english

الصفحة التالية                  الصفحة السابقة 

نساء بالسواد
الفصل الثامن
سنوات المثابرة بين حرب الخليج وأوسلو

غيلا سڤيرسكي

 

في أعقاب الحرب

في آذار 1991، بعد انتهاء حرب الخليج بالنسبة لإسرائيل، كان لدى معسكر السلام متسع من الوقت للتعافي، بما فيه الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد". لكن معظم الوقفات الاحتجاجية لم تستأنف نشاطها في إسرائيل إطلاقًا بعد الحرب، ما عدا 12 وقفة فقط في كافة أنحاء البلاد. وفي القدس، حيث كان يحضر كل وقفة احتجاجية 120 امرأة في شهور التي سبقت الحرب، انخفض عدد الحضور الأسبوعي إلى 50، واستغرق الأمر نصف سنة شاقة لزيادة العدد إلى 80. وتعكس بعض حالات انخفاض عدد الحضور غضبًا تجاه الفلسطينيين الذين كانوا يهلِّلون لانهمار صواريخ صدام حسين على تل أبيب العاصمة. كما أن بعض النساء، على الأقل في القدس، كنَّ حانقات على الراديكاليات اللواتي ذررن التآخي في الريح. أما بالنسبة للنساء الأخريات، وخصوصًا في الوقفات الاحتجاجية الصغيرة في الكيبوتزات (2 - 5 نساء)، فقد كنَّ مرهقات جرَّاء سنوات من الاعتداء عليهن، ومثبطات الهمَّة بسبب استشرافهن للمزيد من الاعتداءات بعد الحرب. وقد أبطل توقف الحرب حالة القصور الذاتي للحضور. لكن بدا أن لسان حال بعض النساء يقول أنهن قدَّمن مساهمتهن، وجاء الآن دور الأخريات للقيام بقسط من واجبهن مهما ضَؤل.

دخلت الوقفة الاحتجاجية عامها الثالث وثمانية أشهر بحضور ثابت مغاير تمامًا للسنوات الثلاثة النشطة الأولى. ولم تعد الوقفة الاحتجاجية حدثًا أسبوعيًا مثيرًا، بل فعل التزام وولاء. ولم يكن يدعُ للاستغراب أن النساء الأكثر راديكالية هنَّ من بقين في المقام الأول، رغم أن بعض المعتدلات، مثلي، ما كان بمقدورهن أيضًا تحمَّل التخلِّي عن الوقفة الاحتجاجية. وكان الحضور إلزاميًا حيثما بقيت الوقفات الاحتجاجية، كجسد حميم مُعتَبر أكثر من أيما وقت مضى. وقد كُتِبت الكثير من النعوات مشيرة إلى أن

لا أحد على الغالب، حتى اليسار، سيبكي حين يرحلن. فأولئك اللواتي سُرن في طريقهن الخاص لا بد أن يحسبن حساب أن هذا قد يحدث[1].

لكن الملاحظات حول انقراضنا كانت سابقة لأوانها.

ورغم تضاؤل عددنا في القدس، إلا أن الصخب الذي أحاط بميدان الوقفة الاحتجاجية لم يخمد، وكأنما شيئًا لم يكن قد تغيَّر. في تلك الأثناء، ذاع صيت "نساء بالسواد" إلى حدٍّ كبير في كافة أنحاء العالم بحيث أصبحنا نقطة اجتذاب منتظمة للسياح في يوم الجمعة. وقد اقترح البعض إدراج الوقفة الاحتجاجية في "دليل ميشلين". كما أن ذلك لم يكن موضع حَجٍّ لليساريين من البلدان الأخرى فحسب، بل اجتذب أيضًا مجموعة من الإسرائيليين الساخطين. وغالبًا ما كان يفوق عدد المؤيدين والخصوم والسياح ووسائل الإعلام عددنا نحن "نساء بالسواد". لقد انتهت حرب الخليج، لكن الاحتلال ما زال أمرًا قائمًا بالنسبة لمليوني فلسطيني، وبقي الميدان ساحة للمعركة بين المواقف اليسارية واليمينية بخصوص هذا الأمر. وأولئك الذين كانوا يأتون ليشهدوا المواجهة ويخلِّدوها بالكلمات والصور.

عندئذ، بدأت "نساء بالسواد" بذل جهود حثيثة لزيادة عددهن. وقد طلبنا من النساء محاولة تجنيد صديقاتهن، لكن الأمر باء بالفشل. وكانت فكرتنا المقولبة قد انحدرت من سيء إلى أسوأ، حيث كنا نقيم الوقفة الاحتجاجية في الأسابيع الأخيرة من حرب الخليج، في حين أن بقية البلاد قد رصَّت صفوفها، مُضفين علينا سمعة الراديكاليات المتحمسَّات. وكان هذا يحدث فيما نحن نقدِّم طلبًا للحصول على تمويل من أجل نشر كُتيّب حول "التنوع في وجهات النظر" لـ "نساء بالسواد"، أو نشر إعلان في الصحيفة يعرض اعتدال وجهات نظرنا. لكن لم يُقدَّم لنا أي تمويل.

كانت إحدى الاستراتيجيات هي تشجيع النساء اللواتي كنَّ يخططن للخروج من المنزل يوم الجمعة للقيام بزيارة مفاجئة لوقفة احتجاجية أخرى. وبهذه الطريقة، لن تخسر "نساء بالسواد" الوقفات الاحتجاجية وإن كانت خارج المدينة. كما حاولنا أيضًا "تضخيم" الوقفات الاحتجاجية التي كانت تتضاءل وتقترب من حافة الطي. وفي يومي الجمعة التاليين، حملت سيارة نساء من القدس باتجاه الشمال للانضمام إلى المجموعة الشاحبة في زيخرون يعقوب. كنا نأمل أن تشجع وقفة احتجاجية من 10 نساء النساء المحليات للعودة إلى وقفاتهن الاحتجاجية المنتظمة، لكن لم يكن لهذا الجهد من أثر يُذكَر.

