|
مفتاح الثيوصوفيا
هيلينا
ب. بلافاتسكي
هيلينا
بتروفنا بلافاتسكي (1831-1891) سليلة أسرة روسية
شريفة. تمتعت منذ الصغر بقدرات استثنائية
باهرة، من سرعة تعلم للغات وموهبة موسيقية
لا يستهان بها إلى حساسية نفسانية فائقة.
اتصلت بالأخوية البيضاء الكبرى المشرفة،
على حد ما قالت، على التطور الروحي للجنس
البشري، وقامت برحلات بعيدة في العالم مفتشة
عن المعرفة حتى بلغت معتزَل معلِّمها وأفراد
آخرين من الأخوية الكبرى في الهملايا حيث
سورِرَت بمعرفة غزيرة وصارت مقدَّمة
الأخوية المتفانية في نقل جانب من تلك
المعرفة حتى وافاها الأجل، سواء عبر
مؤلفاتها المكتوبة، مثل إيزيس سافر والعقيدة
السرية ومفتاح الثيوصوفيا وصوت
الصمت ومئات المقالات، أو عبر التعليم
الشفهي للمريدين الذين تحلقوا من حولها. بعد
أن نشرنا في العدد السابق الفصل الأول من المفتاح،
ننشر في هذا العدد الفصل الثاني. الباب
الثاني الثيوصوفيا
الظاهرية
والثيوصوفيا
الباطنية
_____ ما
ليست الجمعية
الثيوصوفية الحديثة عليه السائل:
عقائدكم، إذن، ليست إحياءً
للبوذية، كما أنها ليست تماماً نسخة عن
الثيوصوفيا الأفلاطونية الجديدة ؟ الثيوصوفي: لا.
لكنني لا أستطيع أن أقدم لك جواباً على
هذين السؤالين خيراً من اقتباس فقرة من بحث في"الثيوصوفيا"
قرأه الدكتور ج. د. بَكْ، ع. ج. ث.1،
على المؤتمر الثيوصوفي الأخير الذي انعقد في
شيكاغو، أمريكا (نيسان، 1889). فما من ثيوصوفي
حيّ عبَّر عن جوهر الثيوصوفيا الحق وفهمه
فهماً أفضل من صديقنا الموقر الدكتور بَكْ: "تأسّست الجمعية
الثيوصوفية في سبيل نشر العقائد الثيوصوفية،
ومن أجل الدعوة إلى الحياة الثيوصوفية. إن
الجمعية الثيوصوفية الحالية ليست الأولى من
نوعها؛
فلدي مجلد بعنوان: المحاضر الثيوصوفية
لجلسات الجمعية الفيلادلفية، منشور في
لندن عام
1697؛2
ومجلد آخر يحمل العنوان التالي: مدخل إلى
الثيوصوفيا، أو علم سر المسيح، أي سر الألوهة
والطبيعة والخلق، المشتمل على فلسفة
قدرات الحياة
الفاعلة جميعاً، السحرية منها والروحية،
والمشكِّل دليلاً عملياً إلى الطهارة
والقداسة والكمال الإنجيلي الأسمى؛ وكذلك
إلى بلوغ الرؤيا الإلهية، والفنون والمقدرات
الملائكية القدسية، وغيرها من صلاحيّات
التجدّد، منشور في لندن عام 1855. 3
وفيما يلي إهداء هذا المجلد: "إلى طلاب جامعات
وكلِّيات ومدارس العالم المسيحي؛ إلى أساتذة
العلوم الميتافيزيائية والميكانيكية
والطبيعية بكل أشكالها؛
إلى عموم المثقفين رجالاً ونساءً من أهل
الدين القويم الأصلي: إلى المؤمنين بالله،
والآريين، والمسيحيين الموحِّدين،4
والسويدنبُرﮔيين،
وإلى أتباع مذاهب أخرى معيوبة ولاسند لها من
الصحة، عقلانيين ومشكّكين من كل ضرب؛ إلى
أصحاب العقول النيِّرة
والمنصفة من
المحمَّديين واليهود وأتباع النحل
البطريركية المشرقية؛
ولكن خصوصاً إلى الراعي والمبشِّر بالإنجيل،
سواء لدى الشعوب الهمجية أو لدى الشعوب
المفكِّرة، أُهدي هذا المدخل إلى
الثيوصوفيا، أو علم أساس وسرّ كل شيء، بكل
تواضع ومودة." "وفي العام التالي
(1856) ، صدر مجلد آخر، بالقطع الملكي، يقع في 600
صفحة، وبالحرف الفاخر، بعنوان "متفرقات
ثيوصوفية"5.
ولم تُطبع من المؤلَّف المذكور إلا 500 نسخة،
وُزِّعت مجاناً على المكتبات والجامعات.
لقد نشأت هذه الحركات السابقة العديدة في حضن
الكنيسة، بفضل أشخاص ذوي تقوى وعزيمة
عظيمتين، وخُلق لا غبار عليه؛ وكانت كل هذه
الكتابات ذات شكل قويم، وتستخدم تعابير
مسيحية، ومثلها كمثل كتابات رجل الكنيسة
الرفيع المقام وليم لو، ما كان للقارئ العادي
أن يميِّزها إلا بفضل إخلاصها وتقواها
العظيمين. ولم تكن هذه الحركات قاطبة إلا
محاولات لاستخلاص المعاني العميقة والمرامي
الأصلية للكتاب المقدس وشرحها، ولإجلاء
الحياة الثيوصوفية والكشف عما استتر منها.
بيد أنه سرعان ما طوى
النسيان هذه المؤلفات، حتى آلت إلى الجهل بها
عموماً. لقد سعت إلى إصلاح الكهنوت وإلى إحياء
الورع الأصيل، فلم تُحسَن وِفادتها قط. كانت
كلمة "زندقة" وحدها كافية لدفنها في
زاوية الإهمال المُعَدَّة لكل المشاريع
الطوباوية من هذا النوع. وفي عهد الإصلاح
الديني قام جون رويخلِن بمحاولة مماثلة باءت
بالنتيجة عينها، رغم أنه كان صديقاً مقرَّباً
إلى لوثر وأميناً على سرِّه. فالتقليدية ما
كانت لترغب يوماً بالتعلُّم والتنوُّر من أحد.
ولقد قيل لهؤلاء ما قال فِسْطُس لبولس من أن
تبحُّرهم في العلم قد أفقدهم رشدهم،6
وبأن المزيد من التبحُّر سيشكل خطراً عليهم.
فإذا جزنا على طاقم المصطلحات الذي كان، عند
هؤلاء الكتاب، نتاجاً للعادة وللثقافة من
جهة، وللحَجْر الديني عبر السلطان الزمني من
جهة ثانية، وشارفنا لب المسألة، وجدنا هذه
الكتابات ثيوصوفية بالمعنى الأدق
للكلمة، ولا تعالج غير معرفة الإنسان لطبيعته
وللحياة العليانية للنفس. لقد أشيع عن الحركة
الثيوصوفية أنها ليست إلا محاولة لـ"هداية"
العالم المسيحي إلى البوذية، الأمر الذي يعني
أن كلمة "زندقة" فقدت كل قدرة لها على
الترويع واستعفت من سلطانها. لقد ظهر في كل
عصر أفراد تفهَّموا بكثير أو بقليل من الوضوح
العقائد الثيوصوفية وخاطوها في نسيج حياتهم.
