|
العدوانية يمكن للإنسان
أن يصير كائنًا عقلانيًّا rationnel، لكنه أولاً كائن غرائزي instinctuel وبواعثي pulsionnel. تشكِّل الغرائز حزمة من الطاقات. عندما
تكون هذه الحزمة معقودةً عقدًا جيدًا فإنها
تُهَيكِلُ شخصيةَ الفرد وتوحِّدها؛ أما
عندما تنحل فإن بنية الفرد بكاملها تفقد
هيكليتها ووحدتها. والعدوانية هي إحدى هذه
الطاقات؛ فهي، كالنار، قد تكون نافعةً أو
ضارة، هدامةً أو خلاقة. لذا فإن الغضب الذي
يمكن له أن يستبد بالفرد بأن يُفقِدَه كلَّ
سيطرة على نفسه هو شطط في العدوانية. الغضب هو
الانفعال الذي نستشعره عندما تُعرقَل
مشاريعُنا على حين غَرة أو عندما نصطدم
بالواقع أو يعترينا شعورٌ عميق بالظلم. من هنا
فإن سيادة المرء على غضبه وتحكُّمه به وتحويل
العدوانية التي ينطوي عليها إلى طاقة بنَّاءة
هي من علامات فطنة انفعالية حقيقية. العدوانية
قدرة على القتالية وعلى توكيد الذات الذي هو
من مكونات الشخصية. فهي تتيح مجابهة الآخر من
غير تهرُّب. أن تكون عدوانيًّا يعني أن تؤكد
ذاتك أمام الآخر بـ"السير نحوه". وبالفعل
فإن أصل فعل "العدوان" agresser من
كلمة aggredi
اللاتينية، المشتقة بدورها من
كلمة ad-gradi التي تعني "مشى نحو" أو "تقدم نحو"[1].
ولا يكون الفعل "اعتدى" agresser
بمعنى "مشى ضد" إلا بمعنى اشتقاقي: وهذا
مردُّه إلى أنه في الحرب يصبح معنى "مشى نحو
العدو" هو "مشى ضده" أي هاجَمَه. كذا
فإن فعل "اعتدى" a-gresser
لا ينطوي، في اشتقاقه، على عنف أكثر من فعل
"تقدم" pro-gresser الذي يعني "مشى إلى الأمام". فإظهارُ
العدوانية يعني قبول النزاع مع الآخر برفض
الخضوع لقانونه. من دون عدوانية أكون على
الدوام متهربًا من التهديدات التي يتوعدني
بها الآخرون؛ ومن دون عدوانية أكون عاجزًا عن
التغلب على الخوف الذي يشلُّني بمنعه إياي من
مصارعة خصمي والكفاح من أجل حَمْلِه على
الاعتراف بحقوقي واحترامها. فمن أجل "الذهاب
إلى الآخر" ينبغي إظهار الجرأة والشجاعة،
لأنه ذهابٌ إلى المجهول ومُضيٌّ إلى المغامرة. وفي الواقع،
تكون السلبية أمام الظلم موقفًا أشيع من
العنف. إن قدرة البشر على الاستكانة أكبر
بكثير من قدرتهم على التمرد. كذا فإن إحدى
أولى مهمات العمل اللاعنفي هي "استنفار" mobiliser أي "تحريك" أولئك المكابدين الظلمَ
لإيقاظ عدوانيتهم استعدادًا للصراع ولإثارة
النزاع. عندما يخضع العبدُ لسيده لا يكون نزاع
ثمة؛ فعلى العكس، يتوطد عندئذٍ "النظام"
ويسود "السلام الاجتماعي"، دون أن يبادر
أحد أو شيء إلى التشكيك فيهما. لا يقع النزاع
إلا اعتبارًا من اللحظة التي يُبدي فيها
العبدُ ما يكفي من العدوانية من أجل "التقدم
نحو" s’avancer vers
(ad-gradi) سيدِه
والاجتراء على مواجهته والمطالبة بحقوقه. يستلزم
اللاعنف من المرء، قبل كلِّ شيء، أن يكون
قادرًا على العدوانية. وبهذا المعنى، يجب
التأكيد على أن اللاعنف نقيضُ السلبية
والاستكانة أكثر منه نقيضًا للعنف. على الفرد
ألا يكبتَ عدوانيتَه، بل أن يتقبلها
ويستأنسها بحيث تصير قوةً خلاقة. وبالمثل،
على العمل اللاعنفي الجماعي أن يتيح توجيه
العدوانية الطبيعية للأفراد بحيث لا تعبِّر
عن نفسها عبر وسائل العنف الهدام التي تستجلب
المزيد من العنف والمظالم، لكنْ عبر وسائل
عادلة وسِلْمية من شأنها بناء مجتمع أعدل
وأكثر سلامًا. ليس العنف، في الواقع، سوى
انحراف للعدوانية. · الصراع · العنف · النزاع ترجمة:
محمد علي عبد الجليل مراجعة:
ديمتري أفييرينوس
[1] نلاحظ أن كلمة "عدوانية"
في العربية مشتقة هي الأخرى من الأصل
الثلاثي "عدا"، أي جرى أو أسرع في
السير؛ يقال: عدا عليه عَداءً وعدوانًا، أي
"ظلَمَه". ويبدو أن درجة العنف التي
ينطوي عليها الفعل الثلاثي العربي "عدا"
(لِما يحمله من معنى السرعة) أعلى من درجة
العنف المتضمَّنة في الفعل الفرنسي agresser الذي يحمل فقط معنى "المشي
نحو الآخر أو ضده". (المترجم)
|
|
|