قدِّيسـة مـن هـذا الزمـان
وقفة أمام سيرة سيمون ڤايل الفكرية والروحية

 

 

حبيبتي، يا حبيبتي الجميلة، يا يتيمتي...
– ل. أراغون
(نقلاً عن الشاعر الأرمني مانوشيان)، "القصيدة غير المنتهية"

 

أكـرم أنطـاكي

 

1

أمورٌ كثيرةٌ جذبتْني إليها، كالأخ، إنْ لم أقل كالعاشق الصوفي، فتملَّكتْني ولمَّا تزل. وأول ما جذبني فيها صفاؤها المذهل وذكاؤها الحاد، وخاصةً – نعم خاصةً – صدقها العميق وروحانيتها التي كانت من أجمل ما أتيح لي الاطلاعُ عليه والإحساسُ به. وأيضًا...

مسيرتها التي كانت، من بعض جوانبها، شبيهةً بمسيرتي. فعلاقتها بشقيقها أندريه وبمن أحبَّت تذكِّرني دائمًا بعلاقتي بشقيقتي إكرام وبمن أحببت في حياتي. ولأن أول ما حرَّكها كان حب الحكمة (أو الفلسفة)، ومن خلالها كان بحثها الوجودي الدائم عن حلم اسمه "عدالة". وهو الأمر الذي قادها – يا للروعة والخيبة معًا! – إلى الانغماس في عالم العمل وإلى التعامل الكلِّي الصادق مع ما صادفتْه إبان مسيرتها من حركات، سرعان ما تجاوزتْها جميعها؛ وهو الذي دعاها لمشاركة العمال حياتهم في المصانع، بعدما شعرت بعمق مأساتهم الإنسانية، وقاد محاولتها الفوضوية للانخراط في الحرب الأهلية الإسپانية، كما فعل الكثيرون منَّا، من بعدها، حين تمسَّكوا بوهم ثورة فلسطينية بائسة و/أو صدَّقوا أكذوبة البناء المادي للاشتراكية على أرض واقع إنساني غير مهيأ. ولأن مراجعتها الدائمة لذاتها هي التي أوصلتْها (كما أوصلت بعضنا) إلى "شيء" من تلك الروحانية التي طبعتْ كتاباتها. وأخيرًا، هذا التفاني الذي جعلها تنخرط انخراطًا تامًّا في مقاومة الوحش النازي الذي كان طاغيًا على عالم تلك الأيام – تلك القناعة التي تدفعنا إلى محاربة "الوحوش" التي مازالت تسيطر على عالمنا؛ وتلك المحبة التي جعلتها تقدِّم نفسها من أجل ما آمنتْ به، فأُنهِكَ جسمُها النحيل الذي انهار في آخر المطاف.

إنها قديسة من هذا الزمان – سيمون ڤايل، الفيلسوفة والروحانية الكبيرة، التي ولدت في باريس في 3 شباط 1909 من أسرة يهودية مثقفة غير متديِّنة وتوفيت في 24 آب 1943 في قلب مسيحية لم تنتسب البتة إلى مؤسساتها؛ سيمون ڤايل التي سأتحدث عنها في محاولتي الموجزة هذه، متوقفًا أمام المراحل الرئيسية من حياتها، مبتدئًا بما يصطلح بعضهم على تسميته بـ...

2
دمغة ألان...

حيث بدأ اهتمام سيمون ڤايل بالفلسفة منذ أن كانت في السادسة عشرة من عمرها، في السنة الأخيرة من الثانوية العامة في مدرسة هنري الرابع في باريس. كان الأستاذ الذي رعى خطواتها الأولى، والذي رافقتْه طوال فترة دراستها، هو الفيلسوف الوجودي إميل شارتييه (الملقب بـ"ألان") الذي لقَّنها مبادئ المقاربة العقلانية والفلسفية، فاطلعت من خلاله على دوركهايم وكانط وهيغل وماركس وهوميروس وماركوس أوريليوس، وكانت كتاباتها الفلسفية الأولى متأثرة به. ففي مقالة بعنوان "في الزمن"[1] نجدها تقول:

لا يعرف الإنسان العالم. فهو لا يعرف ماهيته، ولا يهتم لذلك. لذا نرى بعضهم ممَّن يتخيلون الألوهة، أو يتصورون فيضًا مشرِّعًا للعالم، أو بعضهم ممَّن يعتقدون بأنهم ملاحدة، يضعون أنفسهم مكان الله، فيسنُّون باسمه دراسات، يسمونها ثيولوجية أو فيزيائية أو كيميائية أو رياضية، تضع قواعد للكون. أو لنقل، بتعبير آخر، إنهم يحاولون التفكير عن طريق هذه القوانين المستنبطة من الأشياء. لكنهم فيما يفعلون يشبهون العبد الذي، حين يحاول التفكير في نظام المدينة، يضع نفسه مكان الملك الذي شرَّع هذا النظام وحافظ عليه. أمَّا الإنسان العادي، الذي لا تهمه هذه الأمور كلها، فهو لا يهتم إلاَّ لوضعه الخاص.

لكن سيمون ڤايل لم تكن "إنسانًا عاديًّا"، ولم تكن تهتم كثيرًا لـ"وضعها الخاص"، بل كانت تهتم لشؤون الآخرين ولمشكلات هذا العالم. مما يدفعنا إلى التوقف قليلاً عند بعض ما كتبتْه في تلك المرحلة المبكرة من حياتها، كهذه المحاولة بعنوان "مدخل إلى العلم والإدراك عند ديكارت"[2]، حيث، بعد أن ناقشت آلية الإدراك الإنساني وتناقضاته، توصلت إلى ذلك الاستنتاج الذي جعلها تتساءل إن كانت...

[...] هذه التناقضات غير قابلة للحلِّ إلاَّ ظاهريًّا يا ترى؟ أم أنها مجرد مؤشر، كما يدَّعي العلماء حين يميزون بين الفكر العلمي والفكر في شكل عام، فيستندون إلى مفاهيمهم الخاصة، وليس إلى طبيعة العلوم؟ إن أفضل وسيلة لمعرفة الجواب هي العودة إلى النبع والبحث انطلاقًا من المبادئ التي تشكَّلت العلوم على أساسها؛ [وهنا] عوضًا من أن نعود إلى طاليس، وللأسباب التي بيَّناها سابقًا، يجب علينا الرجوع إلى ينبوع العلم الحديث، إلى تلك الثورة المزدوجة التي جعلت من الفيزياء إحدى تطبيقات الرياضيات ومن الهندسة جبرًا؛ أي، بتعبير آخر، يجب العودة إلى ديكارت.

ثم تتابع بصرامة الفيلسوف – السمة التي أصبحت من أبرز سماتها –، فتجيب عما طرحته من تساؤلات، ما مُفاده أن تناقضات هذه الحياة، كتناقضات العلوم، ستبقى، لأن أيَّ تصور خلاف ذلك هو مجرد وهم شبيه بتلك...

[...] المنظومات الكاملة التي حاولت إزالة كلِّ التناقضات الرئيسية للفكر. [فقد أصبحنا] نفهم جيدًا أنه إنْ كان لهذه المنظومات بعض القيمة، من هذا المنظور، فإن [قيمتها هي] شاعرية أساسًا.[3]

وتنخرط سيمون بعد الانتهاء من دراستها الجامعية في...

3
عالم الحياة العملية

فنجدها خلال صيف 1928 – وكان عمرها آنذاك 19 عامًا – تكتب متفكرةً في جدلية العلاقة بين مفهوم العمل ومفهوم السلام، فتتوصل إلى أنه "وحده العمل يؤسس للسلام": فمن خلاله بوسعنا قياس ما يقدِّمه من قيمة في حدِّ ذاته، كما نستطيع تقدير أهمية الإنسان الذي قام به؛ ما يعني أننا بتنا قادرين على وضع أسُس ذلك القانون الذي يكفل المساواة بين البشر. لكن حماسها لمفهوم العمل سرعان ما حلَّ محلَّه، على أرض الواقع، تشاؤمٌ عميق سبَّبه انخراطُها الفعلي والصادق في الحياة العملية إلى جانب أولئك الذين ينتجون "القيمة الزائدة" التي يستفيد منها الآخرون، حين اختبرت بنفسها، إلى جانب عمال المصانع، قسوة الوقوف وراء الآلة الساحقة. ونراها إبان تلك الفترة تكتب متأملةً في مرارة:

هذه هي طبيعة البشر: مَن يسحق سواه لا يشعر بشيء، بينما يشعر المسحوق وحده بالنير. لذا ليس بوسعنا أن نفهم هذه المعاناة ولا أن نشعر بها ما لم نقف فعلاً إلى جانب المضطهَدين.[4]

هذا الفهم الإنساني العميق هو الذي جعلها تتفهم تلك "السعادة الصافية الغامرة" التي تتملك العاملات حين يضربن عن العمل، وتتفهم، في الوقت نفسه أيضًا، ما الذي يجعل البشر، في المقابل وفي معظم الأحوال، يخنعون فينحنون أمام الظلم، لأن

[...] أولئك الذين يقبلون بأنْ يكون دورهم في هذه الحياة الخنوع والانحناء، إنما يخنعون وينحنون لأنه ليس بوسعهم فعل شيء آخر.[5]

وهذا ما دفعها أيضًا لأن تقيِّم بقسوة أولئك الذين يبنون "خطَّهم السياسي" على شقاء الآخرين:

[...] لأني حين أفكر في أولئك القادة البلاشفة الكبار وفيما يدَّعونه من رغبة في إيجاد طبقة عاملة حرة، في الوقت الذي لم يضع أحد منهم – لا تروتسكي قطعًا، ولا حتى لينين – قدمه في مصنع، ما يعني أنه ليس من الممكن أن تكون عندهم أدنى فكرة حقيقية عن الأوضاع التي تحدِّد عبودية العامل أو حريته، فإن السياسة تبدو لي مجرد أضحوكة بائسة.[6]

ثم تتساءل متأملةً في واقعنا البشري:

هل سيتغير هذا الواقع يا ترى؟ هل سنرى ذات يوم تغيرًا فعليًّا ودائمًا في شروط العمل الصناعي؟ هذا ما سيخبرنا به المستقبل، ذلك المستقبل الذي ينبغي لنا صنعه، وليس انتظاره وحسب.[7]

وتكون النتيجة التي توصلتْ إليها في نهاية حياتها القصيرة هي الحكمة التي جعلتها تستنتج بأنْ

[...] وحدها العودة إلى الواقع ستبيِّن، إلى جانب أمور أخرى، حقيقة العمل البدني.[8]

4
في أصوليات قرن مضى

في تلك الأيام، وتحديدًا ما بين الأعوام 1931 و1936، كانت سيمون ڤايل شيوعية التوجُّه، ماركسية القناعة. لكنها كانت ملفتة للنظر، هذه الماركسية الشابة التي تجرأت منذ ذلك الحين، انطلاقًا من ضميرها الحرِّ ونظرتها الثاقبة للأشياء، على نقد التجربة السوڤييتية. فكان تحليلها العميق للنازية التي استولت، عن طريق الانتخاب "الديموقراطي"، على السلطة في ألمانيا، وكان ربطها لما حصل في ألمانيا بالواقع القائم في روسيا، حيث تنبَّهت إلى حتمية هزيمة الطبقة العاملة الألمانية، قبل وقوعها، نتيجة وصول النازيين إلى السلطة بفضل مئات الآلاف من الأصوات الشيوعية التي تحولت لصالحهم، لأن

[...] ما يجذب المثقفين والبورجوازيين الصغار إلى الحركة القومية–الاجتماعية [النازية]، في واقع الأمر، هو أنها تُشعِرُهم بالقوة. فهم لا يدركون أن هذه القوة التي تبدو لهم جبارة هي كذلك فعلاً لأنها ليست قوتهم، بل قوة الطبقة الحاكمة. [...] لذا نراهم يعوِّلون على هذه القوة كي يعوِّضوا من خلالها عن ضعف حالهم ويحققوا عن طريقها – ولست أدري كيف سيتم ذلك – أحلامهم الضبابية.[9]

هذه الهزيمة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الطبقةُ العاملةُ الألمانية، والحركة العمالية العالمية عمومًا، المتمثلة في وصول القوميين–الاجتماعيين إلى السلطة في ألمانيا، ما كان من الممكن لها أن تحصل لولا ذلك الخلل الكبير في نظام تصوَّره معظم "تقدميو" العالم آنذاك نظامًا آخر، فرهن معظم الأحزاب الشيوعية والعمالية سياساته له. فنحن، حين ننظر في عمق إلى سياسات هذا البلد الذي أراده الجميع طليعةً ومثالاً للحركة العمالية العالمية، سرعان ما نتبيَّن ما ألحقتْه سياساتُه بتلك الحركة من ضرر؛ ما يجعلنا نستيقن، بالتالي، من صحة موقف سيمون ڤايل، التي استنتجت قبل غيرها ضرورة

[...] أن نتبيَّن في وضوح ما إذا كانت هذه الدولة العمالية حقيقة أم مجرد وهم[10]،

ونتبيَّن كم كانت صحيحة أيضًا، وفي منتهى الشجاعة، ما توصلت إليه من نتيجة تقول:

يجب أن لا نغمض أعيننا! يجب أن نعتمد على أنفسنا فقط! صحيح أن قوتنا صغيرة، لكنه يبقى من واجبنا ألا نترك ما ليس بوسعنا فعله بين أيدي أناسٍ مصالحهم هي غير مصالحنا! فلنفكر، على الأقل، في كيف نحافظ على كرامتنا![11]

لأن واجب الإنسان–المفكر–الحر كان دائمًا وسيبقى

[...] فهم ما يجب على كلِّ متَّبع لهذا المنحى أن يفهمه كي يتجنب الجنون أو الدوار الجماعي السائد ويعيد لحسابه الخاص، بعد أن يتمكن من تجاوُز الصنمية الاجتماعية السائدة، العقد البدئي بين العقل والكون.[12]

وهذا "العقد البدئي بين العقل والكون" هو الذي قاد خطاها في هذه الحياة، فدفعها إلى التطوع إلى جانب الجمهوريين في تلك المعركة الدامية التي اندلعت في العام 1936 والتي عُرِفَتْ بـ...

5
الحرب الأهلية الإسپانية

وهو "العقد بين العقل والكون" نفسه الذي منحها تلك الشجاعة الأخلاقية الكبيرة المتمثلة في موقفها المتميز من هذه الحرب، حين قامت، بُعيد عودتها إلى فرنسا للتداوي من إصابتها، وعلى الرغم من تعاطفها المبدئي مع الجانب الجمهوري، بتبني موقف سلمي pacifiste يدعو إلى التسوية وإلى وقف الاقتتال عن طريق وضع حدٍّ للتدخل الدولي العام الذي كان يغذِّي تلك الحرب التي أنجبت الحرب العالمية الثانية؛ ما بدا حينذاك، في نظر بعض رفاقها، موقفًا انهزاميًّا، لأننا

[...] نتطوع في بادئ الأمر حاملين أفكارًا تدعو إلى التضحية، ثم ما نلبث أن نجد أنفسنا وقد وقعنا في أتون حرب تشبه حروب المرتزقة، بما يرافقها من وحشية وقسوة لا تراعي أية قيمة للأعداء. [...] لأني أشعر بأنه حين تضع السلطات الزمنية والروحية مجموعة من البشر خارج النطاق الذي يضفي قيمةً على الحياة الإنسانية فإنه يصير من الطبيعي أن يتحول الإنسان إلى قاتل. لأننا حين ندرك أنه صار بوسعنا القتل من دون أن ينالنا القصاص أو اللوم فإننا سنقتل، أو على الأقل، سنشجع بابتسامتنا أولئك الذين يقتلون.[13]

لذا نراها تعبِّر، في منتهى الجرأة، عن قناعاتها السلمية الداعية إلى التسوية على الأرض، على الرغم من أنها كانت تعرف جيدًا أنها

[...] بما [تـ]ـقول سوف [تـ]ـصدم الكثيرين من الرفاق الطيبين. لكنه واجبنا، حين ندَّعي تبنِّي قيم الحرية، أن تكون لدينا شجاعة التصريح بما نعتقد، حتى وإن لم يُعجَب بعضُهم بما نقول.[14]

ما يعني أنه يصبح من واجبنا، في السياق نفسه، المعالجة العميقة والصادقة لما يطرحه الواقع من تساؤلات تتعلق بإشكاليات الحرب وإشكاليات السلام:

حين نستمر في التغاضي عن هذه الإشكاليات، ونستمر بملء إرادتنا في إغماض عيوننا وفي ترديد شعارات فارغة لا تقدِّم أيَّ حل، ستحل عندئذٍ حتمًا هذه الكارثة العالمية التي أصبحنا نستحقها بسبب جبننا.[15]

ويصبح هذا الموقف الإنساني – الضميري والمبدئي – هو موقف سيمون ڤايل من كلِّ ما سوف تواجه من قضايا. وأول تلك المواقف كان موقفها الرافض للاستعمار والمؤيد لـ...

6
حق الشعوب في تقرير مصائرها

حين تبيَّنت عمق المعضلة التي كانت تواجهها الديموقراطيات الغربية، المتمثلة في الواقع الاستعماري الذي كان سائدًا وفي ما يطرحه هذا الواقع من تساؤلات على جميع الأصعدة:

المشكلات الناجمة عن الاستعمار تطرح نفسها من منظور القوة قبل أيِّ شيء آخر. فالاستعمار يبدأ دائمًا بممارسة القوة المباشرة عن طريق الغزو.[16]

لقد أجبر الغزو النازي الدول الأوروبية، التي أصبح وجودها مهددًا، على التعامل تعاملاً مختلفًا مع ما أضحى عبئًا عليها. ونسجِّل هنا أن موقف سيمون ڤايل كان في هذا الخصوص ملفتًا للنظر، سواء من حيث ذكاؤه وواقعيته أو من حيث مبدئيته ومثاليته. فهنالك، من منظورها، ثلاثة حلول ممكنة للمشكلة الاستعمارية:

-       الحل الأول هو الحل الإصلاحي، الداعي إلى تعبئة الرأي العام كي يتحسَّس الأوضاع المزرية لشعوب المستعمرات، فيندفع إلى العمل من أجل تحسين أوضاعها.

-       الحل الثاني هو الحل الثوري، الساعي إلى تحقيق استقلال هذه الشعوب عن طريق الثورة المسلحة العنيفة؛ وهو حل باتت سيمون ڤايل ترفضه رفضًا كاملاً لأنها أصبحت تؤمن بـ

-       طريق ثالث دعت إليه، ألا وهو الحل الذي تبنَّته مبدئيًّا المقاومة الفرنسية بقيادة الجنرال ديغول، المنطلق من ضرورة استعادة فرنسا، مثلها كمثل باقي دول التحالف المعادي للهتلرية، ثقة الشعوب التي تستعمرها، فتمنح هذه الشعوب حقوق المواطَنة التي تمنحها لشعبها كاملة، ما يهيِّئ هذه الشعوب للوصول إلى الاستقلال من دون أن تقع فريسة المشاعر القومية المتطرفة، ويتيح، في ظروف الحرب التي كانت مستعرة في العالم آنذاك، التحالف مع هذه الشعوب لمواجهة الخطر النازي الذي كان يهدِّد الجميع:

لأنه حين يبدو، للوهلة الأولى، أنه ليس هناك حل فإن الواقع يقدم لنا احتمالاً ثالثًا. وهذا الاحتمال يقضي بأن تقتنع الدولة المستعمِرة أنه أصبح من مصلحتها التحرير التدريجي لمستعمراتها. والشروط متوفرة لذلك. فتوازُن القوى على الصعيد الدولي يجعل من مصلحة فرنسا العاجلة والبديهية تحويل رعاياها إلى شركاء.[17]

وتصبح هذه الإمكانية الداعية إلى

[...] الإبقاء على تطلعاتنا المستقبلية، وفي الوقت نفسه محاولة التواصل مع الماضي العريق والسعي بكلِّ ما أوتينا من قوة لإحياء صداقة حقيقية مبنية على احترام كل مازال متجذِّرًا في الشرق

بعضًا من حلمها الكبير في مواجهة واقعنا الإنساني المرير...

7
في رفض الهمجية وفي التعامل معها

فقد كانت سيمون ڤايل مؤمنة بالسلام ومستعدة لأن تقدم من أجل تفادي الحرب كلَّ ما بوسعها من "تنازلات" قد تبدو صعبة وحتى مهينة لأول وهلة. فهي كانت ترفض، بكلِّ جوارحها ومن حيث المبدأ،

[...] الحروب التي يساق العبيدُ فيها إلى الموت باسم كرامة لم يمتلكوها يومًا[18]،

لأن منطلقها الإنساني الرافض للحرب وهمجيتها جعلها تبدو في بعض الأحيان مستعدة لتبرير العجز والقبول المؤقت بالظلم. لكن موقفها هذا كان – كموقف المسيح على صليبه – يحاول، قدر المستطاع، إبعاد تجرُّع الكأس المريرة أو تأجيله:

لكن العجز الذي نجد أنفسنا في لحظة معينة أسرى له، والذي يجب عدم التعامل معه إطلاقًا كشيء نهائي، لا يعفينا من أن نبقى مخلصين لأنفسنا، ولا يبرِّر بأيِّ شكل كان التخاذل أمام العدو، أيًّا كانت المسمَّيات التي يتزين بها [هذا العدو]، فاشية كانت أو ديموقراطية أو ديكتاتورية پروليتارية. إن عدونا الرئيس هو الجهاز الإداري، البوليسي أو العسكري؛ ما يعني أنه ليس ذاك الذي يواجهنا والذي هو عدونا بمقدار ما هو عدو إخوتنا. إنما عدونا هو مَن يدَّعي أنه يدافع عنَّا ويحوِّلنا إلى عبيد. وفي كلِّ الأحوال، تبقى أحقر الخيانات أن نقبل الخضوع لهذا الجهاز وأن ندوس بأقدامنا في سبيل خدمته، في أنفسنا وعند الآخرين، على القيم الإنسانية كلِّها.[19]

ما أجبرها، في النهاية، على تجرُّع الكأس المريرة واتخاذ الموقف المطلوب لمواجهة الهمجية الهتلرية. ذلك أن

هتلر ليس بربريًّا – ويا ليته كان كذلك! فأضرار البرابرة وكل ما يلحقونه من دمار تبقى محدودة، كالكوارث الطبيعية التي، حين تدمِّر، توقظ الروح فتنبِّهها إلى عدم استقرار أشيائنا البشرية. لذلك كانت فظائع البرابرة ونكرانهم للجميل، الممتزج أحيانًا ببعض الوفاء وببعض اللفتات الكريمة التي تحد منها تقلُّباتُهم ومزاجيتُهم، لا تهدِّد أيَّ شيء حيوي لدى الناجين من سلاحهم. لكنها فقط دولة متحضرة، ومتحضرة بشكل حقير – إذا جاز لنا استعمالُ تعبير كهذا –، دولة شبيهة بما كانت عليه روما، تستطيع أن توصل مَن تهدِّدهم وتستعبدهم إلى هذه الحال من التفسخ الأخلاقي الذي لا يحطم مسبقًا كلَّ أمل في المقاومة الفعالة فحسب، إنما يقطع أيضًا، قطعًا فجًّا ونهائيًّا، استمرارية الحياة الروحية، فيستبدل بها التشبُّه الرديء بالمنتصرين. إنها فقط دولة بلغت شكلاً علميًّا من التنظيم، تستطيع أن تشلَّ عند خصومها أية إمكانية لأية ردَّة فعل، وذلك عن طريق السطوة التي تمارسها آليتُها التي لا ترحم على خيالهم، [تلك الآلية] التي ليس بوسع الضعف ولا الفضائل الإنسانية إيقافها حين يتعلق الأمر بتحقيقها لأيِّ مكسب، حين تستعمل بلا تمييز، وفي الوقت نفسه، الكذب والحقيقة، الاحترام الظاهر للمواثيق واحتقارها. لذلك نحن في أوروبا اليوم لا نشبه أولئك المتحضرين الذين يواجهون البرابرة، بل نحن في وضع أصعب وأخطر بكثير. نحن في وضع بلدان مستقلة بات الاستعمار يهدِّدها؛ ما يعني أنه ليس بوسعنا مواجهة خطر كهذا ما لم نبتكر الطرائق المناسبة لذلك.[20]

وإن "طرائق مناسبة" كهذه لا يمكن اكتشافها ما لم نتفكر مليًّا في ذلك الداء البشري الرئيسي الذي ولَّد مفهومنا الهمجي ونفهمه، ذلك الداء الذي مازال متفشيًا، المتعلق بالقوة وبالبطولة وربطهما بالذكورة. فكان ذلك التحليل الأدبي والفلسفي العميق الذي كتبته سيمون ڤايل في معمعان الحرب المستعرة، وأحد أجمل نصوصها، بعنوان الإلياذة: قصيدة القوة، حين توصلت إلى هذه النتيجة المريرة التي استخلصتْها من ذلك العمل الإنساني الخارق والتي مُفادها:

مهما يكن من أمر، فإن هذه القصيدة تبقى عجائبية. فكل ما ينبعث منها من شعور بالمرارة إنما ينبثق من المسبِّب الحقيقي والوحيد لتلك المرارة، ألا وهو خضوع الروح الإنسانية لسلطان القوة البدنية، الذي هو في نهاية المطاف خضوع الروح للمادة. [...] والنتيجة هي أنه من غير الممكن أن نُحب ولا أن نقيم العدل ما لم نعِ ما تمثِّله القوة الغاشمة من سلطان ونتعلم كيف لا نحترمها.[21]

ولكن كيف بوسعنا التعبير عن "عدم احترامنا" للقوة؟ كيف بوسع الإنسان المفكر والفيلسوف أن يحارب الوحش ويبقى، في وسط المعمعة اللاإنسانية المحيطة به، إنسانًا؟

وأفكر أن هذا ممكن فقط حين لا يتخلَّى الإنسان عن حلمه مهما كانت الظروف؛ حين يبقى مخلصًا لنفسه، فـ"يحارب الشر" على طريقته وبقدر ما يستطيع؛ حين يفعل كما فعلت سيمون ڤايل التي قدمت، إبان تلك السنوات المريرة الأخيرة التي عاشتها مع الألم والمرض، حصيلة تجربتها الفلسفية والروحية وأجمل ما في نفسها.

لأنها في ليالي الأرق، في تلك الليالي التي كانت طائرات الوحش النازي تقصف، بلا تمييز، أحياء لندن السكنية، كانت تعمل وتكتب، وتتألم وتكتب، وتفكر وتحلم حتمًا بـ"زمان الكرز" الآتي وبأيام طبيعية...

يسيطر الجنون [فيها] على عقول الصبايا
وتضيء الشمس
[فيها] قلوب العاشقين.[22]

ففي تلك السنوات الأخيرة من حياتها كانت سيمون ڤايل تواجه العالم ومفاهيمه وتتواصل مع الألوهة في قلبها. ونتابع في تلك المرحلة بعضًا مما كانت تتفكر فيه، مبتدئين بـ...

8
بعض إشكاليات العلم الحديث

كالرياضيات، التي ناقشتْها عميقًا في رسائلها المتبادلة مع شقيقها أندريه الذي كان يومئذٍ سجينًا؛ ما كان يعيدها دائمًا إلى فلاسفة الإغريق القدماء، حين استنتجت في إحدى هذه الرسائل أن

[...] التناسب المتعلق بالأشياء المرئية يسمح بأن نلتقط من الوهلة الأولى تنوعًا معقدًا قد يضيع من دونها. [...] أمَّا فيما يتعلق بالشعور بعدم التناسب بين الفكر والعالم، فإنك إنْ كنت تقصد بهذا ما ينتابنا خلاله من شعور بالغربة، عندئذٍ أقول لك: نعم، لقد شعر الإغريق بأن الروح منفية في عالمنا.[23]

أو حين ناقشت نظرية ماكس پلانك الكمومية quanta، فلم تتقبَّلها، على الرغم مما تركته هذه النظرية من أثر عميق في نفسها، لأن

[...] العاصفة المحيطة قد انتزعت القيم التي من حولنا، وفكَّكت تراتبيتها، فأعادت طرحها جميعًا كي نقيِّمها من جديد في ميزان القوة الخاطئ دائمًا. لذلك ترانا اليوم نعيد نحن أيضًا التساؤل حولها كلها؛ نعيده في صمت وتركيز، كلٌّ لحسابه الخاص، على أمل أن نتوصل ذات يوم إلى الميزان الصحيح.[24]

وتستنتج وهي تقرأ هوميروس أن

[...] الحياة الإنسانية، في أبسط أشكالها وأكثرها طبيعية، مصنوعة من نسيج من الأسرار التي لا يستطيع العقل اختراقها، لأنها انعكاسات أسرار خارقة لا نستطيع مقاربتها إلاَّ من هذا المنطلق الذي يقول: إن الفكر الإنساني والكون يشكلان، بالنتيجة وحتمًا، كتبًا موحًى بها، كتبًا إن استطاع التركيز المستنير للمحبة والإيمان فكَّ رموزها، فإن قراءتها ستكون برهانًا على ما نقول، لا بل ستكون برهانه المؤكد والوحيد. ونتساءل بعد قراءة الإلياذة باليونانية: هل كان ذلك المعلِّم الذي لقَّننا أبجديتها على خطأ؟[25]

وتكون مقاربة الحياة – من خلال الألم – هو طريقها إلى الألوهة...

