حول غياب المفكر النقدي التنويري الكبير محمد أركون (1928 – 2010)
العقل الديني يتشكَّل في التاريخ وبه نجعل الإسلام في الحداثة والعصر

خالد غزال

 

إنَّ الأنظمة اللاهوتية الطائفية الثلاثة قد غلَّبت النزعة التبجيلية والتعصبية على المسؤولية الفكرية والروحية... إنَّ تحمل مسؤولية روحية يعني بالنسبة إلى الروح البشرية أن تزود نفسها كل الوسائل، وأن تتموضع دائمًا داخل الشروط الضرورية والمناسبة من أجل أن تقاوم كل العمليات الهادفة إلى استلابها، واستعبادها، وبترها، وحرف إحدى ملكاتها أو أكثر من أجل تحقيق غاية مضادة لكرامة الشخص البشري.

محمد أركون

بعد غياب أحد رواد الحداثة العربية، الباحث المصري نصر حامد أبو زيد، قبل أشهر، ها هو رائد مشروع نقد العقل الإسلامي، المفكر الجزائري محمد أركون، يرحل وهو في عز عطائه وفي قلب معركة التجديد في الفكر الإسلامي، مما يشكل خسارة فادحة للساعين في العالمين العربي والإسلامي إلى الخروج من نفق التخلف والظلامية وولوج التنوير والتحديث المتعدد الجانب.

يحتلُّ محمد أركون موقعًا مركزيًا في السجال الفكري والعقائدي مع الأصوليات الإسلامية وغير الإسلامية. فقد عمل منذ عقود على قراءة مختلفة ومغايرة للسائد للنص الديني والتراث الإسلامي، بحيث أعطى عنوانًا لمشروعه الفكري: نقد العقل الإسلامي. على غرار أمثاله من دارسي النص الديني والتراث، نال أركون نصيبه الكبير من التهجُّم الشخصي والفكري على أطروحاته، واتُّهم بالتكفير والزندقة والمروق عن الدين وتشويه سمعة الدين الإسلامي، وغيرها من التهم، وكان يمكن أن يناله الأذى الشخصي لو كان يعيش في البلدان العربية أو الإسلامية. أتاحت له إقامته في الغرب الكتابة بحرية وممارسة دوره النقدي والتحليلي من دون أن يشعر بهاجس الإعتداء الذي سيطاوله من الفتاوى التي ستصدر في حقه وتهدر دمه.

في تحديد العقل الإسلامي

في كتابه معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، قدَّم أركون تحديدًا لما يعتبره العقل الديني إجمالاً والإسلامي تحديدًا والمنطلقات التي يقوم عليها، تاليًا المعضلات التي ينتجها هذا العقل في ممارسة المسلم، فأشار إلى

أنَّ العقل الديني يحصر تساؤلاته وتحرِّياته وإنجازاته داخل الحدود المنصوص عليها من قبل ما يدعوه بظاهرة الوحي المسجَّلة في الكتب المقدسة: توراة، إنجيل، قرآن. وهي الكتب التي شكلتها الأمم المفسِّرة في الأديان الثلاثة على هيئة نصوص رسمية. (ص 56).

وأضاف مبيِّنًا مدى تأثير معطى الوحي على العقول:

لقد وجِّه وأخضع العقل اللاهوتي المؤسس في كل مجالات التمييز والمحاجة والإكتشافات والنص على جميع أنماط المعرفة ومستوياتها. وهكذا راحوا يقدِّمون الأحكام الأخلاقية – التشريعية التي تنظم علاقات البشر في المجتمع على أساس أنها تمثل التعبير الحقيقي لإرادة الله بالنسبة إلى مخلوقيه. لقد جعلوا الناس يتصورونها ويفهمونها ويستبطنونها ويطبقونها وكأنها تمثل فعلاً مشيئة الله. وهكذا راح الفكر اللاهوتي يبذل كل ما في وسعه لكي يحدِّد "عقلانيًا" الأسس الإلهية الموجهة لكل ما يفعله الإنسان. (ص 56).

إذا كان الفكر اللاهوتي في الأديان الثلاثة يملك قواسم مشتركة، إلا أنَّ ذلك لا يمنع وجود خصوصيات تتصل بمكان وزمان قيام كل دين واجتهادات الفقهاء في وضع التشريعات لما يفترضونه ظاهرة الوحي، خصوصًا عند بلورة هذا الفكر اللاهوتي في القانون الديني الذي يسمى بالشريعة. لقد عرف الإسلام هذه القوننة ووضع علماء الفقه أسسها وطاولت في محتواها أمورًا كثيرة تخص الإنسان في ممارسته العملية. وعلى رغم الانقسامات في الإسلام بين مذاهب وفرق، إلا أنَّ قواسم مشتركة ظلَّت تجمع بينها في الوجهة العامة للقضايا والموضوعات الخاصة بالأمور اللاهوتية والإنسانية المتمركزة حول الله، والتي يمكن اختصارها في النظر إلى

الله الحي، الخلاَّق الذي تجلَّى في التاريخ الأرضي للبشر مرات عدة عبر رسله وأنبيائه. وقد بلَّغ أوامره ونواهيه من طريق الوحي الذي نقل إلى الأمة المؤمنة التي تؤيد الذاكرة الحية لجميع التعاليم والأحداث المؤسسة للدين الحق. وأما المجتمع الأرضي فيقاد من قبل ممثلين لله على الأرض (أي الخليفة أو الإمام). وهم يسهرون على تطبيق الشريعة، أو القانون الإلهي، بدون أن يكون لهم الحق في تعديل أحكامها. وهذه الأحكام لا تهدف فقط إلى ترسيخ نظام العدل والتضامن في المجتمع، وإنما تهدف إلى شيء آخر أيضًا. فهي لا تتخذ كلَّ معانيها وأبعادها إلا إذا استنبطت وطبِّقت من قبل كل مؤمن، وذلك ضمن المنظور الأخروي للنجاة الأبدية في الدار الآخرة: أي العودة إلى الله. فكل شيء يأتي من الله، وكل شيء يعود إليه. وعندما أقول كل شيء فإني أقصد: العالم، التاريخ، الكائنات الحية. فالطبيعة مسكونة من قبل الله وموضوعة تحت تصرف الإنسان كمكان ووسيلة لتحقيق النجاة في الدار الآخرة. وهذا يعني أنَّ النجاة تتمثل بالمسار الأرضي الذي يؤدي بالضرورة إلى يوم الحساب، فالبعث والنشور، فالحياة الأبدية إما في دار الثواب وإما في دار العقاب، إما في الجنة وإما في النار. (ص58-59).

بعدما حدَّد المفاصل الرئيسية للعقل الديني، ومنه في القلب العقل الإسلامي، طرح أركون على امتداد كتاباته الواسعة عناصر مشروعه في نقد هذا العقل فرآه "مشروعًا تاريخيًا وأنتروبولوجيًا في آن واحد"، فهذا المشروع

لا يكتفي بمعلومات التاريخ الراوي المشير إلى أسماء وحوادث وأفكار وآثار دون أن يتساءل عن تاريخ المفهومات الأساسية المؤسسة كالدين والدولة والمجتمع والحقوق والحرام والحلال والمقدس والطبيعة والعقل والمخيال والضمير واللاشعور واللامعقول، والمعرفة القصصية (أي الأسطورية) والمعرفة التاريخية والمعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية. (أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟).

تكمن أهمية مشروع أركون في أنها تقوم على عملية النقد الشامل للنص الديني والتراث والممارسة التي نتجت منهما في ضوء ما هو جارٍ اليوم من فكر وفتاوى باتت تخلع القدسية على كل شيء في حياة الإنسان المسلم العادي وخصوصًا على الأشياء المادية الأكثر دنيوية ووسمها بصفة دينية بحيث يصبح نقدها مسًّا بالدين نفسه وبأصوله. في هذا المجال نظر أركون إلى أنَّ عملية نزع هذه القدسية عما هو غير مقدس تشكل أكبر عملية تحرير للعقل المسلم في زمننا المعاصر، وذلك من أجل أن يتمكن هذا الإنسان من التصالح مع نفسه أولاً وتاليًا مع الزمن الذي يحيا ضمنه.

