|
إضاءات
تعرضت الحداثة، منذ تبلورها التدريجي في التاريخ الحي وفي الفكر الأوروبي منذ القرن الخامس عشر الميلادي، لأعمق وأقسى أنواع النقد السياق الثقافي الألماني لدرجة يمكن معها القول بأن تاريخ تطور الحداثة هو في نفس الوقت تاريخ نقدها في هذا السياق. فكرة التواشج والتوازي بين تبلور الحداثة وبين نقدها هي إحدى أعمق الأفكار الفلسفية التي يطورها هابرماس في كتابه العمدة الخطاب الفلسفي للحداثة والتي ينبش أصولها لدى هيغل ويعمق النقاش فيها من خلال مساهمة فلاسفة ألمان معاصرين هم غيلين Gehlen وبلومنبرغ Blumenberg، وهي الفكرة التي عبر عنها هذا الأخير تعبيرًا فلسفيًا عميقًا هو "مشروعية العصور الحديثة". فكرة التلازم بين تبلور الحداثة وبين نقدها تجد تبريرها بل تستمد إلى حد ما صلاحيتها ومداها الدلالي من فكرة أسس مشروعية الحداثة. فهذه الأخيرة بعكس العصور التاريخية السابقة والبنيات الفكرية الحضارية السابقة لا تستمد مشروعيتها من الماضي ولا من أي نموذج سابق، ولا تتخذ معيارًا لها من أي تجربة تاريخية "إقليمية أو كونية" سابقة، بل تستمد مشروعيتها وحقها في الوجود من ذاتها، ومن الممكن، ومن المستقبل الذي لا يمنح أبدًا من الماضي حتى ولو لم يعلن القطيعة الصريحة معه.
قد يكون مستحيلاً أن أعود أدراجي إلى الوراء عبر ماضيَّ الذي مع ذلك أقبع فيه ويشكِّلني، وعبر التاريخ والزمن الذي يلتهم في طريقه كل شيء، حيث أبدأ من بداياتي واتنبه بيقظة شديدة لكل المنعرجات والدروب والأماكن والأغوار والسلط، وأرهن روحي وفكري وجسدي لمعرفة الحقيقة وتلمسها والقبض عليها حتى لا تنفلت منا، وأخلص نفسي، والعالم، من مآسي الأوهام والتيه الذي يكتسحنا ويقض مضجعنا، والجهل المطبق بما نحن فيه وعليه وبمن نكون ولماذا نحن كذلك، وما السرُّ في الوجود والموجود بهذا الشكل... كل الآلام والحروب والأمراض والمصائب التي تنخر جسد العالم، لا توازي في شيء ألم وجراح جهلنا بالحقيقة، بل إن هذه الآلام ستكف عن أن تكون كذلك إذا علمنا سرَّ الوجود وسببه والعوالم المحيطة بنا والأهداف المتوخاة من كل ما نعيشه. لماذا هي الحقيقة عصية على الظهور!؟ ما الذي يجعلها خفية!؟ ولأي سبب!؟ لماذا هذا العبث!؟ ولماذا هذا التحدي!؟
مقدمة لقد دعت الضرورة الموضوعية، في هذا الزمن العصيب، إلى طرح سلسلة من المناظرات المقارنة في ما تمكن عنونته بـمطابقات في التنظير اللساني، مناظراتٍ غايتها الوحيدة، من هذه الزاوية على الأقل، هي إلفات نظر القارئ إلى المدى الكبير الذي تتطابق فيه مجموعة من النظريات اللسانية العربية (في الماضي)، من طرف، مع مجموعة مقابلة من النظريات اللسانية الأمريكية والأوربية (في الحاضر)، من طرف آخر. وهكذا، ومن خلال التوكيد على الجوانب الأكثر فاعليةً من هذه النظريات، فيما يظهر، فإن الحاجة إلى البحث الجاد في الـمطابقات المعنية تغدو أكثرَ مَسيسًا حتى، في هذا الزمن الحَرِج، وبالأخصِّ حين يبلغ ذلك التوتُّرُ غيرُ المُراد بين المسمَّيَيْن زعمًا "الشرق" و"الغرب" منتهاه، وياللأسف! وينبغي التذكير هنا، مع ذلك، بألا يتمَّ النظرُ إلى مطابقاتٍ كهذه وكأنها أشكالٌ من التداعي الرومانسي المُكبَّل في إسار ذكرياتٍ حنينية أو حُنانية عن ماضٍ "جميل". الـمطابقاتُ المعنية محاولاتٌ جادَّةٌ في إقامة الدليل الملموس على أن ثمَّة تناغمًا لافتًا بين عقول فذَّةٍ (أنّى وُلدت) فيما طرحته من أفكار حول اللغة الإنسانية، تناغمًا جِدَّ قابل للصياغة (أو الصياغات) الحوارية بغية الردِّ على سائر أنواع المتعصِّبين تعصُّبًا دينيًّا، بثُلَلِهم البالية، أو على كافة أشكال المتحزِّبين تحزُّبًا سياسيًّا، بمؤسَّساتهم القذرة، تلك الثُّلَل أو المؤسَّسات التي ليس بوسع بقائها "المتناغم"، فيما يبدو، إلا أن يكونَ مرهونًا بذلك التمييز المتعمَّد والمتفكَّر فيه "عن رويَّةٍ" بين مبتنياتٍ استيهامية كما "الشرق" و"الغرب". وإن كان لابدَّ من بداءةِ بدءٍ، في هذا الصدد، فسوف تسعى أولى هذه المناظرات المقارنة إلى معالجة بضعةٍ من القضايا المتطابقة في التنظير اللساني عند كلٍّ من ابن خلدون (1332-1406) وتشومسكي (1928).
إنَّ الأنظمة اللاهوتية الطائفية الثلاثة قد غلَّبت النزعة التبجيلية والتعصبية على المسؤولية الفكرية والروحية... إنَّ تحمل مسؤولية روحية يعني بالنسبة إلى الروح البشرية أن تزود نفسها كل الوسائل، وأن تتموضع دائمًا داخل الشروط الضرورية والمناسبة من أجل أن تقاوم كل العمليات الهادفة إلى استلابها، واستعبادها، وبترها، وحرف إحدى ملكاتها أو أكثر من أجل تحقيق غاية مضادة لكرامة الشخص البشري. محمد أركون بعد غياب أحد رواد الحداثة العربية، الباحث المصري نصر حامد أبو زيد، قبل أشهر، ها هو رائد مشروع نقد العقل الإسلامي، المفكر الجزائري محمد أركون، يرحل وهو في عز عطائه وفي قلب معركة التجديد في الفكر الإسلامي، مما يشكل خسارة فادحة للساعين في العالمين العربي والإسلامي إلى الخروج من نفق التخلف والظلامية وولوج التنوير والتحديث المتعدد الجانب.
التشاؤم هو فرصة خلاصنا الوحيدة، والتفاؤل شكل من أشكال الغباء. أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه ينمُّ إما عن انعدام أي إحساس وإما عن بلاهة فظيعة. لستُ أقول إن كل شيء سلبي وقاتم، لكني أعني أن الأمور السلبية في العالم هي أكثر من أن نتجاهلها أو أن نغض الطرف عنها. يبدو لي خطأ جسيمًا أن نحتمل وجود الأمور السلبية بسبب بعض الإيجابيات المقابلة لها. هذه لا تشفع بتلك. لقد تحولت الديموقراطية إلى كاريكاتور خلال الأعوام الأخيرة، إلى مهزلة، إلى فقَّاعة صابون. أظنُّ أن الجميع بات يعلم أن هذه الصيغة فاشلة. يقال لنا باستمرار: الديموقراطية هي أهون الشرور، لكن "أهون الشرور" ليس بالحلِّ المرضي ولا الكافي، وتكرار تلك اللازمة مرادف لعملية غسيل للأدمغة، إذ إنه يمنع الناس من البحث عن بديل أفضل. الديموقراطية ليست نقطة وصول بل نقطة انطلاق، وقد مضت أعوام كثيرة على ولادتها من دون أن يتغيَّر فيها شيء إلى الأفضل، من دون أن يتوقف التلاعب الفاضح، المباشر أو غير المباشر، بالرأي العام، من دون أن يُشفى السياسيون من مرض الفساد والجشع وإخفاء المعلومات والخضوع الذليل للسلطة الاقتصادية.
تعرَّف القيم بأنها المعتقدات تجاه الوسائل والغايات وأشكال السلوك المفضلة لدى الناس، توجِّه مشاعرهم وتفكيرهم واختياراتهم، وتنظِّم علاقاتهم بالواقع والمؤسسات والآخرين، وتحدِّد هويتهم ومعنى وجودهم. بصيغة أدق تتصل القيم بنوعية السلوك المفضل وبمعنى الوجود وغاياته. ومن ثم، الحديث اليوم عن القيم هو حديث عن المعايير الواجب تحققها في كل فكر وسلوك إنسانيين، بحيث أصبح لا ينظر إلى الإنسان إلا انطلاقًا من القيم التي تسود حياته وسلوكاته الفردية والجماعية على السواء، والمتجسدة، رغم تعاليها، في سلوكه اليومي على شكل علاقة اجتماعية ما، أو ضمن مؤسسة ما، مما يعطي لحياته معنى، والقصد هنا "معنى إنسانيًا". وفي جميع الحالات والاحتمالات تشكِّل القيم معيارًا لنا يوجه سلوكنا، فنعتمده في عمليات إصدار الأحكام والمقارنة والتقويم والتسويغ والاختيار بين بدائل مختلفة في المناهج والوسائل والغايات. الشيء الذي حمل الفلاسفة والمفكرين على التمييز بين قيم–الوسيلة وقيم–الغاية؛ فالأولى هي مجرد معتقدات تفاضل بين سلوك وآخر، في حين الثانية هي التي تحدد لنا الغايات المثلى والتي نسعى إليها ونحقق بها وجودنا من مثل قيم: السلم، العدالة، الخلاص، الحكمة، المحبة، احترام الآخرين... إلخ.
|
|
|