|
صـدق ابن رشـد
تُعتبَر إشكاليةُ التوفيق بين العقل والإيمان من أمَّهات الإشكاليات التي شغلت بال الفكر البشري منذ زمن بعيد، فكانت حاضرةً في مدرسة الإسكندرية مع فيلون، الفيلسوف اليهودي الذي حاول التوفيق بين شريعة موسى (ع) وبين الفلسفة الأفلاطونية. كما تصدى مفكِّرو الإسلام لهذه الإشكالية، فعالجها المعتزلة والأشاعرة، ثم الفلاسفة فيما بعد، مع الفارابي وابن سينا والغزالي وابن طفيل: فمنهم مَن أخضع الدين للفلسفة، ومنهم مَن أخضع الفلسفة للدين. وظل الخلاف محتدمًا بين الفقهاء والفلاسفة، حتى قام ابن رشد، ساعيًا إلى التوفيق بين الإيمان والعقل، وبين الشريعة والحكمة، ولاسيما في كتابه فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال[2]، مجيبًا عن تلك الإشكالية التي تتلخص في المسألة التالية: هل النظر الفلسفي مباح في الشرع أم محظور؟ عن هذه الإشكالية أجاب ابن رشد، ممهدًا لمشروعه الفلسفي التوفيقي بين العقل والإيمان ومدى استلزام أحدهما للآخر، بادئًا بتعريف الفلسفة على أنها ليست سوى النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع؛ أما الشرع فيدعو إلى معرفة هذه الموجودات بواسطة العقل[3]. صدق پول كيرتس حينما قال إن إبن رشد هو واحد من أهم الشخصيات الرئيسية التي مهدت لعالم الحداثة في أوروبا في القرن الثامن عشر، على الرغم من حظِّه السيئ لما لاقاه في آخر حياته من أبناء جلدته، حيث لم تشفع لهذا الفيلسوف الفذ إنجازاتُه النوعية ورؤيتُه العقلية الثابتة والنباهةُ التي جُبِلَ عليها[4]، وهذا نظرًا للدور الهام الذي لعبه في إضافة حلقات كبرى إلى تاريخ الفلسفة، ولجهوده المحمومة في شرح النصوص اليونانية والحفاظ عليها. فعلى إثرها لُقِّبَ بـ"الفيلسوف الشارح"، بعدما تمسَّك بشرايين الفلسفة وسمَّاها بـ"علم البرهان"، متجاوزًا بذلك النشاط التأملي البحت للفلسفة، بما يفضي إلى دراسة الواقع دراسةً دقيقة. لا أحد يمكن له أن ينكر أهمية حضور ابن رشد في تاريخ المعرفة والفلسفة والشريعة والطب، سواء في الإسلام أو في الغرب، بعدما احتلت فلسفتُه مرتبةً مركزيةً بين الشرق والغرب، فصارت الرابط المتين بين الفلسفة اليونانية والإسلامية وبين انبعاث الحداثة الغربية، التي كان له قسط لا يُستهان به في ظهورها. وهذا ما دفع بكثير من آباء الفكر الغربي إلى الاستثمار في النصوص الرشدية في بناء حضارتهم المتطلعة باسم الرشدية اللاتينية، بعدما أدار أبناءُ قومه ظهورهم عنه ساخطين على اجتهاداته الفقهية والفلسفية، بعدما توفَّق إلى مسح جميع الفواصل التي كانت ظاهرة للعيان بين الشريعة والفلسفة. ولا شك أن هؤلاء الرشديين اللاتينيين قد استفادوا من هذه التجربة في وصولهم إلى المهادنة التاريخية بين المسيحية المتسلِّطة وبين العقل بجميع إفرازاته العلمية، أو بين الإيمان والعقل، ففُتِحَ عصرُ الحوار البنَّاء بينهما، خدمةً لشعوبهم الغارقة في الظلام، بغضِّ النظر عن شروحه الوافية على نصوص أفلاطون وأرسطو، آخذين العبرة من الصراع المرير بين الدين والفلسفة الذي دام قرابة ألف عام، العبرة التي تجسدت في المصالحة الموفَّقة بين العقل والإيمان التي ظهرت معالمُها في عصر النهضة، وهذا بفضل أثر ابن رشد في ديار الغرب. ولكن ما الذي جعلنا، نحن المسلمين، نبتعد عن ابن رشد؟ وما الذي جعلنا لا نهتم بالمصالحة الرشدية بين الشريعة والمعرفة عمومًا، فحال بيننا وبين الاستفادة من هذه المصالحة، لعلنا نصل إلى حلول لقضايانا التي نتخبط فيها الآن؟ لقد صدق ابن رشد حينما تنبأ بما سيحدث لأحفاده إنْ لم يتداركوا تلك الأخطاء التي تخلَّلت علاقةَ الشريعة بالفلسفة، وإن استمر إقصاء العقل والفلسفة من مناحي الحياة. أجل، صدق ابن رشد، لأننا الآن نعيش نتائج هفواتنا وعدم مبالاتنا بما كان يخشاه ابن رشد. فما يحصل لنا الآن من تخبُّط وضياع هو بسبب فهمنا الخاطئ للدين من دون علم. ذلك هو ابن رشد، الصادق بحق، فيلسوف تجاوَز عصره بكثير، بعدما تنبأ بأحوالنا إذا ما ظل الصراع قائمًا بين الدين والاجتهاد العقلي، وإذا ما هيمنت الأصولية على دروب المجتمع على حساب العلم والفلسفة، وبما ينتج عنها من جمود وتطرف: هذا ما رآه ابن رشد حينما رأى مغالاة فرقة للفلسفة على حساب الشريعة، ورأى آخرين قد اكتفوا بالشريعة دون النظر إلى الفلسفة. لكن فريقًا ثالثًا جمع بين الفلسفة والشريعة، وهو الفريق الذي ينتمي إليه ابن رشد، الذي كان يرى دومًا أن فهم الشريعة لا يكتمل إلا بالعقل، وهو ما تسعى إليه الفلسفة؛ فهما يتفقان أكثر مما يختلفان: فكلاهما يسعى للبحث عن الحكمة التي عنها يقول ابن رشد: إن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة.[5] إذا ما تمعنَّا في هذا القول، نجد أن ابن رشد كان صادقًا في ذلك، لأن هذا القول، إذا ما شرحناه، نجده يحمل عدة دلالات منطقية، أهمها أنه على الرغم من الاختلاف الواضح بين الشريعة والفلسفة إلا أنه يبقى اختلافًا ظاهريًّا فقط، وليس باطنيًّا. فباطن كلٍّ من الشريعة والفلسفة متداخلان لأنهما ينحيان المنحى نفسه، ألا وهو معرفة الوجود التي تفضي إلى معرفة "موجِد" هذا الوجود، وهو الله. فهناك تداخُل جوهري بينهما، حتى نكاد أن لا نميز إحداهما من الأخرى، نتيجة الترابط المنطقي بينهما. فهما يشتركان في عنصر العقل: فنكاد أن لا نجد موضوعًا دينيًّا إلا وقد استند إلى العقل في كلِّ ما يتعلق بالاجتهادات، كما هو الشأن في الفلسفة سواء بسواء. كل ما يترتب عن رفض الفلسفة وإقصاء حضور العقل في مجتمعاتنا، كما يقول ابن رشد، إنما هو ذنب المخطِّئين لها، لا ذنب الفلسفة في ذاتها، بعدما دأبت، منذ نشوئها، على البحث في طبائع الموجودات والمصنوعات التي تومئ إلى مدى قدرة الموجِد والصانع، لأن المصنوعات تدل على صانعها بقدرته على صناعتها. وهذا ما يتناسب مع غاية الشرع الذي دلَّ على الخالق أيضًا، حاثًّا على معرفته. وحدها طريقة الوصول إلى معرفة بالخالق وبمخلوقاته تختلف بين الفلسفة والدين: فالدين قد احتوى على جميع المعارف المتعلقة بالخالق وبالمخلوقات في نصوص الوحي، دون وسائط أو جهد يُذكَر، كلها منزلة من الله سبحانه وتعالى؛ أما الفلسفة فهي، بخلاف ذلك، تدرك الموجودات وموجِدها عن طريق البحث والتراتُب المعرفي وتوفُّر العقل على ذلك؛ وهذا عينه ما أقرَّه الشرع في قوله تعالى: "فاعتبروا يا أُولي الأبصار" (الحشر 2)، وفي قوله تعالى: "أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيءٍ" (الأعراف 185)، وفي قوله تعالى أيضًا: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقَتْ وإلى السماء كيف رُفِعَتْ" (الغاشية 17-18). هذا بعض من آيات القرآن الكريم التي جاءت تحث على النظر في الموجودات والتدبُّر في ما خلق الله عز وجل. ويرى ابن رشد أن هذا العلم قد خصَّ به الله سيدنا إبراهيم (ع)، لقوله تعالى: "وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض" (الأنعام 75). كل هذه الآيات يدل على وجوب النظر العقلي في الموجودات والاجتهاد في استخراج المعلوم من المجهول فيها، أو ما يُسمَّى بـ"القياس العقلي" في بناء المعارف. صدق ابن رشد حينما قال إنه في حالة ما ظهر خلافٌ ظاهريٌّ بين الشرع والعقل أو تصادما، وجب أن نؤوِّل ظاهرَ النصِّ بما يتناسب مع ما يقتضيه العقل الراجح لتجاوُز ذلك الخلاف، مؤكدًا أن باطن النصِّ لا يتعارض أبدًا في أيِّ حال من الأحوال مع العقل، لأن "الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له". إلا أن عمل هذا التأويل يستلزم شروطًا محددة وجب توفُّرها؛ ومن أهم شروطه التي أكد عليها ابن رشد العلم والخبرة. ومن هذا الباب، انتقد ابن رشد المتكلِّمين حينما اختلفوا حول التأويل، واضعًا تعريفًا له بوصفه "إخراج اللفظ من الدلالة المجازية من غير أن يخلَّ في ذلك بعبارة لسان العرب"[6]، داعيًا إلى أن يكون من اختصاص العلماء فقط، لقوله تعالى: "وما يعلم تأويلَه إلا الله والراسخون في العلم" (آل عمران 7). فالمقصود من الشرع هو تعليم العلم والعلم بالحق والعمل به، وهو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي، والامتثال للأفعال التي تفيد السعادة وتجنُّب الأفعال التي تفيد الشقاء. صدق ابن رشد حينما حدَّد غايةَ مصالحته بين العقل والإيمان واجتهاده في التوفيق بينهما في تصحيح الأخطاء والآراء الفاسدة والباطلة التي حيكت حول دور العقل وعلومه ومردودهما في الشريعة، وفي تبيان أن ما جاء في الشريعة من وحي ذي صلة بحقيقة الكون هو نفسه ما يستخلصه العقلُ من دراسته للكون دراسةً علميةً مباشرة. وابن رشد، في غايته هذه، سلك مسلكَين مختلفَين: 1. مسلك انطلق فيه من الشريعة لينتهي إلى النتائج التي كان العقلُ قد توصل إليها في دراسته للكون ويبحث في مدى تطابقهما في ذلك؛ وهذا أودعه ابن رشد كتابه مناهج الأدلة[7]. 2. أما المسلك الثاني – وهو عكس المسلك الأول تمامًا – فقد سلك فيه من النتائج التي تمكَّن منها العقل وحقَّقها، منتهيًا إلى ما أورده الشرع من أدلة مطابقة لتلك النتائج؛ وهذا ما نصَّ عليه كتابُه فصل المقال. يقول ابن رشد في هذا الشأن: فالصواب أن تعلم فرقةٌ من الجمهور التي ترى أن الشريعةَ مخالِفةٌ للحكمة أنها ليست مخالِفةً لها، وذلك بأن يعرف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة. اضطررنا في مناهج الأدلة أن نعرف أصول الشريعة؛ فإن أصولها، إذا وجدت، أشد مطابقة للحكمة مما أول فيها. وكذلك الرأي الذي ظنَّ في الحكمة أنها مخالفة للشريعة، لم يُحِطْ علمًا بالحكمة ولا بالشريعة. ولذلك اضطررنا نحن أيضًا إلى وضع قول فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة.[8] أما السجال الفلسفي الذي فتحه الإمام الغزالي حول مواقف بعض الفلاسفة، حينما تعرَّضوا لبعض القضايا الفلسفية التي تخص أمور الشريعة، فقد اعتبر الغزالي فيه أنها ليست من اختصاصهم ولا يحق لهم، بالتالي، البحثَ فيها لأنها توقِعهم في الكفر، على الرغم من أن جُلَّ هذه القضايا قد ورد في الفلسفة اليونانية، وهي تدور كلها حول الخالق وكيفية خلقه للمخلوقات وقِدَم العالم وعلمه به؛ وقد خصَّ به على الخصوص كلاًّ من الفارابي وابن سينا بعدما تعرَّضا لهذه القضايا في حلَّة فلسفية إسلامية جديدة، دفعت بالغزالي إلى تقويضها وتكفيرهم في بعض القضايا (وهي خمسة) على ما خاضوا فيه في كتابه الشهير تهافت الفلاسفة. هذا الجدل الفلسفي كله، قَبِلَه ابن رشد، كونه يدخل في النقاش الفلسفي المعرفي. ولكن ما لم يقبله ابن رشد من الغزالي، ومن المتكلِّمين أيضًا، هو تصريحهم به لعامة الناس التي لا تفقه هذه الأمور، الأمر الذي كان عاملاً حاسمًا في تجييشهم على تقويض الفلسفة والفلاسفة ورفض كل ما له صلة بالعقل من علوم وفلسفة، بعدما لاقت تصريحاتُهم قبولاً كبيرًا في أوساط الجمهور، على أنه مساس بالدين. على إثر تلك التصريحات أُغلِقَتْ أبوابُ الاجتهاد كلِّها في وجه العقل إلى يومنا هذا. صدق ابن رشد حين رأى أن تلك التصريحات والحملات المقيتة على الفلسفة تمثل بداية النكسة التي ستنطفئ معها شعلةُ الحضارة الإسلامية التي طالما أُعجب بها، وسيزول نورها وبريقها، بعدما اكتفى الجمهور بالخطاب الديني فقط. فمن جراء ذلك حدث انغلاق ديني في مقابل انحسار المدِّ المعرفي، الذي تحول مع مرور الزمن إلى زهد، ثم إلى تعصب، وأخيرًا إلى تطرف واقتتال، مثلما يحدث في زماننا هذا. فقد تراجع العقل أمام الإيمان؛ وهذا ما جعل ابن رشد يسارع إلى الحد من انتشار هذه التصريحات والفتاوى التي سرت في أوساط العامة سريان النار في الهشيم، ولاسيما في كتابه تهافت التهافت، مفندًا كلَّ ما زعموا من انطواء الفلسفة على مفاسد ومخاطر على الدين، قضيةً بقضية وجملةً بجملة، معتمدًا على المنطق وقوة البيان ودلائل الفقه ونباهة عقله، وتمكَّن من ذلك، كاشفًا عن هفواتهم وأخطائهم، حاثًّا على أن يعطوا فرصةً لحضور العقل في حياتنا كما أعطوها للإيمان. وفي ذلك يقول ابن رشد: الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عنه إبطالُ الحكمة أو إبطالُ الشريعة. والصواب ألا يصرَّح بالحكمة للجمهور.[9] هذا هو النقد الذي وجَّهه ابن رشد إلى الغزالي، الذي أخطأ في نظره بعدما أدلى بآرائه لعامة الناس في هذه الأمور العويصة، مضللاً الفلسفة والشريعة على حدٍّ سواء؛ كما رآه أخطأ أيضًا عندما كفَّر الفلاسفة في أمور ليست من اختصاص أصول الدين. وهذا ما كان يلزمنا أخذُ العبرة منه بعد استقراء نصوص ابن رشد. لقد عاش ابن رشد في زمن ظهر فيه الخلافُ لتوِّه بين العقل والإيمان، الخلافُ الذي لخَّصه في فصل المقال، فدفعه حسُّه الإنساني إلى عقلنة ذلك الخلاف. فماذا نقول عن أبناء زماننا الذين يتقاسمون همَّ مجتمعنا، خصوصًا الذين يدَّعون منهم المعرفة والحكمة والفلسفة والفقه؟ فهم يرون بأمِّ العين أن ذلك الخلاف قد تفاقم وصار يعيث في الواقع فسادًا وقتلاً وتدميرًا، وهم مكتفون بالصمت والجمود! فما أحوجنا إلى ابن رشد في زماننا! وأين أنت، يا ابن رشد، بعدما صدقت؟! *** *** *** [1] جامعة تلمسان، الجزائر. [2] راجع: ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، بتقديم وتعليق أبعمران الشيخ وجلول البدوي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر. [3] يوسف فرحات، الفلسفة الإسلامية وأعلامها، ترادكسيم شركة مساهمة سويسرية، جنيف، ط 1: 1986، ص 192. [4] پول كيرتس، "الحرية العقلية والعقلانية والتنوير"، في مجلة ابن رشد، العدد الأول، ماي–جويلية 1998، مارنور للنشر، الجزائر، ص 200. [5] ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص 18. [6] المصدر نفسه، ص 24. [7] راجع: ابن رشد، مناهج الأدلة، بتحقيق محمود قاسم، مكتبة الأنجلومصرية، القاهرة. [8] ابن رشد، مناهج الأدلة، ص 184-185. [9] ابن رشد، فصل المقال، ص 19. |
|
|