تداعت "نساء بالسواد" لعقد اجتماع في كيبوتز جان شموئيل، وهو أول كيبوتز كان قد بدأ وقفة احتجاجية. وقد بدأت بعض الأصوات في هذا التجمع تعكس حالة الإحباط التي شاعت في الحركة. وهنا بعض المقتطفات من محضر الاجتماع[2]:

- هانا كناز من كيبوتز جان شموئيل:

حين أتلفَّت حولي بحثًا عن معسكر السلام، لا أجد أثرًا له. "نساء بالسواد" هي المجموعة الوحيدة التي تحتج على الاحتلال. ولعل هذا هو الأمر الوحيد الذي يدفعني للاستمرار في مثل حرارة هذا الجو بدون أي ظل.

- أنينا كوراتي من كيبوتز كفار روبين:

أُسِرُّ أحيانًا لنفسي: أنتِ الآن امرأة مسنة، وقد قمت بدورك، ويمكنك أن ترتاحي متوَّجة بإكليل من الغار. لكن لدي ابن في الخدمة الاحتياطية في الضفة الغربية وحفيد يقضي خدمته في لبنان. لا يمكنني أن أركن إلى الراحة بسهولة.. لكن الواقع متغيِّر. ويبدو تأثيرنا ضئيلاً على ضوء الأحداث العالمية. ما البديل؟ أن نقف مكتوفي الأيدي؟ ذلك أسوأ تمامًا.

- يافا جافيش من تل أبيب:

ماذا عَنَتْ وقفاتنا الاحتجاجية الطويلة؟ هل غيَّر دأبنا من شيء ما؟ في المعنى العام، ربما لم نترك تأثيرًا في مجرى السياسة، لكنني أعتقد أنه قد كان لنا دورًا خاصًا. ففي المجتمع الإسرائيلي الموغل في الشوفينية، شيَّد الاحتلال إهرامات جديدة من النزعات القومية والعنصرية. فحضور الوقفة الاحتجاجية هو رسالة واضحة مفادها أننا لا نقبل بهذا الوضع.

- إستير ليفانون - موردوخ من كيبوتز غازيت:

أنا أعيش حالة سريالية؛ أقفُ عند تقاطع مجيدو بينما تقوم ابنتي بواجبها العسكري داخل سجن مجيدو.. احتجاجنا له أثر مرئي. وعندما نكون قلَّة، يعتقد الغرباء أن موقفنا قد فقد التأييد.. أنا لا أقف في الوقفة الاحتجاجية من أجل إنقاذ روحي. أريدُ أن أكون فاعلة. علينا سؤال أنفسنا عمَّا إذا كان الوقوف فاعلاً. أنا لا أعلم حتى كيف تؤاتيني القوة لمواصلة الوقوف.

- يائيل رينغ من كيبوتز بيت ألفا:

أجيء إلى "نساء بالسواد" لكي أقول بأنه ليس ثمة إجماع بخصوص الاحتلال.. ليس لدي وهم بأننا عديمات التأثير.. لكننا رسالة تذكير نابضة بالحياة، على بعد بضعة كيلومترات، فالاحتلال يحتدم، ولا نستطيع التغاضي عن ذلك.

- هانا سافران من يافا:

فعلت الحرب ]الخليج[ فعلاً فظيعًا بالنسبة لنا. ويبدو أن هذه التجربة تبرهن على أن الواقع أقوى مما نحن عليه، وأننا لا نملك سيطرة على جزء من الواقع.. لقد سبَّبت الحرب هزَّات عميقة، وحقيقة مغادرة النساء أو عدم رغبتهن في الاستمرار هي نتيجة لذلك.

- فيرا جوردان من كيبوتز راموت ميناش:

توقّفتُ عن حضور الوقفة الاحتجاجية لأن طاقتي قد اُستنفِذت. الوضع الآن فوق احتمالي.. لقد أقمنا الوقفة الاحتجاجية من أجل التاريخ، وهو أمر هام. لم أقف هناك من أجل ذاتي، بل من أجل إسرائيل التي أودُّ أن أراها.. من أجل ولدي.. من أجل حفيدي. من المهم بالنسبة لكل امرأة أن تعرف ماذا فعلت خلال الحروب الكبرى ضد العنصرية.. النساء هنَّ ضمير. لكن ما زال علينا أن نسأل أنفسنا إن كنَّا فاعلات.

- ديبي ليرمان من تل أبيب:

من الواضح للآخرين أننا قلَّة من النساء. وتلك مشكلة.. لقد بدأنا كحاملات للمشعل، ثم حافظنا على الجذوة متَّقدة، ونحن الآن نشعل فتيلاً. إنه مأزق، لكن فتيلاً واحدًا أفضل من عدمه.

- امرأة مجهولة:

أُكنُّ الاحترام لـ "نساء بالسواد"، لكن في داخلي لا أعتقد أن ذلك يُحدِث فرقًا. فالعرب يعانون من تبعات العنصرية، والمرأة العربية تختلف عن المرأة اليهودية. أنا عربية - إسرائيلية، وأنتمي إلى الشعب الفلسطيني. ومظاهرات اليسار لا تُحدِث فرقًا حقيقيًا، لكنني أحترمهم.

- فاطمة يونس من كفار آرا:

أعتقد أنه ينبغي علينا الاستمرار.. فأنا كعربية - إسرائيلية لا أشعر بالانتماء إلى دولة إسرائيل، لأن الإسرائيليون يرون فيَّ عدوًا. وأنا لا أتمتع بالمنافع التي يتمتع بها المواطنون اليهود. فالعرب يمارسون الأعمال القذرة لإعالة أسرهم. وكامرأة عربية، أعتقد أنه على شعبي الاعتماد على نفسه فقط. لكن يجب ألا نيأس، علينا المضي في مسيرتنا رغم العقبات.. هناك مجاعة في المناطق، وليس لدى الأمهات ما يسدُّ رمق أطفالهن. لكنهن لا يُبصرن أولئك الذين ينشدون السلام في الأوساط اليهودية. المرأة اليهودية تقف في الوقفات الاحتجاجية من مصلحتها الخاصة، لمساعدة أطفالها، وليس من أجل الشعب الفلسطيني فحسب.

- ميريام فرانك من كيبوتز جان شموئيل:

لم أكن أذهب إلى الوقفة الاحتجاجية لفترة طويلة. فأنا لا أعتقد أن لنا أي تأثير، وإن كان لنا تأثير فهو سلبي وليس إيجابيًا.

من الواضح أن الشعور بالنشاط قد ولَّى، ويجب الآن الإسهام في أشكال جديدة للتحفيز.

جائزة سلام من ألمانيا

في ذلك الوقت، أُعلن أن حركة "نساء بالسواد" في إسرائيل اُختيرت لتكون إحدى حركتين تتلقَّيان سنويًا جائزة آخن للسلام، والتي كان يشير إليها البعض على أنها البديل عن جائزة نوبل للسلام. وقد كانت تُمنَح هذه الجائزة سنويًا منذ العام 1988 من قِبل ألمان يرغبون في التعبير عن احتجاجهم على مُنح جوائز السلام لشخصيات ومنظمات تُمثِّل سياسة القوة والنزعة العسكرية - تجار حروب مُعاد تشكيلهم، إذا جاز التعبير.

لدى إعلان الجائزة، صرَّحت منظمة آخن للسلام بأنه

لثلاث سنوات ونصف السنة، كانت حركة "نساء بالسواد" صامدة - أحيانًا في مواجهة معارضة عدائية، بل وعنف أيضًا - في وقفة احتجاجية تُطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي والتقدُّم في عملية السلام.

وقد عبَّرت بعض من "نساء بالسواد" عن تحفظاتهن بشأن قبول جائزة سلام من ألمان، خصوصًا على ضوء رفض الجالية اليهودية في آخن للجائزة. لكن هذه التحفظات تبدَّدت بالنسبة لنا حين بات واضحًا أن منظمة آخن تتألف من 30 منظمة ونحو 100 شخصية كان لها دور بارز في مناهضة الفاشية. حيث كان الكثير منهم بدؤوا نشاطهم العام إبان الحرب العالمية الثانية في حركات سرية مناهضة للنازية اضطلعت بدور في إنقاذ اليهود وأناس آخرين مضطهدين. وكان من بين أعضاء المنظمة ممثِّلون عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحركات سلام وأطباء ضد الأسلحة النووية وآخرون.

تم تسليم مكافأة الجائزة في مدينة آخن في 2 أيلول 1991. وقد سافرت امرأتان تُمثِّلان "نساء بالسواد" إلى ألمانيا لقبول الجائزة باسم الحركة: أسمهان فرح، وهي امرأة عربية من حيفا، وماجدالينا هيفيتس، امرأة يهودية من القدس. وفي مقطع من خطاب القبول البليغ، ربطت ماجدالينا بين تعقيد القضايا المتعلقة بهذه الجائزة:

نحن ندرك أن هذا الخيار كان خيارًا شائكًا؛ نعلم أن المزاعم جعلت من اختيارنا يعني اختيار عدو لإسرائيل؛ ونعرف جيدًا أهمية هذا الأمر بالنسبة لكم في ألمانيا اليوم..

أعزائي أعضاء منظمة جائزة السلام، إنما تؤكِّدون، في منحنا هذه الجائزة، على أنه حتى إسرائيل ليست بمنأى عن النقد، وأن المرء يمكن أن يميِّز بين معظم الشعب الذي يرغب بالسلام، وبين حكومتنا التي تعمل على إدامة الاحتلال.. وفي إشارتكم لنا، لاحظتم أنه لا أحد ممن ينتقد سياسة الحكومة الإسرائيلية هو كاره لإسرائيل. فالعكس هو الصحيح: لقد برهنتم على أنه من الممكن، بل من الضروري في الحقيقة، انتقاد سياسات وممارسات حكومة إسرائيل، وفي الوقت نفسه يحب إسرائيل ويدعم أولئك الذين يسعون إلى السلام من أجلها. وعلى نفس المنوال، نحن نحب  بلدنا إسرائيل ومرتبطون على نحو وثيق به، وسنواصل الكفاح من أجل القيم الإنسانية ضمنه.

تضمَّنت جائزة آخن للسلام مكافأة مالية تعادل حوالي 3600 دولار أمريكي. وقد ارتأيتُ أنا أن تحتفظ "نساء بالسواد" بكامل الأموال من أجل تغطية مصاريف الحركة، مثل الإعلان السنوي الذي يُنشر في الصحف لدعوة الرجال للانضمام لنا في وقفة احتجاجية مرة واحدة في شهر حزيران من كل سنة. لكن الغالبية العظمى من "نساء بالسواد" اعترضن على صرف أموال الجائزة "من أجلنا نحن". وجرى بعد ذلك استطلاع لرأي النساء في الوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء إسرائيل، تقرَّر على ضوئه إنفاق 2000 $ من المكافأة للمساعدة على إنشاء مكتبة نسائية في قطاع غزة - وهو مشروع مشترك لكل المنظمات النسائية في غزة - ويمكن صرف المبلغ المتبقِّي "من أجلنا نحن"[3].

