|
قيم خالدة
تلقَّيتُ نُسَخَ مجلتكم الرأي الهندي، فسررتُ بالغ السرور بقراءة كل ما يمت فيها بِصِلةٍ إلى اللاَّمقاومة[1]، وأود أن أشاطرك الخواطر التي ألهمتْني إياها هذه القراءة. كلما تقدمتْ بي السن – ولاسيما الآن وأنا أشعر بدنوِّ الأجل – أزداد رغبةً في أن أقول للآخرين ما أستشعره بكلِّ قوة وما يتسم في نظري بأهمية بالغة – وأقصد ما يُسمَّى باللاَّمقاومة، وإنْ لم يكن في الواقع غير شريعة المحبة وقد تخلَّصتْ من تفسيراتها الزائفة كلِّها. يشعر كل إنسان ويتعرف في أعماق نفسه (وهذا نراه في وضوح عند الأطفال) بأن المحبة – أي توق النفوس إلى الاتحاد والسلوك الناجم عنه – هي شريعة الحياة الوحيدة والعليا؛ إنه يعرف ذلك مادامت لم تغرِّر به تعاليمُ العالم الكاذبة. وهذه الشريعة أعلنها حكماءُ الكون جميعًا، رومانًا كانوا أم إغريقًا أم يهودًا أم صينيين أم هندوسًا. وأعتقد أن أجلى صياغة لهذه الشريعة جاء بها المسيح، الذي أكد حتى إنها تلخِّص الناموس والأنبياء[2].
أمورٌ كثيرةٌ جذبتْني إليها، كالأخ، إنْ لم أقل كالعاشق الصوفي، فتملَّكتْني ولمَّا تزل. وأول ما جذبني فيها صفاؤها المذهل وذكاؤها الحاد، وخاصةً – نعم خاصةً – صدقها العميق وروحانيتها التي كانت من أجمل ما أتيح لي الاطلاعُ عليه والإحساسُ به. وأيضًا... مسيرتها التي كانت، من بعض جوانبها، شبيهةً بمسيرتي. فعلاقتها بشقيقها أندريه وبمن أحبَّت تذكِّرني دائمًا بعلاقتي بشقيقتي إكرام وبمن أحببت في حياتي. ولأن أول ما حرَّكها كان حب الحكمة (أو الفلسفة)، ومن خلالها كان بحثها الوجودي الدائم عن حلم اسمه "عدالة". وهو الأمر الذي قادها – يا للروعة والخيبة معًا! – إلى الانغماس في عالم العمل وإلى التعامل الكلِّي الصادق مع ما صادفتْه إبان مسيرتها من حركات، سرعان ما تجاوزتْها جميعها؛ وهو الذي دعاها لمشاركة العمال حياتهم في المصانع، بعدما شعرت بعمق مأساتهم الإنسانية، وقاد محاولتها الفوضوية للانخراط في الحرب الأهلية الإسپانية، كما فعل الكثيرون منَّا، من بعدها، حين تمسَّكوا بوهم ثورة فلسطينية بائسة و/أو صدَّقوا أكذوبة البناء المادي للاشتراكية على أرض واقع إنساني غير مهيأ. ولأن مراجعتها الدائمة لذاتها هي التي أوصلتْها (كما أوصلت بعضنا) إلى "شيء" من تلك الروحانية التي طبعتْ كتاباتها. وأخيرًا، هذا التفاني الذي جعلها تنخرط انخراطًا تامًّا في مقاومة الوحش النازي الذي كان طاغيًا على عالم تلك الأيام – تلك القناعة التي تدفعنا إلى محاربة "الوحوش" التي مازالت تسيطر على عالمنا؛ وتلك المحبة التي جعلتها تقدِّم نفسها من أجل ما آمنتْ به، فأُنهِكَ جسمُها النحيل الذي انهار في آخر المطاف. إنها قديسة من هذا الزمان – سيمون ڤايل، الفيلسوفة والروحانية الكبيرة، التي ولدت في باريس في 3 شباط 1909 من أسرة يهودية مثقفة غير متديِّنة وتوفيت في 24 آب 1943 في قلب مسيحية لم تنتسب البتة إلى مؤسساتها؛ سيمون ڤايل التي سأتحدث عنها في محاولتي الموجزة هذه، متوقفًا أمام المراحل الرئيسية من حياتها، مبتدئًا بما يصطلح بعضهم على تسميته بـ... تُعتبَر إشكاليةُ التوفيق بين العقل والإيمان من أمَّهات الإشكاليات التي شغلت بال الفكر البشري منذ زمن بعيد، فكانت حاضرةً في مدرسة الإسكندرية مع فيلون، الفيلسوف اليهودي الذي حاول التوفيق بين شريعة موسى (ع) وبين الفلسفة الأفلاطونية. كما تصدى مفكِّرو الإسلام لهذه الإشكالية، فعالجها المعتزلة والأشاعرة، ثم الفلاسفة فيما بعد، مع الفارابي وابن سينا والغزالي وابن طفيل: فمنهم مَن أخضع الدين للفلسفة، ومنهم مَن أخضع الفلسفة للدين. وظل الخلاف محتدمًا بين الفقهاء والفلاسفة، حتى قام ابن رشد، ساعيًا إلى التوفيق بين الإيمان والعقل، وبين الشريعة والحكمة، ولاسيما في كتابه فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال[2]، مجيبًا عن تلك الإشكالية التي تتلخص في المسألة التالية: هل النظر الفلسفي مباح في الشرع أم محظور؟
|
|
|