "ليلا" في "لعبة الرَّبِّ"[20].
تُخبَّأ عنَّا، في الحياة العادية، هذه الحقيقة الأساسية التحتية في
تكوين الطبيعة البشرية. يقوم كلُّ عمل الطالب على هذا النحو على تعلُّم
أن يعيش "في الداخل" كيما يستيقظ على هذا الحضور الهادئ والفَرِح
والقادر الذي "هو فينا "أنا-نا الأكثر واقعيةً". يجد شري أوروبندو، وهو
المربِّي قبل أيِّ شيء آخر، في ممارسة الفنِّ والشِّعر وسيلةً للاقتراب
من هذا "اللامتغيِّر اللذيذ في الكون" الذي هو المذاق الحقيقيُّ
للوجود. تُنال الحرِّيَّة النهائية عبر مواجهة "جميع صدمات الوجود" لا
بالانطواء على الذَّات أو بالتنازل السلبيِّ. عندما تصبح حياديةً لدى
الاحتكاك بالمسرَّات أو بالألم، تبلغ النَّفس حالةً من النَّشوة
الدَّائمة، إنَّه الفرح السَّماويُّ.
إنَّ نزول الروحانية في المادَّة هو معنى اليوغا الشَّاملة، ويعود فضل
متابعة أثر أوروبندو إلى ميرّا ألفاسا
Mirra Alphassa،
المدعوَّة الأمُّ، عبر ترجمتها لأفكاره إلى ممارسات تربوية في أشرم
بونديشيري. في (يوغاها) اليوغا كما تراها، تصف الفرح على أنَّه ماثلٌ
ومتعالٍ في الوقت نفسه. إنَّه مرتبط على نحو جوهريٍّ بالطبيعة
الإنسانية، طالما أنَّ "كلَّ وجود مؤسَّس على فرح الكينونة، وطالما
أنَّه بدون فرح الكينونة، لا تكون هناك حياة"[21].
يشكِّل البعد الفائق (المتعالي) هنا جزءًا من الكينونة في طبيعتها
العميقة. إنَّها حاضرةٌ (ماثلةٌ) في الحيِّ، وهي بالنتيجة في متناول
الجميع عبر مسيرة تربيةٍ ثابتة. إنَّ الرَّبط مع هذا التَّعالي الفَرِح
ممكن دون أن يقتضي هذا بالضرورة الانخراط في طريقٍ دينيٍّ أو عقائديٍّ
أيًّا كان[22].
إنَّ التعرُّف على الفرح بطبيعته المزدوجة، العاطفة والحالة، هي مهمَّة
المعلِّم.
4- التَّربية على الفرح
ثمَّة خبرات تربوية موفَّقة موجودة في كلِّ مكان من العالم، في متناول
الجميع، من شرقيِّين وغربيِّين، إنَّما كان يتوجَّب، بالنسبة لي، عبور
حدود الغرب، كي أذهب وأفتِّش عن المعنى الأصليِّ الذي عليه تستند
النظرة التَّربوية اللامتشظية
non-fragmenté.
أقتصر في هذا المقال على مثالٍ واحد (من بين أمثلةٍ أخرى قابلة للحياة
بالقدر نفسه) باعتباره محاولةً للإجابة عن إمكانية التَّربية على
الفرح. إنَّ المسلَّمة التي تقوم عليها محاولتي هي أنَّ المقاربة
المتكاملة، العبرمناهجيَّة، هي النِّتاج الوحيد الممكن لهذا الطريق.
الحالة المدروسة في البحث المنجز في الهند بين عامي 2006 و2008[23]
هي التقدُّم الحرُّ
Libre Progrès
الممارس على مدى عقودِ عمر مدرسة أشرم بونديشيري (المشار إليه آنفًا)
المطوَّر في نسخته الحديثة ليتوافق مع السِّياق المتعدِّد الثَّقافات
لمدارس أوروفيل[24].
يعتبر التقدُّم الحرُّ واحدًا من بين المناهج التربويَّة الأكثر أصالةً
من وجهة النظر التَّجريبيَّة، وهو مؤسَّس على المبادئ الآتية:
-
هدف التَّربية هي قيادة الفرد في استكشافٍ ذاتيٍّ لنفسه ولما يخبِّئه
في المكان الأعمق من وعيه.
-
إنَّ نموَّ الوعي هو الشرط الوحيد كي تتجاوز البشرية أزمتها الرَّاهنة
النَّاجمة عن عدم توازن بين تطوُّر مادِّيٍّ مفرط وتطوُّر روحيٍّ غير
كاف.
-
القضية الأكثر أهميةً بالنسبة للوجود الإنساني أنطولوجية، بمعنى أنَّها
تتعلَّق بالهدف الوحيد لحياة الفرد.
من أجل الإجابة عن هذا السؤال الأخير، تفترض هذه السيرورة تنمية جميع
أبعاد، وجميع أوجه الفرد، الجسمانيِّ، والحيويِّ، والذِّهنيِّ،
والنَّفسيِّ والرُّوحيِّ، وهي بهذا المعنى "شاملة".
أجرت مدرسة الأشرم عام 1960 تجربةً تربوية متحرِّرة من البرامج ومن
الامتحانات، كان الهدف منها "جعل التَّلاميذ سعداء"[25]:
وهذه التَّجربة هي ما سيتحوَّل إلى التقدُّم الحرِّ، حرٌّ لأنَّ
التلاميذ يستطيعون التَّوجه بحرِّيَّة نحو ما يفضِّلون بينما يتقدَّمون
نحو التعبير الأعلى مستوىً عن جهدهم. على هذا النحو يجري اختيار مواد
الدِّراسة على قاعدة اهتماماتهم الرئيسيَّة، في حين يقودهم المدرِّس
وينيرهم حول نقطةٍ أو أخرى، مجسِّدًا دور "مبدِّد الظُّلمات" (أو
الغورو في السنسكريتية) بحيث يكون على مسافةٍ منهم وحاضرًا بينهم في
الوقت نفسه. في مدرسة الأشرم الأكثر تقليديةً طُرِح التَّقدُّم الحرُّ
على طلاَّب الصفوف العليا فقط، أمَّا في بعض مدارس أوروفيل فقد جرى
اختباره بدءًا من الصفوف الابتدائية. يقود بحثي إلى التحقُّق من الآثار
المثيرة التي خلَّفها هذا المنهج على التلاميذ من مختلف الأعمار:
كلَّما كان مبكرًا أكثر ترك الحرِّيَّة لهم للتَّوجه نحو مراكز
اهتمامهم، كلَّما كانوا أكثر على قدر صياغة شخصيَّةٍ واثقة، فضوليَّة
ومنفتحة على العالم. "الحرِّيَّة تعني الاختيار، والاختيار يعني أنَّ
كلَّ شيءٍ مطروح وأنَّ التلميذ يختار ما تحتاج طبيعته كي تتقدَّم"[26].
بالنتيجة، ليس ضروريًّا في هذا السِّياق أن يقوم المدرِّس أو البالغ بـ
"توجيه التلميذ مسبقًا أو إرغامه على الخضوع الجماعيِّ لبرامج مدرسيَّة
لا تتوافق معه" كما كان يقول شري أوروبندو[27].
القاسم المشترك بين هذه المدارس، التي "ارتيادها متعة" هو الهناء
والفرح المقروءان بوضوح في العيون البارقة لهؤلاء الشُّبَّان. تلتقي
شهادات التلاميذ مع شهادات المدرِّسين: "إنَّ ثقافة هذه المدارس هي
مساعدة التلاميذ على طريق فرح التعلُّم. لسنا في صدد العقوبات، أو في
رغبة الحصول على الدرجات الجيِّدة، أو إحراز المرتبة الأولى. يتعلَّق
الأمر بالتعلُّم لفرح التعلُّم"[28].
نستطيع إذًا، وعلى قاعدة الملاحظات السلوكيَّة المحقَّقة، أن نؤكِّد
أنَّ "التقدُّم الحرَّ" طريق تربيةٍ على الفرح للتلميذ وللمدرِّس في
آنٍ واحد. تُطرَح أسئلةٌ بهذا الصَّدد: هل يمكن بلوغ مثل هذا الهدف في
مدارسنا؟ وإن كان الجواب نعم، فبأيِّ وسائل؟
ما هو الموضع النسبيُّ المتبادل لكلٍّ من التلميذ والمعلِّم في العلاقة
بينهما، وهي القاعدة والأساس لكلِّ علم تربية.
5- مسارات الإبداع التَّربويِّ
لا بدَّ من بعض الإشارات الأوليَّة حول هذه النقطة، من أجل الشروع في
درب إبداعٍ في مدارسنا[29]
أيضًا. الأولى هي تلك التي تعرِّف العملية التربوية على أنَّها خبرة
اللامعرَّف واللاَّنهائيِّ، "دخول هبات الكون التي نتلقَّاها إلى
داخلنا"[30]
في دربٍ غير
محدَّدٍ سلفًا على نحوٍ جامد، بل منطوٍ على إمكانية الخطأ[31]،
لأنَّ الأمر يتعلَّق أيضًا ودائمًا بإدماج اللاتعيِّين والتَّعقيد،
وبالوصول "إلى المعرفة عبر اللامعرفة"[32]
إنَّ مساهمة الفاعل، مُعتَبَرًا كثنائية: معلِّم ومتعلِّم، مدرِّس
وتلميذ، هو أساس هذا الاتجاه التربويِّ العبرمناهجيِّ حيث ينخرط
الإثنان في استكشاف المعرفة منطلقين من كون:
-
لا شيء يمكن تعليمه (الأستاذ مرشدٌ يتعلَّم مع تلاميذه).
-
ليس التلميذ مُستوعَبًا علينا ملأه، إنَّ له مراكز اهتمامه الخاصَّة،
واهتماماته التي لا تطلب غير أن يكون معترفًا بها وتكون موضع تشجيع،
ويسري هذا على كلِّ الأعمار.
-
للرُّوح، بقدر ما للذهن وللجسد، مكانها في السَّيرورة التربويَّة، ولا
بدَّ من دمجها فيها، وذلك ضمن مسعىً يتجاوز الأديان. يتطلَّب هذا أن
تؤخذ بعين الاعتبار التساؤلات الأنطولوجية من جانب التلاميذ، بما في
ذلك أقلَّها شأنًا[33].
-
للزَّمن، بإيقاعاته، قيمة تربوية بذاته. فالتَّمهل في التَّربية مطلوبٌ
بمقدار السُّرعة.
يقود هذا على نحوٍ طبيعيّ إلى تبنِّي علم تربيةٍ
pédagogie
يمكن على نحوٍ أصيل[34]
أن يُبنى على مفهومٍ جديدٍ للتَّربية ولسيرورة التَّعلُّم، ويمكن
تعريفه على أنَّه كسيريٌّ
fractal.
ليس المقصود في التربية الفراكتالية[35]،
فيما يتعلَّق بالتعلُّم خصوصًا، أن يجري الأمر على طريقة تحقيق
مواصفات، كما لو في تتالٍ من المراحل الخطِّيَّة والصَّارمة، بل مثل
منظومةٍ كاملة بذاتها، تتبع حركةً مرنة ومتمركزة على شكل لولبيٍّ (بحسب
صورة الفراكتال أدناه). في هذا المنهج يقدِّم المدرِّس للتلميذ مشهدًا
لمجمل المادَّة التي سيُدخَل إليها كيما يجعله يقدِّر كلَّ غناها
وتعقيدها، ولكي يضعه في موضع إقامة صلةٍ بينها وبين المواضيع الأخرى
التي يجري تناولها. ما أن يحوز التلميذ على هذه النظرة الشَّاملة حتى
يصبح قادرًا على المزيد من تعميق مجال اهتمامه عبر وحداتٍ نوعيَّة
مترابطة فيما بينها ضمن برنامجٍ مفصَّلٍ على قياسه. ولكي تكون سيرورة
علم التربية كسيريَّة، يجب على هذه العناصر أن تعكس جملة البرنامج،
بنفس طريقة الرؤية الهولوغراميَّة (حيث يحتوي التَّفصيل على مجمل
المشهد).
صورة فراكتاليَّة
5- 1 الفرح، "دليل قلب"
يمكن أن نسأل أنفسنا ههنا: أيُّ شأنٍ للتربية في مجرى الأمور هذا؟ إن
بإمكانها أن تفيدنا مصباحًا، إنها لتضحي دليل قلب. وإن كانت العاطفة
متقلِّبةً، فإنَّ بإمكانها أن تقوم بعملها في هذا السِّياق التربويِّ،
إنَّما ضمن شرط أن يُعطى لها مكانها وأن تُتَابَع. هنا تقع المهمَّة
الأولى للمعلِّم، التي يستطيع إكمالها باتِّباع ما يشكِّله فرحه الذي
فيه من حبل أمان، والذي يتعرَّف إليه شعورًا، باعتباره واحدًا من بين
التعبيرات عن انفعالاته الرئيسة المتولِّدة وسط تنوُّعٍ من
التَّلوينات. ولكن لننتبه، فالفرح "تكامليّ" أيضًا فهو ينطوي كذلك على
الألم. إنَّه "مؤسِّس"، "ذاتيُّ الحركة"، "مفارق"، كما يقول نيكولاس
غو، وهو قادرٌ أن ينبثق من لا مكان، وحتى في المواقف المأساوية. بناء
على ذلك، "ليس الفرِح، جوهريًّا، من كان طافحًا بالحيويَّة، أو مليئًا
بالحماس، إنَّما هو ذاك الذي لا ينقضُّ على الفرح، بما في ذلك – ولنقل
حتَّى، وخصوصًا – وقت الحزن والأسى، وبما في ذلك وعلى الأخصِّ، في قلب
البربريَّة"[36].
عند هذه المرحلة، يمكننا أن نتخيَّل مسارًا تربويًّا مثاليًّا[37]،
يجعل من حضور الفرح – العاطفة نقطة الانطلاق للذَّهاب في اتِّجاه الفرح
– الحالة. المنعطف الأساسيُّ في هذا المسار هو العلاقة بين التلميذ
والمعلِّم، التي تنمو، مؤسَّسَةً على الاحترام المتبادل، في أربع مراحل
رئيسة[38]:
1.
الاعتراف.
2.
رجع الصَّدى.
3.
الكشف، مسيرة "تنبيه، يقظة".
4.
الفرح باعتباره يقظة.
الاعتراف من أجل الكشف (... يقود الولوج داخل الذَّات إلى الانفتاح على
الآخر)
أن نؤثِّر يعني أن نترك أثرًا، أن نحرِّض تغيُّرًا في الموقف في أنفسنا
وفي الآخر. علينا من أجل هذا أن نعود إلى مدرسة الذَّكاء العاطفيِّ
(غلومان 1998) وإلى مدرسة ذكاء القلب (فيليوزات 1998) على اعتبار أنَّ
القلب هو المكان القادر وحده على إرساء الرَّابط الضروريِّ مع الفرح.
يجب علينا في المقام الأول أن نتعرَّف على دور الفرح – العاطفة في
جريان مسيرة التَّعلُّم، لأنَّه يتدخَّل في قدرات المتعلِّم على
التَّذكُّر، وعلى استعادة المعلومة، وعلى التَّركيز وتحديد الملاحظة.
يتعلَّق الأمر، بالنسبة للمعلِّم بقدر ما للتلميذ، بالتَّعرُّف إلى هذا
الفرح - العاطفة في نفسه: إنَّه فرح التعليم، فرح التبليغ. يذكِّرنا
هذا بالمكانة التي لا غنى عنها للـ أيروس في التَّربية، على اعتباره
جملةً من الرَّغبات، وسرورًا في النقل، وحبًّا بالمعرفة وبالتلاميذ،
ذلك أنَّنا بفضله نستطيع أن "نتغلَّب على اللَّذة التي ترتبط
بالسُّلطة، لصالح اللَّذة التي ترتبط بالعطاء" على ما يؤكِّد إدغار
موران[39].
سيكون هناك فرحٌ ظاهرٌ عندما يكون الأطفال على تماسٍ مع الفنِّ، على
سبيل المثال (شري أوروبندو، شنايدرز، غو، الخ..) سوف يبدعون عملهم
الفريد الخاصَّ (شتاينر) أو سيكونون كذلك مسحورين بالطبيعة (المدرسة
الجديدة، البنائيَّة، الخ..) أو متأثِّرين بالمشاركة مع الآخرين
(التربية من أجل السَّلام، فضِّ النِّزاعات). في المثلَّث الذي يشكِّل
الموقف ومعرفة المادَّة والمنهج أضلاعَه الثلاثة، يتخذ المدرِّس موضعًا
وجوديًّا، عبر شخصيٍّ "يبدي من الفنِّ، بقدر ما يبدي من العلم، إن لم
يكن أكثر" (باربييه 1983) عبر هذه المرحلة الأساسية، يجري تمييز مواقف
التلميذ وتوجهاته ورغباته وصعوباته وأخطاءه دون أن يجري "تقييمها" في
غرابيل ضيِّقة، أو في أحكامٍ أو مخطَّطاتٍ مرجعية. يتوجَّب أن نطلب
المعرفة كي نعرف: إنَّ عمليات التقدُّم في تحصيل المعارف تتكشَّف من
تلقاء نفسها عبر المسيرة التربويَّة، وفي الحالة التي يكون من
الضروريِّ فيها إجراء تقييم (بدون درجات!) فإنَّ بالإمكان إجراءه معًا
في مسارٍ حواريٍّ بين التلميذ والمدرِّس.
تصبح مهمَّة المعلِّم، الذي يبدو كما لو في استراحةٍ، تحفيز الفضول عبر
أنشطته الخاصَّة التي يقوم بها في الصَّفِّ: إنه يقرأ هو أيضًا، يكتب
أو يرسم، ويستخدم مواد. تاركًا لنفسه زمام القيادة، سوف يعتمد على
مواهبه الحدسيَّة، وفق استلهام يمكن مقارنته بمرحلة الاستنارة عند
الفنَّانين (راميريز، 2006). يلعب الإحساس دوره أيضًا في هذا المسار،
بكونه قدرة للأحاسيس (الماناس في السيكولوجيا الهندية) التي تمركز
وتنظِّم عمليات تجري في الرُّوح مثل التخاطر والرُّؤيا والإصغاء
والاستشعار المسبق، الخ[40]..
كلُّ هذه القدرات تجعل من المعلِّم الموقِظ، على غرار معلِّم اليقظة
عند كريشنامورتي، يرى، يراقب، لا يحكم، بل يرعى بزوغ الاهتمام،
النَّزعة نحو موقفٍ أو آخر، فعلى كلِّ هذا يتوقَّف فعل "إعادة
التَّعرُّف" من أجل كشف "النَّفس" والانفتاح على الذَّات وعلى الآخرين.
رجع الصَّدى (... أن تسمع بأذن الآخر)
يُسمَع رجع الصَّدى باعتباره ظاهرةً، لا فيزيائيّة (سمعيَّة) فحسب، بل
فكريَّة وعاطفيَّة أيضًا، تجتاح النَّفس، ولا بدَّ من استقبالها في
كلِّ الكائن. وبفضلها سيفهم المعلِّم إن كان النشاط الذي يختاره
التلميذ حاملاً للفرح أو لا. يقتضي هذا أن
يكون،
ولنقلها بمفردات أساتذة التقدُّم الحرِّ، "في حضور" مع نفسه أوَّلاً،
أن يعرف كيف يفهم حقيقته العميقة كيما يسمع تلك الخاصَّة بالآخر، "أن
يسمع بأذن الآخر"[41].