لم تترك مكافأة هذه الجائزة الرفيعة المستوى تأثيرًا جوهريًا على المشاركة في الوقفات الاحتجاجية. فمعظم النساء في الواقع لم يستوعبن مغزى هذه الجائزة، كما تم تجاهلها من قبل كافة وسائل الإعلام الرئيسية، رغم إرسال بيانات صحفية لكل تلك الوسائل. أما في ألمانيا، فقد حظي الحدث بتغطية إعلامية واسعة.

زمن المؤتمر: مدريد وحركة "نساء بالسواد"

في خريفنا الرابع (1991)، نظَّم فريق من القدس من "نساء بالسواد" مؤتمرًا يهدف إلى نفخ حياة جديدة في الحركة. وقد حضرت أكثر من 200 امرأة من كل أنحاء إسرائيل، الكثير منهن من الوقفات الاحتجاجية التي أوصدت أبوابها منذ زمن، لكن حيثما كانت النساء مازلن يشعرن بقوة بالتماثل مع الحركة. وكانت القضية الأساسية المطروحة على جدول الأعمال هي كيفية إنعاش الوقفات الاحتجاجية. وكانت هناك ورشات عمل حول "التعلُّم من الإنجازات والإخفاقات في الوقفات الاحتجاجية"؛ "كيف يمكن أن تكوني في حركة "نساء بالسواد" عندما تكون البيئة المقرَّبة (العائلة، الأصدقاء، الكيبوتز...) غير مؤازرة؛ وببساطة "التغلب على المصاعب بالكيِّ". وعُرض على بساط البحث عدد من الأفكار من أجل التقوية والتشبيك فيما بيننا، بما في ذلك نشر رسالة إخبارية للحدِّ من عزلة الوقفات الاحتجاجية البعيدة، وهو المشروع الذي اضطلعتُ أنا به. وكانت إحدى المشاهد الأشدِّ إشراقًا في المؤتمر هي منح شهادات لأكثر من 30 وقفة احتجاجية، بعضها مازال قائمًا وأخريات انتهت مع الحرب. وكان يمكن رؤية علامات الفخر على وجوه النساء وهنَّ يجمعن الشهادات ويعبِّرن عن شكرهن بتصفيق حماسي من بقيتنا وهنَّ يقفن تقديرًا لهذا الفضل.

لكن، قبل بضعة أيام من انعقاد مؤتمر "نساء بالسواد"، علمنا سوية مع بقية العالم عن خطط لعقد مؤتمر شرق أوسطي من أجل السلام في أواخر تشرين الأول 1991 في مدريد. وقد أذهل هذا الحدث الجميع. وكان عدم تصديقنا بأن حكومة الليكود الإسرائيلية المتصلِّبة تُقدِم على تنازلات من أجل السلام يقابله أمل أنه ربما، رغم كل شيء، قد أبصر رئيس الوزراء شامير النور. لذا ناقش مؤتمر "نساء بالسواد" كحركة أيضًا قضية كيفية الاستجابة إلى هذا الواقع السياسي المتغيِّر. وهل كان تغيّرًا فعلاً أم أنه مجرد خديعة من شامير لتلطيف الضغط الأمريكي على إسرائيل؟ عمليًا، تساءلنا فيما إذا كان على الوقفات الاحتجاجية تبنّي رسالة ثانية تُرافق لافتة "كفى للاحتلال". واقترح البعض عدم إضافة أية كلمات، بل وردة بيضاء على رداء الحداد الأسود ترمز إلى الأمل. وكالمعتاد، اختارت النساء ترك القرار لكل وقفة على انفراد، وعدم التقرير على أساس وطني. ولم تغيِّر أية وقفة احتجاجية من صيغتها، رغم أن بعضها أضافت لافتات تعمُد إلى تشجيع المبادرات في مدريد.

من مؤتمرنا الوطني، كتبت "نساء بالسواد" النص التالي باللغات العبرية والعربية والإنكليزية وتم إرساله بالفاكس إلى كل الوفود العربية والإسرائيلية في مؤتمر مدريد:

يهيب المؤتمر الوطني لـ "نساء بالسواد" بالمشاركين في مؤتمر مدريد للسلام للشروع بعملية تعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي وخلق إطار للسلام في الشرق الأوسط من شأنه ضمان الأمن والاستقلال لإسرائيل والشعب الفلسطيني.

ونلاحظ بأسى أن تمثيل النساء دون المستوى المطلوب في كل الوفود؛ ونحن نعتقد أن زيادة مشاركة النساء يمكن أن يعزِّز بشكل ملحوظ الجهود الرامية إلى تحقيق الحوار والسلام.

بشجاعة وصمود، طالبت "نساء بالسواد" إنهاء الاحتلال والبدء بجهود للسلام. وكلنا أمل بأن العملية التي بدأت في مدريد ستقود إلى سلام عادل ودائم لكلا الشعبين.

أخيرًا، ومع الغروب، ختمنا مؤتمرنا بوقفة احتجاجية جماهيرية على الطريق السريع عند تقاطع القدس - تل أبيب. وقفت هناك ما يقارب 150 امرأة تنيرهنَّ الأضواء الساطعة للطريق السريع والأنوار الحمراء الوامضة لسيارات الشرطة التي كان من المفترض تواجدها لضمان عدم عرقلة الوقفة الاحتجاجية للسير. وقفنا على جانب الطريق، مرتديات السواد وحاملات لافتاتنا المميَّزة، تاركين لأضواء سيارات الشرطة الخمسة لفت انتباه معتم لنا. وما كان بمقدورنا القيام بذلك على نحو حسن بدون الشرطة الإسرائيلية. كانت لحظة وجود خاطفة، استعادة للأيام الخوالي من حيث الحجم والقوة، على الرغم من أن هناك الآن ما يُقارب الـ 500 امرأة أو أكثر لم يكن بمقدورنا الاحتشاد قبل سنة على وجه الضبط.

ثابت حيثما تمضي

صمود (Sumud)، ثبات.. هذه الكلمة العربية التي ترمز إلى تشبث الفلسطينيين بآرائهم رغم كل المحن. ذلك يعني عدم الحيدان عن الهدف النهائي، ولا الانحراف عن الطريق لتحقيقه. فهو لا يحمل مفهوم مسعى عدواني، بل يدلُّ على الانتظار الهادئ: قوة المقاومة اللاعنفية.

خلال تلك السنوات الفاصلة لـ "نساء بالسواد"، كنتُ أحيانًا أفكِّر بالوقفة الاحتجاجية كتعبير عن صمود. لا أقصد بذلك المقارنة بين السنوات الطويلة لمعاناة الفلسطينيين مع تضحيتنا الأسبوعية المتواضعة، لكن هناك وجه شبه بخصوص الطريقة التي كانت "نساء بالسواد" تسير بها بهوادة خلال تلك السنوات؛ على نحو هادئ وراسخ، بدون أي حدٍّ أو توقعات مأمولة، حين ذابت الآمال التي كانت معقودة على مؤتمر مدريد في مشهد الموت والعنف المستمر. وتتذكَّر عضو الكنيست شولاميت آلوني:

كنا جميعًا غائصون في نوع من الجبرية، يأس، وشعور بأنه ليس لدينا وسيلة للتأثير في هذا البلد من أجل السلام[4].

وبحلول كانون الأول، تمكَّنا من العودة إلى اجتماع أسبوعي منتظم من 80 - 90 امرأة في القدس، لكن العديد من الوقفات الاحتجاجية في الشمال والجنوب واصلت نشاطها بامرأتين أو ثلاثة أو أربعة نساء فقط. لم يكن الأمر سهلاً. فما من وقفة احتجاجية احتجبت في بقية البلاد انتعشت أبدًا.

استمر الموت والعنف الناتج عن الاحتلال بلا هوادة خلال السنة الخامسة لـ "نساء بالسواد" (1992)، فبدأ يسري ضمن الوقفة الاحتجاجية شعور باللاجدوى والعجز عن التأثير. وقد بدت بعض الأسابيع كما لو أنها جهد هائل للعودة إلى هناك. فقد جرت أحداث - حرب الخليج، محادثات مدريد للسلام، الممارسات الإرهابية الفظيعة من كلا الجانبين - بدا أن "نساء بالسواد" لا حول لها ولا قوة حيالها... لا تأثير. فمع عدم قدرتنا على تعديل رسالتنا أو تغيير رموزنا بدت الوقفة الاحتجاجية في القدس أنها وضعت نفسها خارج الاضطراب الهائل، منقطعة تمامًا عن الصالح والطالح. كنَّا ما نزال - رغم كل هذا - بنفس لافتاتنا وأزيائنا القديمة، وما يزال الاحتلال يشتدُّ. أما تلك الوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء البلاد، التي كانت قد أضافت شعارات جديدة... هل يزاد هذا من فعاليتها؟ أشكُّ في ذلك. فأنا أعتقد أن رسالة الوقفة الاحتجاجية كانت حضورنا الصامد، بغض النظر عن أية تعديلات في اللافتات.

غالبًا ما كانت آراء من بعض "نساء بالسواد" تعبِّر عن أن الرجال لن يقفوا أبدًا في وقفة احتجاجية طالما نحن نقوم بذلك. وانعكس هذا في قول هيلا يانيف:

وقفة احتجاجية صامتة ومنتظمة هي شكل نسائي للاحتجاج. إنها بدون فاعلية بالنسبة للرجال، فهم يتطلَّبون فعلاً أكثر وقولاً أكثر[5].

لكن لم يكن فقط قلة الحديث والفعل الذين أثبطا الهمم. ربما يحسب الرجال الكلفة وكسب استثمارها، بناء على نتائج غير ملموسة. منافع منخفضة، إن كانت بأية حال.

وقد تحولت الآن الوقفة الاحتجاجية من أسبوعيًا إلى سنويًا. ومع اقتراب نهاية السنة الخامسة للوقفة الاحتجاجية، كتبتُ في النشرة الإخبارية:

شتاء قاسٍ: لم يُحرز تقدُّم يُذكر في عملية محادثات السلام، مزيد من القتلى والمُعاقين الفلسطينيين، مزيد من القتلى والمُعاقين الإسرائيليين، مزيد من البيوت المهدَّمة، مزيد من العائلات المشرَّدة. يرغب المرء في هزِّ أكتاف السياسيين والجنرالات والإرهابيين من كلا الجانبين - هزِّهم للخروج من جنونهم، هزِّهم لإدراك العبث المأساوي لما يسعون إليه. متى سيتوقف كل هذا الذي هو من صنع الإنسان؟

شهر آخر ونبدأ السنة السادسة من الوقفة الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد". من كان يعتقد، حين بدأنا، أنه سيستمر لفترة طويلة جدًا؟ ذلك أننا ما زلنا نقف أيام الجمع المحرقة صيفًا، والبرد الذي ينخر العظام شتاء، كتفًا لكتف.. ما زلنا نتحسَّر على شراء معطف أسود دافئ، معطف يقي من المطر، قبعة سواء.. ما زلنا نقف بكنزاتنا السوداء الأكثر دفئًا، مرتجفات، حاملات أكفَّنا السوداء الصغيرة بنفس الرسالة القديمة عليها.. ما زالت رمزًا لكل الذين يتخطَّون الضمير والمبادئ الأخلاقية والإنسانية والتفاؤل والالتزام والرحمة والقوة والمرأة. من كان سيتعقد ذلك[6].

