english

الصفحة التالية                  الصفحة السابقة 

نساء بالسواد
الفصل السابع
غُلبة القوة

  

غيلا سڤيرسكي

 

بعد أن تحدثنا من قبل عن عدد من القضايا الرومانتيكية حول معنى أخوية الوقفات الاحتجاجية والتضامن واتخاذ القرارات بالإجماع، سأتحدث في هذا الفصل عن النزاعات والشقاقات، وعن القوى التي كانت متواجدة والدافع الذي لعب دورًا في التعجيل فيها، وكيفية تعاملنا مع هذه الأمور في خضم هذه المعمعة، وكيف، ذات يوم ممطر في القدس، ذاب الإحساس الطيّب، مُنهيًا ثقة كنا قد بذلنا غاية الجهد لبنائها على مر السنين.

لكن، لنبدأ بالأخبار السارّة.

والذئب سيتساكن مع الحمل

كيف تم الانسجام بين هاجر روبليف وعنات هوفمان في الوقفة الاحتجاجية نفسها؟

كان عمر هاجر، في بدء الوقفة الاحتجاجية الأولى، 34 عامًا، وكان من المرجح أنها الأقرب إلى أن تكون قائدة غير رسمية لـ "نساء بالسواد" في القدس، وإن كانت وجهات نظرها تصبّ في خانة الأقلية، إذ لم تَفُزْ يومًا على الإطلاق تقريبًا في اتخاذ قراراتنا. ومع ذلك، إن سُئِلتْْ أية امرأة من الوقفة الاحتجاجية في القدس عن قائمتها الرئيسية لـ "نساء بالسواد"، فكثير من النساء سيُعلنّ عدة قوائم، لكن ليست هناك من قائمة تخلو من اسم هاجر. ومع أن هاجر كانت واحدة من 15 امرأة فقط من الأمهات المؤسِّسات للوقفة الاحتجاجية، إلا أنها كانت ذات خصوصية فكرية بالنسبة لنا جميعًا.

تصف هاجر نفسها بأنه "خشنة الطباع، صارمة وجريئة. ربما لأنني ضخمة (5’9)". لكن هاجر ليست شامخة الطول وصارمة فحسب؛ إنها ذكية وسليطة اللسان، ومبادؤها الإيديولوجية هي التي تُسيّر حياتها بمجملها.

بعد هجرها المدرسة في الصف الحادي عشر، واصلت هاجر تعليمها عن طريق قراءة الأدب الشيوعي تحت إرشاد والدها اليساري الراديكالي، ومن ثم من زمالتها في الشارع. وقد رفضت الخدمة في الجيش الإسرائيلي، وكسبت حصانة عن طريق زواج حسن التوقيت (واحد من ثلاثة). ومن ثم غادرت هاجر، المُجاهرة بانتمائها "الماوي"، البلد، وأمضت أكثر من 12 سنة تعمل على تنظيم العمال في الخارج: سنتان في كولومبيا وأمريكا الجنوبية؛ أربع سنين في الولايات المتحدة؛ ثلاث سنين في فرنسا، وسنتان بين النمسا والبرتغال. وكمحصّلة لتجوالها الإيديولوجي وموهبتها المتميّزة، تتحدّث هاجر ستة لغات بطلاقة (العبرية، الإنكليزية، الإسبانية، الفرنسية، الألمانية والبرتغالية).

بعد عودتها إلى إسرائيل، والعزلة التي أُحيطت بها بوصفها "ماوية" وسط ماركسيين أكثر اعتدالاً، عادت هاجر إلى الجذور التروتسكية لوالدها. وواصلت نشاطها السياسي ضمن دوائر راديكالية صغيرة في إسرائيل، مُعيلة نفسها بسلسلة من الأعمال العَرَضية. فقد عملتْ، قبيل بدء "نساء بالسواد"، كنادلة في مقهى، إلى حين أن طلبت من أحد الجنود المرتادين المقهى نزع مخزن الرصاص من بندقيته الموجودة تحت مقعده. قالت له: "ليست هناك من حرية في أن تجلس في مقهى ببندقية محشوّة، وليس أبدًا في مكان أعملُ فيه". لكن الجنود الإسرائيليون أبقارًا مقدّسة بالنسبة لمعظم الإسرائيليين الآخرين. لذا صُرِفتْ هاجر من الخدمة في العمل. كما لم يكن مفيدًا أيضًا لقضية هاجر أو قضيتنا إدلاؤها بتصريحات دورية معادية للتراضي بشكل مباشر لوسائل الإعلام، مثل: "دوِّن أن برأي هاجر روبليف أن الشرطة هي عدو الشعب رقم واحد".[1]

إن أنا خلقت صورة لهاجر تبدو فيها صارمة وجريئة ومثالية، فليس من الوارد أنها أمازونية، إذ يكفي فقط أن تراها ترعى أطفالها في بيت المعوقين، الذي ترأسه هي الآن، حتى تدرِك أن هاجر امرأة مُركَّبة ورائعة.

لكن هاجر كانت واحدة من أطياف "نساء بالسواد"، ورغم احترامنا لها، إلا أن آراءها لم تكن غالبًا تلقَ القبول من قبل الجميع.

في كل اجتماع للحركة، أكون في صف الأقلية. فكل اقتراح أقدّمه يُدفَن في مهده. ماذا أعمل؟ أصرّ على أسناني وأُسلِّم بحكم الأغلبية، لكنني أثير الاقتراح نفسه مرارًا وتكرارًا في الاجتماعات التالية، إلى أن أستسلم.[2]

وسُمِعتْ هاجر تقول ذات مرة أنها: "تشعر بنفسها مثل مغربي وسط أشكينازيين متعجرفين" في الحركة التي ساعدتْ على تأسيسها[3]. وما من داعٍ للإنكار أن معظم الوقفات الاحتجاجية كانت مكوَّنة من يهود من أصول أوروبية (أشكناز)، الفئة المتمتعة بامتيازات في المجتمع الإسرائيلي، على عكس اليهود من أصل مزراحي (من البلدان الإسلامية). وقد كان هذا على الدوام أمرًا حسّاسًا على نحو موجع بالنسبة لـ "نساء بالسواد" اللواتي كنّ يعتبرن أنفسهن من نواح عدّة صائبات سياسيًا. لكن هاجر كانت على حقّ في تأكيدها على ذلك الموضوع.

كانت عنات هوفمان إحدى النساء الأشكنازيات ذوات الامتياز. وكانت تبلغ من العمر 33 عامًا عند بدء الوقفة الاحتجاجية. وقد ترعرعت في القدس بجذور أمريكانية وتلقّت تعليمًا برجوازيًا ليبراليًا صُقِل بدرجات من UCLA وBar-Ilan، وكلاهما في علم النفس. وكان لدى عنات دومًا مُنجز أعلى ذو هدف موجَّه. فحين كانت مراهقة، حطّمت الرقم القياسي في سباحة المسافات القصيرة ، وفازت ببطولة إسرائيل في السباحة الحرة والظهر والمختلط. وعلى خلاف هاجر الملحدة، كانت عنات يهودية مؤمنة إصلاحية، وهي واحدة من مؤسِّسات مدرسة دينية ليبرالية حيث يشارك الآباء فيها غالبًا في تعليم أطفالهم كما الأطفال أنفسهم.

نشأت عنات مؤمنة بالصهيونية ورؤية دولة يهودية تكون "نبراسًا لكل الأمم". وقد استبسلت في خوض المعارك ضمن حزب "حقوق المواطن"، حيث نالت شهرة كصليبية من أجل حقوق المستهلك، وكروبن هود من الذين هم ضحايا المؤسسة الأرثوذكسية المتشدّدة. كما حاربت عنات الإكراه الديني شاملة نشاطها في مجموعة "نساء مُصلّيات الجدار"، ومقاتلة من أجل حق النساء في الصلاة علنًا قرب الجدار الغربي، معقل الأرثوذكسية المتطرفة المتجهِّمة تجاه الانتحال النسائي للطقوس الذكورية[4]. ولطالما قاتلت عنات على الدوام من أجل حقوق غير منقوصة للمواطنين العرب في إسرائيل، لكن كل هذا ضمن دولة إسرائيل، ودولة فلسطينية مجاورة بالطبع.

باختصار، عندما كانت عنات تطلب من هاجر الانضمام إلى حزب "حقوق المواطن" وإدارة مجلس المدينة، كانت هاجر تجيب: "حبيبتي، ضعي هذا في حسابك: أنا ثورية ولست ليبرالية".

لكن في الوقفة الاحتجاجية، نمَّتْ هاجر وعنات أكثر من احترام متحفّظ تجاه بعضهما البعض، وإن كانت هاجر غالبًا ما تُنكر هذا، حفاظًا على سمعتها فحسب.

تشابهات ديموغرافية

رغم وجود اختلافات سياسية بيننا، كانت النساء في "الوقفات الاحتجاجية لـ نساء بالسواد" متماثلات ديموغرفيًا أكثر مما هنّ مختلفات[5]: فـ 84% نلن قسطًا من التعليم العالي (معظمها في العلوم الإنسانية)، كما تقدّمت العديدات إلى درجات التخرّج؛ و85% كنّ عاملات في أعمال منتجة ذات دخل، مقارنة مع 48% فقط من النساء الإسرائيليات؛ و"نساء بالسواد" كنّ أيضًا بالدرجة الأولى من أصول أشكنازية، كما لاحظنا[6]. على أية حال، لم يكن من الصائب موازنة السابق مع الأجر الأعلى: فعلى العكس، تعمل العديدات من "نساء بالسواد" بأعمال متدنية الأجور (عاملات خدمات اجتماعية، مكتبيات، معلّمات، أعمال بدون فوائد ربحية... الخ)، أو يعشن في كيبوتز بمعدّلات دخل منخفضة. كانت هذه على الأغلب مجموعة من النساء ذوات الدخل المنخفض نوعًا ما، مع أنه لم تكن هناك إحصائيات حول هذا الوضع. كما أنه لا يدعو للتفاجؤ بالنسبة لمعظم "نساء بالسواد" أن 55% منهن يعشن بدون شريك، و25% ليس لديهن أطفال أبدًا، وكلا النسبتين عالية في بلد مُدمِن على الزواج والأطفال.

لذلك، كانت هذه عمومًا مجموعة من النساء ذوات تفكير مستقل ومكتفيات ذاتيًا، وأيضًا، وليس مستغربًا، متحرّرات فكريًا: 87% يصنّفن أنفسهن "لا متديّنات" في بلد أقل من نصف السكان فيه يُعرّف نفسه بتلك الطريقة. أما بالنسبة للعمر، فكان معدّله 47، لكن هذا لا يعكس المدى الشاسع جدًا: فالشابات من "نساء بالسواد" المندفعات ذاتيًا (ولندع جانبًا الأطفال الذين تجلبهم أمهاتهم معهن) كنّ فتيات في المدارس العليا للبالغات، والأكبر سنًا كنّ يناهزن التسعين. وفي الواقع، كانت هناك عدد غير قليل في ثمانياتهن. وكما لوحظ، كان هناك أيضًا عدد صغير متميّز بشجاعته من النساء العربيات في "نساء بالسواد"، لكن لا يبدو أن هناك إحصاء حول ذلك.

ثمة مؤشر على أن علماء الاجتماع يقلعون غالبًا عن بياناتهم: كان هناك عدد كبير جدًا من المثليات جنسيًا في المجموعة. فأحد الأرقام التي اُستخُدِمت بكثرة هو 30% [7]. إنه عدد مرتفع جدًا، لكنه موثّق بإحصاء رئيسي متفرِّق في الوقفات الاحتجاجية في المدن وإثبات آخر: فقد تقصّيتُ القوائم للمنظِّمات من 8 مؤتمرات وطنية مختلفة تنظِّمها "نساء بالسواد" (تُنظَّم فعليًا من قبل "النساء والسلام، التي كانت المنسّقة الوطنية لمؤتمرت "نساء بالسواد")، وأيضًا بلغ 30%: 16 سحاقية معلنة من أصل 53 من المنظِّمات. وعلى الأرجح غالبًا كان عدد المثليات، بين أولئك اللواتي لست مشتركات في التنظيم، أدنى. أقول هذه بناء على حقيقة أن المدن عمومًا تحوي سحاقيات معلنات أكثر من القرى والكيبوتزات، وكانت معظم المنظِّمات نساء من المدن.

بأية طريقة ننظر فيها إلى هذا الأمر، كانت المثليات يشكّلن قسمًا كبيرًا ونشطًا في "نساء بالسواد"، وهن جزء رئيسي من ناشطات السلام النسائية غير مُعترَف به لمدة طويلة. وقد كتبت هانا سافران، وهي من الوقفة الاحتجاجية في حيفا، تحليلاً أخّاذًا لوجود المثليات في "نساء بالسواد"، دالّة على عددهن المرتفع وعدم ظهورهن الفعلي[8]. فهانا تعزو هذا الوضع إلى "إيديولوجيا الإدراج" للحركة - لا اختلافات معترف بها خشية نفور بعض النساء. وفي حين عاظم مبدأ الإدراج عدد المشاركات - أيًا كان يشارك في برنامج الحد الأدنى في مقاومة الاحتلال كان مُرحّبًا به - كان ثمن الخفاء غاليًا جدًا:

رغم إدراك الإدراج كنوع من قبول للتنوع، لم يتم الاعتراف بالخلافات ولم يُسمَح بالهويات الذاتية. وكنتيجة مُحيت الهوية المثلية وسادت الهوية متغايرة الجنس ضن الوقفات الاحتجاجية وفي المنظور العام[9]،

كما تقول هانا التي تشعر أن الوقفة الاحتجاجية كانت فرصة خاسرة لتعميق فهم الأشكال المختلفة لاضطهاد النساء، وإدراك الارتباطات بين اضطهاد النساء الفلسطينيات والمثليات.

التنوع ضمن الوقفة الاحتجاجية

مع أن النساء في الوقفات الاحتجاجية كنّ متشابهات ديموغرفيًا، إلا أنهن متنوعات سياسيًا. ورغم أننا نمثّل "اليسار السياسي" في إسرائيل - اللواتي يرغبن في صنع السلام والتوصّل إلى تسوية مع الفلسطينيين والجيران العرب الآخرين - كنا نحمل تنوعًا في وجهات النظر حول كيفية الشروع في ذلك. بعضنا (مثل هاجر) تعتبرنا "غير صهيونيات"، باعتقاد منها أن الصهيونية قد اُستخدمت لتبرير الاحتلال والإجراءات العنصرية الأخرى. كما أن الكثيرات من أولئك النساء لا يرغبن في رؤية دولة فلسطينية منفصلة، بل دولة واحدة كبيرة وعلمانية وثنائية القومية - من أجل الفلسطينيين والإسرائيليين معًا. وبعضنا (مثل عنات) تعتبرنا "صهيونيات"، مؤمنة بأن الصهيونية حركة تحرر وطني للشعب اليهودي، وأن تلك الإجراءات مثل الاحتلال والتفرقة العنصرية هي تحريف للمعنى الأصيل للصهيونية. وترغب الكثيرات من هؤلاء النساء تأسيس دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. كما أن هناك شتى أنواع الاختلافات بشأن كل هذه المواضيع.

تُمثل هاجر وعنات اتجاهين على مستوى وجهات نظر الوقفة الاحتجاجية، لكنهما لم تذهبا إلى الحد الأشدّ تطرفًا. وكان هذا امتياز مشرِّف يُحفَظ لنساء Nitzotz (الاسم الكامل: Derech Hanitzotz) من اليسار وبعض ناخبي حزب العمل (مؤيدي رابين الصَقري) من "اليمين". وسيكون هناك المزيد من اليسار المتطرف لاحقًا. لكن أُشيع أن هاجر وعنات يمكن أن يكونا عمومًا ممثلتين لمعسكرين رئيسيين: اللاصهيونية والصهيونية على التوالي.

كانت حوافزنا لحضور الوقفة الاحتجاجية تنزع إلى أن تكون سلسلة كاملة متناغمة. فقد انضمت بعض النساء من باب التضامن مع القضية السياسية الفلسطينية. وانضمت أخريات أساسًا للاحتجاج على المعاملة اللاإنسانية التي يتعرّض لها الفلسطينيون من قبل الإسرائيليين في ظل الاحتلال. في حين أن بعض النساء شاركن في الوقفات الاحتجاجية لأنهن لم يردنَ رؤية أحبائهن (أبناء، أزواج، آباء)، الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي، عُرضة للخطر جرّاء الانتفاضة.

في الأسابيع الأولى للوقفة الاحتجاجية، وجدت بعض المؤسِّسات الأكثر تصلّبًا إيديولوجيًا في "نساء بالسواد" أنه من الصعب القبول ببعض الإناث الليّنات إيديولوجيًا القادمات مؤخرًا. وتتذكر هاجر، وهي واحدة من الأشدّ صلابة، كيف قررت مبكرًا أنه لم يعد مطلوبًا منها أن تكون جزءًا من مجموعة صغيرة جدًا وهامشية، لكنها مستعدّة لتقديم تنازلات لصالح توسيع الوقفة الاحتجاجية:

نظرًا لأن الوقفة الاحتجاجية كانت تنمو حجمًا، كنتُ في حالة من النشوة. لكن كانت هناك نساء قلقات من هذا النمو، وأنهن لم يعُدنَ مرصّعات بالنجوم أو مهيمنات عليها. كنّ أولئك "يساريات محترفات" اعتدنَ على اعتبار أنفسهن بؤرة المجموعات اليسارية الصغيرة جدًا المختلطة. كانت المنظَّمات للوقفة الاحتجاجية من شتى أنواع النساء، فبدأت هؤلاء الناشطات المحترفات يخبرهن بأنهن لسن "سياسيات" بما فيه الكفاية. وقد خضتُ معركة ضارية ضد أولئك اليساريات لوقت طويل جدًا. وانتهى الأمر ببعضهن إلى الرحيل، أما المتبقيات فقد تعلّمن قبول حقيقة أننا هنا في الوقفة الاحتجاجية سواسية، وأن الوقفة الاحتجاجية ملك لنا جميعًا، وأننا قدِمنا للتظاهر وليس لصياغة بيانات.

تعود الوقفة الاحتجاجية إلى النساء اللواتي يشاركن فيها. نقطة انتهى. وهذا لا يهيّئ فقط لوقفة احتجاجية أعظم، بل يمنح أيضًا النساء اللواتي لم يسبق لهن المشاركة مطلقًا في السياسة معنى لاحترام الذات.[10]

وقد عملت هاجر جاهدة لخلق بيتٍ من الوقفة الاحتجاجية، حتى لأولئك الأقل راديكالية منها. وعلى أية حال، كما تلاحظ، عاشت بعض اليساريات "المحترفات" أوقاتًا عصيبة مع السياسات الممتزجة بالضعف. لقد أردنا لأوضاعنا وسياساتنا أن تعكس تنوع وجهات النظر بدلاً من أن تكون رأي أغلبية، ولذا أصدرنا بيانات تتضمن استعمال عبارات مثل: "بعض من ... بينما أخريات". وهكذا كانت البيانات الصادرة عن "نساء بالسواد" في القدس تثبت دومًا في النهاية عمومًا أنها مع إنهاء الاحتلال - المكافئ اليساري للأمومة. لاحظ "بياننا الرسمي" غير الحرّيف، والمُصاغ على نحو متكرر من قبل لجنة تتضمن نساء من كلا المعسكرين، الصهيوني واللاصهيوني (ومن ثم أقرّته الوقفة الاحتجاجية كافة):

نحن، نساء بالسواد" مواطنات إسرائيليات، أقمنا وقفتنا الاحتجاجية الأسبوعية احتجاجًا منذ بدء الانتفاضة. وقد ظهرت إلى حيّز الوجود خارج المجتمع الإسرائيلي، وتُعرِب عن ضرورة معارضة نشطة وفعالة للاحتلال. وترمز الملابس السوداء إلى المأساة التي يعيشها كلا الشعبين، الإسرائيلي والفلسطيني.

إننا نحتج على الاحتلال وندعو الحكومة إلى وضع حدّ لعمليات القتل وسفك الدماء وهدم المنازل والترحيل والتوقيفات الإدارية والعقاب الجماعي وحظر التجول الممتد.

لقد كان لدينا في مجتمعنا ما يكفي من الوحشية والعنف والقساوة وتآكل المبادئ الأخلاقية، ونحن جميعًا من يدفع الثمن الاقتصادي.

نحن نساء من مشارب سياسية مختلفة، لكن ما يوحّدنا هو نداء "كفى للاحتلال. وكثيرات منا يتشاطرن الرأي حول كون منظمة التحرير الفلسطينية هي الشريك في مفاوضات السلام على أساس مبدأ دولتين لشعبين، أما أخريات من بيننا فيعتقدن أنه ليس لنا أن نقرّر من سيكون الشريك الفلسطيني بالنسبة للمفاوضات أو ما هو الحل الذي سيحقق السلام.

نحن متّحدون في الاعتقاد بأن رسالتنا عادلة وفعالة وستجلب السلام.

تُقام الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد" كل أسبوع في الوقت نفسه في كافة أنحاء إسرائيل. ونحن ندعو جميع النساء إلى الانضمام إلى احتجاجنا المثابر والمخلص واللاعنفي.

كيف يمكن أن تكسب شخصًا معتدل الطباع. إنها مقايضة: عدم احترافية رسالتنا مكّنت القدس من امتلاك أكبر وقفة احتجاجية. وفي ذلك الوقت، حتى حركة "السلام الآن" قد تبنّت على نحو واضح آراء أكثر "راديكالية"، بما في ذلك "دولتان لشعبين" و"تفاوضوا مع منظمة التحرير الفلسطينية". وقد كتبنا بعناية أن بعضًا منا فقط يؤيد وجهات النظر هذه. لكن رغم عباراتنا الحذرة كان يتم فهمنا كمتطرفين أكثر من حركة "السلام الآن"، حتى من قبل أولئك المتعاطفين مع وجهات نظرنا. لماذا؟

كانت "نساء بالسواد" تُعتبر من قبل أناس من خارج الوقفة الاحتجاجية - يسارًا ويمينًا - أنهن متجذّرات إلى حد كبير في أقصى اليسار أكثر مما كنا عليه فعليًا. ربما كان هذا بسبب مشاركة نساء Nitzotz المتطرفة في الوقفة الاحتجاجية، وقد يكون السبب هو أن معظم الوقفات الاحتجاجية لا ترفع العلم الإسرائيلي، وربما بسبب مشاركتنا في "تحالف النساء والسلام" الراديكالية (انظر الفصل الحادي عشر). وربما، ببساطة، أن هذا السلوك في إسرائيل يُعتبَر راديكاليًا بالنسبة لمجموعة من النساء يقفن علنًا ويرتدين السواد ويعبّرن عن وجهات نظر سياسية. وأعتقدُ أن كل المعطيات السابقة كانت عوامل في تكتيلنا في صف الراديكاليين.

حتى اليساريون افترضوا أننا نتجه نحو التطرف. فمؤسس وزعيم حركة "السلام الآن"، يوسف بن آرتزي، حذّر الحركة من تبنّي آراء راديكالية "خشية فقدان الهيمنة في حركات الاحتجاج لمنظمات مثل داي لاكيبوش، 21 عامًا، أو "النساء من كل التلاوين"[11] - والأخيرات، بطبيعة الحال، إشارة مموّهة لـ "نساء بالسواد". وحتى يائيل آزمون، وهي يسارية مجاهرة وناشطة نسوية كانت قد أجرت بحثًا حول الاحتجاج النسائي في إسرائيل، تستخدم نفس العبارات بصياغة أخرى: "حركة "نساء بالسواد" هي في القطب الراديكالي للحركات النسائية، سواء على الصعيد السياسي: كون شعارهن هو ""كفى للاحتلال" بدلاً من "بدء مفاوضات سلام"، بالإضافة إلى السمة النسوية "نساء فقط" بدلاً من وظيفتهم كأمهات"[12]. وهكذا، ونظرًا لأن شعارنا كان مُصاغًا سلبيًا بدلاً من مصطلحات إيجابية، وبسبب أننا تحدّثنا كنساء أكثر من كوننا أمهات، كنا في "القطب الراديكالي".

في الحقيقة، ولأن صورة "نساء بالسواد" كانت عنيفة أكثر مما هو عليه وضعنا الرسمي، فكّرنا مليًّا في عدد من التدابير لتصحيح هذا الانطباع: استصدار إعلان في الصحف يعرض آراءنا الرسمية بجلاء، أو نشر كتاب يعكس الأصوات المتنوعة فيما بيننا. لكننا في النهاية تخلّينا عن هذه الأفكار، لأمرين اثنين: نقص التمويل، ولأننا اعتقدنا أن معرفة الحقائق لا تخلق فرقًا في التحليل الأخير. فالأفكار المنمّطة هي قوالب، وغالبًا لا يمكن للحقيقة زحزحتها.

وهكذا، ضمّت الوقفة الاحتجاجية طيفًا واسعًا من الآراء السياسية المتباينة. لكن لأن هناك في الأعداد قوة، تابعنا الإجماع واستنبطنا تراكيب وصيغ كانت تلائم التنوع؛ ووجدنا أن حركة "نساء بالسواد" كانت قادرة على استيعاب أكبر مجموعة من الآراء السياسية ضمنها أكثر من مجموعات السلام الصغيرة المختلطة الجنسين. وهكذا، كان الذئب والحمل قادرين على التساكن معًا، حول معظم المسائل.

سبب النزاع وموضوعه

وصلنا الآن إلى قوام الموضوع، ولو أنها ليست بعد بالأخبار السيئة.

كانت هناك بعض القضايا التي أبرزت النزاعات ضمن المجموعة.

أولى هذه النزاعات التي بدت أنها قابلة للحل بسهولة هو التساؤل عن كيفية الرد على العنف تجاه النساء. ورغم أن رغبة البعض منا (مصدر سرور صحيح تمامًا) هو منازلة القوى الظلامية، صوّتت المجموعة بلا لبس لصالح المقاومة اللاعنفية. وأعلنت الكثيرات من النساء أنهن لن يعدْنَ إلى الوقفة الاحتجاجية إن رددنا على التهجّمات علينا بنفس الطريقة. وقد كان هذا كافيًا لإنهاء النقاش، على مبدأ تفادي تجنّب القطيعة مع أية مجموعة كبيرة من النساء.

لكن هذا المبدأ كان نارًا تحت الرماد حينما كانت تُثار قضايا أكثر جدّية مثل عمّا يمكن عمله إن سيطر المتظاهرون المضادون على الميدان خلال ساعة الوقفة الاحتجاجية. وبعد عدد من الحوادث العرضية التي شاركت فيها بعض النساء (بقيادة هاجر) منهمكات في ألعاب ضاغطة مع المعارضة، توصّلنا أخيرًا إلى قرار يقضي بالتخلّي عن الميدان في حال ما إذا تمت السيطرة عليه. وكالمعتاد، كانت هاجر في صف الأقلية بشأن هذا القرار.

كان القرار انهزاميًا بالكامل، شأنه تمامًا شأن استسلامنا المخزي في عدم مقارعة الكاهانيين الذين اقتحموا الكنيس وعطّلوا اجتماعنا. وتبرّر النساء انهزاميتهن بالقول: "نرفض افتعال معركة مع الكاهانيين، فنحن في وقفة احتجاجية من أجل معارضة الاحتلال، وليس الكاهانيين". لا أوافق على ذلك، ففي رأيي ينبغي على اليسار محاربة الكاهانيين وتلاوينهم. فبدون شك ينبغي على اليسار مقاتلة اليمين. لكنني كنتُ في صف الأقلية، وكان ذلك هو الثمن الذي دفعناه للحفاظ على وقفة احتجاجية جماعية. رغم أنه يتعارض مع كل ذرة في داخلي.[13]

كان مصدر النزاع الآخر هو رفع العلم الإسرائيلي. ففي بعض الوقفات الاحتجاجية كانت النساء يرفعن بفخر العلم الإسرائيلي كجزء من رسالتهن. فمعظم الوقفات الاحتجاجية في الكيبوتزات رفعن العلم، لكن ليس في الوقفات الاحتجاجية التي جرت في مجيدو أو جان شموئيل أو العديد من المناطق الأخرى. وعلى أية حال، كان رفع العلم في القدس وتل أبيب حيفا من المحظورات، رغم أن بعض النساء (مثل عنات) كن يرغبن في ذلك. ففي أوائل العام 1990، بعد حوالي سنتين من الوقفة الاحتجاجية، عقدت "نساء بالسواد" في القدس سلسلة من النقاشات حول فيما إذا يتم رفع العلم أم لا. وكان رأي إحدى المجموعات أن العلم ملك لنا جميعًا ويجب ألا نسمح للجناح اليميني التفرّد بالرموز الوطنية. وقالت أخريات أنهن لن يقفن تحت علم يضطهد حوالي مليوني شخص. وقالت بعضهن أنهن يوافقن على إضافة العلم الإسرائيلي شريطة إضافة العلم الفلسطيني أيضًا (وهو فعل غير قانوني في إسرائيل في تلك الأوقات). واحتدم النقاش على مدى عدة اجتماعات مخلَّفًا ندوبًا لدى الصهيونيات ضد اللاصهيونيات، إلى أن ساد أخيرًا مبدأ الحدّ الأدنى المشترك. لكن هذا لم يُؤدِّ إلى تهدئة الصهيونيات الملتزمات بيننا. وأتذكر نيخاما بن إلياهو وهي تقول: "وماذا لو قررت الصهيونيات رفض حضور وقفة احتجاجية لا ترفع العلم الإسرائيلي؟". لكن الصهيونيات، بالإضافة إلى الراديكاليات الأكثر حنكة، لم يدفعن الأمور إلى حافة الهاوية. ومن ثم كان الوضع الراهن مُقتَضِى ضمنًا - أيّ وضع كان قد وُجد سابقًا له تبرير أوّلي أعظم من التغيير. (يُستعمَل هذا المبدأ فعليًا في إسرائيل على نطاق واسع فيما يخص الأمور الدينية). وهكذا خسرت المدافعات عن رفع العلم الأزرق والأبيض، وكانت تُستَحضَر ذكرى تلك الهزيمة على نحو متكرر وبمرارة من قبل الصهيونيات.

لكن أكثر المواضيع التي تجادلنا حولها في القدس هو فيما إذا كان يجب إضافة شعارات جديدة إلى شعارنا الوحيد المتواضع "كفى للاحتلال". وتماحكنا طويلاً حول هذا الموضوع، اجتماعًا إثر اجتماع. وقد طالب اليساريون الأكثر راديكالية بشعار "دولتان لشعبين" أو "فاوضوا منظمة التحرير الفلسطينية". لكن البعض تردّدن في عزل المنصتين لرسالتنا الرئيسية. أما معظم الوقفات الاحتجاجية خارج القدس فقد تبنّت منذ زمن طويل هذه وغيرها من الشعارات. وأخيرًا، وبعد عمليات مسح غير رسمية واستطلاعات ونقاشات وتصويت متوتر، تم تبني شعارين إضافيين - معًا - للوقفة الاحتجاجية في القدس: "دولتان لشعبين" و"كفى عنفًا"، مما أرضى كلّ من اليسار واليمين بيننا. كان الأمر شاقًّا، لكننا كنا فخورين بالطريقة التي جرت حول القرار... لقد تمسّكنا بقواعد اللعبة.

استغرق الوقت منا ثلاث سنوات في الوقفة الاحتجاجية للموافقة على شعارات إضافية، لكن الاتفاق أتى متأخرًا جدًا. فقد حدث التصويت الأخير لإضافة شعارات جديدة في كانون الأول 1990، أي قبل ثلاثة أسابيع من اندلاع حرب الخليج، وفجأة كان لدينا أمورًا أكثر أهمية في أذهاننا. فتاهت الشعارات الجديدة جرّاء حالة قلق ما قبل الحرب. ومن ثم حدث أمرًا ما أصاب الوقفة الاحتجاجية في الصميم.

ونأتي الآن إلى الأخبار السيئة.

أزمة حرب الخليج

لكي أروي هذه القصة، عليّ إخباركم أخيرًا حول Nitzotz اللواتي سبق أن أشرتُ إليهن على الدوام بوصفهن "يساريات متطرفات". بدون حفر تفصيلي في تاريخهن، Derech Nitzotz (درب الشرارة) مجموعة صغيرة من الإسرائيليات اللواتي (آنذاك) كن يُؤمِّنَ بحماس بما يُدعى في الشرق الأوسط المختصر بـ "الدولة الثنائية القومية". وهذا يعني أن لا الفلسطينيين ولا الإسرائيليون ستكون لهما دولة خاصة بهما، لكنهما سيعيشان معًا بتفاهم وود في دولة واحدة ذات سيادة وبحقوق ديموقراطية للجميع. ربما يبدو هذا الوضع فردوسًا على الورق إلا أنه يخلق لدى اليهود شعورًا بالتهديد الفعلي، حيث يعتقدون أنهم بحاجة إلى دولة خاصة بهم تكون ملاذًا لليهود المضطهَدين في كافة أنحاء العالم، كما أنه سيتم ابتلاعهم من قبل دولة ثنائية القومية سيكونون أقلية فيها بالتأكيد، إضافة إلى أنه حِرْم بالنسبة الرؤية الصهيونية.

لم يكن نشطاء أعضاء المجموعة الصغيرة جدًا Nitzotz بارعون ومثاليون فحسب، بل أيضًا مُكرَّسون كليًا لقضيتهم. إنهم يعملون طوال اليوم في الكتابة والتنظيم وتوظيف جهودهم من أجل الارتقاء. وكانوا، قبل وخلال فترة الانتفاضة الأولى، مُتّهمون بالتمويل من قبل تنظيم فلسطيني يرأسه نايف حواتمة، الإرهابي الذي قام بالهجوم الأكثر وحشية على مدرسة ابتدائية إسرائيلية (معالوت) في أيار 1974، راح ضحيته 27 إسرائيليًا معظمهم من الأطفال[14]. وكان هدف حواتمة هو الإطاحة بإسرائيل، بالعنف إن لزم الأمر، واستبدالها بدولة ديمقراطية علمانية سيكون اليهود فيها أقلية تلقى كل التسامح. ولك أن تتصوّر كم هي شعبية مجموعة من اليهود الإسرائيليين تقيم روابط مع تنظيم نايف حواتمة! ولذا لم يكن مفاجئًا اعتقال خمسة من أعضاء Nitzotz (أُطلِق سراح أحدهم لاحقًا). وبعد عدة دعاوى قضائية ومناشدة تم اتهامهم بالعضوية في منظمة إرهابية، ومكثوا في السجن بين 9 و30 شهرًا. أما نساء المجموعة فقد غِبنَ عن الوقفة الاحتجاجية من 9 إلى 18 شهرًا.

ورغم أنني لا أتفق مع إيديولوجيا Nitzotz - بعض النساء يتفقن معها - فقد كنّ مؤثّرات على نحو استثنائي كأفراد: ذكيات، واضحات ومكرَّسات لعملهن بحماسة. وعندما كانت "نساء بالسواد" يجتمعن للعمل على قضاياهن، كنّا دومًا نصغي باستغراق إلى الحجج العقلانية التي تنسجها ميشال شوارتز أو روي بن إفرات من مجموعة Nitzotz.

والآن إلى القصة المحزنة. ففي صباح باكر من يوم جمعة، 18 كانون الثاني 1991، أطلق صدام حسين أول أربعين صاروخ سكود على أهداف مدنية في إسرائيل. وأعلن الدفاع المدني الإسرائيلي أنه يجب على كل شخص البقاء داخل منزله حتى إشعار آخر، ولم تجتمع وقفة احتجاجية سوى في تل أبيب ظهيرة ذلك اليوم. وفي الأسبوع التالي، كانت الصواريخ ما تزال تسقط بصورة متقطعة على إسرائيل، وطُلب من المواطنين عدم التجمّع في الشوارع. ومرة أخرى، عقدت تل أبيب الوقفة الاحتجاجية الوحيدة. وبحلول الأسبوع الثالث، كانت "نساء بالسواد" في القدس قلقات. فلم يُسبَق لنا من قبل أبدًا التخلي عن الوقفة الاحتجاجية ولا مرة واحدة خلال السنوات الثلاثة الأولى، وهذا ما أشعر بعضنا بالخطأ. كما شعرت العديدات منا بضرورة التحدّث فيما بيننا. فبمقتضى الأمر، كنا حركة سلام وهناك حرب دائرة. إضافة إلى ذلك، كنا مجموعة دعم هامة لأية مجموعة أخرى في توضيح موقفنا حول المسائل السياسية. فقد كانت "نساء بالسواد" مجرد أناس جيدون بالنسبة للتفكير في القضايا. وأرادت بعض النساء بحقٍ العودة إلى الوقفة الاحتجاجية... في الحال.

وبعد أسبوعين ويوم من بدء الحرب، اجتمعت حوالي 40 منا من القدس في منزل إيفون دوتش وتبادلنا الأحاديث حول الوقفة الاحتجاجية. وقد أعلنت الكثيرات من النساء بأن الحرب خاطئة بالكامل، ويجب أن تعكس الوقفة الاحتجاجية هذا الموقف. واقترحت إيفون التظاهر ضد الحرب، لكن لم يتبنَّ اقتراحها إلا قلّة من النساء، بينما دعمت الكثيرات من "نساء بالسواد" التدخّل الأمريكي، كما هو حال العديد من الإسرائيليين، بإحساس منهن أن الرئيس بوش كان يخوض الحرب نيابة عن إسرائيل. ومن ثم بدأ الحديث حول العودة إلى الوقفة الاحتجاجية.

كانت هذه أولى جلستين عاصفتين، سبّبتا الكثير من التوتر الداخلي وكشفتا عن مشاعر قوية. وكانت المعارضات للتدخل الأمريكي في الشرق الأوسط هنّ المؤيدات الأقوى للعودة إلى الوقفة الاحتجاجية على الفور. وأشرن إلى حقيقة أن الاحتلال كان قاسيًا بشكل خاص أثناء الحرب (حظر تجوّل واستخدام القوة) وعلينا استثمار الوقفة الاحتجاجية للاحتجاج على هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان. وكان هذا عمومًا جمهورًا مناهض للإمبريالية الأمريكية. ورأت نساء أخريات أن إسرائيل تتعرّض لهجوم وقد آن الأوان لرصّ صفوف مواطنيها جميعًا. وقد شعرن أن الوقوف احتجاجًا سيوصل رسالة عزل عن مواطنينا، رجالاً ونساء. ونظرًا لأن معظم الفلسطينيين كانوا مؤيدين لصدام - في الحقيقة، كان البعض منهم يراقب من فوق أسطح منازلهم ويهلّلون فيما كانت الصواريخ تنهمر من الجو - شعرت هذه المجموعة أن الوقفة الاحتجاجية لإنهاء الاحتلال قد تُفسَّر على أنها "مناصرة لصدام"، ولربما هدمنا كل ما كسبناه من دعم من الرأي العام حتى ذلك الحين.

وفي عودة إلى زعيمتي قضيتنا، كما استحضرتا الجدل بعد شهرين:[15]

عنات: هناك أمر ما غير مؤثّر ومضحك لغرابته حول مجموعة من النساء يحملن لافتات كرتونية ]ضد الاحتلال[ في حين أن البلد بمجمله يتجوّل بأقنعة مضادة للغاز. إنني أصوّت ضد قيام الوقفة الاحتجاجية بعيدًا عن مشاعر الجمهور مع نساء بيننا محتاجات إلى وقت أطول قبل العودة إلى الوقفة الاحتجاجية.

هاجر: لقد صوَّتُ مع العودة إلى الوقفة الاحتجاجية، لأن، على الرغم من اللغة المخادعة حول كوننا مجموعة مشتركة، لا أحد سوف يدلّني فيما إذا كنت سأخرج للتظاهر أم لا. يمكننا التصويت حول أنواع الشعارات، لكن لا أحد يسلبني حقي في الخروج إلى الشارع من أجل التظاهر.

احتدم النقاش لساعات، لكننا لم نستطع التوصّل إلى الإجماع الذي كان سائدًا من قبل على الأغلب. وبدلاً من المخاطرة بحكم أغلبية ضئيلة، والتسبّب في ابتعاد نساء في الأقلية، اخترنا إرجاء القرار، على أمل إخراج اتفاقية ما بعدئذ. وأخيرًا قررنا عقد اجتماع حاسم صباح يوم الجمعة، أي قبل ساعتين من بدء الوقفة الاحتجاجية.

كنا تقريبًا 50 امرأة احتشدن في المقر الموحش للحزب الشيوعي الإسرائيلي في القدس، وهو المكان الأكبر اتساعًا والذي لا يحمّلنا نفقات لقاء استخدامه. وكان معظمنا يرتدي السواد، لحساب منهن بأننا سنقيم الوقفة الاحتجاجية مهما كانت نتيجة تصويت المجموعة، حتى أولئك، مثلي، اللواتي كنّ قد خطّطن للتصويت ضد العودة في القريب العاجل إلى الوقفة الاحتجاجية.

تأرجح النقاش بين أخذ ورد. وعبّر كلا الجانبين عن وجهات نظر متماسكة. وقرابة انتهاء الساعتين، أدركنا أننا لن نصل إلى إجماع، لكن التصويت كان لزامًا علينا. وكانت المتحدّثة الأخيرة هي ميشال شوارتز، المرأة الأكثر تفوّهًا في نساء Nitzotz. وتوجّهت ميشال بالحديث إلى المجموعة، فبدأت بتقديمها الهادئ للحجج من أجل العودة إلى الوقفة الاحتجاجية. كانت ميشال مُقنعة كالعادة، فشعرت الكثيرات منا أنهن مشتّتات بين وجهة نظرها الموضوعية وبين ولاءهن للنساء اللواتي شعرن بعجزهن عن الوقوف في وجه الإجماع الإسرائيلي في زمن حرب. وما أن أنهت ميشال حججها حتى توجهت إليها إحدى النساء صارخة بسؤال. كان رد ميشال فقط، والذي كلنا نتذكّره: "لا يهم كيف تصوّتين، فنحن سنقيم وقفة احتجاجية اليوم. هناك مجموعة من النساء يرتدين الأسود ينتظرننا هناك في الحال".

أذهلتنا كلماتها. وضجّت الغرفة فجأة بصيحات الغضب. لقد كسرت مجموعة ميشال القواعد غير المكتوبة للوقفة الاحتجاجية: احترام المجموعة المشتركة، وعدم عزل أخريات. وفي الواقع، كان بعض من مؤيدات ميشال متكبّرات على وجهات نظرنا إلى حد أنهن لم يزعجن أنفسهن حتى في الإفصاح عن رأيهن في النقاش. وفي خضم الصراخ، دعت رئيسة الجلسة إلى التصويت. وقد تحكّمت ميشال بالتأكيد بنتيجة التصويت لصالحها بالإعلان أن الوقفة الاحتجاجية ستُقام بغض النظر عن النتائج: صوّتت 23 امرأة مع إقامة الوقفة الاحتجاجية، و10 ضد، و11 امتنعن عن التصويت، بعضهن احتجاجًا على تعليق ميشال. لقد كسبت ميشال التصويت، لكنها في النهاية خسرت الوقفة الاحتجاجية. لقد تبدّدت مشاعر الثقة.

كنتُ، كالكثيرات من الأخريات (وليس الجميع) أرتدي بلوزتي السوداء، واتجهتُ إلى الوقفة الاحتجاجية. كان المطر ينهمر بغزارة والجو بارد جدًا. وقفت بالقرب من ميري، التي هي أصلاً قد ضمّتني إلى هذه الوقفة الاحتجاجية، وحاولت أن تعرف ما قد حصل بالضبط. كنا 35 امرأة في تلك الوقفة الاحتجاجية، لكن أمرًا ما هامًا قوّض المجموعة. ورغم صوت المطر الغزير، كان يمكن سماع اللازمة الجديدة من السيارات العابرة: "عاهرات صدام".

*** *** ***

horizontal rule

[1] نيري ليفن، رؤية السواد، ص 27.

[2] المرجع السابق.

[3] المرجع السابق.

[4] تعتبر الأرثوذكسية المتشدّدة، والتي تمتلك سلطة مطلقة على صلاة الجدار الغربي، صوت النساء غير محتشم erva. وعلى إثر طقوس الصلاة التي أُقيمت هناك من قبل "نساء الجدار" صدر نظام جديد بالنسبة للأماكن المقدسة يحظر أي سلوك ديني يؤذي مشاعر الآخرين.

[5] إحصائيات مأخوذة حول نساء بالسواد أُجريت من قبل تامار رابابورت وهيلين هيلمان، سر بقائهن، النشرة الإخبارية الوطنية لنساء بالسواد، ربيع 1993، عدد 5. والمعطيات المُقدَّمة هي من الوقفة الاحتجاجية في القدس. لكن الباحثتين تدعيان أنه لم تكن هناك اختلافات ذات شأن في ردود النساء من الوقفات الاحتجاجية الإسرائيلية الأخرى.

[6] من أجل تحليل تقدي لهذه الظاهرة، انظر كاتيا جيبل أزولي، حكم النخبة في معسكر السلام النسائي، جيروزاليم بوست، 2 تموز 1989.

[7] انظر يوسي مونتل في هويات إسرائيلية: الجيش، العائلة والحركات النسوية، بريدج، خريف 1991، على أساس محادثة مع الناشطة السحاقية مارشا فريدمان وإليس يونغ في حافظو الإيمان. أما إليزابيث أ. ريشمان في أطروحتها المحذوف: مجموعات السلام النسائية الإسرائيلية بعد العام 1967 فتقتبس من ديبي ليرمان وشايا شالوم تقديرًا بنسبة 50%، ومن إيفون دوتش وهانا سافران نسبة 30%.

[8] سافران، هانا، تحالف ونكران: احتجاج مثلي نسوي ضمن حركة "نساء بالسواد" مشروع ماستر لكلية سيمونس، بوسطن، بدون تاريخ.

[9] المرجع السابق، ص 14.

[10] ليفن، رؤية السواد، ص 27.

[11] يوسي بن آرتز، الترجّل عن القطار، هاآتس، 2 شباط 1989.

[12] الشكر ليائيل آزمون لسماحها لي بقراءة والاقتباس من المخطوطة غير المنشورة بعد: الحرب، أمهات وفتاة بضفائر: انهماك مجموعات السلام الأمهات الحوار الوطني في إسرائيل، العائلات كمربيت من أجل مواطنة عالمية، ج. مايرزـوولز، ب. سوملايب ور. رابوبورت (تحرير)، لندن: إيبوري، العام 1997 الوشيك.

[13] ليفن، رؤية السواد، ص 27.

[14] نايف حواتمة، زعيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (DFLP)، يؤيد "حرب شعبية" يشارك فيها اليهود والعرب ضد "القوى الصهيونية والإمبريالية".

[15] يائيل أدموني، نساء بالسواد يتحدثن عن أنفسهن: الكتاب قريبًا، القدس، 29 آذار 1991 ]بالعبرية[.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود