|
الأصولية[1] لقد
لعبتِ الأديانُ التاريخية الكبرى، حتى وقتنا
الحاضر، دورًا رئيسيًّا في بزوغ الثقافات
والحضارات وتركتْ بصمتَها عميقةً في بناء
المدن سياسيًّا. غير أنه لا مناص من الاعتراف
بأنها، في الأعم الأغلب، تجاهلَتْ فريضةَ
اللاعنف الفلسفية وانضمت إلى إيديولوجيات
العنف الضروري والشرعي والشريف السائدة.
وغالبًا ما هيأتِ الأديانُ البشر، عبر
التعليم الجامد لخطاب عقائديٍّ منغلق،
للتعصب حيال الآخرين بدلاً من اللطف بهم.
وبهذا غذتِ الأديانُ القومياتِ الطائفيةَ
التي تجاهر بالتمييز والإقصاء والعنف. لقد
تجاهلَتْ، من خلال تحالُفها مع طاغوت العنف،
الرهاناتِ الأخلاقيةَ والروحيةَ
والميتافيزيقيةَ – وينبغي قطعًا أن نَذكر
أيضًا الرهاناتِ اللاهوتيةَ – والسياسيةَ
للاعنف. فهي لم تكتَفِ بإقرار أن العنف حق
طبيعي للإنسان في إطار الدفاع المشروع عن
مصالحه، بل ذهبت في ظروف عديدة إلى تقديس
العنف بمنحه مددًا من إلهها. عندما بارك
الدينُ العنف، لم يتقدس العنفُ بل تدنَّس
الدين. لقد تنجس الدينُ بذلك أيما تنجُّس؛ إلا
أن مجرد قبوله التواطؤ مع العنف دليل على أنه
كان قد تنجَّس قبلئذٍ. إن
الأصولية الدينية هي أقوى حوامل العنف: فما
إنْ يستيقن قومٌ أن دينَهم هو وحدَه الدين
الصحيح حتى يجيزوا لأنفسهم الادعاء بأنهم
وحدهم يمتلكون الحقيقة، فيقتنعون بأن الله قد
أوكل إليهم مهمة الدفاع عنها، وبذلك لا
يأخذون على عاتقهم واجب تكفير الزندقات وحسب،
بل وواجب قتال الزنادقة أيضًا. الأصولية
الدينية – ويعلِّمنا التاريخُ أن الأصولية
فخ وقعت فيه جميع الأديان – تولِّد إذًا
مباشرةً إيديولوجيا "الجهاد" التي ما
انفك لها كل هذا الوزن في تاريخ الأديان. ففي
المنطق الأصولي، مادام ليس ثمة قضية أعدل من
قضية الله، ليس هناك من عنف أكثر شرعية من عنف
الجهاد. هكذا تقدِّس الإيديولوجيا الأصوليةُ
العنف. فالقتَلة المتدينون هم من بين أشد
القتَلة عتوًّا وأقلهم ندمًا. إن
الإنسان الفيلسوف، في بحثه عن الحكمة
العالمية – سواء كان مؤمنًا أم لم يكن –، لا
يسعه إلا أن يدحض إيديولوجيا الأصوليين
ويشجبها ويحاربها. لعل الفلسفة لا تتيح
معرفةَ الإله الحق، لكنها تتيح على الأقل
التعرف إلى الآلهة الباطلة، من خلال اجتهادها
أن تقول عن الله ما ليسه – وهذا حاسم في حدِّ
ذاته. الفيلسوف يرفض فكرةَ إلهٍ يأمر المؤمن
باللجوء إلى العنف فرضًا لاحترام الإيمان
والعقيدة والشرع والنظام. فعند الفيلسوف أن نقيض
الإيمان ليس عدم الإيمان بل العنف. ومهما
يكن من أمر، فإن الكفر بالله ليس تجاهُل أنه
موجود، بل الادعاءُ بأنه يرتضي عنفَ البشر
ويبرِّره ويقرهم عليه، والأسوأ من ذلك أنه
يمكن أن يأمرهم به. ضمن
هذا المنظار، فإن الحقيقة الأولى التي يمكن
أن يُعبِّر عنها الإنسانُ العاقل عندما يحاول
جاهدًا أن يتفكر في وجود الله هي أن هذا الإله
حاشا أن يكون عنيفًا، أن العنف غريب عنه، وأنه
متعالٍ عن الغضب والحسد والانتقام. فالله، في
كل الاحتمالات، لاعنف محض. ويعلِّمنا العقل،
إذن، أن الآلهة التي تتحالف مع عنف البشر
وتقرهم عليه وتأمر به أحيانًا تقطن حتمًا في
مَجْمع ["پانثيون" panthéon] الآلهة الباطلة. وهكذا فإن
"رب الجنود" هو جَزْمًا إله باطل، والإله
الحق، بمقدار ما في وسع الإنسان أن يعرفه، لا
يمكن إلا أن يكون "إلهًا أعزل". عندما
يُقوِّل الإنسانُ إلهًا إنه يقر البشر على
عنفهم، فهذا قطعًا ليس كلام الله يعبِّر عن
نفسه، بل كلامُ بشر عن الله، وهو كلام بشر
مخطئ في كلامه على الله. فالإنسان يحتاج دومًا
إلى تبرير عنفه، وعندما يؤمن بإله، فإنه
يحتاج إلى إقناع نفسه بأن إلهه يبرر عنفَه. إن
ضرورة عزل الله من سلاحه الملحة لهي فريضة
فلسفية وثقافية وسياسية. فهي لا تخص المؤمنين
فحسب، بل جميع المواطنين الحريصين على بناء
عالم مطمئن. إذا
كان مبدأ اللاعنف هو أساس الفلسفة حقًّا فمن
المناسب التأكيد على أسبقية هذا المبدأ على
الاعتبارات "الدينية" كلِّها. ولا يمكن
لهذا التأكيد إلا أن يؤدي إلى قطيعة جذرية مع
جميع المذاهب الدينية، ليس المتعلق منها
بالجهاد وحسب، بل وبالحرب العادلة وبالعنف
المشروع. ينبغي على "المتدينين" أنفسهم
أن يكونوا في طليعة المتحلِّين بشجاعة القيام
بقطيعة كهذه، حتى وإنْ كانت تضع "موروثهم"
موضعَ الاتهام. فالإنسان الروحاني – سواء آمن
بالله أم لم يؤمن – هو رَجل قطيعة[2].
فهو يحب الأرض حبًّا يجعله غير متعلق بأية أرض
بعينها. ليس هناك من تراب مقدس في نظره. فهو
مستعد على الدوام أن يترك أرضَه ليمضي سائحًا
على دروب العالم، حرًّا في الشمس والمطر
والثلج أو الريح. لقد
اعتدنا أن نعزو أعمالَ العنف التي ندينها إلى
مختلف أنواع التطرف. إلا أن الأصوليات ليست
ممكنة إلا عبر الأرثوذكسيات. فهذه تبرِّر
سلفًا شطط الأصوليين من خلال بناء مذهبَي
العنف المشروع والحرب العادلة ومن خلال تبرير
الاستخدام العاقل للعنف؛ إذ إن العنفَ غيرُ
عاقل، وهو شطط في حدِّ ذاته. ينبغي، لمحاربة
عنف الأصوليات، العمل على مطاردته حتى
مخابئه، حيث يحتمي وسط الأرثوذكسيات، وعلى
إخراجه منها. الأحرى
بالأديان، بدلاً من أن تدعي أنها جميعًا
أديان سلام، أن يكون لديها من الشجاعة
الروحية والأمانة الفكرية ما يجعلها تقر
بأنها جميعًا كانت أيضًا أديان حرب. وهذا
ما يضطرها إلى الاعتراف ليس فقط بأخطائها، بل
وبغيِّها خصوصًا. وعليه، فإن اعتراف الدين
بغيِّه أصعب بكثير من اعترافه بأخطائه، ذلك
لأن الأخطاء لا تتهم إلا البشر، بينما الغي
يتهم الأديانَ نفسَها مباشرة. من الضروري، بل
ويُستحسَن، أن يتوب المرءُ عن أخطائه، لكن
الأهم منه أيضًا هو اعترافه بأن أخطاءه هذه قد
سبَّبها وبرَّرها الغيُّ – غي في المذهب وغي
في التفكير – وبأن الطريقة الوحيدة للرجوع عن
غيِّه هو تصحيحه. · الحقيقة ترجمة: محمد
علي عبد الجليل مراجعة: ديمتري
أڤييرينوس [1]
تعبِّر
"الأصولية" intégrisme عن موقف فكريٍّ متعصب لدى بعض
المؤمنين الذين يرفضون، من خلال تمسكهم
بـ"أصول" دينهم، كل تطور
ويأبون مجاراة الحياة الاجتماعية الحديثة
باسم احترام متصلب للعقائد الدينية
أو الإيديولوجية. (المترجم) [2]
ألا
يمكن اعتبار المسيح رجل قطيعة بامتياز؟
فقد كانت
تعاليمُه قطيعةً مع إيديولوجيا العنف: "سمعتُم
أنه قيل: عينٌ
بعينٍ وسِنٌّ بسن. أما أنا فأقول لكم: لا
تقاوموا الشر، بل مَن
لطمكَ على خدك الأيمن فحوِّلْ له الآخر
أيضًا. ومَن
أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له
الرداءَ أيضًا. ومن سخَّركَ ميلاً واحدًا
فاذهب معه اثنين. سمعتم أنه قيل: تحبُّ
قريبك وتبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم:
أحِبوا أعداءكم، بارِكوا لاعنيكم، أحسنوا
إلى مبغضيكم وصلُّوا
لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم." (إنجيل متى
5) كما أن مشهد المرأة الزانية خير شاهد على
قطيعته مع شريعة موسى السائدة: "وقالوا
له: يا معلِّم، هذه المرأة ضُبِطَتْ وهي
تزني. وقد أوصانا موسى في شريعته بإعدام
أمثالها رَجْمًا بالحجارة، فما قولك أنت؟
سألوه ذلك لكي يُحرِجوه فيجدوا تهمةً
يحاكمونه بها. أما هو فانحنى وبدأ يكتب
بإصبعه على الأرض. ولكنهم ألحُّوا عليه
بالسؤال، فاعتدل وقال لهم: مَن
كان منكم بلا خطيئة فليرمِها أولاً بحجر."
(إنجيل يوحنا
8) وقد ورد في القرآن الكريم
فيما يخص القطيعة: "مَن كان يظنُّ أنْ لن
ينصرَه الله في الدنيا والآخرة فليمددْ
بسببٍ إلى السماء ثم ليقطعْ، فلينظرْ
هل يُذهِبَنَّ كيدُه ما يَغيظ" (الحج
15).
وتشير هذه الآيةُ، بالمعنى الصوفي وخلافًا
للتفسير التقليدي، إلى أن مَن يعتقد أن
الله لن يكونَ معه – سواء
في أمرٍ دنيوي أم أخروي –
فليُقِمْ صِلةً مع السماء (الروحانيات)،
ثم فليُحدِثْ
قطيعة
مع كل ما جعلَه "يظن أنْ لن ينصرَه
الله"
ومع "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"،
ثم لينظر بعد ذلك هل زال بذلك غيظُه.
فالإنسان الروحاني، بحسب الآية، هو من يَصِلُ
(مع السماء)
ويقطع (مع الأرض)،
فتصبح "مملكته ليست من هذا العالم". (المترجم)
|
|
|