إن هذه العقائد ليست وقفاً على دين بعينه، ولا
تنحصر في أي مجتمع أو زمان. فهي الحق الطبيعي
لكل نفس بشرية. لذا، فإن على كل فرد أن يستنبط
أورثوذكسيَّته بنفسه، بحسب طبيعته وحاجاته،
ووفقاً لاختباراته المتنوِّعة. إن هذا ليفسر
عجز الذين ظنوا أن الثيوصوفيا إنما هي دين
جديد عن اصطياد مذهبها وشعائرها. فمذهبها
الأوحد هو الإخلاص للحقيقة، وشعائرها "إكرام
كل حقيقة بوضعها موضع التطبيق". "وإننا لنفهم
إساءة جموع البشر فهم مبدأ الأخوَّة الشاملة،
وندرة الإقرار بأهميتها السامية، إذ نعاين
تنوع الآراء والتآويل المختلفة فيما يتعلق
بالجمعية الثيوصوفية. لقد قامت هذه الجمعية
على مبدأ واحد، ألاوهو الأخوة الجوهرية لجميع
البشر، كما عرضنا له أعلاه باختصار وبيَّناه
بياناً قاصراً. لقد هوجم بوصفه مبدأً بوذياً
مناوئاً للمسيحية، كما لو أنه يمكن أن يكون
الأمرين معاً، في حين أن كلتا البوذية
والمسيحية، كما أعلنهما مؤسِّساهما
الملهَمان، تضع الأخوَّة موضع الجوهر، إنْ في
العقيدة أو في الحياة. ولقد اعتُبرت
الثيوصوفيا أيضاً شيئاً جديداً تحت الشمس، أو
في أحسن الأحوال، سرَّانيةً عتيقة انتحلت
اسماً جديداً. ولئن صحّ أن جمعيات عديدة،
تأسست على مبدأ الإيثار، أو الأخوَّة
الجوهرية، واتَّحدت في سبيل نُصرته، حملت
أسماء عديدة، يصح أيضاً أن جمعيات عديدة
دُعيت كذلك ثيوصوفيةً، واعتنقت مبادئ وأهداف
مشابهة لمبادئ الجمعية الحالية الحاملة لهذا
الاسم ولأهدافها. ففي تلك الجمعيات طراً، ظلت
العقيدة الأساسية واحدة لم تتبدل، وظل كل
ماعداها طارئاً؛ على أن هذا لا ينفي أن
أشخاصاً ينجذبون إلى العَرَض ويغفلون الجوهر
أو يتغاضون عنه." ليس
بوسع أحد أن يقدِّم جواباً على أسئلتك أفضل أو
أكثر صراحة من جواب واحد من ثيوصوفيينا
الأرفع منزلة والأشد إخلاصاً هذا. السائل:
فأي
المناهج، والحال هذه، تفضلون أو تتبعون،
ماخلا الأخلاق البوذية؟ الثيوصوفي:
ولا
واحد منها، وكلَّها! فنحن
لا نتمسك بأي دين بعينه أو فلسفة بعينها، بل
نصطفي من كل منها خير ما فيه. ولكن يجدر بنا
ههنا أن نصرِّح مجدداً أن الثيوصوفيا، مثلها
في ذلك كمثل كل المناهج القديمة، تنقسم إلى
شعبة ظاهرية وأخرى باطنية. السائل:
وما
الفرق بينهما؟ الثيوصوفي:
أعضاء
الجمعية الثيوصوفية بعامة أحرار في اعتناق أي
دين أو فلسفة تروق لهم – أو في عدم اعتناق
أي دين أو فلسفة إذا آثروا ذلك – على أن يشايعوا
واحداً أو أكثر من الأهداف الثلاثة للجمعية
ويكونوا على أهبة الاستعداد لوضعه موضع
التطبيق. الجمعية تنظيم مِبَرِّي وعلمي لنشر
فكرة الأخوَّة على أسس عملية بدلاً من
الأسس النظرية. ولا يهم بعدئذٍ إن كان
أعضاؤها مسيحيين أو محمَّديين، يهوداً أو
زردشتيين، بوذيين أو براهمة، روحيين أو
ماديين. إلا أن على كل عضو فيها أن يكون إما
مبراراً، أو علاّمة، أي بحَّاثة في الآداب
الآرية7
أو غيرها من الآداب القديمة، أو حتى طالباً
نفسانياً.8
عليه، باختصار، أن يساعد، إن استطاع، في
تنفيذ واحد على الأقل من أهداف البرنامج. وإلا
فما من سبب وجيه يدعوه لأن يصبح "عضواً".
هؤلاء هم الذين يشكلون الأكثرية في الجمعية
الظاهرية المؤلفة من أعضاء "ملتحقين" أو
"غير ملتحقين".9
وهؤلاء قد يصبحون ثيوصوفيين بالفعل10
أو لا. إنهم أعضاء بفضل انضمامهم إلى الجمعية؛
لكن الجمعية لا طاقة لها على جعل مَن يعوزه
حسُّ التناسب الإلهي بين الأشياء
ثيوصوفياً، أو مَن لا يفهم الثيوصوفيا إلا
بطريقته الطائفية – إذا جاز لنا استخدام
التعبير – أو الأنانية. بوسعنا في هذا المقام
أن نعدِّل مَثَل "الجميل مَن يصنع الجميل"
ليجري على هذا النحو : "الثيوصوفي مَن يصنع
الثيوصوفيا".11 الثيوصوفيون
وأعضاء "ج. ث."
السائل:
هذا
ينطبق على عموم الأعضاء، كما فهمت. فماذا عن
الأعضاء الذين ينكبّون على الدراسة الباطنية
للثيوصوفيا؟
هل هم الثيوصوفيون
الحقيقيون؟ الثيوصوفي:
ليسوا بالضرورة، إلى أن يبرهنوا على ذلك. لقد
انضموا إلى المجموعة الباطنة وتعهَّدوا
بتطبيق قواعد الجماعة الغيبية بقدر ما يطيقون
من التزام. بيد أنه التزام عسير، لأن القاعدة
التي تأتي في المقام الأول بين جميع هذه
القواعد هي النزول التام للمرء عن شخصيَّته -
أي أن على كل عضو عاهد أن يصير غيرياً
مكمَّلاً، لا يفكر في نفسه البتة، وينسى عجبه
وكبرياءه في غمرة افتكاره في خير إخوته
البشر، عدا خير رفاقه في الحلقة الباطنية.
فإذا شاء أن يفيد من الإرشادات الباطنية،
عليه أن يحيا حياة تعفُّف في كل شيء، حياة
إنكار للذات وخُلق قويم، مؤدِّياً واجبه حيال
جميع البشر.12
إن حفنة الثيوصوفيين الحقيقيين في ج. ث. تنتمي
إلى هؤلاء. لكن هذا لا يعني ضمناً عدم وجود
ثيوصوفيين خارج ج. ث. والحلقة الباطنة؛ فهناك
ثيوصوفيون خارجهما، وأكثر مما يُظن؛ لا بل
بالتأكيد أكثر بكثير ممَّن نجد منهم بين عموم
أعضاء الـ ج. ث. السائل:
فما الخير، إذن، والحالة هذه، في الانضمام
إلى الجمعية الثيوصوفية المزعومة ؟ وأين
الحافز إلى ذلك؟ الثيوصوفي:
ما
من حافز إلا طائلة الحصول على إرشادات
باطنية، هي العقائد الصحيحة لـ"دين الحكمة"،
وفي حال تنفيذ البرنامج الحقيقي، استمداد
الكثير من العون من التعاون والمودة
المتبادلين. الاتحاد قوة وتناغم، والجهود
الحسنة التنسيق والمتواقتة تجترح المعجزات.
ذلكم سر كل الجمعيات والجماعات منذ فجر
الإنسانية. السائل:
ولكن
لم لا يستطيع امرؤ راجح العقل ومفرد القصد،
ولنقل صاحب طاقة وعزم لا يلينان، أن يصبح
عالماً بالغيب أو حتى ناطساً إذا عمل بمفرده؟ الثيوصوفي:
إنه
قد يستطيع ذلك، لكن احتمال فشله يساوي ألفاً
مقابل واحد. ومن جملة الأسباب عدم توفُّر كتب
في الغيبيَّات والثيورجيا في يومنا هذا تشي
بأسرار الخيمياء وثيوصوفيا العصر الوسيط
بصريح العبارة. فكلُّها مكتوب بلغة رمزية أو
بالأمثال. ولما كان تأويلها قد فُقِد في الغرب
منذ دهور، كيف يكون للمرء أن يتعلَّم المغزى
الصحيح مما يقرأ ويدرس؟ ههنا
مكمن الخطر الأعظم، الخطر الذي يقود إلى
السحر الأسود اللاواعي أو إلى أشد ضروب
الوساطة عجزاً. فالأحرى بمن لا يأخذ العلم عن
مسارَر أن يكف يداً عن الدرس الخطِر بمفرده.
انظر حولك ولاحظ ما يجري. فبينما يهزأ ثلثا
المجتمع المتمدِّن بمجرد وجود شيء ما في
الثيوصوفيا وعلم الغيب والأرواحية أو في
القبَّاله، يتألف الثلث الثالث من عناصر أشد
ما تكون تبايناً وتعارضاً. فبعضهم يأخذ
بالوجه السرَّاني، وحتى بالوجه الفائق
للطبيعة (!)، إنما كل على طريقته. ويندفع
بعضهم الآخر بمفرده في درس القبَّاله، أو
النفسانية، أو المِسْمِرية، أو الأرواحية،
أو شكل ما من أشكال السرَّانية. فماذا تكون
عليه النتيجة؟
لا يتشابه إثنان في
التفكير، أو يتَّفقان حول أية مبادئ غيبية
أساسية، رغم وجود العديد ممَّن يدَّعون
لأنفسهم حيازة الكلمة الفصل في المعرفة،
ويوهِمون البرانيين أنهم نُطساء كُمَّل.
الغرب ليس تعوزه المعرفة العلمية الدقيقة
لعلم الغيب وحسب – بما فيها معرفة
علم النجوم الحق، وهو الفرع الوحيد بين فروع
علم الغيب الذي يتصف، في تعاليمه الظاهرية،
بقوانين محددة ونظام -، بل ما من أحد تخطر في
باله فكرة عما يعني علم الغيب الحق. بعضهم
يحدُّ الحكمة القديمة بـ القبّالة و سِفْر
الزاهر اليهودي الذي يؤوِّله كلٌّ بحسب
طريقته طبقاً للحرف الميت للمناهج
الربَّانية. ويعتبر سواهم سويدنبرﮒ
أو بوهْمِه أقصى تعبير عن أسمى درجات الحكمة،
بينما يرى آخرون أيضاً في المسمِرية أعظم
أسرار السحر القديم. بيد أن جميع مَن يضعون
نظريتهم موضع التطبيق، بغير استثناء، سرعان
ما ينجرفون، من جرَّاء جهلهم، إلى السحر
الأسود. وطوبى للناجين منه، لأنهم لا يقفون
على أي اختبار أو دستور يميِّزون به الحق من
الباطل. السائل:
هل
لنا أن نفهم أن الزمرة الباطنة لـ ج. ث. تزعم
أنها تأخذ من العلم ما تأخذ عن مُسارَرين أو
سادة حقيقيين للحكمة الباطنية؟ الثيوصوفي:
ليس
مباشرة. إذ ليس الحضور الشخصي لمثل هؤلاء
السادة ضرورياً. حسبهم أن يعطوا إرشادات إلى
بعضهم ممَّن درس عليهم سنوات، ونذر حياته
كلها لخدمتهم. عندئذٍ يستطيع هؤلاء بدورهم أن
ينقلوا المعرفة التي أُفضِي بها إليهم على
هذا النحو إلى غيرهم ممَّن لم تتح لهم فرصة
كهذه. إن حصة صغيرة من العلوم الحقيقية لهي
خير من كتلة من العلم غير مهضومة أسيء فهمها،
وإن أوقية من الذهب لتَعدِل طناً من التراب. السائل:
ولكن
كيف للمرء أن يدري فيما إذا كانت الأوقية
ذهباً حقاً أم مزيفة؟ الثيوصوفي:
الشجرة
تُعرَف من ثمارها، والنهج من نتائجه. ويوم
يتمكَّن خصومنا أن يبرهنوا لنا أن دارساً
منفرداً واحداً لعلم الغيب أضحى ناطساً
قدُّوساً من عيار أمُّونيوس ساكَّاس، أو حتى
أفلوطيناً، أو ثيورجياً مثل يمبليخوس، أو قام
بأعمال باهرة كالتي نُسِبت إلى سان جِرمان،
بدون أي معلِّم يرشده، وكل هذا بدون أن يكون
وسيطاً، أو نفسانياً ضلّل نفسه، أو دجالاً –
إذ ذاك سوف نعترف أننا على باطل. فإلى أن يتم
ذلك، يفضِّل الثيوصوفيون أن يتبعوا القانون
الطبيعي الثابت لمنقول العلم القدسي. هنالك
سرَّانيون قاموا باكتشافات عظيمة في
الكيمياء والعلوم الفيزيائية، تكاد تحاذي
الخيمياء وعلم الغيب؛ وهنالك غيرهم عاودوا،
بمعونة عبقريتهم وحدها، اكتشاف أجزاء من
الأبجديات المفقودة لـ"لغة الأسرار"،
إنْ لم يكن كلها، واستطاعوا بذلك أن يقرأوا
اللفائف العبرية على الوجه الصحيح؛ وهنالك
غيرهم من الرَّائين أبصروا لمحات مذهلة
من الأسرار الخفية للطبيعة. بيد أن هؤلاء
جميعاً اختصاصيون. أحدهم مبتكر نظري،
وثانيهم قبَّالي عبراني، أي طائفي، وثالثهم
سويدنبرﮒ من الأزمنة
الحديثة، يتنكَّر لكل مَن وكل ما يقع خارج
علمه أو دينه. فليس لأحدهم أن يباهي بتقديم
نفع عميم أو حتى وطني بهذا الخصوص، ولا حتى
لنفسه. وباستثناء بضعة شُفاة – من تلك الفئة
التي ترميها الكلِّية الملكية للأطباء
أوالجراحين بالدجل – لم يساعد واحد منهم
البشرية بعلمه، ولا حتى عدداً من الناس من
قومه. أين هم من الكلدانيين الأقدمين – أولئك
الذين أجروا أشفية رائعة، "ليس بالتعاويذ
إنما بالنباتات الطبية"؟
أين هم من أبولونيوس
التياني الذي أبرأ المرضى وأقام الموتى في كل
مناخ وتحت أي ظروف؟
نحن نعرف بعض الاختصاصيين
من الفئة الأولى في أوروبا، لكننا لا نعرف
أحداً من الثانية – اللهم إلا في آسيا حيث
لايزال سر اليوﮔانيين، "الحياة في الموت"،
مصوناً. السائل:
فهل
تهدف الثيوصوفيا إلى تنشئة نطساء كهؤلاء
لديهم القدرة على الشفاء؟ الثيوصوفي:
إنها
متعددة الأهداف، لكن أهمها جميعاً تلك
الأهداف التي تصلح لتفريج الشقاء البشري بكل
صوره، المعنوية منها والمادية. وباعتقادنا أن
الأولى أهم من الثانية بكثير. فعلى
الثيوصوفيا أن تنهض بتلقين الأخلاق؛ عليها أن
تنقِّي النفس، إن هي شاءت أن تفرِّج عن الجسم
الجُرْماني الذي تعود جميع علله، ماخلا حالات
الحوادث، إلى منشأ وراثي. إن بلوغ المرء
الغاية الحقة المتمثِّلة في مدِّ يد العون
إلى البشرية الشقية، ليس يتم بدرس علم الغيب
لمآرب أنانية، أو من أجل إرضاء المطامح
الشخصية والكبرياء أو الغرور. كما أن المريد
لايصبح عالماً بالغيب بدرس فرع واحد من فروع
الفلسفة الباطنية، بل بدرسها، إن لم يكن
بإتقانها جميعاً. السائل:
أتكون
المساعدة على بلوغ هذه الغاية العظيمة
الأهمية، إذن، حكراً على دارسي العلوم
الباطنية وحدهم؟ الثيوصوفي:
لا،
على الإطلاق. فكل واحد من عموم الأعضاء
مخوَّل بالحصول على إرشادات عامة إنْ هو شاء
ذلك؛ بيد أن الراغبين أن يصبحوا ما يُدعى "أعضاء
عاملين" قلَّة، وتَقنَع الغالبية بدور يعاسيب
الثيوصوفيا. ألا فليُعلَم أن البحوث
الفردية تلقى كل التشجيع في ج. ث.، على ألا
تتخطى الحدَّ الذي يفصل الظاهر عن الباطن،
السحر الأعمى عن السحر الواعي. الفرق
بين الثيوصوفيا وعلم الغيب السائل:
إنك
تتحدث عن الثيوصوفيا وعن علم الغيب؛ فهل هما
متطابقان؟ الثيوصوفي:
ولا
بوجه من الوجوه. فقد يكون أحدهم ثيوصوفياً
ممتازاً بحق، سواء داخل الجمعية أو خارجها،
بدون أن يكون بحال من الأحوال عالماً غيبياً.
بيد أنه ليس بوسع أحد أن يكون عالماً غيبياً
حقاً بدون أن يكون ثيوصوفياً حقاً؛ وإلا فإنه
ببساطة ساحر أسود، واعٍ أو غير واعٍ. السائل:
ماذا
تعني؟ الثيوصوفي:
سبق
لي أن قلت إن على الثيوصوفي الحق أن يضع أسمى
المثل الخلقية موضع التطبيق وأن يجاهد لتحقيق
وحدته مع البشرية بأسرها، ويعمل بلا هوادة من
أجل الآخرين. على هذا الأساس، إذا لم يقم عالم
الغيب بكل هذا، فلابد أنه يعمل بدافع أناني من
أجل منفعته الشخصية. وإذا كان قد حصَّل قدرة
عملية أكبر مما لدى غيره من العاديين من
البشر، فسرعان ما يصير عدواً للعالم ولمن
حوله أخطر بما لا يقاس من العادي من الناس.
وهذا واضح. السائل:
أيكون
عالم الغيب إذن مجرد امرئ يملك قدرة أكبر من
غيره من الناس؟ الثيوصوفي:
أكبر
بكثير – على أن يكون
عالماً بالغيب عملياً ومتضلِّعاً بحق،
وليس عالماً بالغيب بالاسم وحسب. فالعلوم
الغيبية ليست، كما تصفها الموسوعات، "تلك
العلوم الخيالية في العصور الوسطى التي
تتناول الفعل أو التأثير المزعوم للمزايا
الغيبية أو القوى الخارقة، كالخيمياء،
والسحر، واستحضار الأرواح، والتنجيم"، إذ
إنها علوم حقيقية، فعلية وخطرة جداً. فهي
تعلِّم السطوة السرية للأشياء في الطبيعة،
وتنمية القدرات الخفية "الكامنة في
الإنسان" وتفتيحها، وبذلك تمنحه مزايا
هائلة على البشر الأجهل منه. والتنويم [المغناطيسي]
الذي بات شديد الشيوع وموضعاً للتقصِّي الجاد
مثال جيد بهذا الصدد. لقد تم اكتشاف القدرة التنويمية
بما يشبه المصادفة، بعد أن مهَّدت المسمرية
الطريق إليها. واليوم صار في مستطاع منوِّم
قدير أن يفعل بها كل شيء تقريباً ابتداءً
بإكراه رجل، على نحو غير واعٍ لذاته، على
التهريج، وانتهاءً بجعله يرتكب جريمة –
بالنيابة عن المنوِّم، ولمصلحته، في أغلب
الأحيان. أوليست هذه القدرة قدرة رهيبة إذا
تُرِكت بين أيدي أناس لا يتورعون عن شيء؟ والرجاء
أن تتذكر أن التنويم ليس إلا واحداً من الفروع
الثانوية لعلم الغيب. السائل:
أفلا
يعتبر أكثر الناس ثقافة وعلماً كل هذه العلوم
الغيبية، كالسحر والشعوذة، بوصفها رفات
الجهل والتطيُّر الباليين؟ الثيوصوفي:
دعني
أذكِّرك أن ملاحظتك هذه ذات حدَّين. فـ"أكثركم
ثقافة وعلماً" يعتبرون المسيحية وكل دين
آخر أيضاً من رفات الجهل والتطيُّر. وكيفما
كان الأمر، فقد بدأ الناس اليوم يعتقدون بـالتنويم،
وبعضهم – حتى من بين الأكثر ثقافة –
بالثيوصوفيا وبالظواهر الخارقة. ولكن مَن مِن
بينهم، اللهم إلا الوُعَّاظ والمتعصِّبين
العميان، يقر بإيمانه بـمعجزات الكتاب
المقدس؟
هنا تكمن نقطة الخلاف. هنالك
ثيوصوفيون ممتازون وأنقياء قد يؤمنون
بالخوارق، بما فيها المعجزات الإلهية،
إنما ما مِن عالِم بالغيب يؤمن بها قط. فعالِم
الغيب يزاول الثيوصوفيا العلمية التي
تقوم على معرفة دقيقة بالعمليات السرِّية
للطبيعة. أما الثيوصوفي الذي يتعامل والقدرات
المدعوة بالشاذة، فلسوف ينزع ببساطة إلى شكل
خطر من أشكال الوساطة، لأنه، رغم ثباته على
الثيوصوفيا وعلى قواعدها الأخلاقية – أسمى
القواعد الأخلاقية القابلة للتصوُّر، فإنه
يعمل في الظلمة، امتثالاً لإيمان مخلص لكنه أعمى.
فكل من يهتم، ثيوصوفياً كان أم أرواحياً،
بتنمية فرع من فروع العلم الغيبي – أي
التنويم، أو المسمرية، أو حتى أسرار إجراء
الظواهر الجسمانية الخارقة، إلخ. – بدون
الوقوف على التعليل الفلسفي لتلك
القدرات، لقمين أن يصبح كقارب بلا دفة، مبحر
في محيط مائج. الفرق
بين الثيوصوفيا والأرواحية
السائل:
أفلا
تؤمنون بالأرواحية؟ الثيوصوفي:
إذا
كنت تعني "الأرواحية" التعليل الذي
يقدِّمه الأرواحيون لعدد من الظواهر الشاذة،
فإننا قطعاً لا نؤمن بها. إنهم يجزمون أن
هذه الظواهر قاطبة من صنع "أرواح" بشر
راحلين، من أقاربهم عموماً، تعود إلى الأرض،
على حد زعمهم، للاتصال بمن أحبوا وبمن هم
متعلِّقون. أما نحن فنتنكَّر لهذه الفكرة
بشدة، ونجزم أن أرواح الموتى يتعذر عليها أن
تعود إلى الأرض – اللهم إلا في حالات نادرة
واستثنائية قد أتكلم عليها فيما بعد، كما
أنها لا تتصل بالبشر إلا بوسائل محض ذاتية.
فما يظهر موضوعياً ماهو إلا شبح الإنسان
الجسماني السابق. أما الأرواحية النفسانية
أو "الروحانية"، إذا جاز التعبير، فنؤمن
بها جزماً. السائل:
وهل
تنبذون الظواهر أيضاً؟ الثيوصوفي:
بالتأكيد
لا ننبذها – اللهم إلا حالات الاحتيال العمد. السائل:
فكيف تعلِّلونها إذن؟ الثيوصوفي:
بطرق
عديدة. فأسباب تجلِّيات كهذه ليست بأي حال من
الأحوال بالبساطة التي يحلو للأرواحيين أن
يحسبوها. والإله [المُنزَل] بواسطة آلة13
لـ"التجسُّمات" المزعومة بادئ ذي بدء هو
عادة الجسم النجمي للوسيط أو لأحد الحضور أو
"صنوه". إن هذا الجسم النجمي هو
المولِّد أو القوة الفاعلة في تجلِّيات
الكتابة على الصفَّاح والتجلِّيات من نمط "دافنبورت"،14
إلخ. السائل:
تقول
"عادة"؛ ما الذي يتسبب في حدوث
الظواهر الباقية؟ الثيوصوفي:
ذلك
يتوقف على طبيعة التجلِّيات. فقد يكون
أحياناً الرميم النجمي، أي "الأصداف" الكامَلوكية
لـلشخصيات التي سبق ارتحالها؛ وهو في
مرات أُخَر عنصرانيات. إن لكلمة "روح"
معاني متعددة ومدلولاً واسعاً. ولست أدري
حقاً ماذا يقصد الأرواحيون بالمصطلح، لكن ما
نفهمه مما يزعمون هو أن الظواهر الجسمانية من
صنع الأنية المعاودة للتجسُّد، "الفردية"
الروحية الخالدة. نحن نرفض هذه الفرضية
جملةً لأن الفردية الواعية غير
المتجسِّدة لا تستطيع أن تتجسَّم،
وبالمثل، لا تستطيع أن تعود من فلكها
الديفاخاني إلى مرتبة الموضوعية الأرضية. السائل:
لكن
العديد من المخابرات المتبلَّغة من "الأرواح"
لا تشهد على ذكاء وحسب، بل وعلى معرفة حقائق
لا يعرفها الوسيط، وأحياناً غير حاضرة حضوراً
واعياً في ذهن المحقِّق، أو ذهن أيٍّ من الذين
يكوِّنون الحضور. الثيوصوفي:
هذا
لا يثبت بالضرورة أن الذكاء والمعرفة اللذين
تتحدث عنهما يخصان أرواحاً، أو تصدر عن
نفوس غير متجسِّمة. لقد عُرِف السائرون في
نومهم بتأليف الموسيقى وقرض الشعر وبحل مسائل
رياضية في أثناء وجودهم في حالة غشية، بدون أن
يكونوا تعلَّموا الموسيقى والرياضيات يوماً.
