|
الذات والآخر في ضوء الإسلام[1]
عبد الواحد علواني: الثقافة الإسلامية السائدة تنظر إلى التاريخ الإسلامي وتاريخ التشريع على أنه مجموعة من المعجزات والخوارق والغيبيات والمقدسات. فكيف تنظرون أنتم إلى هذه الفكرة؟ جودت سعيد: القرآن دستور حياة، لكنه دستور وثقافة بحسب ما نفهمه؛ ولكلِّ جيل أن يستنبط منه دستورًا لحياته وأحكامًا تحقق العدل في كلِّ عصر، على جميع المستويات. لكن الذي حدث إبان التاريخ الإسلامي أن الفكر الذي يعتمد الخوارق والمعجزات – الفكر الذي جاء الإسلام ليزيله ويُحِلَّ محلَّه السننية – عاد، بشكل أو بآخر، ليسيطر على العالم الإسلامي. إذ نجد في القرآن أن الحديث عن معجزات الأنبياء والخوارق كان سمة ما سبق، بينما كان الإسلام واضحًا في موقفه إزاء الخوارق: حينما كان القرشيون يسألون الرسول (ص) أن يأتيهم بالخوارق، مثله في ذلك مثل الأنبياء من قبله، – قائلين: "لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسلُ الله" [الأنعام 124]، أو "لولا أُنزِل عليه كنزٌ أو جاء معه ملك" [هود 12]، مطالبين حتَّى بإزالة الجبال أو تفجير الينابيع والأنهار في جزيرة العرب: "لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض ينبوعًا أو تكون لك جنةٌ من نخيل وعنب فتفجِّر الأنهار خلالها تفجيرًا أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً [...]" [الإسراء 90-93] – كان الرسول يرد في بساطة متناهية: "هل كنتُ إلا بشرًا رسولاً" [الإسراء 93]. ويبيِّن لهم الرسول أن هذه دعوته، فإن استجابوا فإنما لأنفسهم، وإلا فإنه صابر. وإذ يلحون في الطلب، يرد القرآن عليهم: "أوَ لم يَكْفِهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب" [العنكبوت 51]. فالإسلام جاء دعوةً ضد الخوارق، ودعا إلى نظام السننيَّة لتغيير المجتمع بحوار يوميٍّ وكفاح دائب. ومواقفه معروفة لمن أراد أن يعرف. لقد استطاع الرسول (ص) أن يغيِّر على أساس سُنني، ولكننا كتبنا سيرته على أساس أنه سلسلة خوارق ومعجزات. وخطورة تصورنا هذا تكمن في أنه يثبِّطنا ويجعلنا عاجزين عن تجاوُز أحكامنا اللاعلمية، لأنه يربط التغيير بالخوارق وبنموِّ البشر عاجزين عن الإتيان بالخارق. فلذلك لا يستطيعون التغيير! بينما عندما ننظر إلى التغيير على أنه سُنني، كما وضح الإسلام، فيمكن لنا إذ ذاك إعادة الرشد إلى الأمة. ع.ع.: مسألة الخلافة تدخل في إطار ما يسمَّى بـ"الإسلام السياسي"؛ وثمَّ فارق واضح بين خلافة الملك والخلافة الراشدة. كيف تفسِّرون عجز الأمة الإسلامية عن العودة إلى الخلافة الراشدة؟! ج.س.: جاء الإسلام بأسلوب العدل في الحكم، لأنه ألغى وراثة المُلك أو التسلط. لكن الفقه الإسلامي اللاحق كُتِبَ متكيفًا لأنه، كجانب من التراث الإسلامي، كُتِبَ بعد أن فقد المسلمون الرشدَ في السياسة، بعد أن أقروا بعجزهم عن إعادة الرشد بالرشد وأجازوا إعادة الرشد بالغي. والغي طريقٌ مَن يسلكه لا يقدر على الرجوع عنه، لأن الغي يولِّد الغي وينتج الغي. ولذلك لم نستطع حتى يومنا هذا أن نخرج عن الغي أو نحقق الرشد. فالإسلام لا توجد فيه سُنَنُ الحكم بالعنف والقوة. والمسلمون يقرون بهذا الأمر إلى حدٍّ ما لأنهم لم يسموا أحدًا ممَّن استولى على الحكم بالعنف أو خارج طُرُق العدل بأنه "راشد"! وهذه إيجابية حسنة وطيبة، لأنهم لم يلوثوا هذا الاسم بإطلاقه على مَن لا يستحقه من الذين استولوا على الحكم أو وصلوا إليه بطريق الغي. فكما أنه "لا إكراه في الدين"، كذلك لا إكراه في السياسة: "قد تبيَّن الرشدُ من الغي" [البقرة 256]. فالسياسة التي "لا إكراه فيها" هي الرشد. وكل مَن وصل إلى الحكم دون قهر ودون بغي، بل باختيار الأمَّة، سُمُّوا "راشدين". ولكن المؤسف أن مفهوم الغلبة والغي استقر في الثقافة الإسلامية، فصبغ الفقه باليأس، مما جمَّد فكرة الرشد. فالتفسير والتراث الذي كُتِبَ في الإسلام، كُتِبَ كله متكيفًا مع الحالة الطارئة (الغي)؛ ومنه استنبطوا جواز إزالة الغي بالغي! ونحن عندما نقيم هذا الحكم على التراث والمناهج، لا نقول إن الجذور ضائعة، بل إنها موجودة ويجب أن نعود إليها. لا تكمن مشكلة الفقهاء والعلماء بتفريقهم بين حكم الغلبة وحكم الرشد؛ فهم يَزِنون هذا الأمر بشكل إسلامي سليم، ولكنهم فقدوا جانبًا مهمًّا جدًّا، وهو كيفية إعادة الرشد إلى الحياة! وهذا أمر يحتاج إلى دراسات شاملة خارج سُنَن الذين خلوا وأساءوا إلى فكرة الرشد وسيطروا على تفكيرنا. ع.ع.: كيف استطاع الغرب أن يهضم تجربة الثقافة الإسلامية، بينما نجد المسلمين أنفسهم عاجزين عن فهمها وتجاوُزها؟! ج.س.: لما اتصل العالَم الغربي بالثقافة الإسلامية، استطاع أن يفهم الثقافة الإسلامية بصرف النظر عن خوارقها ونقائصها؛ لم ينظر إليها في إطار القداسة أو الثبات. ولذلك كان الغربيون أحرارًا في التفهم واستنباط العِبَر، وخاصة في عدم الخضوع للاستعباد البشري؛ بينما هذا الخضوع عندنا نتائجُه تفقأ العين! والثقافة التي تنتج شعوبًا تتقبل مثل هذا الاستخذاء والخضوع لرأي الفرد ثقافة ميتة، مهما كانت الجذور طيبة. والغرب، بعد أن كان عبدًا لأباطرته وديكتاتورييه، استطاع أن يجتاز أزمته بالثورات، سواء كانت الفرنسية أو الإنكليزية أو الأمريكية. استطاع الغربيون أن يعيدوا "الرشد" بالمعنى الإسلامي إلى حدٍّ ما، واستطاعوا أن يزيلوا حكم الغلبة. مع ذلك، لم يستطع العالم الإسلامي إلى الآن أن يتخذ من قراءة الثورات الغربية موقفًا سليمًا. دراسة الثقافات لا تكون بمجرد قراءة عابرة. إذ لا بدَّ من التعمق لفهم ظواهرها وأغراض المنتمين إليها. وكذلك نحن في حاجة إلى دراسات مستفيضة تبين لنا كيف فقدنا الرشد والشورى والرأي، حتى بتنا وكأننا لا نملك سوى رأي واحد هو قطع رقبة الآخر واستئصاله! ولو كان رأيُنا علميًّا فكريًّا لكانت أفكارُنا أكثر جهرًا وفاعلية. مشكلتنا أننا محرومون من رأينا ومن إبدائه. فكيف نبدي رأينا دون أن يخسر أحدٌ شيئًا؟! نحن لا بديل لدينا إلا أن نخسر الآخر وننتكب؛ وهذا ما يجعلنا عاجزين عن إمكانية التغيير. ربما لا يكون عرضي واضحًا تمامًا لأن العبارات الواضحة تنقصنا ولأن ثقافتنا خالية من طرق التحليل؛ إلا أن الموضوع، باختصار، هو أن الآخر لا يتوقع منا نصرًا دون غلبة، ونحن لا نرى إمكانية النصر إلا بالغلبة، فيستمر وضعُنا بذلك مأساويًّا. ع.ع.: الاجتهاد عمل إسلامي مستمر ومطلوب، بصريح النصوص القرآنية والنبوية. لماذا يدخل الاجتهاد في إطار المحظور في الثقافة الإسلامية السائدة؟ ج.س.: بداخلنا خوف تاريخي من الاجتهاد والرأي الجديد. لماذا؟ إنه خوف تاريخي مستمَد من تجربة المجتهدين مع واقعهم. فالتاريخ يذكر لنا محنة الإمام أحمد بن حنبل عندما واجهه الخليفةُ برأي مخالف لرأيه. صحيح أن الخليفة كان يعتنق رأي فقيه من الفقهاء، ولكنه وقف في حزم ليبتر الآراء المخالفة؛ وكان رأي الإمام أحمد بن حنبل أكثرها قوة، فحبسه وجلده وعذَّبه لأنه اجتهد. بل لقد حاول الخليفة أن يحمِّل كلَّ مَن لا يأخذ بهذا الرأي رأيَه، وإذا لم يستجب كان الويل والثبور بانتظاره! واستمر هذا الموقف المعادي للاجتهاد بعد ذلك، إلى درجة أن الخلافة العثمانية كانت تحظر أتباع مذهب الشافعي من تولِّي القضاء، فكانوا يفرضون أن يتسلم زمام القضاء فقيه حنفي. فالسلطة عندما تتبنى رأيًا أو مذهبًا فقهيًّا ترغم الناس على اتِّباعه، فتزرع الخوف داخل الناس من الرأي الجديد. العلاقة بين الحاكم والمثقف غير سوية عندنا، وذلك لتشابك الإيمان مع العنف والتغيير بالغلبة. فكلما اتجهنا نحو الغلبة فقدت الثقافةُ قيمتها، وفقد العلمُ أثره، إلى درجة يبدو فيها أن التثقيف والتوعية لا قيمة لهما. ولذلك زهدت الخلافة العثمانية في التعليم والفكر، وزهد الناس فيهما أيضًا، فتعلقوا بالآمال والأحلام بانتظار "البطل" الذي يغيِّر! منذ أن انتهت الخلافة الراشدة وليست هناك مؤسسات في الفقه ولا في الشورى ولا في المرجعية، بل رأيُ فرد فقيه يتبناه فردٌ طاغية، فيفرضه بالقوة على المجتمع دون أن يسمح بأيِّ هامش يبيح مناقشة، ودون أن يرجع إلى "أهل الذكر" – "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" [النحل 43، الأنبياء 7] – ودون مشاورة أو بحث أو تحليل أو نظر إلى العواقب! عندما تكون للعلماء مجالس يتداولون فيها الأحكام والتشريعات دون خوف من الاجتهاد والتجديد، خاصة في هذا العصر الذي ظهرت فيه الديموقراطيات وباتت فكرة التعددية واضحة ومطلوبة، فإن حالتنا ستتحسن بكلِّ تأكيد، والتغيير سيكون أقرب منالاً، لأن هذه المجالس تحلِّل وتبحث، تنظر في العواقب وتغير في التشريعات والأحكام باستمرار. والمجالس في إعلانها لتشريعاتها وأحكامها إنما تيسِّر لدخول عامل الحركة في الفقه والاجتهاد. فالرأي، وإنْ نُبِذَ بدايةً، يمكن أن يكون مقبولاً بحسب عواقبه؛ ومن خلال تأمله في ضوء الماضي والحاضر وأحداث العالم قد يصبح مقنعًا. والاجتهاد – لقبوله والاقتناع به – ينبغي أن يمرَّ عِبْرَ هذه المؤسسات التي تقوم بعملية التنقيح والغربلة. عند ذاك يمكن لنا أن نخلد إلى الطمأنينة دون خوف من الآراء "الشاذة" ودون أن نحمِّل أنفسنا مهمة "استئصال" طارحيها! في ظل فقدان هذه المجالس، يكون رأي الجمهور والأغلبية هو الحكم الفصل؛ وقد يستخدم طاغيةٌ هذا الرأي الذي لا نطمئن لسلامته. لذلك فإن هذه المجالس ضرورة ملحَّة، وبحضورها الفعال والإيجابي تُحَلُّ الإشكالاتُ وتتوضح القضايا وتتطور الأحكام. ع.ع.: تبدو حرية الفكر غامضةَ الأبعاد في الفقه الإسلامي. فكيف تفهمون الحرية الفكرية في الإسلام في شقَّيها: حرية الذات وحرية الآخر؟ ج.س.: القاعدة الأساسية في القرآن كلمة العدل، أو بعبارة قرآنية: "كلمة سواء". إن الرسول (ص)، لما كتب لزعماء العالم من معاصريه، ضمَّن كتابه الآية التي تقول: "تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" [آل عمران 64]. وكلمة "سواء" تعطي للآخر من الحق ما تعطي للذات، حتى إذا كان الالتزام مقتصرًا على الذات. بمعنى آخر، إذا استنبطتُ قوانين العدل واتبعتُها والتزمتُ بها وعاملتُ الآخر بها، حتى إذا لم يبادلني بالمثل، أكون واثقًا من نصري. هذه هي الفكرة الضائعة، هذه هي الفكرة التي يجب أن نحييها في مناهجنا وحياتنا. حرية الرأي ليست شيئًا يعطينا إياه الآخر، بل شيء ينبثق من أعماقنا، نمارسه ونتحمل تبعاته. وهذا ما فعله محمد (ص) في مكة. توجد فكرة، وتوجد في المقابل فكرة معارِضة. فكيف تكون علاقة صاحب فكرة يدعو إليها مع معارضين لفكرته في المجتمع؟ هل يحق له استخدام القوة لإزاحة مُعارضي فكرته؟ أم يلتزم البيان والتوضيح والبلاغ المبين؟ الإسلام فكر، أو مجموعة أفكار؛ وهناك أنواع من الفكر المُعارض، وهناك الإسلام. والرسول والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام أجمعين – وقفوا موقفًا معارضًا للعنف، فحرَّموه حتى في نشر ما جاؤوا به؛ بل إنهم لم يكتفوا بتحريم فرض رأيهم على الآخرين فقط، إنما حرَّموا حتى العنف في الدفاع عن أنفسهم حين يعتدي مُعارضو فكرهم عليهم. هذا ما يجب ألا يغيب عنا. وأنا على ثقة من أن العالم كلَّه سيضطر إلى اتخاذ هذا الموقف الذي أجمع الأنبياءُ عليه، ونفَّذه الرسول (ص) تنفيذًا واعيًا سُننيًّا بشريًّا واقعيًّا ومخطوطًا في ثنايا التاريخ؛ جاء برسالته، ودعا إليها، ولم يسكت عن الحق، وقال للناس إنه صابر على دعوته حتى ينجح أو يهلك دونها، متقبلاً العذاب والعداء. هذا هو منهج القرآن الكريم، وينطق به النبي نوح – عليه السلام – إذ يقول: "واتلُ عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه يا قومُ إن كان كَبُرَ عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلتُ فأجمِعوا أمرَكم وشركاءكم ثم لا يكنْ أمرُكم عليكم غُمَّة ثم اقضوا إليَّ ولا تُنظِرون" [يونس 71]. إن نوحًا – الأب الثاني للبشرية بعد آدم، وأبو الأنبياء قبل سيدنا إبراهيم، عليه السلام – وقف موقفًا صريحًا واضحًا، وتكلَّم بلغة بيِّنة، وبيَّن للناس أنه صاحب فكر سيقف ويذكِّرهم ويتحدث إلى العقول؛ وحتى إذا أرادوا قتله فإنه لا يجد في ذلك حرجًا! تلك دعوته، وهو صابر عليها أو يهلك دونها، ولكنه لن يفرضها قسرًا. وهذا هو موقف محمد (ص) في حواره مع عمِّه أبو طالب الذي شكا قائلاً: "يا ابن أخي، لا تحمِّلني ما لا أطيق!" فأجابه الرسول الكريم بأنه لن يتخلَّى عن رسالته، وطلب منه ألا يحمل عنه ما لا يطيق، وأنه سيستمر؛ فإما أن ينجح أو يهلك دونها. ومحمد (ص) لم يؤذِ أحدًا، لا بيده ولا بلسانه؛ وحتى في قلبه تمنَّى لمضطهديه الرشد والسداد؛ بل إنه حرَّم على أصحابه الدفاع عن أنفسهم وهم يتعرضون لشتى أنواع العذاب من أجل إيمانهم: "صبرًا آل ياسر، إن موعدكم الجنة." هذا منهج المسلمين. والآن ينتهجه العالمُ في صيغ أخرى، كالديموقراطية. ولكن مزية الأنبياء أنهم لم ينتظروا أن تأتيهم حريةُ الفكر من الآخرين، إنما مارسوها بأنفسهم، تجاه أنفسهم والآخرين. ع.ع.: عُرِفتُم داعيةً للاَّعنف. كيف توضحون موقفكم من العنف ونقيضه؟ ج.س.: عندما بدأت أتعامل مع عالم الأفكار وخرجت من عالم الأشياء والأشخاص، تبين لي أنني أستطيع أن أواجه الكون بأفكاري، ولكني لا أستطيع بالعنف أن أواجه مجموعة صغيرة. هذا صحيح على صعيد فردي، ولكنه صحيح على صعيد اجتماعي أيضًا. هذا ما يجعلني أنبذ العنف مثل ابن آدم الأول، وأقول "تعالوا إلى كلمة سواء": إذا كان رأيك مقنعًا فاعرضْه على الناس ولا تغصبْهم عليه؛ وإن لم يكن فالأجدر أن تتخلَّى عنه. فإن قناعتك برأيك يجب أن تجعلك تثق به وبقدرته على التأثير: "فأما الزبدُ فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" [الرعد 17]. أما شريعة الغاب التي سلكناها فمردُّها عدم ثقتنا بأفكارنا، عدم ثقتنا بالإنسان؛ ولذلك تغلغل العنف في تفكيرنا. إنا نملك عقيدة فاسدة في جوانب رئيسية، ويجب أن نعود إلى الجذور لنصحِّحها ونبنيها من جديد على أسُس سليمة. نحن في دواخلنا نعيش فكرةً قاتلةً مُفادها أن الحق والباطل، أو الصواب والخطأ، إذا أُعطِيا فرصًا متكافئة، فإن الباطل والخطأ سينتصران – وهذا منتهى ظن السوء بالله – عزَّ وجل –، منتهى التشاؤم بالفكر الصحيح. ولو نبشنا قلوب الناس لوجدنا أن الفكرة الراسخة عندهم أن الحق لا يأخذ مجراه إلاَّ بالقوة. لكنني مؤمن أن الحق والباطل يجب أن يأخذا فرصًا متكافئة، والناس لهم أن يقبلوا هذا أو ذاك، وأن الحق سينتصر. وإذا هُزِمَ فهذا سيكون دليلاً على أنه ليس حقًّا. فالله – تعالى – يقول لنا إن الحق المبين إذا جاء دَحَرَ الباطل دون أن يعتمد قتله: "جاء الحق وزَهَقَ الباطل" [الإسراء 81]. ودلائل عدم جواز العنف في الإسلام خاصة أربعة هي: 1. التزام الرسول أمر دعوته إلى أن استقبله أهل المدينة بـ"طلع البدرُ علينا"؛ 2. منعه نفسه وأصحابه من العنف، سواء باليد أو باللسان؛ 3. دعوته الصريحة في الحض على نصح الحاكم، لا على اغتياله؛ وكذلك 4. عفوه عن أعدائه وطبيعة تعامُله معهم. و"صلح الحديبية" درس تاريخي عظيم ومنتهى الثقة في النفس والدعوة، وخاصة عندما اتفق الرسول مع المشركين على أن يردَّ عليهم مَن آمن منهم بالإسلام وألا يردوا عليه مَن خرج عن المسلمين. إنها ثقة لا تعادلها ثقة، وهي التي أكَّدت أن الإسلام انتصر بالعقل، لا بالعنف. *** *** *** حاوَرَه: عبد الواحد علواني[2] |
|
|