بعد ذلك، ولمرة واحدة، أوردت كل الصحف الوطنية، كما محطة التلفزيون الوطني، نبأ موجزًا عن ذكرانا السنوية الخامسة. هل كانت هذه لغة كاساندرا المثابرة للصحافة الأجنبية؟ لا، إنها لغة "الندَّابين الغافلين" للشكَّاكين المحليين. لقد كان العنوان البارز لأكبر صحيفة في تلميح إلى خمس سنوات من الحداد:

خمس سنوات بالسواد. مجموعات تحاكيهن في كل أنحاء العالم، والسياح يؤدُّون الحج لرؤيتهن، والسائقون يشتمونهن ويومئون إليهن بإشارات بذيئة، لكنهن يستمررن فحسب في القيام بعملهن الخاص[7].

وكان العنوان الصحفي البارز الآخر:

250 أسبوعًا في الميدان. تختتم حركة "نساء بالسواد" هذا الأسبوع سنتها الخامسة. فبعد مئات المظاهرات وآلاف الشتائم، تبقى الحركة في المقام الأول رمزية بدون تأثير سياسي[8].

أما دافار، الصحيفة الأكثر ميلاً لليسار، فكان عنوان مقالها الرئيسي: "خمس سنوات من الورود والبيض الفاسد". ليس من كلمة تحمل حتى إعجاب ضنين. ما الذي تقوله عن أنبياء في وطنهم الخاص؟ كان ينبغي على المرء حقًا أن يكون ملتزمًا - أو أحمقًا - للاستمرار دون انقطاع. لكننا قمنا بذلك.

انتخاب رابين

أُفتُتحت السنة السادسة للوقفة الاحتجاجية (1992) بجبهة جديدة، مباشرة في مدينة القدس: تنفيذ أوامر بنزع ملكية خمس عائلات فلسطينية في حي سلوان العربي المجاور، تم تنظيمها من قبل مستوطنين متديِّنين تلقّوا عونًا وتحريضًا من سيء الصيت آرئيل شارون[9] ووزارة الإسكان التي كان يرأسها آنذاك في حكومة الليكود. وقد انتقل المستوطنون إلى بعض هذه المنازل واحتجزوا بعضها الآخر من أجل استملاكها مستقبلاً. وكان هذا جزء من عملية جارية منذ سنوات، حتى في ظل الإدارة البلدية المتنوِّرة نسبيًا لرئيس البلدية تيدي كولر، في محاولة للتقليل من عدد السكان العرب في القدس[10]. لكن نظرة كولر كانت أقل صخبًا مما كان يُنفَّذ من قبل اليمين المتطرف، بل أنه حتى انضم إلى مظاهرات الاحتجاج في الشوارع. وكان عجز رئيس بلدية القدس نفسه عن منع هذه النشاطات الشائنة، ولجوئه إلى الاحتجاج في الشارع مثله مثلنا، مؤشر إحباط لكل من هو خارج اليمين العسكري. وقد بدأ هذا الأمر بعد شهرين فقط من مؤتمر مدريد.

نظَّمت "نساء بالسواد" وقفتهن الاحتجاجية عند مدخل حي سلوان، ومن ثم دخلنه تلبية لدعوات التضامن مع أصحاب المنازل الموضوعة على قائمة الطرد، أو الذين قد طُرِدوا للتو وقمنا بزيارتهم في خيمتهم[11]. لقد جرت هذه النشاطات المشينة في مدينتنا نحن؛ في مناطق، رغم كونها محتلَّة، كانت قد ضمَّتها إسرائيل فأصبحت بالتالي خاضعة للقانون الإسرائيلي، ولم يكن بمقدورنا الحيلولة دون ذلك. ورغم إصدار المحاكم بصورة أولية أمرًا مُشدَّدًا، إلا أن الفلسطينيين خسروا في النهاية قضيتهم المشروعة. ولم يكن بمقدور أحد كبح الغطرسة غير الملجومة للتيار اليميني، على الأقل من قبل قلة من النساء أو مجموعات حقوق الإنسان أو الرأي الدولي الساخط. فقد فعل المستوطنون ما أرادوا: رمَّم شارون المتبجِّح منزلاً لمصلحته الخاصة في قلب الحي الإسلامي للمدينة القديمة، واستلزم هذا الأمر حماية على مدار الساعة من قبل فرق من الجنود؛ كما توسَّعت المستوطنة اليهودية في وسط مدينة الخليل الفلسطينية بالاستيلاء على الأبنية الجديدة؛ وواصلت حكومة الليكود ضخَّ الأموال للمستوطنات، بشروط تمويل عقارية خاصة ومزايا ضريبية ضخمة لليهود المستعدين للانتقال إلى منازل في المناطق المحتلة.

ومن ثم جاءت الانتخابات، وأحسَّ حزب العمل أن الوقت قد حان للقيام بحملة بناء على برنامج أكثر اتجاهًا نحو السلام. حسنًا، لنتمهل قليلاً. فلم يدعُ برنامج حزب العمل إلى إزالة المستوطنات، ورفض صراحة حق الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم. فما قام به حزب العمل عمومًا هو تدبيج بيانات مبهمة حول التطلُّع إلى السلام وإيجاد "تسوية سياسية" مع الفلسطينيين. لكن حزب العمل كان أيضًا شديد الحرص على وضع على رأس قائمته رجلاً عُرِف بكونه صقرًا بخصوص المسائل الأمنية، وكان رئيس هيئة الأركان ومهندس النصر العسكري عام 1967، ومدافعًا متحمسًا لوجهة النظر التي تقول بأن الصراعات تُحلُّ بالقوة. باختصار، دعم حزب العمل السلام واستثمر صورة إسحق رابين كجنرال بأوراق اعتماد حربية إلى رأسمال.

جرت الانتخابات في الثالث والعشرين من حزيران؛ ففي الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم حصلت اهتزازات تردَّدت أصداؤها في البلاد: لقد فاز حزب العمل. وقد سمعت الأخبار الجديدة من داخل مركز انتخابي كنتُ مكلَّفة رسمية بإحصاء الأصوات فيه. وأتذكَّر رغبتي الجامحة في الصراخ بهجة، لكنني كنت الوحيدة من معسكر السلام في تلك الغرفة. ولم تكن تلك فكرة صائبة في تلك اللحظة.

عدتُ إلى المنزل في تلك الليلة وأجريت مكالمات هاتفية، وتشاركنا جميعًا مشاعر الارتياح والآمال مع بعضنا البعض. كان الأمر رائعًا. فعلى مدى الأيام القليلة التالية، شكَّل حزب العمل ائتلافًا مع حزب ميريتس الذي هو نفسه تحالفًا من ثلاثة أحزاب صغيرة تميل إلى اليسار، ومع شاس وهو حزب أرثوذوكسي متشدِّد يهتمُّ في المقام الأول بتعميق الطابع الديني لإسرائيل وكان على استعداد لأن يكون مرنًا بخصوص قضية السلام متقدِّمة على أهدافه الأخرى. لقد بدوا حقًا كفريق يمكن أن يصنع سلامًا. وكانت لحظة أداء رابين للقسم في 13 تموز 1992 مليئة بالترقُّبات بالنسبة للكثير منا.

اجتمعت حركة "نساء بالسواد" في كافة أنحاء إسرائيل لمناقشة ما يجب عمله: كيفية الاستجابة على "الواقع السياسي المتغيِّر" كما كنا نحيل اتخاذ القرار إلى هذا النقاش المتكرر فيما بيننا. لقد جرت هذه المحادثة بعد حرب الخليج، وبعد مؤتمر مدريد للسلام، والآن بعد انتخاب رابين. لكن لم يبدُ على النقاش أي تغيُّر: رأت بعض النساء بأن الوقت قد حان لإنهاء الوقفة الاحتجاجية، وأخريات رأين بحزم بأنه ما دام الاحتلال قائمًا، علينا ألا نتخلى عن ميدان الوقفة الاحتجاجية. وكانت حجج الأخيرات أن رابين تعهَّد ببرنامج سلام، لكن من الضروري تذكيره بذلك. وهكذا، توقَّفت كتلة من النساء عن النشاط في مجموعتنا وأنهين وقفتهن الاحتجاجية عند أربعة سنوات ونصف. وعادت بقيتنا إلى ميدان الوقفة الاحتجاجية. موجات من الأمل متناوبة مع موجات من التشاؤم، ولم يتغير شيء رسالتنا أو هيئتنا.

أثر الانتخاب

لم تقم وزارة رابين في سنتها الأولى بما يعزِّز التفاؤل، حيث كان العنف يتصاعد وحسب. فقد قتل الإسرائيليون المزيد من الفلسطينيين، وقتل الفلسطينيون المزيد من الإسرائيليين أكثر مما حدث خلال السنة الأخيرة من حكم الليكود[12]. ففي إحدى الحوادث، هدمت إسرائيل بواسطة القذائف المضادة للدبابات 19 منزلاً في غزة في بحث عن أحد الإرهابيين المشتبه بهم وقتله، وهكذا أصبحت 19 عائلة إضافية لم يكن لها يد بما يحصل من إرهاب بلا مأوى، وعدوَّة لدودة لإسرائيل.

حدث الصدع الأكثر سوءًا في الثقة بحكومة رابين في 17 كانون الأول 1992، بعد ستة أشهر فقط من توليه السلطة، حين جاء ردُّ رابين على سلسلة من العمليات الإرهابية لحماس (تسبَّبت بمقتل ستة من الجنود الإسرائيليين) بإبعاد 415 من أعضاء حماس. لم تكن هذه عقوبة مطبَّقة من قبل محكمة قانونية أصدرت حكمًا حسب الأصول ووجدتهم مذنبين. ففي الواقع، سُحِب معظم أولئك المبعدين من السجون حيث كانوا فيها، وبالتالي لم يكونوا متورطين في أحداث القتل الأخيرة. أما البقية فقد أُخِذوا من بين 1500 كانوا قد اُعتقلوا من منازلهم خلال الثلاثة ليال السابقة وسيقوا إلى مراكز الاحتجاز. ووُضع المختارون سيئو الحظ في حافلات باتجاه لبنان التي رفضت قبولهم، فبقيوا بالطبع في الأرض المحايدة بين إسرائيل والأراضي التي تسيطر عليها لبنان، محاطين بحواجز من كلا الجانبين. بلا تُهم، بلا محاكمة، وبلا عدالة. لقد نصَّب رابين نفسه قاضيًا، وأجهزة الأمن السرية مدَّعيًا عامًا، وليس هناك من هيئة دفاع.

تأجَّل أمر الطرد مدة 24 ساعة، حيث عملت مختلف منظمات حقوق الإنسان بنشاط محموم لنقض القرار، لكن محكمة العدل العليا الإسرائيلية، معقل الديمقراطية في كل المسائل ما عدا التي تخص المناطق المحتلة، أصدرت قرارًا يخوِّل الحكومة الحق في الإبعاد بدون محاكمة. وقامت ضجة دولية، ودعا قرار من الأمم المتحدة إسرائيل إلى إعادة المبعدين على الفور، وحتى المؤيدين لحزب العمل وميريتس شعروا بأنهم طُعِنوا في الظهر، لكن رابين لم يتزحزح قيد أنملة. وبعد ثمانية أيام، صوَّتت الحكومة الإسرائيلية ثمانية مقابل ستة بعدم السماح للصليب الأحمر في المرور عبر الأراضي اللبنانية التي تسيطر عليها إسرائيل لتسليم مساعدة إنسانية إلى المبعدين. كان هذا كثيرًا بالنسبة لحكومة رابين المُنصَّبة حديثًا[13].

هكذا كان الحال كالمعتاد بالنسبة للفلسطينيين في السنة الأولى للاحتلال من حكم رئيس الوزراء رابين. وقلَّة جديدة من النساء انضممن فعليًا إلى الوقفة الاحتجاجية بعد الإبعاد. وبانتقالنا إلى السنة السابعة للوقفة الاحتجاجية (1993)، لم يكن هناك من خاتمة في أي مكان يلوح في الأفق، وما زالت 4 - 10 وقفات احتجاجية تتشبَّث هناك، مع عدة مئات من النساء ما زلن يظهرن في كافة أنحاء البلاد.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] دوريت بن، حتى اليسار لم يحبهم، Ha'Ir، 26 تموز 1991 ]بالعبرية[.

[2] مقتطفات مترجمة من محضر الاجتماع في 29 آب 1991.

[3] للتدوين، لاحظتُ أن "نساء بالسواد" لم يكن لديهن موارد ذات شأن، ماعدا منحة من أجل نشر الرسالة الإخبارية عن طريق تبادل التمويل في نيويورك. وكانت المصاريف الأخرى المطلوبة (إعلانات، رسائل ريدية، مواد لصنع اللافتات...) تُدفع من جيوب النساء. وقد حدث التمويل فقط عندما عقدنا مؤتمرنا الوطني في كانون الأول العام 1994، حيث قدَّمنا طلباً وتلقّينا دعمًا من عدة مؤسسات وشخصيات: مؤسسة الوادي، صندوق الحوار (السفارة الكندية في إسرائيل)، صندوق من أجل مجتمع رحيم، تبادل التمويل، سالي غوتسمان، دافينا عزرائيلي، جوليان ليفينسون لمؤسسة ماكس وآنا ليفينسون، مؤسسة صاموئيل روبين، وأنيتا شتاينر.

[4] من دوريت بن، حتى اليسار لم يحبهم.

[5] هيلا يانيف Nerilivne، رؤية السواد، حادشوت، 6 أيلول 1990، ص 27 ]بالعبرية[.

[6] جيلا سفيرسكي، زاوية المحرر، الرسالة الإخبارية الوطنية لـ "نساء بالسواد، شتاء 1992 - 1993، عدد 4.

[7] رونيت أنتلر، خمس سنوات بالأسود، يديعوت أحرونوت، 5 كانون الثاني 1993 ]بالعبرية[.

[8] ليلي غليلي، "250 أسبوعًا في الميدان، هاآرتس، 3 كانون الثاني 1993 ]بالعبرية[.

[9] شارون سيء الصيت بسبب آرائه القومية العسكرية. لكن الأسوأ، برأيي، كان غزوه للبنان العام 1982 وقصفه مدينة بيروت. وتكشّف دليل أخير أن شارون، وكان وقتئذ وزيرًا للدفاع، أخفى خططه عن رئيس الوزراء بيغن الذي كان يحبذ هجومًا محدودًا، إلى أن كان أمرًا واقعًا. وخلال الحرب تفسها تلقّى شارون تعنيفًا رسميًا شديدًا وأُجبر على التنازل عن وزارة الدفاع إثر مجزرة وقعت ضد الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا إلى الجنوب من بيروت، والتي غضَّت القوات الإسرائيلية النظر عنها. لكن هذا لم يمنع من تعيين شارون وزيرًا للإسكان في حكومة الليكود اللاحقة، حيث عمل بإخلاص لم يسبق له مثيل على تشييد مستوطنات في الأراضي المحتلة، وتسهيل الشروط العقارية للمستوطنين.

[10] يظهر توثيق كامل لهذه العملية في بتسيلم (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة)، سياسة التمييز: نزع ملكية الأراضي، وتخطيط وبناء في القدس الشرقية، جيروزاليم، أيار 1995.

[11] من أجل مناقشة أكثر إحاطة بعمليات الطرد هذه، انظر جيلا سفيرسكي، "الرحلة الطويلة إلى سلوان، Tikkun، الجزء 7، العدد 2، آذار - نيسان 1992.

[12] في الأشهر الإثني عشر الأخيرة من وزارة شامير، قتلت أجهزة الأمن الإسرائيلية 102 فلسطينيًا في الأراضي المحتلة، وقتل الفلسطينيون 5 إسرائيليين داخل إسرائيل. وقد قُتل أكثر من ذلك من الطرفين في الأشهر الإثني عشر الأولى من وزارة رابين: 178 فلسطينيًا و9 إسرائيليين. البيانات مستقاة بإذن من بتسيلم، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، القدس.

[13] من أجل تفصيل كامل للإبعاد وانتهاكات حقوق الإنسان، انظر بتسيلم، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، إبعاد الفلسطينيين من الأراضي المحتلة والإبعاد الجماهيري لكانون الأول 1992، القدس، حزيران 1993.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود