|
الحقيقة إنسانٌ يصرُّ
جهرًا على "امتلاكه" الحقيقةَ إنسانٌ
خَطِر. إذ إنه لا يتوانى عن الإغارة على
الضلال وعن مطاردة الكافرين والزنادقة
والمرتدين. فالإنسان الآخر الذي لا يفكر على
شاكلته هو عدوه حتمًا: فهو ضال وتجب هدايتُه؛
وإذا رفض الاقتناع، يجب إكراهه على ذلك. عندما
تتجمد الحقيقة في معرفة عقائدية dogmatique
تصير عامل تفرقة ونزاع وإقصاء وعنف[1].
فالإيديولوجي العَلماني والأصولي الديني
يشنَّان المعركة التفتيشية[2]
نفسها ضد المنحرفين والضالين والمنشقين
والخونة؛ فكلاهما لا يتورع عن اللجوء إلى
العنف لإحقاق الحقيقة. بذا تصير الحقيقةُ
لاإنسانيةً وقاتلة: يقتل الإنسانُ باسم
الحقيقة. إن
الإيديولوجي والأصولي، في الواقع، هما
اللذان يضِلان وينحرفان. إذ إن حقيقة الإنسان
لا يُكوِّنها مذهبٌ عقائدي يصير سلاحًا لقتال
الآخرين من البشر. إنها، قبل كلِّ شيء، محل
لبحث وتقبُّل لطلب. تكمن الحقيقة في حكمة
عملية تتطلب إعمال العقل والإرادة لبناء
علاقة مع البشر الآخرين، عِبْرَ النزاعات
نفسها، على أساس الاحترام وحسن النوايا. ومثل
هذه العلاقة تستبعد كلَّ سوء نية وكلَّ عنف.
إن الإنسان، في طلبه للحقيقة، يصطدم بشكوك
كثيرة. لكنه، حتى دون أن يعرف الحقيقة، يتعلم
ما هو نقيض الحقيقة: عكس الحقيقة هو العنف
الذي يبرِّح بالإنسانية. وبهذا المعنى، يؤسس
اللاعنفُ حقيقةَ الإنسان؛ وهذه الحقيقة، ما
من أحد يجوز له أن يزعم "امتلاكها"، بل
ليس لأحد سوى الاجتهاد للتقرب منها. ما
إن تُتصوَّر الحقيقةُ وتُدرَك كإيديولوجيا
موجودة خارج الإنسان حتى تصير العلاقة التي
يقيمها الفرد مع الحقيقة كالعلاقة التي
يعقدها مع غرض تمامًا. إذ ذاك يمتلكها كمن
يحتفظ بشيء في حوزته؛ يعدُّ نفسَه مالكًا
الحقيقةَ، فيأخذ على عاتقه واجبَ الدفاع عنها
كمن يدافع عن ملك له. وهو لن يتورع عن اللجوء
إلى العنف، بل القتلُ إذا لزم الأمر، دفاعًا
عن الحقيقة. الحقيقةُ
ليست خارجةً عن الإنسان. فهي توجد في علاقة
الإنسان الحقة مع الإنسان الآخر، أيًّا
كان، وإن كان عدوًّا. وهذه الحقيقة تتأسس على
الاعتراف بالإنسانية في كلِّ إنسان وعلى
احترامها. فهي تريد أن تؤكد نفسها مع
الخصم وليس ضده. وبهذا المعنى، يصنع اللاعنف
انقلابًا في البحث عن الحقيقة. إن حقيقة
اللاعنف تكابَد، تُعاش، وتُبنى ضمن مجتمع
البشر. وهذه الحقيقة هي فكر وعمل لا تنفصم
عراه: الفكر يوجِّه العمل، والعملُ يمتحن
سداد الفكر. وعلى
العكس من حقيقة إيديولوجية تتمثل في منظومة
أفكار مجردة منغلقة على نفسها، محتجَزة بوضع
اليد، وتزعم حيازة تفسير العالم، فإن
اللاعنف، في جوهره، مطلب روحي، فريضة
وخبرة روحيتان. فما إن تصير الحقيقة في نظرنا
فكرةً مجردةً نضفي عليها طابعًا مطلقًا حتى
نكون قد دخلنا في منطق عنفي. فإذا كان ادِّعاء
اللاعنف لا يهادن، فلأن مهادنة العنف القاتل
تبدو له متعذرة؛ وإذا بدا اللاعنف لا يطيق
العنف، فلأن العنف في الواقع لا يطاق. إذ كيف
تجوز شرعنة اللجوء إلى العنف دفاعًا عن
الحقيقة إذا عرفنا أن كلَّ عنف يجرِّح
الإنسانية ويبرِّح بها؟ – إنسانيةَ مَن
يتكبد العنف، وأكثر من ذلك إنسانية مَن
يمارسه أيضًا. العنف شديد الواقعية، فعلي،
ملموس، موضوعي في مواقف عديدة، وقد يظهر
أحيانًا ضروريًّا، لكنه مع ذلك ليس حقيقيًّا
أبدًا. فهو يزيف العلاقةَ مع الآخر دومًا. بذا
فإن حقيقة اللاعنف مانعة: إنها تمنع أيةَ خطوة
فكرية تهدف إلى شرعنة قتل الإنسان وإلى تبرئة
القاتل. ولكن في الوقت الذي يرفض الإنسانُ
اللاعنفي أيَّ تنازُل عقلي على صعيد الفكر،
قد يضطر إلى قبول تسوية على صعيد العمل. وفي
هذا المجال، يكون مجردًا من كلِّ يقين عملي.
فالعمل لا يفتأ يدعو إلى التحلِّي بأكبر قدر
من التواضع. يجب
محبة الإنسانية أكثر من الحقيقة. وهذا يعني أن
الحقيقة تبدأ بمحبة الإنسانية. فالتاريخ هنا
يشهد – والخبرةُ تؤكد على ذلك كلَّ يوم – أن
"الحقيقة" تصير حاملاً للعنف بمجرد أن
تَتَمَطْلق [تتخذ صفة الإطلاق] sʼabsolutise ولا تترسَّخ في فريضة
اللاعنف. فإذا لم تقضِ الحقيقةُ بنزع شرعية
العنف من الجذور، ستأتي لا محالة لحظةٌ يظهر
فيها العنفُ بالطبع كوسيلة شرعية للدفاع عن
الحقيقة. يتيح الاعتراف بفريضة اللاعنف رفضَ
الوهم بتاتًا، ذلك الوهم الذي تحمله
الإيديولوجياتُ وجميع الخطابات التي
يستوحيها المنطقُ السليم منحرفًا والحماقةُ
مستشريةً، وهم أن من الضروري والعادل اللجوءَ
إلى العنف دفاعًا عن الحقيقة. إن اللجوء إلى
العنف يعني قولاً واحدًا اتخاذ موقع لا يمكن
للحقيقة أن تكون فيه. ندَّعي خدمةَ "الحقيقة"
والدفاع عنها بالعنف، ولكنَّ "الحقيقة"
هي التي تخدم العنف وتدافع عنه في واقع الأمر.
وفي هذا التحالف الشاذ، يكون ما يتعزَّز هو
العنف، لا الحقيقة. كل شيء يجري وكأن الحقيقة
هي التي تحكم لصالح العنف، بحيث يبدو العنف
نفسه حقيقيًّا. فالعنف ينتصر سلفًا ويفرض
نظامَه مادام حاصلاً على تواطؤ الإنسان
فكريًّا. أما في الواقع، فـالعنف ضلالة؛
وضالٌّ كل مذهب يزعم تبرير العنف، أي جعل
العنف حقًّا للإنسان. فالعنف يعيق سيرورات
الحقيقة التي يمكن لها أن تُخلَق بين البشر. كثيرًا
ما يجري الكلام على "قوة الحقيقة". فماذا
يمكن أن يكون معنى هذه العبارة؟ يتستر العنف
بالكذب دومًا ويتذرَّع به؛ إنه يحتاج إلى
پروپاغاندا تفيد مبررًا له لدى مَن يريد
العنفُ أن يضعهم تحت تصرُّفه. إن ما يصنع قوةَ
العنف هو طاعة الذين يخدمونه للأكاذيب التي
يلفِّقها للظهور بمظهر جميل ولضمان سطوته على
الأذهان. فجوهر إيديولوجيا العنف هو الكذب.
وأول فعل مقاومة يتصدى به الإنسان الحر هو رفض
التواطؤ مع الكذب والاجتهاد للحياة في
الحقيقة[3].
قوةُ الحقيقة أنها قادرة على فضح كذب العنف؛
وبذا فهي تُضعِفه سلفًا. إذْ إن المنشق،
بجرأته على قول الحقيقة، يفتح ثغرةً في الطوق
التوتاليتاري للعنف. ليس من العبث أبدًا "قول
الحق". فالقول الحق ينطق به إنسان حر يتصادى
في ضمائر مَن يعيشون في الكذب، حتى من حيث لا
يدرون، وربما أيقظ رغبتهم المكبوتة في حياة
كريمة. لكن
الحقيقة لا تستطيع إكراه مَن يوصد عقله،
مطلِقًا العنان لرغبة العنف لديه. إن قوة
الحقيقة قوة بطيئة لا يمكن لها من فورها وقف
قوة العنف الوحشية. لذا ينبغي، في النزاعات
الاجتماعية والسياسية، أن تُعبِّر الحقيقةُ
عن نفسها من خلال العمل. عندئذٍ، تشق الحقيقة
لنفسها طريقًا عبر قوة العمل الحقيقي، أي
قوة العمل العَدْل، سواء في غايته أم في
وسائله. فقوة الإكراه لا تكون سوى ثمرة العمل،
وفعاليةُ العمل مشروطة دائمًا، لا يقين فيها،
محدودة، نسبية. مع ذلك، حتى عندما تبلغ فعالية
العمل اللاعنفي أقصى حدودها، لا يعني ذلك أن
العنف يستعيد حقوقَه، بل تبقى فريضة اللاعنف
حقيقية. فحتى وإن بدا العنف ضروريًّا، لا يعني
هذا أنه شرعي. الضرورة لا تساوي الشرعية. تجرؤ
الفلسفة على التأكيد بأن اللاعنف هو التعبير
عن حقيقة الإنسان، وعلى التأكيد بالعمل على
العالمي في الإنسان. وبتحقيق الإنسان فريضةَ
اللاعنف في حياته يحقق إنسانيته حقًّا بصفته
كائنًا عاقلاً، ذا ضمير، روحانيًّا. · الأصولية · الفلسفة ترجمة: محمد
علي عبد الجليل [1]
ورد في كتاب أغنية
الطائر لأنطوني دو مِللو أن الشيطان ذهب مرة في نزهة مع
صديق له،
فأبصرا رجلاً يلتقط شيئًا من على الأرض. فسأل
الصديق: "ماذا وجد هذا الرجل؟" فقال
الشيطان: "قطعة حقيقة." فسأل
الصديق: "أفلا يزعجك ذلك؟" فأجابه
الشيطان: "لا، فسوف أدعه يجعل منها معتقَدًا."
فالمعتقَد والعقيدة والعقدة والتعقيد لها
جميعها الجذر نفسه، وهو الفعل الثلاثي "عقد"،
وفيه معنى التجميد والتكثيف؛ يقال: عَقَدَ
السائلُ، أي غلُظَ وجَمُدَ بالتبريد أو
التسخين، وتعقَّد الدبسُ ونحوه: غلُظَ وصار
كثيفًا. والعقيدة هي الحُكْم أو الرأي الذي
لا يُقبَل الشكُّ فيه لدى معتقِديه؛ بينما
تعني كلمة dogme الفرنسية (المشتقة من
اليونانية dogma) الرأي أو الاعتقاد.
(المترجم) [2]
نسبة إلى "محاكم التفتيش" inquisition
الكنسية التي كانت تجري في العصور الوسطى
للتفتيش عن سلامة اعتقاد المتهَمين
بالهرطقة. (المدقِّق) [3]
تؤكد
الإيديولوجيات الدينية نظريًّا على رفض
التواطؤ مع الكذب. فقد جاء في الأثر
الإسلامي: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث
كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمِنَ خان."
وورد في القرآن: "إنما يفتري الكذبَ
الذين لا
يؤمنون بآيات الله وأولئك
هم الكاذبون" (النحل 105). كما جاء في
الحديث: "سأل الصحابةُ رسولَ الله:
المسلم
يسرق؟ قال: نعم. فقالوا:
المسلم يزني؟ قال: نعم. قالوا: المسلم
يكذب؟ قال: لا، المسلم لا يكذب." (المترجم)
|
|
|