|
النور المنقطع النظير لتعليم كريشنامورتي[1]
لن أستطيع أن أجزل الشكر للمسؤولين عن جمعية "علم ووعي" الثقافية على تشريفهم لي بدعوتي إلى التكلم في هذا المكان. كما أود أن أعرب عن امتناني الحار لجميع الذين تفضلوا عليَّ بالمجيء للاستماع إليَّ هنا. * أتمنَّى من كلِّ قلبي ألا يكون الاجتماع الحالي اجتماعًا دنيويًّا – لحظة "لهو" – بل مناسبة ينتهزها كل منَّا لكي يكتشف ذاته ويتحول تحولاً حقيقيًّا، وذلك في قرن يقود جهلُ البشر بأنفسهم هؤلاء البشر إلى ألوان من العنف والكَرَب تفوق الوصف، وتعجز فيه أنواعُ المثالية جميعًا – دينية كانت أم فلسفية، اجتماعية أم سياسية – عن توفير أيِّ دواء حقيقي لها. * إذا كنتُ، بعد إلحاح مؤثر، قبلتُ أن آتي لأكلِّمكم هنا، فهذا بالدرجة الأولى لكي أحيِّي على كريشنامورتي – حامل ذاك التعليم الذي أحسب أنه أعظم تعليم عرفه عالمُنا حتى الآن – تعليم أصررت على أهميته في رسالتي الأخيرة إلى كريشنامورتي، المؤرخة في 5 شباط 1986، التي وجَّهتُها إليه قبيل وفاته، وكان، على ما قيل لي، مسرورًا باستلامها. وسوف أستخلص منها السطور التالية من أجلكم: كما قلتُ في كلمة الإهداء التي كتبتُها إكرامًا لكَ على كتابي الأخير، كان تعليمُكَ في نظري – وسيبقى – أعظم نور في حياتي. كنَّا نعرف أية قيمة تعلِّقها على هذا التعليم وبأية شجاعة عملتَ على نشره في العالم قاطبة عبر كلِّ المحاضرات التي كنت تلقيها بخصوصه. لذا فإنني وزوجتي نتمنى من كلِّ قلبنا أن يتمَّ كل شيء، فيما يخصك ويخص رسالتك، على أفضل ما يُرام. ومهما حصل، يمكن لي أن أؤكد لك بأني، مادامت لي القوة، سوف أعمل على التعريف بتعليمك وعلى نشره – هذا التعليم الذي أحسب أنه أروع التعاليم التي عرفها عالمُنا وأكثرها إنسانية. ولسوف أفعل كلَّ ما بوسعي حتى يحتفظ بشكله الأرقى والأنقى؛ حتى لا تُشاد من أجله أيةُ كنيسة جديدة؛ حتى يبقى مجردًا من كلِّ مرجعية شخصية، كما ومن كلِّ انتماء إلى مجموعة ما، أية كانت: قومية، سياسية، اجتماعية، عرقية، "دينية"، أو سوى ذلك؛ حتى يحتفظ بنقائه وجماله الأصليين كاملين. * ظللت طوال حياتي – وسأظل – باحثًا متيمًا بالحقيقة، يقدِّر نوعية آراء الآخرين بأحسن ما في وسعه؛ كما أنني لست تلميذ أيِّ أحد ولا أحث أحدًا على التتلمُذ على أيِّ أحد، بِمَن فيهم أنا. * بعد أن اتفق لي أن أسمع بعضهم يُثْني على كريشنامورتي وأن أهتم بكتاباته الأولى، فقد تسنَّى لي أن أصغي إليه في العام 1930 في قاعة بلييل في باريس وأن ألتقي به من بعدُ. ومن غير أن أجعل نفسي من جراء ذلك تلميذًا له – كما يشهد على ذلك استهلالُ مؤلَّفي الأخير ثورة الحق: كريشنامورتي، – لم يَحُلْ ذلك بيني وبين تمييز الخاصية الخارقة والأصالة التي يتصف بهما كلامُه ومؤلَّفاته.
رونيه فويريه وزوجته فرانسين، 14/8/1988 (عدسة إيف بوسون) في العام 1936، إذ شغلني تصاعُد العنف ودنو الحرب العالمية، كان لي حديثٌ معه في أومِّن، في هولندا. وبعد ذلك بسنوات، اتفق لزوجتي ولي، منذ العام 1961، أن نحضر اجتماعات سانِن، في سويسرا، وكُلِّفتُ حتى ترجمةَ محاضراتٍ لكريشنامورتي من أجل المستمعين الناطقين بالفرنسية. كما أننا توفَّقنا إلى الذهاب إلى بروكوود بارك، في إنكلترا، على مقربة من ساوثامبتون، الأمر الذي سمح لنا باكتشاف مدرسة كريشنامورتي المُنشأة في هذا المكان. * وقد حظيتُ بعلاقة صداقة ومودة مع كريشنامورتي. ويبدو أنه قدَّر كتاباتي في خصوصه؛ إذ إنه هو الذي أعطى لموريس فريدمان، أحد المستمعين المقرَّبين إليه، واحدًا من مؤلَّفاتي الصغيرة، كريشنامورتي: الرجل وفكره، الذي كنت قد أهديتُه نسخة منه. وهذا المؤلَّف، الذي ترجمه موريس فريدمان إلى الإنكليزية بعنوان كريشنامورتي: الرجل وتعليمه، هو الذي صدر عن دار تشيتانا في بومباي في ثماني طبعات متواليات. * غير أن الأهم في نظري ليس الإنسان كريشنامورتي، بل رسالته. ولعل بعضكم يعرفون حياته ورسالته. لكني، من أجل المستمعين الآخرين، سوف ألخِّصهما تلخيصًا موجزًا، مذكِّرًا أولاً بالدور، الهام وغير المتوقَّع على حدٍّ سواء، الذي لعبتْه الجمعيةُ الثيوصوفية