كما أجاب غيرهم بذكاء على أسئلة طُرِحت
عليهم، وحتى، في حالات متعددة، تكلموا بلغات،
كالعبرية واللاتينية، كانوا على جهل تام بها
في صحوهم – وكل هذا في حالة من النوم العميق.
أفهل تصرُّ، عندئذٍ، أن "الأرواح" من
وراء هذا أيضاً؟ السائل:
فكيف
تفسِّرها إذن؟ الثيوصوفي:
نحن
نزعم أن الشرارة الإلهية في الإنسان، إذ هي
واحدة ومتماثلة في جوهرها مع الروح الشاملة،
فإن "ذاتنا الروحية" عليمة عملياً بكل
شيء، بيد أنها لا تستطيع أن تبيِّن معرفتها
نظراً لعراقيل المادة. لذا فإننا كلما أزلنا
هذه العراقيل، وبعبارة أخرى، كلَّما شُلَّ
الجسم الجُرُماني فيما يختص بنشاطه ووعيه
المستقلين، كما في النوم أو السبخة العميقين،
أو كما في المرض أيضاً، تجلَّت الذات الباطنة
تجلِّياً أكمل على هذه المرتبة. ذلكم هو
تفسيرنا لتلك الظواهر المذهلة حقاً التي
تنتمي إلى رتبة أعلى، تتجلى فيها فطنة ومعرفة
لا لبس فيهما. أما فيما يتعلق بالرتبة الدنيا
للظاهرات، كالظواهر الجسمانية والتُرَّهات
والكلام المبتذل الذي تنطق به "الروح"
بعامة، فإن تفسير أبرز التعاليم التي في
عهدتنا حول الموضوع وحده سيشغل حيِّزاً
ووقتاً أكثر مما هو مخصَّص له في الوقت الحاضر.
ليس في نيتنا التدخل في معتقد الأرواحيين أو
في أي معتقد آخر. على المؤمنين بـ"الأرواح"
أن يأخذوا عبء البرهان15
على عاتقهم. وفي الوقت الحالي، بينما لايزال
الأرواحيون مستيقنين أن النوع الرفيع من
الظاهرات يحدث من خلال الأرواح غير
المتجسِّمة، فإن قادتَهم وأوفرهم ثقافة
وفطنة هم أول من يعترف أن الظواهر ليست كلَّها
من صنع الأرواح. ولسوف يتوصَّلون تدريجياً
إلى الإقرار بالحقيقة كلها؛ لكننا في هذه
الأثناء لا نملك الحق ولا الرغبة في جرِّهم
إلى اعتناق وجهات نظرنا. وهو عين موقفنا في
يخص الظاهرات النفسانية والروحانية الصرفة
حيث نؤمن بتخابر روح الإنسان الحي مع روح
الشخصيات غير المتجسِّمة.16
السائل:
هذا
يعني أنكم ترفضون فلسفة الأرواحية برمتها؟ الثيوصوفي:
قطعاً،
إذا كنت تعني بكلمة "فلسفة" نظرياتهم
الغشيمة. لكنهم في الحقيقة لا يملكون فلسفة.
إن خيرتهم، أشد المدافعين عنهم فكراً وجدِّية
يقولون ذلك. أما حقيقتهم الأساسية التي وحدها
لا يشوبها عيب، ألا وهي أن الظواهر تجري من
خلال الوسطاء الواقعين تحت سلطان قوى وفطنات
خفية، فمامن أحد، اللهم إلا واحد من الماديين
العميان من مدرسة هكسلي لقمين أن ينكرها أو
يستطيع ذلك. أما فيما يخص فلسفتهم فدعني أقرأ
لك ما يقول عنهم وعن فلسفتهم محِّرر [جريدة]
النور17
القدير الذي لن يجد الأرواحيون نصيراً أحكم
أو أوفى منه. إليك ما كتب م. أ. أوكسُن، أحد
الأرواحيين الفلسفيين القلائل، بصدد نقص
التنظيم لديهم وتعصُّبهم الأعمى: - "إن إمعان النظر في هذه
النقطة لمن الضررورة بمكان نظراً لأهميتها
الحيوية. لدينا تجربة ومعرفة تصبح كل معرفة
بالمقارنة معها طفيفة. الأرواحي العادي يغتاظ
إذا تجرأ أحدهم وفنَّد معرفته الواثقة
بالمستقبل ويقينه المطلق في الحياة الآتية.
فحيث يمدُّ غيره من البشر أيادي واهنة تتلمس
طريقها في المستقبل المظلم يسير هو بجسارة
كمن يمتلك خريطة ويعرف طريقه, حيث توقف غيره
من البشر عند مطمح ورِع أو ارتضوا إيماناً
وراثياً، فمن دواعي فخره أنه يعرف ما يكتفون
بالإيمان به، وأنه يستطيع بفضل مخازنه الغنية
أن يتدارك المعتقدات المتداعية المشيدة على
الأمل وحده. إنه رائع في معالجته أقرب آمال
الإنسان إلى قلبه. إنه كمن يقول: "إنكم
تتطلَّعون إلى ما أستطيع أن أبرهن عليه. لقد
قبلتم معتقداً تقليدياً فيما أستطيع أن أثبته
تجريبياً بحسب أشد مناهج العلم صرامة.
المعتقدات القديمة تتداعى؛ اخرجوا منها
وكونوا مستقلين. إنها تحوي من البهتان بقدر ما
تحوي من الحقيقة. لن يكون شموخ بنائكم ثابتاً
مالم تبنوا على أساس متين من الوقائع التي لا
يتطرق إليها الشك. كل المعتقدات تنهار من
حولكم. تجنبوا الكارثة واخرجوا منها." "ولكن
حينما يصل الأمر إلى التعامل عملياً مع هذا
الشخص الرائع، ماذا تكون النتيجة؟ غريبة
جداً ومخيِّبة للآمال جداً. إنه شديد الثقة في
حجَّته إلى حدِّ أنه لايكلِّف نفسه عناء
التحقُّق من التأويلات التي يقدِّمها
الآخرون لوقائعه. لقد عَنِيَت حكمة العصور
بإيجاد تفسير لما يعتبره صواباً مبرهناً عليه.
لكنه لا يلقي نظرة عابرة على أبحاثها. إنه حتى
لا يتفق مع أخيه الأرواحي كل الاتفاق. إن هذا
ليعيد إلى أذهاننا قصة الاسكتلندية العجوز
التي شكَّلت مع زوجها "كنيسة"18.
وحدهما كانا يملكان مفاتيح السموات، أو
بالحري وحدها، لأنها "لم تكن واثقة تماماً
من جيمي".19
على النحو نفسه تهز مذاهب الأرواحيين
المنقسمة والمعاودة للانقسام والمعاودة
لمعاودة الانقسام إلى مالانهاية رؤوسها، و"واحدها
غير واثق تماماً من الآخر". وهنا أيضاً،
تبقى التجربة الجماعية للبشرية حول هذه
النقطة صامدة لا تتبدل، ألا وهي أن الاتحاد
قوة، والتفرقة مصدر للضعف والفشل. والرعاع،
إذ يُدرَّبون وينظَّمون، يصبحون، كتفاً إلى
كتف، جيشاً كل جندي فيه ند لمئة من الرجال غير
المنظَّمين ممَّن قد يحملون عليه. التنظيم في
كل قطاع من النشاط البشري يعني النجاح وتوفير
الوقت والمجهود والفائدة والتنمية. أما غياب
المنهج ونقص التخطيط والعمل العشوائي
والنشاط المتقطِّع والجهد غير المنظَّم –
كلها يعني الفشل الذريع. إن صوت البشرية
ليصادق على هذه الحقيقة. هل يقبل الأرواحي
بهذا الحكم ويتصرف وفقاً للنتيجة؟
حقاً لا يفعل. إنه يرفض
التنظيم. إنه قانون لنفسه، وشوكة في جنب
جيرانه."20 السائل: قيل
لي إن الجمعية الثيوصوفية تأسست في الأصل
بغرض سحق الأرواحية والاعتقاد ببقاء الفردية
في الإنسان؟ الثيوصوفي:
لقد
نُقِل إليك خبر غير صحيح. فمعتقداتنا كلها
قائمة على تلك الفردية الخالدة. لكنك، مثلك
كمثل الكثيرين غيرك، تخلط بين الشخصية
والفردية. يبدو أن علماءكم النفسيين الغربيين
لم يقيموا أي تمييز بين الاثنتين، مع أن الفرق
هو الذي يزودنا بالمفتاح لفهم الفلسفة
المشرقية، والذي يعود إليه أصل الانشعاب بين
التعاليم الثيوصوفية والتعاليم الأرواحية.
ومع أنه قد يثير ضدنا حفيظة عدد من
الأرواحيين، أجد من واجبي أن أصرح بأن
الثيوصوفيا هي الأرواحية الحقة التي لا
تشوبها شائبة،21
في حين أن النموذج الحديث الحامل هذا الاسم،
كما يمارسه الجمهور اليوم، هو ببساطة مادية
مترفِّعة. السائل:
اشرح
أرجوك فكرتك بوضوح أكثر. الثيوصوفي:
ما أعنيه هو أن تعاليمنا تشدد على تماثل الروح
والمادة، ومع أننا نقول بأن الروح مادة بالقوّة،
وبأن المادة إنما هي ببساطة روح متكثِّفة (كما
أن الجليد هو بخار متجمِّد)، فإننا، من حيث إن
الحالة الأصلية والأزلية للـكل ليست
الروح بل مابعد-الروح، إذا جاز التعبير (والمادة
المرئية الصلبة إنْ هي ببساطة إلا تجلِّيها
الدوري) ، فإننا نقول بأن مصطلح روح لا يصح أن
يطبَّق إلا على الفردية الحقة. السائل: ولكن
ما الفرق بين هذه "الفردية الحقة"’
و"الأنا" أو "الأنيَّة" التي نعيها
جميعاً؟ الثيوصوفي:
قبل أن أستطيع الإجابة عليك علينا أن نناقش ما
تعنيه بـ"الأنا" أو "الأنيَّة".
فنحن نميز بين وعي الذات البسيط، الشعور
البسيط بـ"أنَّني أنا"، والفكرة
المعقَّدة بـ"أنني السيد فلان" أو "السيدة
فلانة". ولما كنا نعتقد بوجود سلسلة من
الولادات للأنية نفسها، أو بالعَوْد إلى
التجسُّد، فإن هذا التمييز هو المحور الأساسي
للفكرة برمَّتها. أنت ترى بأن "السيد فلان"
يعني في الحقيقة سلسلة طويلة من التجارب
اليومية المشدودة واحدتها إلى الأخرى بخيط
الذاكرة، تشكِّل ما يدعوه السيد فلان "ذاتـه".
لكن ما من واحدة من هذه "التجارب" هي الـ"أنا"
أو الأنية، ولا هي تمنح "السيد فلان"
الشعور بأنه هو ذاته، لأنه ينسى الجانب
الأعظم من تجاربه اليومية التي لا تولِّد
لديه الشعور بـأنيَّته إلا حين تدوم. لذا
فإننا نحن الثيوصوفيين نميز بين هذه الصرَّة
من "التجارب" التي ندعوها الشخصية
الزائفة (لأنها محدودة وسريعة الزوال)، وذلك
العنصر في الإنسان الذي يعود إليه الشعور بـ"أنني
أنا". إن هذه الـ"إنني أنا" هي التي
ندعوها الفردية الحقة، ونقول بأن هذه "الأنية"
أو الفردية تلعب، كالممثل، أدواراً عديدة على
خشبة مسرح الحياة.22
فلندْعُ كل حياة جديدة للأنية نفسها على
الأرض سهرة على خشبة أحد المسارح. في إحدى
السهرات يظهر الممثل، أو "الأنية"، في
دور "مكبث"، وفي السهرة التي تليها في
دور "شايلوك"، وفي السهرة الثالثة في دور
"روميو"، وفي الرابعة في دور "هملت"
أو "الملك لير"، وهلمَّ جرَّا، حتى يكون
قطع دورة التجسُّدات كاملة. وتبدأ الأنية
رحلة حجِّ حياتها "جنيّاً" أو "عفريتاً"؛
ثم تؤدي دوراً صامتاً، فتكون جندياً، ثم
خادماً، فواحداً من الجوقة؛ ومن بعد تتوقل
إلى "الأدوار المحكية"، ثم تؤدي أدواراً
قيادية تتخلَّلها أدوار تافهة، حتى تنسحب
أخيراً من على الخشبة بعد أن تكون لعبت "بروسبيرو"
الساحر. السائل:
فهمت.
أنتم تقولون، إذن، بأن الأنية الحقة لا
تستطيع أن تعود إلى الأرض بعد الموت. لكن أليس
للممثل الحرية بالتأكيد، إذا احتفظ بالإحساس
بفرديَّته، أن يعود إلى مشهد أفعاله الماضية؟ الثيوصوفي:
نحن
نجيب بـلا لأن عودة كهذه إلى الأرض ببساطة لا
تتوافق مع أية حالة من الغبطة الصرفة بعد
الموت، كما سوف أبرهن لك. نحن نقول إن الإنسان
يعاني الكثير من الشقاء الذي لم يستحقّه إبان
حياته، عبر خطأ الآخرين ممَّن يعاشِر، أو
بسبب بيئته، وأن من حقه بالتأكيد أن ينعم
بالراحة والهدوء التامَّيْن، إن لم نقل
بالغبطة، قبل أن ينوء بوزر الحياة من جديد.
بوسعنا على كل حال أن نناقش هذه المسألة
بالتفصيل فيما بعد. لماذا
تُقبَل الثيوصوفيا؟
السائل:
فهمت،
ولكن إلى حد؛ لكني أرى أن تعاليمكم أعقد وأشد
ماورائية بما لا يقاس من الأرواحية أو الفكر
الديني الدارج. هل لك أن تخبرني، إذن، ما الذي
جعل نهج الثيوصوفيا هذا الذي تنتصرون له يثير
كل هذا الاهتمام وكل هذه البغضاء في آن معاً؟
الثيوصوفي:
هنالك،
فيما أظن، أسباب عديدة لذلك؛ ففي جملة
الأسباب التي قد تُذكَر هناك، أولاً، ردة
الفعل العنيفة من النظريات الفظة المادية
السائدة الآن بين معلِّمي العلم. ثانياً،
التأفف العام من الثيولوجيا المفتعلة
للكنائس المسيحية المتعددة، وعدد النحل
المتزايدة والمتشاحنة يومياً. ثالثاً،
إدراك متنامٍ باطِّراد لحقيقة أن المعتقدات
الواضحةَ التناقض مع ذاتها والمناقِضة
بعضَها بعضاً لا يمكن أن تكون صحيحة، وأن
المزاعم التي لا يُتحقَّق منها لا يمكن أن
تكون حقيقية. إن هذا الارتياب الطبيعي في
الأديان التقليدية يتعزز بفشلها التام في صون
الأخلاق وتطهير المجتمع والجماهير. رابعاً،
اقتناعٌ عند الكثيرين، ومعرفة عند
القلَّة أنه يجب أن يكون ثمة نهج فلسفي وديني
يكون علمياً وليس نظرياً وحسب. أخيراً،
اعتقاد سائد، فيما أظن، أن نهجاً كهذا يجب
التنقيب عنه في تعاليم أقدم بكثير من أي معتقد
حديث. السائل:
ولكن كيف كان لهذا النهج أن يُطرَح الآن
تحديداً؟ الثيوصوفي:
ذلك
لأن أوانه قد حان، كما تبيِّن الجهود العازمة
لهذا العدد الكبير من الباحثين المخلصين
لبلوغ الحقيقة، مهما كان الثمن وحيثما
تقيم. أمام هذا المشهد، ارتأى المؤتمَنون
عليها السماح بالجَهْر ببعض الأجزاء على
الأقل من تلك الحقيقة. فلو تأخر تأسيس الجمعية
الثيوصوفية بضع سنوات، لكان نصف الأمم
المتمدِّنة قد تحوَّل إلى المادية الفظة،
ونصفها الآخر إلى التشبيهية والظواهرية. السائل:
هل لنا أن نعتبر الثيوصوفيا وحياً بوجه من
الوجوه؟ الثيوصوفي:
ولا
بأية حال من الأحوال – ولاحتى بمعنى إفشاء
جديد ومباشر من كائنات علوية، خارقة، أو فوق
بشرية على الأقل، إنما فقط بمعنى "كشف
للنقاب" عن حقائق قديمة، بل قديمة جداً،
لعقول كانت جاهلة بها حتى الساعة، جاهلة حتى
بوجود معرفة عتيقة كهذه وبصونها.23 السائل:
تحدثت عن "الاضطهاد". إذا كانت الحقيقة
كما مثَّلتْها الثيوصوفيا، لم قوبلت بكل هذه
المعارضة، ولم تلق قبولاً عاماً؟ الثيوصوفي:
لأسباب عديدة ومتنوعة، أحدها، مرة أخرى،
الكراهية التي يحس بها البشر بإزاء "البدع"،
كما يدعونها. الأنانية في صلبها محافِظة
وتكره الإزعاج. إنها تؤْثِر كذبة رخيَّة
البال مريحة على أعظم الحقائق إذا تطلَّبت
الثانية التضحية بأصغر مدعاة للرخاء. إن
سلطان العطالة العقلية عظيم في كل ما لايعِد
بفائدة وثواب آنيين. وإن عصرنا عصر غير روحي
وواقعي قبل كل شيء. وعلاوة على ذلك، هناك
الطابع غير المألوف للتعاليم الثيوصوفية؛
فالطبيعة الشديدة الاستغلاق لعقائدها التي
يناقض بعضُها مناقضة صريحة العديدَ من شطحات
البشرية الغالية إلى قلوب المذهبيين التي
التهمت المعتقدات الشعبية حتى اللبَّ منها.
فإذا أضفنا إلى هذا الجهود الشخصية وطهارة
الحياة العظيمة المطلوبة من الذين يريدون أن
يصبحوا تلامذة الحلقة الباطنة، والفئة
المحدودة جداً التي تتوجَّه إليها قواعد
أخلاق غير أنانية على الاطلاق، يسهل إدراك
سبب الحكم على الثيوصوفيا بمثل هذا النشاط
البطيء الوئيد. إنها بالدرجة الأولى فلسفة
المتألِّمين، والذين فقدوا كل أمل في
انتزاعهم من مستنقع الحياة بأية وسيلة أخرى.
وبالإضافة إلى ذلك ترينا قصة أي نهج عقائدي أو
خلقي، أُدخِل لتوِّه أرضاً غريبة، أن بداياته
كانت دوماً تُعرقَل بكل حاجز من ابتداع
التعتيم والأنانية. حقاً إن "تاج المبتدع
إكليل شوك"!
إن هدم أبنية عتيقة أكلها
الدود لا يمكن أن يتم بدون حصة من المخاطر. السائل:
يشير كل هذا بالحري إلى أخلاق ج. ث. وفلسفتها.
فهل لك أن تعطيني فكرة عامة عن الجمعية نفسها،
عن أهدافها وتشريعاتها؟ الثيوصوفي:
لم
يكن هذا بالسرّ في يوم من الأيام. اسأل تحصل
على أجوبة دقيقة. السائل:
لكني سمعت أنكم مرتبطون بمواثيق. الثيوصوفي:
في
الشعبة السرَّانية أو "الباطنية" وحدها. السائل:
سمعت كذلك أن عدداً من الأعضاء بعد تركهم لم
يعتبروا نفسهم ملتزمين بالمواثيق التي
أدُّوها. فهل هم على حق؟ الثيوصوفي:
إن هذا
ليرينا أن فكرتهم عن الشرف فكرة ناقصة. أنَّى
لهم أن يكونوا على حق؟
لقد أحسنت الصراط24،
الناطقة بلسان الثيوصوفيا في نيويورك، القول
وهي تتناول حالة كهذه: "هب أن جندياً حوكم
بتهمة الحنث باليمين وبالنظام، وسُرِّح من
الخدمة. في غيظه من العدالة التي أُنزِلت به
والتي كان يعرف عواقبها مسبقاً بوضوح، يتحول
هذا الجندي إلى العدو بمعلومات خاطئة – وبذلك
يصبح جاسوساً وخائناً – لينتقم من قائده
السابق، ويزعم أن عقابه أطلقه من قَسَمه ومن
ولائه للقضية التي كان يخدمها." فهل نبرر
فعلته فيما تظن؟ ألا تعتقد أنه يستحق أن يدعى
رجلاً عديم الشرف، رعديداً؟ السائل:
أعتقد ذلك؛ لكن هناك مَن يعتقد بخلاف ذلك. الثيوصوفي: ذنبهم
في رقابهم! لكننا سوف نتحدث عن ذلك الموضوع
فيما بعد، إن شئت. ***
*** ***
1
اختصار "عضو الجمعية الثيوصوفية"،
وأصله بالإنكليزية (م):
F. T. S. = Fellow of
the Theosophical Society 2
‘Theosophical Transactions
of the Philadelphian Society,’ published in London in 1697. 3
‘Introduction to
Theosophy, or the Science of the Mystery of Christ; that is, of Deity,
Nature, and Creature, embracing the philosophy of all the working powers of
life, magical and spiritual, and forming a practical guide to the subli-mest
purity, sanctity, and evangelical perfection; also to the attainment of
divine vision, and the holy angelic arts, potencies, and other prerogatives
of the rege-neration,’ published in London in 1855.
4
Unitarians.
5
‘Theosophical
Miscellanies.’ 6
أعمال الرسل 24 :26. (م) 7
المقصود بـ"الآداب الآرية" حصراً نصوص
التراث الروحي لكل من الهند وفارس الذي كان
الغرب بصدد "اكتشافه" في الربع الأخير
من القرن التاسع عشر. وقد لعبت الجمعية
الثيوصوفية دوراً حاسماً في هذا الأمر. (م) 8
"الطالب النفساني" باصطلاح تلك الفترة
هو العالم الباحث المهتم بدراسة الظواهر
النفسية الخارقة للعادة التي تقع اليوم في
مجال تقصِّي علم البارابسيكولوجيا parapsychology.
(م) 9
"العضو الملتحق" هو الذي انضم إلى شعبة
معينة من ج. ث. بينما العضو "غير الملتحق"
هو الذي ينتمي إلى الجمعية بعامة ويحصل على
شهادته من المقر العام (أدِيار، مَدراس) دون
أن يكون مرتبطاً بأي شعبة أو محفل. 10
ورد باللاتينية في النص : de
facto.
(م) 11 “Handsome is, as handsome
does”, “Theosophist is, who Theosophy does”. وقد
جاء في الحديث الشريف في هذا المعنى: "الإيمان
ما وقر في القلب وصدّقه العمل." (م) 12
في عام 1890 نشرت السيدة بلافاتسكي، في وقت
كانت تتعرض فيه لأشرس الهجمات وأبشع
الاتهامات، نص "الدرجات الذهبية" الذي كان لابد لمريد الشعبة
الباطنية من التحقق بفضائله لكي يكون
حقيقاً بالترقِّي في معارج المعرفة. بعد
ذلك بعام أعيدت صياغة هذه "الدرجات"
بعد تعديلها تعديلاً طفيفاً برزت ضرورته
نتيجة سوء تفسير بعضهم بعضَ ما جاء فيها.
بيد أننا نعتمد هنا النص الأصلي لاعتقادنا
أنه أكثر أمانة للروح التي أرادت هـ. ب. ب.
بثّها فيه (م): "هي
ذي الحقيقة أمامك: حياة طاهرة، فكر منفتح،
قلب نقي، عقل متشوِّق، بصيرة روحية غير
محجوبة، سلوك أخوي نحو الرفيق التلميذ،
استعداد لإسداء النصح والإرشاد وتلقّيهما،
شعور مخلص بالواجب نحو المعلِّم، طاعة
راغبة لفروض الحقيقة متى وضعنا ثقتنا في
ذلك المعلِّم وآمنَّا أن الحقيقة في حوزته؛
احتمال شجاع للجور الذي ينزل بنا، جهر جسور
بالمبادئ، استبسال في الدفاع عمّن يعتدى
عليهم بغير حق، ووضع نصب العين دوماً مثال
التقدم والكمال الإنسانيين الذي يصفه
العلم السري (ﮔُبْتى-فِدْيا)
- تلكم هي الدرجات الذهبية التي يجب على
المتعلّم أن يرقاها حتى هيكل الحكمة
الإلهية." [H.P.B.,
Collected Writings, Vol. XII, Theosophical Publishing House, 1980, p.
503.] 13
باللاتينية: deus ex machina. يعيد
هذا التعبير إلى الأذهان المسرح القديم حيث
كانت تُستخدم تركيبة آلية لإظهار أحد
الآلهة إظهاراً استعراضياً في عيون
النظارة من أجل حل عقدة صعبة؛ ويشير
التعبير في كلام بلافاتسكي إلى تأثير مجهول
الطبيعة يتدخل في الوقت المناسب لصنع مفعول
"عجائبي" ظاهرياً. (م) 14
كان الشقيقان دافنبورت وسيطان أرواحيان؛
وقد جاء في كتاب السيدة بلافاتسكي إيزيس
سافر إنهما خرجا من السجن بدون ذكر
تفاصيل إضافية. إنما في المجلد الثالث من الأعمال
الكاملة، ص 15، في مقال بعنوان "الفيزياء
التجاوزية" (ظهر في المجلد الثاني من
مجلة الثيوصوفي، شباط 1881) نقرأ، بعد
تعداد للظواهر التي يُحدثها الوسطاء
الأرواحيون، ما يلي : "[...] كان الشقيقان
دافنبورت يبديان أيادي منفصلة عن نافذة
حجرتهما، وآلات موسيقية تطير عبر الجو
[...]". (م) [H.
P. B., “Transcendental Physics”, C. W., Vol. III, p. 15.] 15
باللاتينية في النص: onus probandi
.
(م) 16
نقول في مثل هذه الحالات أنْ ليست أرواح
الموتى هي التي تنزل على الأرض، بل
أرواح الأحياء هي التي تعرج إلى النفوس
الروحانية الطاهرة. والحق إنه ليس ثمة لا عروج
ولا نزول، إنما تبدُّل في حالة الوسيط
أو حاله. فإن جسمه إذ ينشلّ أو "يغشى"،
تنفلت الأنية الروحانية من عقالها وتجد
نفسها على مرتبة وعي الأرواح غير
المتجسِّمة نفسه. كذا فإنه إذا وُجِد جذبٌ
روحي بين الاثنتين يمكنهما التواصل،
كما يحدث مراراً في الأحلام. أما الفارق بين
طبيعة وساطية وأخرى غير حساسة فهو التالي:
إن روح الوسيط المتحررة تتيسر لها فرصة
التأثير على الأعضاء المنفعلة لجسمه
المغشي عليه وجعلها تفعل وتنطق وتكتب على
المراد. إن بوسع الأنية أن تجعله يردد
كالصدى، باللغة البشرية، خواطر الكيان غير
المتجسِّم وأفكاره، بالإضافة إلى أفكارها
وخواطرها هي. لكن البنية غير المستقبِلة
وغير الحساسة لشخص وضعي جداً لا يمكن
التأثير فيها على هذا النحو. من هنا فإنه،
على تعذر وجود إنسان لا تتواصل أنيَّته
تواصلاً حراً إبان نوم جسمه مع الذين
أحبتهم وفقدتهم، لا تستبقي ذاكرة الشخص
عندما يصحو من هذا التواصل أي استذكار،
اللهم إلا تذكرة أحلامية مبهمة، بسبب من
وضعيَّة غلافه الجسماني ودماغه وعدم
قابليتهما للتلقي. 17مجلة
Light
من
أهم المجلات المتخصصة في نشر أفكار الحركة
الأرواحية في تلك الفترة. (م) 18
باللهجة الاسكوتية في النص: kirk
. (م) 19
باللهجة الاسكوتية في النص:“na
certain aboot Jamie”.
(م) 20
Light,
June 22, 1889. 21
استُخدمت كلمة Spiritualism الانكليزية التي تعني
مبدئياً "روحانية" في الحلقات
الأنكلوسكسونية لتحضير الأرواح بمعنى "أرواحية"
اعتباراً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر
(تقابلها بالفرنسية كلمة spiritisme) ، الأمر الذي نجم عنه شيء
من اللبس استفادت منه السيدة بلافاتسكي هنا
للمفاضلة بين الثيوصوفيا والأرواحية،
على اعتبار أن "الثيوصوفيا هي الأرواحية
("النفسانية" أو "الروحانية") الحقة
التي لا تشوبها شائبة". (م) 22
انظر أدناه "في الفردية والشخصية". [الفصل
الثامن – (م)] 23
بات من "الدارج"، ولاسيما مؤخراً،
تسفيه الفكرة القائلة بأنه كان ثمة يوماً،
في أسرار الأمم العظيمة المتحضرة،
كالمصريين والإغريق أو الرومان، شيء غير
دجل الكهنة. حتى جماعة وردة الصليب لم
يكونوا بخير من أنصاف مخبولين، أنصاف
دجالين. ولقد وُضِعت كتب عديدة فيهم؛ وظهر
مبتدئون، ما كانوا بسامعين باسمهم قبل بضعة
سنوات، يتنطسون لمبحث الخيمياء وفلاسفة
النار والسرَّانية عموماً بوصفهم النقاد
اللوذعيين والعارفين المحققين. ومع ذلك
تُعرَف سلسلة طويلة من هِيروفنطيي مصر
والهند وبلاد الكلدان والعربية، إلى جانب
أعظم فلاسفة اليونان والغرب وحكمائهما،
بشَمْلِها تحت تسمية الحكمة والعلم الإلهي
كل معرفة، من حيث إن هؤلاء اعتبروا أساس
وأصل كل فن وعلم إلهياً في الجوهر. ولقد
اعتبر أفلاطون الأسرار فائقة القدسية،
كما صرح كليمنضُس الاسكندراني الذي كان
سورِر بالأسرار الإلفسينية بأن "العقائد
المدرَّسة فيها تشتمل على نهاية العلم
البشري كلّه."[Stromata,
V, 11.]
هل لنا أن نفهم من ذلك أن أفلاطون وكليمنضُس
كانا دجالين أو مخبولين، أو كلا الأمرين
معاً ؟ 24 The Path,
Vol. IV, July 1889, p. 98. (م)
|
|
|