|
نساء بالسواد الفصل الأول قدَّاحة اسمها "غزة" قطاع
غزة شريط برِّي ضيق محشور بين إسرائيل وبقعة
لافتة الجمال من البحر الأبيض المتوسط. يميل
مناخُه على الدوام إلى الحرارة مصحوبةً بجفاف.
وكان يمكن لهذا الشريط الساحلي، في زمن آخر،
أن يتحول إلى منطقة مدهشة يرتادها هواة
الشواطئ، فيفترشون الرمل الأبيض النظيف
ويسرحون بخواطرهم في المياه اللازوردية
المتلألئة. غير
أن المشكلة مع قطاع غزة ابتدأت في العام 1948
عندما اكتظ باللاجئين العرب الفارِّين من
الحرب التي قامت في أعقابها دولة إسرائيل.
ومازال خلافٌ تاريخي دائرًا حول نزوح تلك
العائلات من فلسطين (التي أعاد حكامُها
الجُدُد تسميتها بـ"إسرائيل"): هل كان
خوفًا أم بدفع من الإسرائيليين للمغادرة؟ –
والأرجح أن الأمر ناجم عن السببين معًا[1].
مهما يكن الجواب، فقد استقر كثير من اللاجئين
في هذا الشريط البري الحار دومًا، الذي كان
آنذاك تحت الحكم المصري، وساعدتْهم الأمم
المتحدة على بناء "بيوت" طينية مؤقتة،
بينما كان السياسيون يتنازعون حول تقرير
مستقبلهم دون اكتراث يُذكَر بمحنتهم القائمة. وعلى
مرِّ السنين، تضخَّم قطاعُ غزة سكانيًّا حتى
بلغ 800000 نسمة، متحولاً إلى بؤر أشبه بجحور
الأرانب، قذرة ومعرضة لطوفان الماء، حيث
ينحشر أحيانًا عشرون فردًا في وحدات معسكرات
اللاجئين المؤلَّفة من غرفتين. وتُعَدُّ هذه
الشظية من الأرض – 30 ميل طولاً و5 أميال عرضًا
– الأكثف سكانيًّا في العالم بعد هونغ كونغ،
ويعيش فيها السكانُ في ظروف معيشية فظيعة.
ونسبة المواليد في القطاع هي من أعلى النسب في
العالم (50 مولودًا لكلِّ 1000 نسمة سنويًّا)، في
حين أن نسبة وفيات الأطفال أعلى بخمسة أضعاف
مما هي عليه في إسرائيل (70 مقابل 14 لكلِّ 1000
نسمة) – نتيجة لعدم توفر سوى طبيب واحد لكلِّ
2200 نسمة[2].
وتحتل غزة موقعًا أسوأ من حيث المؤشرات
الاقتصادية، في غياب أية بنية اقتصادية تحتية
غير المشاريع الصغيرة. كانت غزة واحدة من ثلاث
كتل برِّية احتلَّها إسرائيل في حرب 1967، وهي
الأسوأ وضعًا بين الثلاث إلى حدٍّ بعيد. مع
ذلك، لم يقم إسرائيل عمليًّا، في غضون 26 سنة
من الاحتلال، بما من شأنه أن يخفِّف من فقر
غزة المدقع ومن بؤس المقيمين فيها؛ كما أن
المصريين لم يبذلوا أيَّ جهد في سبيل رفاه
القطاع عندما كانوا فيه قبل الإسرائيليين. لذا
ليس مفاجئًا أن تنطلق من غزة، في 8 كانون الأول
1987، الأحداثُ التي غيَّرت مسار تاريخ الشرق
الأوسط. كانت
ناقلة دبابات للجيش إسرائيلي تعبر قطاع غزة،
حين التفَّت فجأة، واندفعت على حين غرة،
لتحرث حمولة شاحنة من العمال الفلسطينيين
الراجعين من عملهم. كانت حصيلة الحادث أربعة
قتلى من الفلسطينيين وسبعة جرحى. ثمة حظوظ في
أن يكون الحادث غير مقصود، لكن شائعات سَرَتْ
أفادت بأنه كان متعمَّدًا. وذهبت رواية أخرى
– لا أساس من الواقع – إلى أن سائق الناقلة
على قرابة بإسرائيليٍّ طُعِنَ حتى الموت
قبلئذٍ بيومين في سوق غزة وأنه فعل ما فعل
انتقامًا. وبهذا أجَّجت الإشاعاتُ الغضبَ
المتقيح، بما جعل الجنازات في مخيم جباليا
للاَّجئين ذلك المساء فرصةً لتسعير أعمال شغب
جماهيرية ضد جنود الاحتلال، ردَّ عليها
الجيشُ الإسرائيلي بالقنابل المسيلة للدموع
وبالرصاص الحي، موقِعًا المزيد من القتلى بين
الفلسطينيين ورافعًا مستوى الغضب درجةً أعلى.
وبهذا بدأت دورة الفعل ورد الفعل، العنف
والعنف المضاد، التي اتسمت بها سنواتُ
الانتفاضة: رمي الجنود الإسرائيليين
بالحجارة/قنابل مسيلة للدموع؛ شغب في الشوارع/اعتقالات
تعسفية؛ عبوات مولوتوف/رصاص؛ متفجرات
إرهابية/إعدامات عاجلة؛ وهكذا دواليك في حلقة
متصاعدة من الأعمال الوحشية. وتدحرجت الأحداث
ككرة الثلج لتتحول إلى ثورة شاملة عمَّت جميع
المناطق التي يحتلها إسرائيل منذ حرب 1976
وباتت تُعرَف بـ"الانتفاضة" – تمرد
جماهيري للخلاص من نير الاحتلال الإسرائيلي[3]. النزاع في كشتبان إلامَ
يشير "الاحتلال الإسرائيلي"؟ إليكم
خلاصة مكثَّفة لتاريخ هذه المنطقة، لعلها تفي
بالغرض. اتخذ
العديد من القبائل والعشائر والأمم من هذه
البقعة من الأرض موطنًا لهم منذ تاريخ يعود
إلى 8000 سنة ق م. وقد ساد اليهود على المنطقة في
فترات متقطِّعة مدة 1250 سنة تقريبًا، بدءًا من
العام 1180 ق م[4]،
على الرغم من أن تلك الفترات لم تخلُ من معارك
كرٍّ وفرٍّ للسيطرة على الأرض، مع محاولات من
قبل المؤابيين والمديانيين والفلستيين
والمصريين والإغريق وآخرين غيرهم لتهجير
أسباط بني إسرائيل المتحالفة أو للسيطرة
عليهم. وأخيرًا آلَ الحكمُ اليهودي للمنطقة
إلى خاتمة كارثية في العام 70 ميلادي بعد ثورة
كاسحة ضد الرومان، الذين طردهم بدورهم آخرون.
أما الأمم اللاحقة التي استوطنت المنطقة
وحكمتْها فهُم الرومان والبيزنطيون
والمسلمون والسلاجقة والصليبيون والمماليك
والعثمانيون والإنكليز. وفي
أواخر القرن التاسع عشر، قرر بعض اليهود
المقيمين في أوروبا، من جراء اضطهاد العديد
من الأمم لهم اضطهادًا متواصلاً، تجديد
الاستيطان اليهودي في هذه المنطقة – وكانت
تُسمَّى آنذاك "فلسطين" – وتأسيس ملاذ
لليهود الهاربين من حملات معاداة السامية.
وقد تطورت هذه الفكرة إلى حركة دُعِيَتْ بـ"الصهيونية"،
هدفها السياسي إعادة تأسيس دولة يهودية في
"الوطن التاريخي". في ذلك الوقت، كان
العرب يعيشون في فلسطين، وكانت هناك نزاعات
متقطعة بينهم وبين اليهود الذين كانوا يسعون
في ادِّعاء أحقيتهم بالأرض. ولا يجوز إغفال
حقيقة أن بعض اليهود كانوا راغبين في تسوية مع
العرب حول الأراضي، بينما اعتقد آخرون منهم
أن قَدَرَ اليهود الصريح هو أن يمتلكوا كل
الأرض التي تعود تاريخيًّا لبني إسرائيل إبان
الحقبة التوراتية[5]. هكذا
بدأ نزاعُ القرن العشرين الذي تفجَّر إلى عدة
حروب طاحنة، لن أذكر منها إلا حربين فقط: حرب
العام 1948 التي أدت إلى تأسيس دولة إسرائيل
المستقلة على شريط ضيق من الأرض، وحرب العام
1967 (تُدعى أحيانًا "حرب الأيام الستة")
التي أدت إلى احتلال إسرائيل للمزيد من
الأراضي التي كانت قبلئذٍ تحت سيطرة الدول
العربية: الضفة الغربية (كانت سابقًا جزءًا من
الأردن)، مرتفعات الجولان (كانت سابقًا جزءًا
من سورية)، وسيناء وقطاع غزة (كانا سابقًا
جزءًا من مصر). وقد
سوَّت مصر خلافاتِها مع إسرائيل في العام 1979
بقيادة أنور السادات ومناحيم بيغن. فلقاء
الاعتراف بشرعية وجود دولة إسرائيل في منطقة
الشرق الأوسط، أعاد إسرائيل إلى مصر شبه
جزيرة سيناء كاملة. كانت تلك تضحية هامة بنظر
إسرائيل، حيث كانت سيناء مغرية له بحُكم
مخزونها النفطي الجوفي وقلة عدد سكانها العرب.
لكن إسرائيل، أمام الضغط الدولي، إضافة إلى
أمله المعقود على أن يؤدي السلام مع مصر إلى
تسوية مع بقية الدول العربية الشرق أوسطية،
شعر أن التضحية تستحق العناء. طال
أمد احتلال إسرائيل لبقية المناطق، وكان باهظ
الثمن: مليونا فلسطيني، معظمهم من اللاجئين
وذريتهم بعد حرب استقلال 1948. وقد احتدم النقاش
داخل إسرائيل طوال فترة هذا الاحتلال حول "الاحتفاظ"
بالأراضي أو عدم الاحتفاظ بها. فبعض
الإسرائيليين اعتقد أننا يجب أن نحتفظ بها،
إما لأسباب تتعلق بالوعد الإلهي وإما بحجة
كونها سياجًا أمنيًّا، في حين حاجج آخرون
لصالح تسوية إقليمية تكفي، على الأقل، للسماح
لعرب المنطقة بمسالمة إسرائيل. وفي المآل،
لزم "أنصار التسوية" جانب الصمت، حيث لم
تكن أية معاهدة سلام تلوح في الأفق القريب
لقاء إعادة الأرض؛ في حين واصل "مناهضو
التسوية" – ومعظمهم من المتديِّنين –
ضغطهم متأبِّطين برنامجًا للاستيطان على
الأرض. مخاطر الاحتلال منذ
حرب حزيران 1967 حتى أيلول 1993، حين باشر إسرائيل
انسحابه من الأراضي المحتلة، كانت قد مضت على
الاحتلال 26 سنة – سنوات ملؤها الوحشية
والقسوة: المكوِّنان الحتميان لإخضاع أمَّة
لأمة أخرى. وقد تفاقم العنف سوءًا إبان سنوات
الانتفاضة الست من جراء محاولة قمع ثورة
الفلسطينيين التي تراوحت بين أشكال المقاومة
اللاعنفية البحتة وبين الممارسات الإرهابية
الضارية. ولم يتورع أيٌّ من الطرفين – لا
الإسرائيلي ولا الفلسطيني – عن استخدام
تكتيكات وحشية. وإبان
احتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، فرض
نظامًا جائرًا على السكان المحليين. فبادئ ذي
بدء، أعاق التنمية الاقتصادية في الأراضي[6]،
طمعًا في استغلال اليد العاملة الفلسطينية
الرخيصة من جهة، وخوفًا من أن تؤدي التنمية
إلى تعزيز الشعور الوطني الفلسطيني من جهة
ثانية. كما أن قلق إسرائيل من تصاعُد النزعة
الاستقلالية لدى الفلسطينيين دفعَه إلى فرض
قيود مشدَّدة على حياتهم اليومية، مصادِرًا
حرياتِهم الديموقراطية الأساسية – ليس حق
تقرير المصير وحسب، بل وحق التمثيل والحركة
والتجمع والتعبير وغيرها كثير أيضًا، ناهيكم
عن المضايقة والإذلال اليوميين المتواصلين
اللذين مارسهما الجنود الأفراد، بحيث أمست
الحياة في الأراضي إبان الانتفاضة لا تُطاق
أكثر حتى. ونورد هنا الأشكال الرئيسية
المتواصلة للقمع ومصادر الكَرَب[7]: -
وقوع
قتلى وجرحى نتيجة استخدام القوات
الإسرائيلية القوةَ لقمع الشغب أو ردًّا على
مختلف أشكال الاستفزاز من جانب السكان
الفلسطينيين؛ -
تمديد
فترات حظر التجول على السكان جميعًا – منع
مغادرة المنازل بعد الغروب؛ -
تمديد
إغلاق رياض الأطفال والمدارس والجامعات (التي
بقيت أحيانًا مغلقة عدة سنوات كلَّ مرة)؛ -
قطع
دوري لخطوط الهاتف والكهرباء وإمدادات
المياه؛ -
فرض
رقابة على الكتب والصحف وغيرها من المنشورات؛ -
تطبيق
نظام ضريبي تعسفي وجائر كوسيلة لفرض السلطة؛ -
إساءة
معاملة السكان في أثناء عمليات تفتيش
منازلهم، بما في ذلك تدمير الممتلكات على
نطاق واسع؛ -
مضايقات
بيروقراطية تعرقل محاولات الحصول على
التصاريح لدخول إسرائيل (من أجل العمل أو
المعالجة الطبية) والتصاريح للسفر خارج
البلاد أو التصاريح بإتاحة لمِّ الشمل الأسري
وبزيارات الأقارب؛ -
تطبيق
العقوبات على عائلات "المطلوبين" من قبل
الجيش – ختم الغرف أو البيوت بالشمع الأحمر
أو هدم المباني بكاملها؛ -
احتجاز
إداري – اعتقال وسجن دون محاكمة – لفترات غير
محددة عمليًّا؛ -
استعمال
التعذيب الممنهج في أثناء استجواب
المحتجَزين؛ -
استخدام
وحدات عسكرية سرية لتنفيذ عمليات إعدام عاجلة
بـ"المطلوبين الفلسطينيين"؛ -
تطبيق
تفاضُلي للقانون على الفلسطينيين
والمستوطنين الإسرائيليين في الأراضي
المحتلة... ناهيكم
عن الوجود العسكري المنتشر والمشئوم الذي كان
يتفجر دوريًّا عن العنف. فالقوات الإسرائيلية
كانت تستبد بالسكان المحليين، بدعم تام من
المحاكم الإسرائيلية والحكومة. لذا ما كان
مفاجئًا أن تندلع الانتفاضة، والأقل مفاجأة
حتى أنها بدأت من قطاع غزة، حيث ضغط الكثافة
السكانية الساحق والفاقة الطاحنة. معسكر السلام الإسرائيلي يصحو من
غفوته اعتاد
معظم الإسرائيليين تجاهُل ما كان يحدث في
الأراضي خلال السنوات العشرين الأولى من
الاحتلال. لكن، مع نشوب التمرد هناك، بدأت قصص
رهيبة تطفو على السطح. فإذ ذاك، فوق عشرين سنة
من القمع، تكشَّفت فصولٌ جديدة عن وحشية
الجنود الإسرائيليين في محاولتهم قمع
الانتفاضة. هؤلاء كانوا "أبناءنا"،
تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والتاسعة
عشرة، يضربون الناس بالهراوات ويطلقون النار
على الحشود. بعض هذه القصص كان حقيقيًّا،
وبعضها الآخر من قبيل التهويل الإعلامي، لكن
الصورة التي ظهرت كانت صورة قمع السكان
المحلِّيين. فكان رد فعل الجمهور اللبرالي
الإسرائيلي شعورًا هائلاً بالاشمئزاز والذنب
– لمسايرتنا هذا الاحتلال هذه المدة كلها،
دافنين رؤوسنا في الرمل عن حقيقة أن إسرائيل
كان، طوال جيل كامل، قوة احتلال لما ينوف
على مليونين من الناس، وأن هذا الاحتلال كان
أكثر قمعًا بكثير مما كان في قدرة أيٍّ منا
على تخيله. فبنظر
العديدين منا، وقعت إحدى أسوأ لحظات هذا
المرحلة المبكرة (وكان مقيضًا للحظات كثيرة
أسوأ أن تأتي لاحقًا) في الشهر الأول
للانتفاضة، حين أصدر إسحق رابين – وكان آنذاك
وزيرًا للدفاع، وصار فيما بعد، لسخرية
الأقدار، رئيس الوزراء المقتول من أجل السلام
– أوامره للجيش بـ"تكسير عظام"
الفلسطينيين. ومع أن المراد من هذه العبارة
الوحشية هو إحلال أسلوب آخر محلَّ النزوع
المتفاقم لدى الجنود إلى فتح النار على
المشاغبين، إلا أنها كانت كمن يخبر أحدهم بأن
ضرب الكلب خير من صرعه! كان اليسار اللبرالي[8]
في إسرائيل مرتاعًا، لكن الجنود
الإسرائيليين نفذوا الأوامر، متسببين في
العديد من حالات الضرب البشعة الفائقة
الوحشية ضد الفلسطينيين الذين سبق اعتقالهم،
ناهيكم عن العنف المجاني الذي مارسه الجنود
الساديون، المحبَطون من نَواحٍ أخرى. لم يكن
هذا ما انتواه رابين، لكنه كان حصيلة مباشرة
لسياسته. ومع
ارتفاع عدد القتلى والجرحى، أدمن اللبراليون
الإسرائيليون على سماع أخبار أعمال الشغب
ومحاولات سحقها، فبدأنا بالتفتيش عن سُبُل
للرد. كتبنا أولاً رسائل للمحرِّر، ثم دونَّا
عرائض احتجاج ووقعناها ووزعناها ونشرناها.
وظهرت مئات الإعلانات المدفوعة الأجر في
الصحف إبان هذه الفترة من قبل إسرائيليين
يطالبون السلطات بوضع حدٍّ للردود
الانتقامية القاسية. لكن عدد القتلى
والمصابين كان يرتفع يومًا بعد يوم. فما
العمل؟ كيف يمكن تغيير مجرى الأمور، كيف
يمكن إيقاف القتل والعنف؟ بنظر إسرائيليين
عديدين من الجناح اليميني، لم يكن هذا الأمر
يعني إلا مزيدًا من القسوة والصرامة على
الفلسطينيين – "سياسة القبضة الحديدية"،
كما دعتْها الحكومة وأجهزة الإعلام. وقد
عبَّرت ثلة سياسيين من صقور اليمين (آريئيل
شارون، رحبعام زئيڤي، رفائيل إيتان –
وجميعهم جنرالات سابقون) عما تعذر تفاديه: "لو
كانت المسؤولية منوطة بي، لسُحِقَتِ
الانتفاضةُ في غضون أسبوعين." ووافق
الكثيرون على وجهة النظر هذه. أما
بنظر الآخرين، فقد برز السؤال الحقيقي – سؤال
توارى في الظل سنين طويلة، لا يؤبه له ولا
يُطرَح، متناميًا على نحو جامح بسبب تغافلنا
عنه: كيفية إنهاء الاحتلال. لقد كان اليسار
الراديكالي الإسرائيلي قد صاغ السؤال على هذا
النحو منذ أمد طويل، وأخيرًا اخترقت هذه
الصياغةُ الجماجمَ البرجوازية لبقيتنا.
وفيما كنا نتفكَّر في هذه المحيِّرة النظرية،
كان الفلسطينيون يقررون الأمور وحدهم، حتى
تحول إحراق الإطارات إلى قذف بالحجارة، ما
لبث أن تحول بدوره إلى إلقاء قنابل مولوتوف،
فما عتم الجنود الإسرائيليين أن بدأوا يطلقون
النار رأسًا على الحشود. صحا
معسكر السلام الإسرائيلي جَفِلاً. فمع أن بعض
المجموعات كانت تعمل على إنهاء الاحتلال على
امتداد تاريخه ذي العشرين عامًا، إلا أن أغلب
أولئك المعروفين إجمالاً بـ"معسكر السلام"
ظلوا هاجعين منذ احتجاجاتهم في أوائل
الثمانينيات التي نجحت في إجبار الحكومة
الإسرائيلية اليمينية على الانسحاب من معظم (وإنْ
ليس جميع) الأراضي اللبنانية المحتلة[9].
أما وأن الانتفاضة احتدمت حتى صارت سُعارًا،
فقد هرعت المكوِّنات المتنوعة لمعسكر السلام
إلى العمل. وسرعان
ما نما عدد غفير من مجموعات السلام الجديدة.
وكان بعض هذه المجموعات يقوم على أساس
الاشتراك في مهنة ("عاملو الصحة الذهنية من
أجل السلام"، "رجال دين من أجل السلام"،
"جنرالات متقاعدون من أجل السلام"، "عاملو
الخدمات الاجتماعية من أجل السلام")؛
ومجموعات أخرى على أساس اهتمامات مشتركة ("آباء
آبهون"، "نساء من أجل السجينات
السياسيات"، "شباب ضد الاحتلال"، "لجنة
الفنانين ضد الاحتلال")؛ كما سعت بعض
المجموعات إلى ترميم حقوق الإنسان التي
انتهكتْها السلطات الإسرائيلية إبان
الاحتلال ("بتسليم"، "هيئة الحقوق
المدنية في إسرائيل"، "مركز الدفاع عن
الفرد"، "أطباء من أجل حقوق الإنسان"،
"اللجنة الشعبية لمناهضة التعذيب"). لكن
تبقى أكبر هذه المجموعات وأحسنها تنظيمًا
منظمة "السلام الآن" التي باشرت نشاطها
منذ العام 1978 وتمكنت من الاعتماد على مشاركة
جميع الناشطين في معسكر السلام في لقاءاتها
الجماهيرية. ويورد الملحق ب قائمةً
بأسماء 74 منظمة للسلام وحقوق الإنسان ناشطة
خلال الانتفاضة، وهي لا تشمل حتى العديد من
التجمعات السلميةِ التوجُّه، من مراكز البحث
والصحف والمجلات والتجمعات المسرحية والفنية
أو برامج تعليم السلام والمراكز الترفيهية
للضحايا. وقد أُنشئت غالبيةُ هذه المنظمات
والمراكز أو ازدهرت لدى اندلاع الانتفاضة.
لقد كانت بوتقةً للاحتجاج، تصب فيها مجموعاتٌ
تتطور، تنحل، يعاد تجميعُها، تأتلف، يعاد
تشكيلُها، تنشق، ثم تبدأ من جديد. وفي الأيام
الأولى، كثيرًا ما كان المرءُ يلتقي بالأشخاص
أنفسهم في البيوت نفسها، لكن بشعار جديد
وإستراتيجية جديدة هذه المرة. (وقد شاعت نكتة:
"نحن في معسكر السلام عشرة فقط، أما
الباقون فهُم من صنع المرايا.") لكن لا "مرايا"
يمكن لها تعليل التكاثر السريع للنشطاء أو
تشكيل حركة السلام النسائية التي ظهرت للوجود
آنذاك. المنظمة الأم: داي لاكيبوش تشكلت
داي لاكيبوش – وهي إحدى المنظمات الجريئة في
تعبيرها ضمن معسكر السلام – بعد نشوب
الانتفاضة في كانون الأول 1987 مباشرة. وكانت
المنظمة، إبان هذه الفترة المبكرة، تُعتبَر
راديكاليةً في إسرائيل، بما أنها كانت تدعو
إلى التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية
وإلى تأسيس دولة فلسطينية إلى جانب دولة
إسرائيل. وهذه المواقف كانت تُعَد حينذاك
مفاهيم متطرفة، على الرغم من تبنِّي الاتجاه
الأكثر نفوذًا في "السلام الآن" إياها،
وحتى غالبية أهل اليسار من السياسيين
الإسرائيليين. ووسط
قلاقل الفترة المبكرة للانتفاضة، بدأ فرع
القدس من منظمة داي لاكيبوش، رجالاً ونساءً،
في تنظيم مظاهرة أسبوعية صغيرة، رافعين
لافتات تطالب بإنهاء الاحتلال. وبعد عدة
مظاهرات لم يلحظ الجمهور وجودها إلا لمامًا،
التأم شمل المجموعة لتقرير كيفية شد المزيد
من الانتباه إليها. واقترح أحد الرجال – وهو
مسرحي – أن يحضر القوم إلى المظاهرة القادمة،
الرجال مرتدون زيًّا أبيض والنساء زيًّا
أسود، بهدف زيادة التوتر الدرامي. وقد لاحت
لنا الفكرةُ حسنةً، فلبست النساء السواد؛ لكن
الرجال، لسبب ما، لم يتحمسوا للتزيي خصيصًا
للمناسبة، فحضروا بثيابهم العادية. مع ذلك،
كان مشهد النساء دراميًّا، كجوقة إغريقية
كلاسيكية. وللاستفادة من الوقْع الجنائزي،
تقرَّر أن تقف النساء منفصلاتٍ عن الرجال.
وبالفعل، تولَّد اهتمام أكبر بقليل وسط
المتفرجين، مما شجَّع المجموعة على القيام
بمحاولة أخرى في الأسبوع التالي، هذه المرة
في دار سينما القدس ولنساء فقط يرتدين الزي
الأسود. في
الأسبوع التالي، سارت أول مظاهرة نسائية
خالصة بالزي الأسود. لقد بدا المشهد
متواضعًا، حيث لم تحضر أكثر من ثماني نساء، مع
بضعة من الرجال تنقَّلوا بين المتفرجين
يوزِّعون كراساتٍ تتضمن شرحًا سياسيًّا أكثر
تفصيلاً. وقد صنعت روث كوهين وإيدا بيلو
لافتات على شكل أيادٍ أشبه بإشارات "قف"
المرورية طبعتا عليها "داي لاكيبوش"،
اسم المنظمة، الذي ليس من قبيل المصادفة أنه
يعني أيضًا "أنهوا الاحتلال". كانت
اللافتات مكتوبة بالحرف الأبيض على ورق
مقوَّى أسود، صُمِّمت خصيصًا لتكون مرئية في
المظاهرات المسائية. ومرة أخرى، لفتت
المظاهرة بعض الأنظار، لكن موقعها لم يكن
الموقع المطلوب بعد. وبعد انتهائها، أجرت ريا
روتم، إحدى نساء المجموعة الأكثر تحمسًا
لفكرة الوقفات الاحتجاجية للنساء المرتديات
السواد وترويجًا لها – السواد ليس فقط من أجل
التأثير الدرامي، بل وكعلامة حداد على القتلى
والجرحى من جراء العنف (وريا نفسها كانت أرملة
حرب)، – اتصالاتٍ مع جميع النساء
الراديكاليات سياسيًّا اللواتي تعرفهن،
داعيةً إياهن للمشاركة في مظاهرة تُقام
الأسبوع التالي. في
الأسبوع التالي، انتقلت النساء على حين غرة
من حال النكرة إلى حال اعتراف الغوغاء بهن.
ففي الثامن من كانون الثاني، اختارت النساء
التظاهر في قلب مدينة القدس، في نقطة ضاجة
بالحركة عند تقاطع طريق يافا وشارع بن يهودا.
وقد لبَّت النداء حوالى 15 امرأة، بمن فيهن
ابنتي مييكا براند ذات الخمسة عشر ربيعًا،
التي سمعت عن المظاهرة من صديقتها ألڤا،
ابنة ريا. أما ريا فلم تلبس الأسود وحسب، بل
حملت أيضًا لوحة استفزازية للغاية رسمت عليها
جنديًّا إسرائيليًّا ينهال بالهراوة على
فلسطيني. لم تكن لوحة من شأنها كسب أصدقاء،
على اعتبار أن غالبية الإسرائيليين يعدُّون
جنودنا "ضحايا" العنف، وليسوا مرتكبيه.
وفي المحصِّلة، فإن أقل ما يقال إن المظاهرة
لفتت الانتباه. وصفت
روث الوضع بـ"المرعب والمنذر بالخطر".
فقد كان الموقع يعرِّض النساء لوطأة النقمة
العامة ضد مَن فضَّلن "الحداد على العدو"
بدلاً من دعم شبابنا المجندين. وتتذكَّر هاجر
روبلوف، وهي إحدى الأمهات المؤسِّسات: "عدتُ
إلى البيت مغطاة بالبصاق." لكنهن عثرن على
صيغة جذبت الانتباه – نساء يرتدين السواد –
مع أنهن اخترن موقعًا غير حصين. واتصلت النساء
بعضهن ببعض واتفقن على تكرار المظاهرة وهنَّ
لابسات السواد، لكنْ مع نقلها إلى ساحة
باريس، حيث تقفن على مسافة أكبر نوعًا ما من
المتفرجين، مع بقائهن مكشوفات جدًّا. وتناولت
المشارِكات فهارس الهاتف، واتصلن بكلِّ
امرأة تعتقدن أنها قد تكون مهتمة بالحضور. مَن
كنَّ نساء القدس اللواتي بدأن هذه الوقفة
الاحتجاجية النسائية المحضة؟ إنهن مجموعة
مؤلَّفة من 15 ناشطة للسلام متمرِّسة: دفنة
عميت، ميمي آش، جودي بلان، روث كوهين،
إيڤون دويتش، روث إلرز، هڤا هاليڤي،
دفنة كامينر، ليلي موئيد، تكڤا هونيش
پارناس، ميا روزنفلد، ريا روتم، هاجر روبلوف،
هگيت سيگال، هگيت شلونسكي. وفي غضون الوقت
الذي وصلت فيه تلك النساء إلى موقع المظاهرة
في ساحة باريس، كانت نساءٌ غريبات قد انضممن
إليهن أيضًا، نساء أخريات استهوتهن الفكرة.
وقد أُعلِنَت المظاهرةُ وقفةً احتجاجية
أسبوعية منتظَمة، وأُعلِنَتْ ساحة باريس،
المرئية لكن المرتفعة عن المتفرجين، موقعًا
دائمًا. ومع
أن الوقفات الاحتجاجية كانت تُنظَّم
أسبوعيًّا كنشاط نسائي وتُطوِّر زخمها الخاص
بها، إلا أن منظمة داي لاكيبوش استمرت على
اعتبارها جزءًا من نشاطاتها. لم يكن من السهل
عليهم النزول عن السيطرة الأبوية وحق
المُلكية على مولودتهم النسائية الخالصة. وفي
اجتماع تنظيمي عُقِدَ بعد مضي عدة شهور على
بدء الوقفات الاحتجاجية، أعلن أحد قادة داي
لاكيبوش أن عددًا من القرارات ينبغي أن
يُتَّخَذ في شأن الوقفات الاحتجاجية للنساء
بالسواد. لكن الأمهات المؤسِّسات أبلغنَه:
"أنتم في حِلٍّ من كلِّ القرارات
المتعلِّقة بنساء بالسواد، فنحن لم نعدْ
ننتمي إليكم." وهكذا
انطلقت حركة "نساء بالسواد" كمشروع
نسائيٍّ خالص ومستقل. * * * ترجمة: غياث
جازي [1]
من أجل مراجعة تاريخية صحيحة، انظر: بنِّي
موريس، منشأ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين:
1947-1949، كامبردج: منشورات جامعة كامبردج،
1987. [2]
سارة روي، نظرة
عامة على قطاع غزة، القدس: مشروع قاعدة
بيانات الضفة الغربية، 1986. [3]
يرى بعض
المؤرخين أن الانتفاضة في الأراضي المحتلة
بدأت قبل ذلك بأشهر وحتى بسنوات، لكن يوم 9
كانون الأول 1987 (غداة يوم الحادثة الأولى)
هو اليوم الذي بدأ فيه العنف والعصيان
المدني يتصاعد سريعًا إلى تمرد شعبي، وهو
لذلك يُعتبَر على نطاق واسع يوم ذكرى
الانتفاضة. [4] لسنا هنا بصدد التشكيك في وجود
اليهود كطائفة دينية متمايزة عن
الكنعانيين في فلسطين قبل القرن الثامن ق
م – فلهذا مقام آخر؛ حسبنا أن نشير هاهنا
إلى أن الدراسات التاريخية والأركيولوجية (ومنها
ما أجراه علماء آثار إسرائيليون) تنفي مثل
هذا الوجود. (المدقق) [5]
ما يجب أن تكون
عليه الحدود التاريخية لهذه الأرض ليس
واضحًا على الإطلاق: فحتى التوراة تورد
تنوعًا من التخوم على أساس وعود "الرب"
المتغيرة في مناسبات مختلفة. [6]
سارة روي، "قطاع
غزة: حالة اللاتنمية الاقتصادية"، مجلة
الدراسات الفلسطينية، المجلد 17، عدد 1، ص
56-88. [7]
للحصول على
معلومات مفصلة ووثائق عن انتهاك حقوق
الإنسان في الأراضي إبان فترة الاحتلال،
انظر العديد من منشورات "بتسليم": "مركز
المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في
الأراضي المحتلة". ويمكن الحصول على
قائمة بمنشوراته عن طريق موقعه على
الإنترنت: www.btselem.org.il. [8]
في إسرائيل،
يشير مصطلح "اليسار" بصفة عامة إلى
الذين هم على استعداد للتوصل إلى تسوية
سياسية مع الفلسطينيين والدول العربية. لكن
فقط بعض هؤلاء يعتنق أيضًا اقتصاديًّا
وجهات نظر الجناح اليساري (الاشتراكية). وفي
المقابل، يشير "اليمين" إلى غير
الراغبين في تقديم تنازلات. [9]
من أجل تحليل
واسع ونافذ البصر لحركات السلام
الإسرائيلية قبل (وفي أثناء) الانتفاضة،
انظر: رؤوڤين كامينر، سياسات الاحتجاج:
حركة السلام الإسرائيلية والانتفاضة
الفلسطينية، برايتون، المملكة المتحدة:
منشورات سَسِكْس الأكاديمية، 1996. |
|
|