في تقديم كريشنامورتي إلى العالم – الجمعيةُ عينها التي أتى موريس ماغر على ذكرها في صورة بديعة في كتابه سحرة ومتنوِّرون. * أسَّستْ الجمعية في نيويورك في 8 أيلول 1875 هيلينا بتروفنا بلافاتسكيا – تلك المرأة المدهشة، المغامِرة التي تكاد أن تكون مستكشِفة، ومصنِّفة المؤلَّفات الضخمة الحافلة بالوثائق، والتي كانت، على ما بدا، تتمتع بمَلَكات خارقة للعادة – و"الكولونيل" هنري ستيل أولكوت، الذي كان شديد الشغف بالأرواحية وبالغيبيات. وكانت هذه الجمعية قد اتخذتْ هدفًا رئيسيًّا لها أن تنشر في العالم نوعًا من تأليف، يمكن له أن يُعَدَّ مقبولاً، للتعاليم النقلية للروحانية الهندية (هندوسية، بوذية، إلخ)، كما ولتعاليم هذه "الأخوية البيضاء" الكبرى التي كان يُفترَض أن ينتمي إليها هؤلاء "النطساء" الذين يُدعى بعضهم "سادة" أو "مهاتماوات". وبحسب العقيدة الثيوصوفية التي نادت بها بلافاتسكيا وأولكوت وخلفاؤهما، فإن النفوس الإنسانية، المعلَّقة كاللآلئ بـ"خيوط حياة" خاصة بها، تتقمَّص إبان أعمار عديدة بمقتضى كرما، أو "قانون جزاء الأفعال"، الذي يجبرها على استنفادٍ تدريجيٍّ للرصيد المنحوس لأفعالها السابقة، حتى اللحظة التي تبلغ فيها، إذ تكون سدَّدتْ ديونَها كافة وانعتقتْ من الرغبات كلِّها، هذه الحالةَ من التحقق الأرفع، هذا الفناءَ عن كلِّ وعي أناني بالذات الذي يسمِّيه البوذيون نيرفانا. فبحسب الثيوصوفيين، لا تستطيع بلوغَ أوج المغامرة الإنسانية هذا – هذا الانعتاق من "عجلة الولادات" – إلا "أنيَّات" التزمتْ بالسير على "درب المريدية"، وصارت، في خاتمة محنتها، من النطساء، وانضمت، بحكم ذلك، إلى الأخوية البيضاء الكبرى. وفوق هؤلاء "السادة" الذين تكلَّم عليهم الثيوصوفيون، كان يوجد، من بين أرواح مهيبة أخرى، الرب مَيْتريا، المعلِّم العالمي الذي يُماهى بينه وبين البودهيساتفا، أو البوذا المقبل. * لقد ساهمت الجمعية الثيوصوفية في الهند، المستعمَرة البريطانية آنذاك، في إحياء التعاليم النقلية وكانت وسيطًا فعالاً لنشرها في العالم قاطبة؛ كما كان لها دورٌ في التحرر السياسي للهند. فمن نيويورك، كانت قد هاجرت إلى الهند، مقيمةً في أديار مقرَّها العالمي، الذي أضحى مجمَّعًا واسعًا من الأبنية. عندما ظهر كريشنامورتي، كانت تترأس الجمعيةَ الثيوصوفية آني بيزانت، التي كانت قد ساهمت في تأسيس حزب العمال الإنكليزي، وتتمتع بصيت دولي، وتشارك متحمِّسةً في البعث الثقافي للثقافة الهندية وفي حركة تحرير البلاد. وكان "معاونها" تشارلز وبستر ليدبيتر، الذي كان يساعدها في مهماتها، يؤكد، مثله في ذلك مثل الرئيسة نفسها، أنه موهوبٌ ملَكاتٍ خارقةً للعوائد. وكلاهما كان يجزم أنه قادر على "الاجتماع" في الغيب بهؤلاء السادة الذين جئتُ على ذكرهم والذين، إذ عُرِفَ عنهم تحلِّيهم بقدرات روحية رفيعة، بشَّروهما بمجيء وشيكٍ بيننا للربِّ مَيْتريا، ذلك المعلِّم العالمي الذي، شأنه في ذلك شأن البوذا أو يسوع، سوف يعلِّم البشر، وسط تشويش القرن، طريقَ النور والخلاص. ولنضفْ أن آني بيزانت لم تتردَّد في التبليغ علنًا عن هذه النبوءة. *** ولد كريشنامورتي في 11 أيار 1895 في قُرَيَّة مدنبلِّي، على مبعدة حوالى 200 كم عن مدينة مدراس. اسم عائلته جِدُّو، لكنه، كما يقضي العرف، عُرِفَ باسمه الشخصي كريشنامورتي.[2] وبحسب رأي المحيطين به، ولاسيما والده ناريانياه، كان معروفًا، على الرغم من جماله، بكونه ولدًا متخلفًا، يعدم أيَّ بريق عقلي. لكن هذا لم يحلْ بينه وبين أن يكون، في أسرته الكبيرة، راصدًا للطبيعة خارق الانتباه. أما شقيقه الأصغر نيتيانندا فكان متيقظًا ومتوثبًا بمقدار ما كان كريشنامورتي يبدو شارد الذهن، حالمًا. توفيت إحدى شقيقات كريشنامورتي وهي في العشرين، ثم ما لبثت أمه سانجيفامَّا أن توفيت في كانون الأول من العام 1905، الأمر الذي كان أسوأ المِحَن التي كابدتْها الأسرة، بحيث إن ناريانياه، الذي كان ثيوصوفيًّا، خطرتْ بباله – وهو في شِدَّته، وفي حين لم يعد يتقاضى إلا نصف راتب – فكرةُ أن يستنجد آني بيزانت، رئيسة الجمعية الثيوصوفية. وقد لقي في النهاية أذنًا مصغية، وجاء، مع مَن تبقى من عياله، ليقيم في كوخ ريفي خَرِب في أديار، خارج سور المقر العام للجمعية الثيوصوفية. وهكذا كان من عادة كريشنامورتي ونيتيانندا، كما والأطفال الآخرين المقيمين على مقربة من المجمَّع الثيوصوفي، أن ينزلوا إلى الشاطئ المجاور المحاذي لنهر أديار. * وفي إحدى الأمسيات، ذهب ليدبيتر، العائد إلى أديار بعد طول غياب في أوروبا، للسباحة على هذا الشاطئ مع كاتِمَي سرِّه، وفيما كان عائدًا إلى "الطِرْز المثمَّن الزوايا" للمقرِّ العام، قال لأحدهما[3] إن واحدًا من الصبية على الشاطئ "كان ذا هالة هي الأروع بين الهالات التي شاهدها، من دون أدنى أثر فيها للأنانية". * وبخصوص مصطلح "هالة"، لا بدَّ لي من أن أدقق بأنه، بحسب الثيوصوفيين، الذين يتوافقون في هذه النقطة مع المنقول الهندي، يمتلك الإنسان، بالإضافة إلى جسمه المادي المرئي عادة، "أجسامًا" أخرى، منسوجة من مواد أرق، متداخلة ويتخلَّل بعضُها بعضًا. وهذه "الأجسام"، المتمركزة حول الجسم المادي، تتوضع على مرتبة أخرى من الرصد؛ وأشكالها، و"الهالات" النورانية التي تشع منها، لا يدركها إلا أفراد تستيقظ استثنائيًّا لديهم حواس أدق وأكثر طلاقة من الحواس التي اعتدنا على استعمالها. وهذه اليقظة يمكن لها أن تكون طبيعية أو أن يحرِّضها تدريبٌ ملائم. ولقد اندهش كاتمُ السر الذي أسرَّ إليه ليدبيتر بالكلام المنقول اندهاشًا كبيرًا من انطباق هذا الكلام على كريشنامورتي، الذي بدا له بليد الذهن جدًّا؛ لكن ليدبيتر لم يتردد في القول إن هذا الصبي سوف يصير "معلمًا روحيًّا وخطيبًا مفوهًا"، وأنه سيكون "أعظم بكثير" من آني بيزانت! بذا فإن المسؤول الحقيقي عن مغامرة كريشنامورتي الخارقة تلك كان، من منظار بشري، ليدبيتر، وليدبيتر وحده، كما أقرَّت بذلك آني بيزانت نفسها في رسالة وجَّهتْها إلى معاونها في 18 شباط 1915. * قَبِلَ كريشنامورتي في البداية تقمصَ الدور الذي خُصِّص له والخضوع، في إطار المؤسَّسة التي سُمِّيتْ "أخوية نجمة الشرق"، للتدريب الذي هيَّأه ليصير التجسد الحي للربِّ مَيْتريا، ذلك المعلِّم العالمي الذي سماه كريشنامورتي "الحبيب" أو "المعشوق". لكن كريشنامورتي، وقد حوَّله موتُ شقيقه نيتيانندا، الذي وقع في العام 1925 وأثَّر فيه بالغ التأثير، توصَّل إلى حال من الإشراق الداخلي جعلتْه يقول إنه قد بلغ الانعتاق. لكن هذا لم يَحُلْ في العام 1929 بينه وبين أن يدبج دفاعًا مهيبًا عن الشك، وفي خطابه المرموق في حلِّ أخوية نجمة الشرق، الذي ألقاه في أومِّن في العام نفسه، أن ينبذ جملةً التنظيماتِ والطقوسَ التي كانت تتم فيها. *** أود أن أقدِّم لكم في هذه الأمسية بضعة جوانب من تعليم كريشنامورتي. وهذا التعليم الأصيل، الذي قد يبدو محيِّرًا في نظر عدد من المستمعين، يبقى في نظري، وفي حدود ما أعلم، أكثر التعاليم التي عرفها كوكبُنا حتى الآن إنسانيةً وعظمة. وإني لأحسبه نوعًا من الذروة الروحية التي لم يتم بلوغها من قبلُ قط والتي، إذ تقوم على أسُس نفسانية يمكن التحقق من صحتها، من شأنها أن تحرِّض فينا، من غير أدنى عنف ولا أدنى التماس لتوجيهِ مرجعية خارجية – بما فيها مرجعية كريشنامورتي نفسه، – تحولاً غير متوقَّع، يؤثر في مجالات حياتنا كافة. * أظنني أستطيع أن أقول إن تعليم كريشنامورتي لا يستهدف هداية مَن يطَّلعون عليه إلى نظرة إلى العالم سَبَقَ أن صاغها أو كان يصوغها ويريد أن يحملهم على اعتناقها. كان تعليمُه يهدف، بالأحرى، إلى إطلاق سيرورة اكتشاف ذاتي لدى قرائه والمستمعين إليه – سيرورة استيعاء للذات – تكشف لهم كشفًا حقيقيًّا عن شرطهم الحالي القابل للتحقق من صحته، جاعلاً إياهم يدركون، في الوقت نفسه، كلَّ ما كان من طبيعته، في استعداداتهم الفطرية أو المكتسبة، أن يبلبل وأن يفسد تصوراتهم عن العالم وعن أنفسهم – ناهيك عن كونه يكشف لهم أن في مقدورهم، صوابًا، أن يشكِّكوا، لا بل أن يزيلوا هذا المفهوم المتجذِّر عن وجود منفصل، الذي رُبِطوا إليه ووجدوا أنفسهم محكومين بالسجن المؤبَّد فيه؛ وأنهم ليسوا في الواقع غير مظاهر فريدة، مشخَّصة تشخيصًا مفتعَلاً، لوعي أوحد وكلِّي، يبدو أنه المنبع العميق للتجلِّيات الفردية للوعي كافة، القابلة الإدراك وللرصد. * إن كريشنامورتي لا يطلب منَّا أن نصير شيئًا لسنا إياه ويصفه هو لنا، بل – وهذا مختلف تمامًا! – أن نستوعي ما نحن إياه، في السرَّاء والضرَّاء، في ضوء اللوامع التي يطرحها علينا، أو الإشارات التي يعطينا إياها حول أنجع الطرق لرصد أنفسنا – الأمر الذي يعني أن موقف كريشنامورتي موقف ثوري بحق بالقياس إلى مواقف غالبية "المعلِّمين" الروحيين للديانات المنظمة. *** إن القول بأن كريشنامورتي كان نسيجًا وحده، بأن تعليمه لم يكن يشبه أيَّ تعليم سواه، ليس من قبيل الغلوِّ غير المبرَّر، الناطق عن الهوى، أو تذلل الكاتب للشخص المعني [...]، بل هو واقع لا جدال فيه بنظر كلِّ باحث نزيه. لقد وُجِدَ دومًا، على كلِّ حال، أناسٌ كانوا، في زمانهم، مبدعي رؤيا كبرى عن العالم فاتت أسلافهم. ولكي أشدِّد على أهمية كريشنامورتي الإنسانية، سأقول إنه كان، على حدِّ علمي، "أول إنسان كوكبي"، كما كتبتُ في غير مكان، وإنه كان إنسانًا فريدًا من نوعه، وإن تعليمه لم يشبه أيَّ تعليم سواه. * لقد كان تعليم كريشنامورتي، من حيث الجوهر، معروفًا منذ أمد طويل، وكان في الإمكان الاعتقاد بأن محاضراته المتتالية لم تكن، عامًا بعد عام، شأنها في ذلك شأن كتاباته، غير تكرارات متكافئة، مع شيء من التلاوين المتباينة. قد يكون هذا صحيحًا بمعنى من المعني، لكن كريشنامورتي كان يتمتع بالقدرة، فجأة، على تكثيف نظراته السابقة حول الموضوع نفسه في صياغة مختصرة ونيِّرة. وهذا القطرات النورانية اللامعة تنتثر في لحمة هذه "التكرارات" في الموضوع التي تشكِّل نسيج محاضراته أو كتاباته المتتالية وتوضحها توضيحًا موفقًا للغاية. لكلِّ مستمع أو قارئ، على كلِّ حال، صورتُه الذهنية الخاصة، ويمكن للطريقة التي تُعرَض فيها له الأشياءُ أن تكون ذات أهمية كبيرة في خصوص فهمه الممكن لها. فقد يتفق له ألا يفقه على الفور ما يقال له في صورة معينة أو في كيفية معينة من كيفيات التقديم، وقد ينكشف له المعنى فجأة انكشافًا باهرًا بفضل كيفية أخرى. كذا فإذا كانت الموضوعات الجوهرية لمحاضرات كريشنامورتي تتكرر سنة بعد سنة، فهذا لا يقلِّل من نبضها بالحياة؛ إذ كانت كيفية تقديم المسائل المطروحة تتنوع، في صورة عامة، من سنة لأخرى. فعلاوة على المختصرات المضيئة التي تكلَّمتُ عليها لتوِّي، والتي كانت تتناول نقاطًا معينة، فإن هذا التغيير في تقديم هذه المسائل نفسها كان يضفي على هذه التكرارات الظاهرية قيمة كاشفة في نظر قراء أو مستمعين عديدين. * كان كريشنامورتي يمتنع عن أن يكون مرجعية أو يقدم نفسه كمرجعية، في أيِّ مجال كان – وقد كان محقًّا في ذلك. فالمرء، حتى دون أن يكون متحررًا[4]، حالما يفهم طبيعة تعليمه، فإنه لا يعود متَّكلاً على شخصه. فتعليمه كان، بالفعل، وصفًا "موضوعيًّا"، لاشخصيًّا، لما نحن إياه؛ لما يمكن لنا أن نكتشفه في أنفسنا إذا وافقنا على رصد أنفسنا رصدًا منتبهًا من دون أية أحكام مسبقة؛ إذا استطعنا أن نلقي على أنفسنا نظرة جديدة، غير ملوثة وغير مشروطة. إن صعوبة فهم تعليمه ليست شيئًا آخر غير صعوبة تعلُّمنا رصد ما نحن إياه رصدًا دقيقًا غير منحاز. وهي صعوبة ليست باليسيرة لأننا، منذ طفولتنا، تمرَّسنا على رصد أنفسنا بنظرة الآخرين، وهذا المراس يعود إلى زمن قديم جدًّا! وقد اكتسبناه بمقدار من الثقة والامتنان البريء يجعلنا نظن أنه من الطبيعي للغاية، حين يكون الذهن صحيحًا، أن نفكر كما نفعل، وأن نرى ما نرى! – ونحن على ما نحن من عدم وعيٍ بوجود هذه الشاشة الحاذقة، القديمة جدًّا، المقحَمة بين نظرنا وبين الموضوع، الخارجي أو الداخلي، الذي يتوضع عليها. قطعًا، قد يحدث لنا مرارًا أن نغير آراءنا إبان حياتنا؛ لكن هذا، في أغلب الحالات، ليس إلا تغييرًا في الشاشة. بينما تتطلب إزاحةُ الشاشات كلِّها ورؤية ما يُتاح لنا أن نراه من غير تحوير شجاعةً نادرة أو نفاذَ بصيرة نادر، وذلك حتى نتوصل إلى استيعاء حقيقي لما ندركه. * ففي نوع من العدوى الطبيعية لما يحصل، صوابًا، في المجال التقني، تؤول الحالُ بنا، على الصعيد النفساني، في مجال الوعي، إلى القول بأن المختلف منفصل – وهذا ليس صحيحًا حتى في النطاق العضوي. ولكن، كما قال كريشنامورتي في خلوة شخصية لي معه: "نحن مختلفون، لكننا لسنا منفصلين." *** إن كريشنامورتي، فيما هو يقول لنا ما نحن إياه، لا يقصد أن يكون لنا مرجعية محرِّضة أو مُلزِمة، بل فرصةٌ لاكتشاف حرٍّ للذات، لـ"انكشاف ذاتي". فهو أبعد ما يكون عن أن يعلِّمنا على غرار الذين ما انفكوا يحاولون إقناعنا بأننا كيانات خالدة في الجوهر، حتى وإن كانت تعزِّز فينا الوَهْمَ المثبِّط للعزيمة بأننا آيلون إلى موت أو إلى فناء محتوم ونهائي. وهو موت يرعبهم – رعبًا فظيعًا أحيانًا. وهذا الرعب هو الخوف من فنائهم هُم إذا انكشف لهم عجزُهم، إبان حياتهم، عن تجاوُز خطر هذا الموت – الذي سيأتي ويذوِّب وجودهم الجسماني، – وذلك بأن يعتلوا هذا النوع من السَّند الميتافيزيائي المسمَّى بـ"النَّفْس" الذي يُعتبَر خالدًا، غير قابل للهلاك. ويمكن لإله، فائق الوصف وغير منظور، أن يكون أصل الخلود ومبدأه، ويصير، في نظرهم، السَّندَ الأبدي لخلودهم. وهناك معلمون، وكهنة من مختلف الكنائس، يزعمون بأن في إمكانهم أن يكشفوا لهم سرَّ الرياضات الأخلاقية والاستعدادات الروحية هذه التي تضمن لهم نجاتهم الأبدية. وهؤلاء المعلِّمون، هؤلاء الكهنة، يحثونهم على أن يقوموا، من أجل خلاصهم، بالاستعدادات الداخلية التي ينصحون بها ويصفونها لهم كلها، وبأن يتماهوا مع هذا النموذج، مع هذه الصورة عن أنفسهم التي يعرضونها عليهم اعتبارًا من كشوفٍ يكون هؤلاء الكهنة، هؤلاء القديسون، نقليًّا أو عجائبيًّا، المؤتمنين عليها والمستفيدين منها المفضَّلين. وفي هذه الشروط، يجتهد المستمعون لهؤلاء المعلِّمين الروحيين في اتباع إرشاداتهم. وهم يدأبون على تكييف أنفسهم – ربما من غير أن يفهموا أنفسهم! – بحيث يمتثلون للنموذج، للصورة عن أنفسهم، المقدَّمة لهم، لكيلا نقول المفروضة عليهم تحت طائلة الويل والثبور! وهُمْ، من غير أن يكونوا واثقين من أنهم لن ينخدعوا بمغزى ما هو فَرْض عليهم وبطبيعته – إذ إنه المسلك "الروحي" المفروض عليهم، – لن يألوا جهدًا في فَرْضه على أنفسهم، ليس من غير أن يظلوا واثقين وثوقًا مبهمًا من أنهم، حين يبلغونه، سوف يحافظون على هذا الشعور بالهوية المتميزة والمستقلة التي يحسبونها – من غير أن يكونوا في الغالب قد سبروها عمقيًّا – خاصةً بهم ومسؤولةً عن هويتهم الشخصية وعن واقعيتهم. * على العكس من هؤلاء الكهنة والمعلِّمين المرفوعين إلى مصاف القديسين الأبرار، لم يكن كريشنامورتي يطلب من المستمعين إليه أو من قرَّائه أن يتشبهوا بصورة عن أنفسهم قد يقترحها عليهم، أو أن ينسخوها، بل كان يكتفي بأن يهيب بهم في حرارة أن يستوعوا فوضاهم الداخلية الفعلية الخاصة، تشويشهم، تناقضاتهم، بأن يتنبَّهوا إلى التهافت الصارخ واللاإنسانية الأساسية – على كونها محسوبة في عداد الأعراض السليمة! – في سلوكهم الفعلي. لم يكن يطلب منهم أن يتنمذجوا بحسب امرئ آخر أو بحسب صورةٍ ما تُضفى عليها القداسة، بل أن يستوعوا ما يحول بينهم وبين اكتشاف ما هم عليه بالفعل وأسلوب حياتهم، غير المعقول غالبًا، والفظاظات المحتملة التي ينطوي عليها سلوكُهم المبتذل – هذا السلوك الذي قادتْهم إليه معرفتُهم الضعيفة بأنفسهم والثقةُ التي أوْلوها، منذ طفولتهم، خطأً أو صوابًا، للَّذين حسبوهم مرشديهم الشرعيين والمؤهَّلين. لا بدَّ لهم – مرة أخرى – من أن يستوعوا مجموع هذه التناقضات غير الملحوظة، التي فاتهم أن ينتبهوا إليها والتي كانت "تربيتُهم"، من حيث لا يدرون، قد نكبتْ بها وعيَهم، حائلةً بينهم وبين التفطن إلى السفاهات، المحسوبة سليمةً، التي أصيبت بها محاكمتُهم وسلوكُهم. * لا سبيل إلى المقارنة مطلقًا بين كيفية التربية الاعتيادية وبين الكيفية التي يمكن لنا أن نستخلصها من التعليم الذي يقدِّمه كريشنامورتي: فالأولى هي منشأ مجهود – قد يتبيَّن أنه غير مثمر – يرمي إلى اكتشاف ما لسنا إياه وما نُصِحَ لنا أو طُلِبَ منَّا أن نصيره؛ بينما الثاني ينصح لنا ببحثٍ يرمي إلى تحريرنا من جميع الصور عن أنفسنا، المتناقضة غالبًا، التي جعلونا نصدِّقها – وإنْ كان ذلك بقلب سليم وعن حسن نية. إنه بحث يرمي إلى أن نكتشف في أنفسنا، من غير ظلِّ وعيد، ما نحن إياه حقًّا، من غير انحياز ولا اهتمام منَّا بالتماهي مع نماذج، مفروضة أو مُفَهْرَسَة، تقدَّم لنا بوصفها ضرورات حيوية، يكون من المعيب علينا ومن الخطر على غيرنا، على ما يقال لنا، أن نتملَّص منها. وإلى ذلك، يُنصَح لنا، في إطار هذا البحث، أن نكتشف جميع أخطاء التأويل التي ينزع ذهنُنا إلى ارتكابها بسبب "التربية" التي تلقَّاها والتي تحرِّم عليه استيعاءً أصيلاً وكاملاً للشروط التي يقبع فيها. كريشنامورتي لم يُرِدْ، إذن، أن يفرض علينا نموذجًا من اختياره، بل أراد أن يجعلنا نستوعي عبثية النماذج، القاسية غالبًا، التي نشأنا على اتِّباعها منذ طفولتنا. إنه يفجر لدى الذين يودون الاستماع إليه في وضوح تام، وبانتباههم كلِّه، اللامعقولية، والتناقضات غير المحسوسة، والقسوة المعذِّبة، واللاإنسانية. إنه لم يأمرنا بشيء، بل اكتفى بأن يسلِّط ضوءًا جديدًا، متقدًا، كاشفًا، ومحرِّرًا، على ما فعلتْه البشرية بهذا العالم الذي تعيش فيه، وعلى أغلاط الرصد والتأويل التي يمكن لنا أن نرتكبها.[5] * الموت، بحسب كريشنامورتي، ليس نقيض الحياة، ولا هو بنفيها أو دمارها، بل هو واحد من المظاهر الأونطولوجية، الوجودية، لحضور أفرادٍ على هذا الكوكب واعين بذواتهم بوصفهم كيانات "ناشطة ذاتيًّا"، تتصف بخاصية توليد حركاتها بذاتها.[6] وكريشنامورتي ما كان لينظر إلى الموت بالأحرى إلا كمظهر منيع من مظاهر ما نسمِّيه عمومًا الحياة، أو كطور من أطوارها.[7] * ليس هناك في أيِّ مكان حياة من دون موت ما. فالحياة والموت مظهران متواليان وغير منفصلين من مظاهر حضور الكائن، أيًّا كان، ومن المظاهر المكوِّنة لكلِّ كائن متفرِّد. الموت لا يتميز من الحياة من حيث الأساس، بل هو بالحري مكوِّن بنيوي من مكوِّناتها. فعلى سُلَّم الأفراد النشطين ليس ثمة حياة من دون شكل ما من أشكال الموت. وهذا الأخير ليس، على صعيد الوعي، نفيًا للحياة، بل هو مكوِّن جوهري وحتمي من مكوِّناتها. الموت بنظر كريشنامورتي ليس، كما أسلفنا، وهمًا من أوهام الحياة؛ فكلاهما غير قابل للتصور من دون الآخر، أكان ذلك سطحيًّا أم عمقيًّا. إنهما غير منفصلين وغير قابلين للتفكيك. ووعي الحاضر هو، في آنٍ معًا، الغياب الشكلاني والاستعمال اللاواعي للماضي – المتعرَّف إليهما بما هما كذلك، ثم المستبعَدان بعد استعمالهما أو عدمه. *** مهما كان كريشنامورتي مؤثرًا، فقد انصبَّ اهتمامي على تعليمه أكثر منه عليه إنسانًا. فالإنسان مائت لا محالة، شأننا جميعًا، لكن تعليمه هو الذي سيبقى. من هنا كان من الخطر دومًا الاهتمام بالإنسان أكثر منه بالنور الذي جاء به؛ وكريشنامورتي قال لنا ذلك في صورة بديعة:[8] حين سيموت كريشنامورتي – الأمر الذي لا مفرَّ منه – سوف تشكِّلون دينًا وتضعون قواعد، لأن كريشنامورتي كان في نظركم تمثيلاً للحقيقة؛ سوف تشيدون معبدًا وسوف تنصرفون فيه إلى الاحتفاء بالشعائر؛ سوف تبتكرون عبارات، عقائد، منظومات معتقَدية، قوانين إيمانية، فلسفات. فإذا أقمتم أُسُسكم عليَّ – الشخصية الفانية – صرتُم مساجين هذا المقام، هذا المعبد، وسيقتضي الأمرُ أن يأتيكم معلِّم جديد لكي ينتزعكم منه، لكي يخلِّصكم من هذه المحدودية ويطلق سراحكم؛ غير أن الذهن البشري مصنوع بحيث إنكم سوف تشيدون معبدًا آخر من حوله، وذلك سوف يستمر إلى ما لانهاية. * توفي كريشنامورتي في 17 شباط 1986 في أوهاي (كاليفورنيا) ليس بعيدًا عن لوس أنجيلس، وأغلب الظن أن الناس لن يتفطنوا إلى الخاصية الدرامية لهذه الوفاة، لمغزاها، ولأهميتها الإنسانية الهائلة. على الرغم من شبه الصمت، المحزن نوعًا ما، للصحافة الفرنسية صبيحة موت كريشنامورتي – باستثناء المقال الكبير الذي نُشِرَ في صحيفة Libération بتوقيع بيير مانجتو، الذي زارنا قبل أن يكتبه – أصبح كريشنامورتي وجيهًا روحيًّا دوليًّا كبيرًا. فالصحافة البريطانية لم تلزم الصمت بخصوصه، ولا الصحافة الهندية بخاصة – وهذا أضعف الإيمان! فبالفعل، إذ اطلعتُ على مضمون قصاصات صحف بريطانية تحمل مقالات كُتِبَتْ صبيحة وفاة كريشنامورتي، تبيَّن لي أن صحيفة The Guardian نشرتْ في عددها الصادر في 19 شباط، تحت عنوان "مسافر حكيم في بلاد بلا دروب"، مقالاً لـو.ج. وثربي، كان المقطع الأول منه ينص على هذه العبارات: بكت الهند بالأمس واحدًا من أكابر فلاسفتها في القرن العشرين، جِدُّو كريشنامورتي، الذي مات بالسرطان في كاليفورنيا عن عمر يناهز الـ90 عامًا. وقد صرَّح رئيس الوزراء راجيف غاندي: "لقد أفقر موتُه بلادَنا والعالم." لقد أسعدني جدًّا أن أعرف أن رئيس الوزراء الهندي قد أبدى مثل هذا التبصر بخصوص كريشنامورتي؛ وإني لعظيم الامتنان له، كونه قد تجرَّأ على أن يشارك العالمَ كلَّه رأيَه الرائع. أما نائب رئيس الهند، ر. فنكاتارامان، فقد خصَّص للمتوفَّى مقالاً طويلاً ومؤثرًا. وجدير بالذكر أيضًا أن والدة راجيف، إنديرا غاندي، رئيسة وزراء الهند السابقة، محضتْ كريشنامورتي، حتى اغتيالها المفجع، أعمق الصداقة والاحترام. ولنُشِرْ كذلك إلى أنه في العام 1987 أصدرتْ إدارةُ البريد الهندية، تذكارًا لكريشنامورتي، طابعًا بريديًّا يحمل صورته.
* أما في فرنسا، فإن موت كريشنامورتي لم يُعلَن إلا إعلانًا موجزًا للغاية، يوم الاثنين 17 شباط 1986، على موجات France-Inter في أخبار الساعة الثامنة مساءً؛ وهذا لم يتم إلا بفضل تدخل شخص مهتم بتعاليم المرحوم. ثم طلب منَّا جان إيف قصغة، المحرِّر في هذه الإذاعة نفسها، أن نشارك في برنامج حول كريشنامورتي، سُجِّل يوم الثلاثاء 4 آذار 1986 وبُثَّ يومَي الأربعاء 5 والخميس 6 آذار، في الساعة الثامنة مساءً في إطار برنامجه Les Boulevards de l’Étrange، بالتعاون مع مارتين جِبير. وجماعة وردة الصليب سجَّلوا كذلك برنامجًا حول الموضوع نفسه، على موجات Radio 3، بُثَّ مرات عديدة. كذلك برنامج Ici et Maintenant، الذي يُعِدُّه ويقدِّمه ديدييه دُهْ بليج، طلب منَّا أن نتكلَّم على كريشنامورتي أيضًا. وفي 17 شباط 1988، شاركنا مع أوفيلي غرولاد وتشالاي أونغر وماثيو في تكريم لكريشنامورتي. وقد ظهرت مقالات في مجلات مختلفة، من بينها العدد 1 من Le IIIe Millénaire (ربيع 1986)؛ ومجلة الجمعية الثيوصوفية في فرنسا Le Lotus Bleu، عدد 2 للعام 1987 (شباط) نشرتْ مقالاً ملحوظًا للرئيسة العالمية رادها بورنييه. أما مجلد موسوعة Encyclopædia Universalis للعام 1987 فقد نُشِرَتْ فيه، في قسم "حياة وشخصيات"، صفحة كبيرة عن كريشنامورتي. *** غير أن ما يهم اليوم فعلاً هو أن نحيا في أنفسنا هذا التعليم الروحي الذي جاء به كريشنامورتي بحرص شديد إلى عالمنا المبتلَى بكلِّ هذا التشويش والقسوة والحزن وأن ننشره من حولنا. إلا أن هذا لا يلغي أن الصوت الذي كان ينشر هذا التعليم الذي لا نظير له، وكان يستطيع أن يوضح جوانبه كلَّها ويدقِّقها – هذا الصوت قد سكت إلى الأبد. فكأن مكالمة قد انقطعتْ فجأة؛ وإذا بدتْ لنا فجأة نقطةٌ ما من نقاط رسالته غامضةً لن نستطيع بعد الآن أن نسأل شخصه مزيدًا من التوضيح. والحزن الذي قد ينجم عن ذلك ليس تمامًا من طبيعة أنانية. فإذا اعتقد المرءُ بأنه لا يمكن له أن يفعل من أجل العالم خيرًا من نشر الرسالة التي جعل كريشنامورتي من نفسه داعيةً لها فمن الطبيعي أن يجتهد في أن يكوِّن عنها أوضح رؤية ممكنة بأن يلتمس الشخص الذي نطق بها – حتى إذا كانت الرسالة التي نحن في صددها، إذ تأتي من مصدر أعلى منه، تستعير شخصه لكي تتجلَّى في العالم. وحال هذا العالم، كما سبق لنا أن قلنا، مُكرِبة للغاية: فليقرأ المرءُ الصحف وليستمع إلى الراديو، يكتشف في كلِّ مكان المناخ نفسه من العذاب والعنف والدمار، التقسيم نفسه للنوع البشري إلى عشائر خطيرة العدوانية، ظلام الذهن نفسه، الذي يتفشى بكلِّ قسوة في المشهدَ الذي تقدِّمه لنا الحياة. أعرف حقَّ المعرفة أن موت كريشنامورتي، مثله كمثل موت أيِّ كائن إنساني، كان محتمًا، وأن حياته، مهما كانت نفيسة للإنسانية، كانت بمقاييسنا حياةً مديدة جدًّا وناشطة حتى آخرها. لكن هذا لا يخفِّف من خسارة غيبته الهائلة للعالم، ولا يغيِّر من أن الذين استوعوا النور الذي لا نظير له الذي كان حضورُه ينشره بين ظهرانينا – بغضِّ النظر عن أية مركزية أنوية – لا يستطيعون ولن يستطيعوا أن يبتهجوا بموته. وحتى إذا اتفق لي أن أختبر حالاً بهذا القدر نفسه من خَرْقِ العادة وعدم التوقع – حالاً تركتْ فيَّ سمةً لا تمَّحى – فهذا لا يجعلني منعتقًا، ولست أزعم مطلقًا أنني كذلك. لكنني لست طالبًا لأحوال خارقة، ولم أكن أتوقع من كريشنامورتي أن يلقي بي عجائبيًّا في حال من هذه الأحوال. فأنا في الجوهر باحث عن الحقيقة، عن الوضوح، ليس بدافع طموح شخصي، لكنْ حبًّا بهذا الوضوح لأجل ذاته، لأجل جماله، لأجل كرمه، لأجل إنسانيته. لقد فعلت كلَّ ما بوسعي – وسأواصل في حماس فعل كلَّ ما بوسعي – لنشر تعليم كريشنامورتي هذا الذي هو، على ما أرى، النور الوحيد الذي بمقدوره أن يبدِّد، تدريجيًّا لكنْ في صورة فعالة، ظلام العالم الموحش كلَّه؛ لكن للمرء، كما لي، أن يأسف بالأوْلى لأن الناطق الأقدر به قد توارى. وهذا سببٌ إضافي – فيما أرى – كي لا نألو جهدًا لنشر كلِّ ما تمكنَّا من التقاطه من هذا التعليم من حولنا. *** أما وقد قدَّمتُ هذه النظرات، أود أن أكرِّر شكري للمسؤولين عن جمعية "علم ووعي" الثقافية، كما وللمستمعين، آملاً أن تكون آرائي قد جاءتْهم بشيء من الوضوح. وإني لممتنٌّ للحاضرين جميعًا على انتباههم. *** *** *** ترجمة: ديمتري أفييرينوس
كتب الكاتب الرئيسية - La Révolution du Réel — Krishnamurti, Éditions Le Courrier du Livre, Paris 1985. - Disciplines, ritualisme et spiritualité, Éditions de La Colombe, Paris 1960. - Du Temporel à l’Intemporel : Intelligence technique et conscience personnelle, Éditions Le Cercle du Livre, Paris 1960. - Krishnamurti, The Man and His Teaching, Chetana Ltd., Bombay 1952 (8e édition 1981). [1] محاضرة الثلاثاء 24 أيار 1988، جمعية "علم ووعي"، قاعة المؤتمرات، أجاكسيو؛ وقد خصَّ رونيه فويريه بها معابر. (المحرِّر) [2] في الأُسَر البرهمنية، كان "كريشنامورتي" هو الاسم الذي يُطلَق على الطفل الثامن الذَّكَر، تيمنًا بالتجسد الثامن، أو الـأفاتارا، المسمَّى كرشنا، للإله الهندي فشنو، أحد "أقانيم" الثالوث، تريمورتي. [3] هو إرنست وود، المؤلِّف المرموق في مجال اليوغا فيما بعد. (المحرِّر) [4] ولنذكِّر بأن الهنود يسمون مُكتي ("متحررًا") كلَّ فرد توصَّل إلى الانعتاق من سمسارا (دورة التجسدات) بتحقيقه أسمى مقامات الوعي الإنساني (سوتراتما في البوذية أو سمادهي اليوغا). [5] في ذهن الذين يقبلون الاستماع إلى كريشنامورتي أو قراءته في وضوح تام، ويُعمِلون لذلك انتباههم كلَّه، تفجِّر نظراتُه اللامعقولات، والتناقضات غير المظنون بوجودها، والقسوة المعذِّبة، واللاإنسانية المقنَّعة للنماذج المطروحة أو المفروضة. فهي تجعلهم يكتشفون أن العمل الحقيقي، العمل العفوي والفطين للكيان كلِّه، يستبعد هذه المحاكاة للنماذج، التي تصير خضوعًا لإيحاءات الآخرين أو لأوامرهم – خضوعًا نافيًا لامتلاء الكيان، لصدقه، لتناغمه. فالعمل وفقًا لنموذج ليس عملاً حقًّا، ليس تحقيقًا لامتلاء الكيان هذا، لهذا الاستغراق البصير، الكلِّي، في العمل المنجَز أو الذي هو قيد الإنجاز – وهو عمل لا يترك في الكيان مجالاً لأيِّ صدع أو تشقق أو صراع أو انقسام أو تحسُّر؛ عمل لا يُعمِل قبولاً لقاعدة شرعية وَضَعَها آخرون، بل هو الامتلاء العفوي للطاقة، الذي هو التعبير عن الزمن الحقيقي الأوحد: الحاضر. إذ ليس الأمس هو الذي يملي على اليوم، بل أن نكون ملء ما نحن إياه اليوم. والمرء لا يمتثل لإيحاء الآخرين، بل إن النور الداخلي هو الذي يصير فِعلاً في الحاضر. [6] راجع كتابي ثورة الحق: كريشنامورتي، 94، 2. [7] أنظر في هذا العدد الخاص: "كريشنامورتي لنفسه: من اليوميات الأخيرة"، وهو نص اليومية التي أملاها كريشنامورتي في 30 آذار 1984. (المحرِّر) [8] نُشِرَتْ هذه النظرات التي تفوَّه بها كريشنامورتي في 2 آب 1927 في أومِّن (هولندا) في كرَّاس بعنوان "من يأتي بالحقيقة؟". |
|
|