|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
ليس
تفاقُم العنف وانتشارُه هو
الملمح الأبرز في حياة المشرق السياسية منذ
ثلاثة عقود، بل ندرةُ التفكير فيه والإحاطة
به كذلك، نظريًّا وعمليًّا. الموقف التحريمي
الذي تطوَّر في أوساط المثقفين حيال العنف
تخطَّى ممارسته والدعوة إليه إلى التفكير
فيه، من دون أن يؤثر على انتشار العنف؛ فقد
تسبَّب التحريمُ، بالأحرى، في إعاقة فهمه
والسيطرة العقلية عليه. ويلتقي في تفسير هذا
الموقف واقعان: في المقام الأول، فَقَدَ
العنف العربي إبان العقود ذاتها قيمته العامة
والتغييرية أو «الثورية». لقد كان عنف أنظمة
أو منظمات ثورية، أو هو حروب وطنية، وفاعلوه
هم دول أو تنظيمات تطمح إلى إقامة دول؛ وكان،
تاليًا، أمرًا مرغوبًا، يجري التبشيرُ به أو
التنظيرُ له. أما اليوم، فهو عنف حروب أهلية،
أو عنف منظمات إسلامية متطرفة، أو عنف أنظمة
دكتاتورية لا أفق لها، أو بالطبع عنف قوى
معادية: إسرائيل ثم أمريكا. وهو، في جميع
الحالات، عنف مضاد للدولة. كذلك تغيَّر
السند الإيديولوجي للعنف: فقد كان قوميًّا أو
اشتراكيًّا، وصار اليوم دينيًّا أو أهليًّا.
ومع
أن الوقفات الاحتجاجية كانت تُنظَّم
أسبوعيًّا كنشاط نسائي وتُطوِّر زخمها الخاص
بها، إلا أن منظمة داي لاكيبوش استمرت على
اعتبارها جزءًا من نشاطاتها. لم يكن من السهل
عليهم النزول عن السيطرة الأبوية وحق
المُلكية على مولودتهم النسائية الخالصة. وفي
اجتماع تنظيمي عُقِدَ بعد مضي عدة شهور على
بدء الوقفات الاحتجاجية، أعلن أحد قادة داي
لاكيبوش أن عددًا من القرارات ينبغي أن
يُتَّخَذ في شأن الوقفات الاحتجاجية للنساء
بالسواد. لكن الأمهات المؤسِّسات أبلغنَه:
"أنتم في حِلٍّ من كلِّ القرارات
المتعلِّقة بنساء بالسواد، فنحن لم نعدْ
ننتمي إليكم." وهكذا
انطلقت حركة "نساء بالسواد" كمشروع
نسائيٍّ خالص ومستقل. * * *
عبد الواحد علواني: الثقافة الإسلامية السائدة تنظر إلى التاريخ الإسلامي وتاريخ التشريع على أنه مجموعة من المعجزات والخوارق والغيبيات والمقدسات. فكيف تنظرون أنتم إلى هذه الفكرة؟ جودت سعيد: القرآن دستور حياة، لكنه دستور وثقافة بحسب ما نفهمه؛ ولكلِّ جيل أن يستنبط منه دستورًا لحياته وأحكامًا تحقق العدل في كلِّ عصر، على جميع المستويات. لكن الذي حدث إبان التاريخ الإسلامي أن الفكر الذي يعتمد الخوارق والمعجزات – الفكر الذي جاء الإسلام ليزيله ويُحِلَّ محلَّه السننية – عاد، بشكل أو بآخر، ليسيطر على العالم الإسلامي. إذ نجد في القرآن أن الحديث عن معجزات الأنبياء والخوارق كان سمة ما سبق، بينما كان الإسلام واضحًا في موقفه إزاء الخوارق: حينما كان القرشيون يسألون الرسول (ص) أن يأتيهم بالخوارق، مثله في ذلك مثل الأنبياء من قبله، – قائلين: "لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسلُ الله" [الأنعام 124]، أو "لولا أُنزِل عليه كنزٌ أو جاء معه ملك" [هود 12]، مطالبين حتَّى بإزالة الجبال أو تفجير الينابيع والأنهار في جزيرة العرب: "لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنةٌ من نخيل وعنب فتفجِّر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً [...]" [الإسراء 90-93] – كان الرسول يرد في بساطة متناهية: "هل كنتُ إلا بشرًا رسولاً" [الإسراء 93]. ويبيِّن لهم الرسول أن هذه دعوته، فإن استجابوا فإنما لأنفسهم، وإلا فإنه صابر. وإذ يلحون في الطلب، يرد القرآن عليهم: "أوَ لم يَكْفِهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب" [العنكبوت 51].
الحبُّ
أيقونةُ الطريق إلى الله، مرورًا بالقلب
وبالناس، منارةٌ للتائهين عن السبيل إلى
سعادة البشر وفرح الوجوه، انطلاقةٌ للأغاني
من أفواه الصغار، انعطافةُ امرأة لحظة دفء
إنساني، بكاءُ رجل في لحظة صدق، وتغريدُ طير
وجد على الأرض بقايا لبشر أخذوا حاجتهم قبل
قليل وتركوا له ما يكفي لمعاودة الطيران وعزف
أنشودة حبٍّ في سماء تظلِّل البشر. في محاورة جادة
جرت بيني وبين أحد المفكرين الإسلاميين حول
مفهوم العنف ومبدأ اللاعنف الذي أؤمن به، جلب
معه ورقةً جمع فيها الآيات التي تحث المسلمين
على الجهاد والقتال وإعداد ما استطاعوا من
قوة ومن رباط الخيل (الأنفال 60)، شاهرًا في
وجهي هذه الآيات الكريمات، متحديًا بأن فحوى
هذه الآيات الذي يسمِّيه هو "جهادًا" و"بطولة"
أسمِّيه أنا "عنفًا" – هكذا ببساطة! رمى
الرجل أمامي بهذه الورقة وتابع قائلاً: "لا
أريد جوابًا سريعًا... خذي من الوقت ما يكفيك،
وأعيدي إليَّ جوابًا وتفسيرًا." قرأت تلك
الورقة الكريمة عشرات المرات – وقد أحسن
الرجل انتقاءها من كتاب الله وكتابتها وجعل
عنوانها بين أقواس كبيرة كهذا: ((العنف في كتاب
الله عند سحر أبو حرب))! فكان هذا تحديًا
كبيرًا لي. لا أخفيكم أني مكثت أشهرًا وأنا
أتأمل الآيات الكريمات التي وضعني ضمنها
وولَّى هانئًا، وشعرت إذ ذاك بالفخ الذي شاء
أن يوقعني فيه، فوقعت فيه بسهولة قراءتي
للآيات الكريمات. لقد طوَّقني بإطار الآيات،
وذهب مطمئنًّا إلى أني لن أخرج منها إلا إليها.
فكان لا بدَّ لي من أن أعود إلى كتاب الله وإلى
الآيات المذكورات في الورقة الكريمة، فأدرس
مواقعها في النص وسياقها ونسقها، ثم أحدد بعد
ذلك فهمي لها.
|
|
|