                

في المنهج

انخرط أركون في قراءة النص الديني والتراث الإسلامي معتمدًا على منهج في القراءة يقوم على ربط الوثائق والنصوص بالمرحلة الزمنية التي كتبت فيها، ووصلها بتعيين طبيعة القوى الاجتماعية السائدة، والحركات الفكرية المتكوِّنة في تلك الفترة، مما عنى لديه أنَّ شرط نقد العقل الإسلامي يكون في استخدام هذه المنهجية التاريخية في التدقيق بكل المعطيات التاريخية. من هذا المنطلق أنكر أركون أن يكون العقل الإسلامي عقلاً أبديًا أو أزليًا، بل على العكس، إنَّ هذا العقل بنصوصه المؤسِّسة وبتطور التشريعات والاجتهادات التي نجمت عنه، هو بالتأكيد عقل له بداية كما له نهاية، أي باختصار هو "عقل يتشكَّل في التاريخ". وشدَّد أركون على التوجُّه الذي يجب أن يسلكه الباحث في التراث الإسلامي بحيث لا ينبغي له الاكتفاء بتجميع المعلومات والوقائع بمقدار ما يجب عليه الدخول في عملية تفكيكها لاستخلاص النتائج المرجوة منها. فتفكيك الظاهرة الإسلامية من طريق تطبيق القراءة التاريخية لها، هو الذي يمكنه أن يقدم إطارًا فعليًا لتحليل جميع أشكال الخطاب الإسلامي المعاصر على جميع مستوياته، وتأويلها، وهو وحده الذي يشكل عنصرًا حاسمًا في مقارعة الفكر الأصولي الذي يهيمن على المجتمعات العربية والإسلامية.

توصَّل أركون عبر دراساته إلى تعيين الحلقة المركزية في رأيه لمشكلة المجتمعات العربية والإسلامية، فرآها مجسمة في ضرورة "نقد العقل الإسلامي"، لأن العقل العربي نفسه لا يزال عقلاً دينيًا، كما أنَّ العقل اللاهوتي الموروث منذ مئات السنين لا يزال يهيمن على الثقافة الإسلامية والعربية على السواء. يزداد الأمر ملحاحية من خلال ما تقدمه المجتمعات العربية والإسلامية من خلع القدسية على الممارسات الأكثر دنيوية ومادية وتعيين الحلال والحرام فيها وفق اجتهادات لا حدود لها، بما فيها ربطها باسم الله والنبي من أجل أن تحظى بالمشروعية والقداسة المطلقة.

في قراءة القرآن

أولى أركون اهتمامًا خاصًا بقضية قراءة القرآن وبالوسائل التي استخدمت في توظيفه على امتداد التاريخ الإسلامي والعربي، فأشار إلى استخدام هذا النص في الصراعات الاجتماعية والسياسية بحيث عمدت كل فئة اجتماعية – تاريخية إلى فهمه وتفسيره بما يخدم أهدافها ومصالحها، بل كانت تلجأ إلى الدفاع عن مواقعها عبر الاحتماء بعلم الدين وهيبته المقدسة التي كانت لا تناقش ولا تمسُّ، فحوَّلته عقيدة خاصة انغلقت داخلها وأطلقت حكمها على سائر التأويلات فصنَّفتها في خانة الضلال والانحراف والكفر. انطلاقًا من هذه الوقائع يمكن تفسير نشوء الفرق الدينية في التاريخ الإسلامي التي يقال إنَّ عددها وصل إلى حدود السبعين فرقة.

        

شدَّد أركون على ضرورة التموضع في عصر القرآن والبيئة التي نشأ فيها لدى كل محاولة لقراءته وتفسيره وتأويله، وهو أمر يتطلَّب قبل كل شيء الابتعاد عن إسقاطات الحاضر ونظرياته والأيديولوجيات السائدة فيه. انتقد أركون في هذا المجال الوجهة التشريعية التي يصبح القرآن عندها مختزلاً إلى أسطورة وتاليًا إلى أيديولوجيا، فيما يتناول القرآن في جوهره الوضع البشري من حيث الكينونة والحب والحياة والموت:

ففي ما وراء المثال القرآني والإسلامي، فإنَّ هدف القراءة كلها هو المساهمة في تحرير المعرفة التاريخية من إطار القصة ومجرياتها من أجل جعلها تتوصل إلى وظيفة الكشف عن الرهانات الحقيقية للتاريخية. (القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص174).

في المخيال الديني

احتل موضوع المخيال الديني موقعًا مهمًا في مشروع أركون لنقد العقل الإسلامي، وهو في أطروحاته أتى بجديد فعليٍّ لم يكن معروفًا في الفكر العربي والإسلامي، إذ ركَّز على الأثر الذي يتركه المخيال الديني على المستويات التاريخية والسوسيولوجية والنفسية، وتكمن الخطورة في ما نشهده من استخدام الحركات الأصولية لهذا المخيال في وصفه أداة تتسم باللاعقلانية لكنها كفيلة بتجييش الجماهير. يبيِّن هذا المخيال كم أنَّ مشكلات زمننا الراهن تغور عميقًا في الماضي البعيد وتمتدُّ جذورها فيه، بحيث بات يصعب فهم هذا الحاضر وتشخيص معضلاته من دون الغوص عميقًا في تاريخنا، ذلك لأنَّ المظاهر والدلالات الخيالية تمثل حالة ذهنية وعقلية يصعب التشكيك في قوتها وكونها محركة أساسية وفعَّالة للتاريخ. حدَّد أركون فهمه لموضع المخيال والهدف من التركيز على أهميته بالقول:

عندما أقول المخيال، أو استخدم مصطلح المخيال، فإني لا أريد أن أفرِّغ نموذج العقلانية المستخدمة في كل تراث ديني من أيِّ وجهة نظر عقلانية. وإنما أريد بالأحرى إدخال مقولة أنتروبولوجية لكي أفسِّر كيف أنَّ تصور الوقائع، وكلَّ اللغات اللاحقة المستخدمة للدلالة على هذه الوقائع، قد نقل من إطار التحليل العقلاني إلى الدائرة الخيالية للتصورات العقلية والتصوُّر العاطفي. إنَّ الخيال، على طريقته، هو ملكة من ملكات المعرفة. إنَّ المخيال يساهم في هذه الفاعلية بصفته وعاء من الصور وقوة اجتماعية ضخمة تكمن مهمتها في إعادة تنشيط هذه الصور بصفتها حقائق رائعة، وقيمًا لا تناقش، تكون الجماعة مستعدة لتقديم التضحية العظمى من أجلها. إنَّ أعضاء الجماعة الذين ماتوا من أجل القيم المشتركة يصبحون شهداء ويضيفون بذلك أبعادًا تقديسيةً وتنزيهية إلى هذه القيم. وعبر هذه العملية التاريخية والاجتماعية والنفسانية تغتني الذاكرة الجماعية، ويمتحن المخيال الاجتماعي ويظل حيًا. (القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص29).

الإسلام بين الدين والدولة

تطرَّق أركون في سياق أبحاثه إلى قضية الدولة والدين في الإسلام وساجل الفكر الأصولي الذي يذهب إلى الإصرار على وحدة المجالين السياسي والديني، فأعطى أهمية للتفريق بين السلطة السياسية زمن النبي والاضطرار إلى وضع "تشريعات" مستجيبة حاجات محدَّدة يتطلَّبها الواقع، وبين إدعاءات الفقهاء لاحقًا بأنَّ النبي قد أسَّس دولة دينية استكمل الخلفاء الراشدون بناءها وتطويرها في ما بعد. لكن النقطة التي شدَّد عليها أركون، إضافة إلى رفضه مقولة الدولة الدينية، هي حاجة السلطة السياسية دومًا على امتداد التاريخ الإسلامي إلى إسباغ المشروعية الدينية على السلطة السياسية وقراراتها، واستخدام الوحي في سبيل ذلك.

                 

انطلقت مقولة أركون الأساسية من أنَّ الدين أُخضع إلى السياسة منذ التاريخ القديم وليس العكس،

فهذا الإخضاع الذي تعرض له العامل الديني من قبل العامل السياسي من خلال تجربة الأمويين لا ينبغي أن يخلط بذلك الخلط المنسوب للإسلام ما بين الروحي والزمني... ويمكننا القول إنه بعد موت النبي لم يتح للإسلام أن يحظى بالشروط المتميزة والممتازة نفسها التي كان يحظى بها سابقًا على مستويي التعبير الرمزي والسياسي. فمحمد كان يرسِّخ يومًا بعد يوم وللمرة الأولى نظامًا سياسيًا محددًا، ثم يركِّز قواعده وبشكل ناجح ومطابق على مجريات عملية الترميز. أقصد بذلك أنَّ كلَّ قرار قضائي – سياسي يتخذ من قبل النبي، كان يلقى مباشرة تسويغه الديني الرمزي وغائيته من خلال العلاقة المعاشة مع الله. (الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ص 63).

في قراءة الأصوليات

تخترق الأصولية، بما هي أيديولوجيا وممارسة في عوامل صعودها وازدهارها، كل كتابات أركون، فولج إلى دواخلها وحلَّل خطابها. لا ينفصل نشوء الأصولية عن الكيفية التي يلجأ إليها الفقهاء في قراءة النص الديني وإسباغ أصول إلهية على القانون المسمى "شريعة". تلجأ الأصولية الإسلامية إلى استخدام معظم المعجم الديني القديم بكل ما يحويه من طقوس ومبادئ دينية من أجل "خلع المشروعية على نشاطاتها السياسية ومعارضتها للأنظمة القائمة... مما يعني تحويل الدين أيديولوجيا سياسية يفقده روحانيته المتعالية". تستخدم الأصولية النص القرآني والحديث فتنتزعهما من سياقهما التاريخي وتعمد إلى اللجوء إلى الإسقاط على الواقع الراهن بما يخدم توجهاتها وأفكارها.

قدَّم أركون في كتابه الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الأصولي، قراءة مسهبة لتعيين العوامل الداخلية والخارجية لنشأة الأصولية الإسلامية، وأسباب هيمنة هذا الخطاب واتخاذه أبعادًا ضخمة تمكِّنه من تجييش ملايين المسلمين حوله، وخلق مناضلين سياسيين يعملون على نشره وتثقيف الناس به. فبالنسبة إلى العوامل الداخلية، رأى وجوب

أن نذكر أولاً التزايد الديموغرافي أو السكاني الهائل الذي حصل في وقت قصير جدًا ووسَّع بالتالي من القاعدة السوسيولوجية للأصوليين، أو قل وسَّع من القاعدة الشعبية للمخيال الاجتماعي المغذَّى من قبل الخطاب القومي للتحرير الوطني والمضاد للاستعمار أولاً، ثم من قبل الخطاب الأصولي الذي تلاه أو حلَّ محلَّه في السنوات الأخيرة. فهذا الخطاب الأصولي أراد تأسيس الهوية من جديد أو إعادة الاعتبار إليها بعدما خانتها "النخبة" المعلمنة التي حكمت البلاد بعد الاستقلال بحسب زعمه. (ص 223-224).

كما شدَّد على العوامل الخارجية التي اعتبرها عاملاً رئيسيًا في صعود الأصولية الإسلامية وانتشارها، فرأى

أنَّ الحداثة الاقتصادية والتكنولوجية الغربية تمارس ضغطًا مستمرًا على كل المجتمعات العربية والإسلامية التي لم يتح لها أن تساهم في تشكيل هذه الحداثة. (ص 225).

انجدلت هذه الأسباب بانهيار مشروع التحديث العربي، فتزايدت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفشلت أنظمة الاستقلال في الجواب عنها، يضاف إلى ذلك الهزائم القومية أمام إسرائيل وعودة الاستعمار إلى الاحتلال المباشر للأرض العربية، مما جعل الأصولية الإسلامية تسعى لملء الفراغ الذي تسبب به فشل سياسات الأنظمة، فقدَّم الإسلام السياسي نفسه بوصفه الحل والمنقذ والمخلِّص للأمة العربية والإسلامية، واقترح أفكاره التي اختلط فيها الدين بالسياسة في شكل واسع، وتقدَّم زعماء الحركات الأصولية بخطاب يعبِّر فعلاً عن الآمال الخائبة التي وعدت بها الأنظمة شعوبها، وعن الإحباط الذي أصاب الملايين من المسلمين والمقرون بالقمع والاضطهاد، في وقت تحتاج الملايين من القوى الشابة إلى أمل بخلاص وفرص عمل وحياة فيها حد من الاطمئنان لمستقبلها... لم يكن ذلك النجاح لانتشار الفكر الأصولي غريبًا عن طبيعة التطور الاجتماعي، فالمجتمع يقفل على الفكر الحر والنقدي عندما يهيمن عليه الفقر والهموم والأزمات المتعددة، بل ويفتح صدره للفكر الأصولي الموروث وما يحمله من غيبيات وأحلام وخيالات.

                 

لكن الخطاب الإسلامي الأصولي لم يكتف بالنظرية، بل كانت أهميته تكمن في الانتقال إلى وضعه موضع التطبيق، وهو أمر لا يتحقق من دون تسلم السلطة. اقترن الخطاب النظري بوجهة في الممارسة تستلهم فيها النص الديني الاصطفائي والرافض للآخر، مما عنى في كل مكان تمكنت فيه الأصولية من السلطة اتِّباع سياسة ديكتاتورية تمارس عبرها إلغاء الحياة السياسية ومنع سائر القوى من الفعل.

نحو علمنة منفتحة بعيدة عن الأدلجة

ناقش أركون قضية العلمنة من زوايا مختلفة عما درجت عليه أيديولوجيات لم تر في الطرح العلماني سوى قضية فصل الدين عن الدولة من جهة، أو في موقف سلبي من الدين نفسه. قدَّم مقاربات للعلمنة منفتحة وبعيدة عن الأدلجة أو الاختزالية، وساجل بقوة مع المشاريع العلمانية التي جرى تطبيقها في العالم العربي والأوروبي، وبيَّن السلبيات التي حوتها، واقترح بذلك على الفكر الإسلامي وجهة متوافقة من منطق نقد العقل الإسلامي وقابلة لأن تساهم في تحرُّر المجتمعات العربية والإسلامية إذا ما قيِّض لها التطبيق.

حدَّد أركون فهمه للعلمنة بأنها

موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة... والعلمنة هي شيء آخر أكبر بكثير من التقسيم القانوني للكفاءات بين الذرى المتعددة في المجتمع. إنها أولاً وقبل كل شيء مسألة تخص المعرفة ومسؤولية الروح (أي الروح البشرية، الإنسان). هنا تكمن العلمنة أساسًا وتفرض نفسها بشكل متساو وإجباري على الجميع. (العلمنة والدين، ص 10).

على امتداد أطروحاته حول العلمنة، أصرَّ أركون على ربطها بقضية الحرية وجعل المفهومين مترابطين، وشدَّد على رفض تحوُّل العلمنة إلى أيديولوجيا وظيفتها قولبة الفكر أو الحد من حريته. والعلمانية كما رآها هي أحد تجليات الحداثة في مرحلتها المتقدمة، حيث يتميَّز النظام العلماني باحترام الفرد وحرية الضمير، وضمان الحرية الدينية لجميع المواطنين من دون استثناء، إضافة إلى الاعتراف بالتعددية الدينية وبحرية الاعتقاد أو عدمه بما فيها الحق في تغيير الدين. كما أنَّ الدولة العلمانية هي دولة حيادية تقف فوق الجميع وتعاملهم على قدم المساواة أمام القانون، لكونهم يمتلكون الحقوق نفسها وتترتَّب عليهم الواجبات ذاتها أيضًا.

                 

في النظرة إلى الأديان

نجمت ضرورة العلمنة لدى أركون عن نظرة خاصة إلى الأديان التوحيدية وغير التوحيدية، وهي نظرة ترفض النظريات التي لا تعترف بموقع الدين الاجتماعي والروحي فتصل إلى نفي الدين واقتراح علمانية "صلبة" لا موقع فيها للبعد الروحي الذي يحتاجه الإنسان. قال في كتابه العلمنة والدين ما يأتي:

فالدين، أو الأديان، في مجتمع ما هي عبارة عن جذور. ولا ينبغي لنا هنا أن نفرِّق بين أديان الوثنية وأديان الوحي. فهذا التفريق أو التمييز هو عبارة عن مقولة تيولوجية تعسُّفية تفرض شبكتها الإدراكية أو رؤيتها علينا بشكل ثنوي. إنَّ النظرة العلمانية تعلن أنها تذهب إلى أعماق الأشياء، إلى الجذور من أجل تشكيل رؤيا أكثر صحة وعدلاً ودقة. ففي ما وراء التحديدات التيولوجية، نجد أنَّ كلَّ الأديان قد قدَّمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والإيضاحات، وإنما أيضًا الأجوبة العلمية القابلة للتطبيق والاستخدام مباشرة في ما يخص علاقتنا بالوجود والآخرين والمحيط الفيزيائي الذي يلفُّنا، بل وحتى الكون كله، وفي ما وراءه الدعوة "فوق طبيعة" أو خارقة للطبيعة، أي تلك التي تتجاوز الطبيعة المحسوسة والقابلة للملاحظة والعيان. (ص 23).

هل الإسلام مغلق على العلمانية؟

يستدعي السؤال ما هو أعمق ويتصل بقضية أعم: هل يستعصي الإسلام على الحداثة؟ لأنَّ العلمانية في تطورها التاريخي إنما كانت الابنة الشرعية للحداثة في أوروبا، بما هي مرحلة من التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحروب الدينية والصراعات بين الكنيسة والسلطة، ناهيك بالفكر الفلسفي المستند أساسًا إلى العقل الذي تولَّد خلال عصر الأنوار... كلها أنتجت العلمنة بما هي فصل للدين عن الدولة وتحرير الإنسان من سلطة الإله والغيبيات، إضافة إلى تحقيق الديموقراطية وسيادة القانون. السؤال أرَّق أركون فسعى إلى الإجابة عنه مستحضرًا التاريخ الإسلامي القديم والحديث، ساعيًا إلى رؤية الجانب الإيجابي وموضحًا المعوقات الرئيسية في هذا المجال.

في كتابه الإسلام والعلمنة، قال أركون:

إنَّ الإسلام في حد ذاته ليس مغلقًا في وجه العلمنة. ولكي يتوصل المسلمون إلى أبواب العلمنة فإنَّ عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والأيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم، ليس فقط بسبب رواسب تاريخهم الخاص بالذات، وإنما أيضًا بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي. وعليهم لكي يتوصلوا إلى ذلك أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الهجرية الأربعة الأولى. فالواقع أنه قد وجدت في أرض الإسلام بين القرنين الثاني والثالث للهجرة حركة من المثقفين يدعون بالمعتزلة. وقد اضطهدوا في ما بعد من قبل التاريخ الإسلامي نفسه... كان هؤلاء المفكرون قد عالجوا بعض المسائل الأساسية للساحة الفكرية التي تهمُّنا هنا، وذلك بسبب مرجعيتهم الثقافية المزدوجة والمتمثلة بظاهرة الوحي والفكر الإغريقي. فبالإضافة إلى دراستهم للوحي الإسلامي، فإنهم قد اهتموا أيضًا بذلك المحور الآخر للفكر، وتلك الممارسة الأخرى للعقل... لقد وصل الأمر بهؤلاء المفكرين إلى حد طرح مشكلة ما دعوه "القرآن المخلوق". إنَّ مجرد اعترافهم بأنَّ القرآن مخلوق يمثل موقفًا فريدًا تجاه ظاهرة الوحي، إنه يمثل موقف حداثة في عزِّ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. وكان هذا الموقف التيولوجي المبتكر الذي اتخذه المعتزلة يفتح حقلاً معرفيًا جديدًا قادرًا على توليد العقلانية التي شهدها الغرب الأوروبي بدءًا من القرن الثالث عشر، لولا معارضة الأرثوذكسية الظافرة في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي على يد الخليفة القادر. فالقول إنَّ القرآن مخلوق ليس مجرد كلام وإنما يعني إدخال بعد الثقافة واللغة في طرح المشكلة. وهما من صنع البشر لا من صنع الله. إنه يعني إدخالهما أو أخذهما في الاعتبار في ما يتعلق بالجهد المبذول لاستملاك الرسالة الموحى بها. وذلك يعني الاعتراف بمسؤولية العقل ومساهمته في جهد الاستملاك هذا. (ص 59-61).

مما لا شك فيه أنَّ الحركات الأصولية التي تتخذ من أركون موقفًا معاديًا، وتصب جام غضبها على المنهج التاريخي الذي استخدمه في قراءة التراث الديني الإسلامي، تدرك جيدًا أنَّ هذه القراءة سوف توصل آجلاً أم عاجلاً إلى مرحلة من التقدُّم يتحرَّر الناس خلالها من هيبة رجال الدين وسيطرتهم على العقول، وما يمكن أن يقوده هذا التحرُّر إلى فصل الدين عن الدولة ووضع كل واحد في مكانه الصحيح، وبما يعيد إلى الدين موقعه الروحي والأخلاقي وليس هيمنته على السياسة واستخدامه إياها في الصراعات السياسية والاجتماعية. خلافًا لما يدَّعيه الأصوليون من أنَّ فصل الدين عن السياسة فكرة مستوردة من الغرب، فإنَّ هذا الفصل أتى حصيلة التقدم وتحرير الإنسان واستخدام العقل في رؤيته لقضاياه. لذلك لا تقول العلمنة بمناهضة الدين أو السعي للحدِّ من ممارسته في المجتمع، بل إنَّ العلمنة في العالم الإسلامي مضادة لهذا الاستخدام الفجِّ للدين في السياسة بما يخدم أغراضًا سلطوية ومنفعية خاصة وانتهازية، وهو أمر مختلف عن حقيقة ما يمثله الدين من أبعاد قيمية روحية ودينية وإنسانية. في هذا المجال يطرح سؤال حقيقي حول عوامل نهوض المجتمعات العربية والإسلامية في الميادين الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بمعنى قيام نهضة وصراع يسمحان بمقارعة الثقافة التقليدية السائدة في جميع هذه الميادين، بما يمكِّن من الوصول إلى العلمانية كحصيلة منطقية لهذه التحولات، وليس بفرض العلمانية "من فوق" واعتبارها مجرد قوانين موضوعية باردة. لن تنشأ العلمنة وثقافتها في المجتمعات العربية والإسلامية إلا عبر هذا الصراع الداخلي الذي وحده يسمح بتحقيق هذا الحد من العلمنة بما يضمن تطوُّرها لتصبح شاملة في ما بعد.

إذا كان أركون قد رحل في مرحلة تبدو الحاجة العربية والإسلامية ماسة إلى أمثاله، إلا أنَّ ما تركه من كتابات، بات قسم كبير منها متوافرًا باللغة العربية، سيشكل مرشدًا لأجيال راهنة ومقبلة وزادًا تنهل منه في استكمال معركة التنوير العربي والإسلامي، الذي سيظل أركون من أكبر الرواد في إطلاقها والصراع من أجل ترسيخها داخل العقل العربي.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود