|
عـالـمٌ
بـلا حـب "الثوري
الحقيقي يهتدي بمشاعر حبٍّ عظيمة." الحبُّ
أيقونةُ الطريق إلى الله، مرورًا بالقلب
وبالناس، منارةٌ للتائهين عن السبيل إلى
سعادة البشر وفرح الوجوه، انطلاقةٌ للأغاني
من أفواه الصغار، انعطافةُ امرأة لحظة دفء
إنساني، بكاءُ رجل في لحظة صدق، وتغريدُ طير
وجد على الأرض بقايا لبشر أخذوا حاجتهم قبل
قليل وتركوا له ما يكفي لمعاودة الطيران وعزف
أنشودة حبٍّ في سماء تظلِّل البشر. تأخر المطر هذا
العام [خريف 2006]! ونحن، منذ الطفولة، تعلَّمنا
أن انحباسَ المطر غضبٌ إلهيٌّ على أهل الأرض.
لا يمطر الله خيرًا على بشر لا يريدون الخير
لأنفسهم، لا ينهمر الخيرُ من السماء على أرض
قرَّر أهلُها أن الشرَّ أولى بهم وأن الحبَّ
صناعةٌ مفقودة من الأرض. للمطر وجهان جميلان:
فهو، أولاً، للناس جميعًا، فيما الناس ليسوا
لبعضهم بعضًا: يسرقون الماء والخبز والملح من
أفواه الجائعين لملء خزائن المترفين، ويجوع
السارق لصالح السيد مقابل الفتات! والمطر،
ثانيًا، حبٌّ وتزاوُجٌ بين الماء والتراب.
فكيف يصبح من حقِّنا أن نرى فعل الحب على أرض
نمارس فوق ترابها الرذائل والكبائر كلَّها –
وأولها قتل النفس "التي حرَّم الله إلا
بالحق". انحبس المطر لإدراكه أنه لن يتمكن
من ممارسة عشقه مع تراب جميل نقي، بل على أرض
مضرجة بدماء الفقراء والأبرياء. فأي فعل
للحبٍّ ممكن لقلوب لا تعرف الحبَّ أبدًا؟! يمر العالم هذه
الأيام بأعظم أعياد الإنسانية لأتباع
الأديان السماوية الثلاثة ولسائر البشرية في
أرجاء المعمورة كلِّها. العالم غارقٌ في
الموت، تائهٌ عن الحب والحلم والفرح. ولست
واثقًا مما إذا كان تجار الموت سوف يعطون
لأدواتهم إجازةً من موتهم أو من التسبب في موت
الآخرين ليتمكنوا من الاحتفال بالأعياد على
طريقة البشر، لا على طريقة آكلي لحوم البشر! أي عالم هذا
المليء بالموت! في كلِّ مكان صراع بين الأعداء
على الأرض، أو صراع بين المختلفين على الحكم،
أو صراع بين التجار على المال. ووحدهم الفقراء
والطيبون والسذَّج والبسطاء مَن يشكلون مادة
الجوع والموت لدى أولئك الذين يعتقدون أن
الله قد أورثهم كلَّ شيء، بما في ذلك حق إنهاء
حياة البشر، أيًّا كانوا، ماداموا لا يخدمون
مآربهم الدنيئة. عالم من النار،
عالم من الحقد – والجميع يدَّعي أن سلاحه
نظيف، أن أهدافه نظيفة، وأنه يسعى للخير –
كلَّ الخير – لجميع الناس! يتحدثون عن السلام
وأيديهم تضغط على الزناد لتنشر الموت والرعب
ولتزرع البؤس والشقاء في كلِّ ناحية! وحدهم الذين
يعرفون عظمة الحب لجميع البشر، وحدهم
المجردون من نجاستهم ومن خبثهم ومن أنانيتهم،
وحدهم الذين يعتقدون أن الأرض والقمح والخبز
ملكٌ لكلِّ فم حيٍّ فوق الأرض ومن حقِّه –
وحدهم هؤلاء قادرون على صياغة غد أفضل لهذه
البشرية المنكوبة. الشعب
الفلسطيني يعيش هذه الأيام أبشع حالات
الكراهية والصراع، بعيدًا عن مصلحته الوطنية
والاجتماعية والاقتصادية. فكل ما يدور على
الأرض يُظهِرُ نماذج غريبة من الكراهية في
مجتمع نسيجه الاجتماعي موحَّد إلى حدٍّ بعيد،
مجتمع من المفترض فيه أن يكون متماسكًا
موحدًا، ولو على قاعدة اللون والعرق الواحد. كنت كلما قرأت
خبرًا عن رصاصة أصابت كائنًا بشريًّا على
الأرض أصاب بالهلع، وكلما تطلعت إلى بوابات
الجزارين ووجدت لحومًا لكائنات حية معلَّقة
أوقن أننا ساديون. فقبل دقائق كان هذا اللحم
المعلق كائنًا حيًّا يضج بالحياة: بقرة
تتنقَّل جذلى بين المراعي، تبحث عن عجولها
وتهب الناس حليبًا وجبنًا وسعادة، أو دجاجة
تبيض بيضًا طيبًا نأكله ونتركها تعيش، تنبش
الأرض وتذرع الدنيا جيئةً وذهابًا وتوقظنا
على موسيقى الفرح كلَّ صباح. كلما رأيت صيادًا
يتربص بالسماء تذكرت أن هناك أغنية ستسقط،
وكلما رأيت طائرة تتربص بالأرض أيقنت أن هناك
روحًا ستغيب. هذه المشاعر
تنتابني وأنا أقرأ موتًا في العراق أو دارفور
أو الصومال أو أفغانستان من جراء الحروب.
أتعجب كثيرًا كيف يقتتل هؤلاء ولماذا يفعلون
ذلك! كيف يمكن لابن دين أو طائفة أو لون أو عرق
أن يقتل ابنًا من صنف آخر، مهما كانت المسوغات
التي يسوقونها لذلك؟! ظل عجبي هذا قائمًا حتى
والمحتلون يغتالون أشجارنا وبيوتنا وأطفالنا
– إلى أن بدأ الموت يجوب شوارعنا الداخلية. ترى كيف يمكن لي
أن أغضب الآن لمرأى اللحم الحي على بوابات
الجزارين وأنا أرى أبناء جلدتي في الوطن،
هاهنا على مرأى من عيني، يقتتلون بدم بارد
ويختلفون بالسلاح والعبوات الناسفة؟! كيف
يمكن لي استعادة الحديث عن "الثورة" في
زمن أغبر كهذا: تنام بهم لتستفيق على همٍّ
أسود؟! يسقط جارك البريء، وتغفو على أمل أن
بوابة الموت أوصِدَت، لتصحو على اغتيال
الطفولة. تعود لتحلم بالعدالة، لتصحو على
مقتل قاضٍ. تغمض عينيك رغمًا عنهما، لعل وعسى
أن يصحو رجالُ البزات الرسمية ليحموا حلمك،
فيهزك مقتلُ ضابط أمن على أيدي "مجهولين"! تحضِّر نفسك
لتكتب لمن تحب أمنياتك بالأعياد، تبحث في
الإنترنت، لعلك واجد صورةً تعبِّر عن
أمنياتك، فتطالعك وجوهٌ محروقة وجثثٌ مقطعة
وسياراتٌ موقوتة الانفجار، دون أن تدري اسم
القاتل. فمن أنت لتهنِّئ الجرحى بالجرح
وتهنِّئ القتيل بعيش القاتل؟! مَن أنت
لتتغنَّى بالورد للجائع إلى طعم الخبز؟! ترى كيف ستغفو
مرة أخرى وبوابات الموت مشرعة إلى هذا الحد؟!
من أين سيأتي الدفء، والبرد لا يأتي من
النافذة البعيدة، بل يتسرب من بين ثنايا
الفراش؟! أغطيتك كلها مشرعة للريح الغريبة.
فبمن تتدفأ، إذن، وكيف تتقي شرَّ الريح في هذا
الزمن البارد وهذه الوحدة الملعونة؟! تعلَّمت أن
الثورة تبدأ حبًّا، وتعيش حبًّا، وتثمر حبًّا.
ولا أدري كيف تمكَّن بعضهم من جعلها تثمر
كراهيةً وحقدًا وموتًا لأبنائها! إنها مهزلة
عصر الانحطاط وصعود زمن القتلة والجلادين
السفلة الذين يساوون دم البشر نقدًا في
خزائنهم. ذلك يعني دقَّ
ناقوس خطر في عقول جميع المهيئين لإراقة دمهم
نقودًا للقتلة، في قلوب جميع الفقراء
والبسطاء والطيبين، أنْ استفيقوا واحموا
دمكم ودم أمثالكم! فالموت ليس في سبيلكم، بل
في سبيل خزائنهم جريمة. افحصوا شعاراتِكم
وأنتم تمتشقون السلاح، وتأكدوا أن بنادقكم
مسددة نحو النهار والسعادة للمجموع – وإلا
فسددوها إلى نحورهم! فقتل ألف مجرم أسهل ألف
مرة من إبادة الشعوب. ولن يتساوى الدم والمال،
مهما عظمت خزائنُ جامعيه ومهما ارتفع شأنهم
وسلطتهم. سلاح واحد
ينبغي له أن يعيش بين بني البشر: سلاح الحب،
الحب للناس كلِّهم، أيًّا كانوا، ماداموا
يزرعون الخير لهم وللآخرين. فالشفقة الشفقة
على المستخدَمين لأغراض الموت، على الرغم من
جوعهم، والنبذ النبذ لأولئك الذين يحصدون
الدم نجاحاتٍ مادية، في حين تجوع الملايين
وتعرى وتشقى لينعموا هم. ولتنتصرْ إرادة الحب
وحدها ضد الكراهية والبغضاء على الأرض كلِّها
– أرض البشر، جميع البشر. حتى فترة ليست
بعيدة، وفي كثير من الدول، كانت المحاكم ترفض
شهادة الذين يمتهنون الجزارة، لأنهم مع الوقت
يصبحون بلا رحمة ويتعوَّدون العنف والقتل.
ترى كيف تقبل الأرض أن يحكمها جزارو البشر
هؤلاء، فتسمح لهم بالتحدث عن حقوق الإنسان
وحريات البشر – والعيش الذي يمارسون مصادرته
بالموت علنًا هو أبسط حقوق البشر! الأرض ومَن
عليها في حاجة إلى الحب، إلى الحب وحده. فمن
دونه لا حياة، من دونه لا نمو، من دونه لا
ازدهار... ومن دون طهارة التراب من تجَّاره
الذين يحتكرون التراب، ما تحته وما فوقه،
وكأنهم مفوضون بأكل الناس وقوتهم – من دون
ذلك ومن دون أن يسود الحب وحاملوه، لن تكون
على الأرض سعادة، ولن تُقرَعَ أجراسُ
السماوات فرحًا ببني آدم ماداموا يمتهنون
مصادرة الفرح من عيون الآخرين! ***
*** ***
|
|
|