إنَّ التَّعاطف، وهو القيمة التي ترتكز عليها جميع مناهج التَّربية من
أجل السَّلام واللاعنف، هي المفتاح لفهم ما يعيشه وينسجه الآخرون من
العلاقات المتناغمة. إنَّها تستلزم من المرء أن يصغي بكلِّ جوارحه، وأن
يصغي بروحه، ما يتطلَّب تخليةً لجميع الملكات. عندما يتمُّ بلوغ هذه
الحالة، يصل المرء إلى الإمساك مباشرة بما هو هنا، أمام الذَّات، ما لا
يمكن أبدًا سماعه عبر الأذن أو فهمه بواسطة العقل. يستثير التَّوافق مع
هذا الشُّعور شيئًا من الفرح، وهو فرحٌ يخرج هنا من حقل المشاعر، كي
يجد طريقه إلى حقل الكون، إنَّه الفرح الذي "يُفهم ويُمارَس في الحاضر
(...) إنَّه رجع صدى، إنَّه أخلاق، منبع كلِّ إبداع..."[42].
الكشف
يمكن لعلاقة أوثق مع التلميذ أن تنشأ في هذه المرحلة، بغية معرفة ما
إذا كانت الأنشطة التي يتوجَّه نحوها كاشفةً عن ماهيَّته وحاملةً لها،
ولما عليه أن يعمل. لهذا السَّبب كانت المرحلة السَّابقة أساسيَّة،
لأنَّ على المدرِّس أن يستخدم هنا، لا إمكانيَّات معرفته النَّفسيَّة
والتَّربويَّة فقط، بل في الدَّرجة الأولى إمكانيَّاته الحدسيَّة. فهو
على هذا النَّحو لن يوجِّه التلميذ نحو خياراتٍ تُعاش عادةً على أنَّها
قاطعة ونهائيَّة، بل هو يحزر فضوله تجاه هذا أو ذاك من المواضيع،
بتحفيزه عبر أنشطةٍ إبداعيَّة. وهو لن ينسى، في غمرة الفرح التي يمكن
لاكتشاف الذَّات أن يولِّدها، أن يُدرِجَ صعوبات التلميذ إلى جانب
نجاحاته، معتبرًا الأولى معالم ضروريَّة في المسير التَّربويِّ، بدلاً
من النظر إليها على أنَّها إخفاقات. إن لم يكن هناك سرورٌ في
التَّعلُّم، إن لم يكن هناك سعادة في العمل أو في الدِّراسة، فإنَّ هذا
سرعان ما سيظهر، ويمكن للمعلِّم أن يوضح الأمر مع التلميذ خلال الطريق.
في المقابل، إذا كان ما قرَّر التلميذ أن يدرسه "صدىً" لاهتماماته
العميقة، فإنَّ هذا الخيار سيولِّد الفرح في نفسه وسيتعرَّف عليه
معلِّمه، وكذلك أقرانه، على نحوٍ طبيعيٍّ في طبيعته العميقة. ليست
العاطفة – الموجِّهة سطحيَّة، إنَّها ليست إثارة، إنَّما قوَّة
ملطِّفة.
التَّنبيه، الإيقاظ
الخطوة الأولى على طريق أن يجد المعلِّم من جديد دوره الموقِظ، هي أن
يوقظ نفسه هو. لسوف يكون، ضمن خلقٍ دائمٍ، "في بحثٍ عن الحقيقة، ليس
يوغيًّا كاملاً، بل كائنًا باحثًا لا يخفي نفسه" كما يؤكِّد على ذلك
مدرِّسو أوروفيل. في هذه التَّربية، يكون للأفعال حسابها بقدر ما يكون
لطرائق الوجود، فـ "أن يكون المرء معلِّمًا يعني في نهاية الأمر أن
يدلَّ على الطَّريق: بما يفعل، وبما هو إيَّاه"[43].
ولقد يمكننا أن نضيف أيضًا، إنَّها، أي هذه التَّربية، وضع الذَّات في
ذلك المقام المتواضع للَّذي "يعرف أنَّه لا يعرف"، والذي يكتشف (نفسه)
الذي يعلِّم ويتعلَّم مع الآخرين في الوقت نفسه، نظير "المعلِّم
الجاهل" جاكوتو لجاك رانسيير (1987). هذا الإبداع التَّربويُّ، ليس
أمرًا نافلاً، بل هو على العكس، يتطلَّب تغييرًا جذريًّا في إعادة
التَّموضع يمكن أن يغيِّر ويقلب طريقتنا في النَّظر إلى المدرسة (كما
وإلى العالم!).
الهدف كشف الفرح تدريجيًّا، هذا الفرح يجب أن يجري حثُّه عبر أنشطةٍ
تستوجب مشاركة كلِّ أبعاد الكائن: في الجسد الفيزيائيِّ (عبر الاسترخاء
والحركة الواعية) في الذهن (عبر التَّركيز وتنشيط الانتباه والمخيَّلة،
كما عبر الإبداع) وفي الرُّوح (عبر انفتاح القلب، والصَّمت الذهنيِّ
والتَّأمُّل)[44].
إنَّ ما تطرحه التَّربية على الفرح هو طريق لاكتشاف الذَّات العليا
متوافقٌ مع تعريف الـ "روحانيَّة العلمانيَّة" (باربييه، كومت سبونفيل)
أكثر من توافقه مع خيارٍ دينيٍّ. لسوف يكون ذلك "ممارسة لحكمة تتجاوز
كلَّ منطق وتكتمل في الفنِّ والضحك والمقدَّس" حسب ما تستحضرها
العبارات الرائعة لنيكولا غو عندما يتساءل عن الإمكانيات الفريدة
للفرح. إنَّه الفرح الذي يخرج عن دائرة العواطف ويضحي تطلُّعًا للكائن
إلى اتِّحادٍ مع المطلق.
سوف يجري التعرُّف على الفرح – الحالة، المختلف عن الفرح – العاطفة،
عبر ديمومته كما عبر حركته الذاتيَّة، التي تجعله مستقلاًّ عن الأسباب
الخارجية التي تحدِّده. يتعلَّق الأمر، بالنسبة لمعلِّم وتلميذ،
بالانفتاح على بعدٍ داخليٍّ أكثر رحابةً من ذاك الانفعاليِّ والعابر
والمعتاد لأنَّه ينطوي على "الكلِّ" في مسير إيقاظ.
إنَّ فرح اليقظة، بكونه هدفًا أخيرًا للتربية، هو في الوقت نفسه تَعالٍ
transcendance
ومحايثة
immanence،
ليصبح بذلك عبر – محايثة
trans-immanence
. إنَّه جوهريُّ للحيِّ، للجسد، للمادَّة، للواقع، لكنه يتجاوزها ويمضي
"إلى ما وراء" الطبيعة متجاوزًا حدودها، مرتبطًا بأبعاد أكثر رحابةً
بكثير، تسكن في الجسد وترفعه[45].
ها نحن أولاء قد وصلنا ههنا، تقودنا المقاربة العبرمناهجيَّة، إلى
الاعتراف بطبيعة الموضوع في جوهره الفرِح، غير المتشظِّي، واحدًا مع
الكلِّ. يستعيد الفرح أخيرًا معناه الأصيل، معنى الوحدة بين الكائنات،
وبين الكائن والبعد المطلق. تستعيد التربية هنا أيضًا معناها المفقود،
إنَّها "تقود" و"تغذِّي" و"تُخرِج" أفضل ما فينا. سوف يكون للتَّربية
على الفرح، بتطبيقها عبر سيروراتٍ تشاركيَّة في المدارس، مع إسهامٍ
مسؤولٍ من جانب الأهل بقدر ما المدرِّسين، مهمَّة قيادة الأطفال
الحاليِّين والأجيال القادمة إلى إخراج ما هو أكثر نفاسةً ممَّا يخفونه
في ضميرهم، وهو الفرح الكلِّيُّ بعيش الحياة.
ترجمة: أديب الخوري
*** *** ***