9
في الخبرة الصوفية

في تلك الأيام الأخيرة من حياتها، في تلك الأيام حين كانت تصارع الوحش وتقدم أجمل كتاباتها وأعمقها، كانت سيمون ڤايل تكابد الآلام، تعاني المرض، وتبلغ ذروة حياتها الروحية التي كانت، من بعض جوانبها، نتيجةً لهذا العذاب التي استطاعت استيعابه. هي ذي تقول:

لا يمكن الفصل بين الشقاء وبين الألم البدني، على الرغم من أنه من الممكن جدًّا التمييز بينهما. فحين نتحدث عن الشقاء يبدو كل ما ليس له علاقة بالألم البدني، أو بما يشبهه، سطحيًّا وواهيًّا ومن الممكن إزالته عن طريق مراجعة فكرية مناسبة. [والألم] غالبًا ما يماثل الشقاء. هذا الشقاء الذي يمكن اعتباره انقطاع للحياة عن جذورها والذي يشبه الموت إلى حدٍّ ما. [...] فالألم قد أجبر المسيح على التوسل كي يتجنبه، ودفعه إلى البحث عن العزاء عن طريق البشر، معتقدًا بأن أباه قد تخلَّى عنه. و[العذاب] هو الذي دفع بارًّا [كأيوب] لأن يصرخ في وجه ربِّه [...] لأن الألم يغيِّب الألوهة بعض الوقت، فيجعلها تبدو بعيدةً كالموت أو كالضوء في زنزانة دامسة الظلام. عندئذٍ تغمر الرهبةُ النفسَ بالكامل. لأنه في أثناء غياب كهذا لا يبقى شيء نحبه. والرهيب هو توقف النفس عن المحبة. لأنه في وسط هذه الظلمات التي لا يوجد فيها ما نحب، يكاد غياب الألوهة أن يصير نهائيًّا. الأمر الذي يستلزم من النفس الاستمرار في حبِّها ولو للفراغ، حيث يجب عليها أن تستمر في رغبتها في أن تحب، ولو من خلال جزيء لامتناهٍ في الصغر. عندئذٍ يأتي ذلك اليوم الذي يتجلَّى لها فيه الإله، فيريها جمال العالم، تمامًا كما حصل مع أيوب. أمَّا إذا كفَّت النفس عن المحبة فإنها تسقط فيما يشبه الجحيم.

وأيضًا، وإنْ من جانب آخر، لِمَ لا نتفكر في الألم وما يرافقه من شقاء من منظور الألوهة المُحِبَّة، من منظور المسيح – الإله المتجسد والمصلوب في عالمنا؟

وما أقوله هنا لا يعني أنه يجب علينا السعي إلى الشقاء – فهذا شيء شاذ وغير طبيعي، خاصةً أن الشقاء شيء يُفرَض علينا. لأننا حين لا نكون غارقين في قلبه، فإن كلَّ ما بوسعنا أن نتمنَّاه حين يداهمنا هو أن يكون مساهمةً في حملنا صليبَ المسيح. وحمل الصليب هو حمل معرفة تقول إننا مستسلمون استسلامًا تامًّا لتلك الضرورة الصماء، مسلِّمين لها من خلال أجزاء كياننا كلِّها، ماعدا [طبعًا] ذلك الجزيء الأكثر سرِّية من روحنا، الذي لا نستطيع معرفته ولا ولوجه. [...] وكما أن الإله محبة فإن الطبيعة ضرورة؛ والضرورة هي انعكاس للمحبة. وكما أن الله سعادة، فإن الخليقة شقاء؛ لكنه [شقاء] يشع نورًا في آخر المطاف.

إن الشقاء ليس عقوبة للعارف، إنما – والله أعلم –

[...] هو الألوهة التي أمسكت بيدنا وشدَّت عليها بقليل من القوة.[26]

ويقودنا هذا الموقف الصوفي بامتياز إلى التفكر قليلاً في موقف سيمون ڤايل من...

10
اليهودية والمسيحية وإشكالياتهما

لأن سيمون ڤايل، على الرغم من كونها ابنة أسرة يهودية، لم تكن يومًا يهوديةً في أعماقها ولا في قناعاتها. هكذا كانت أيام كانت فيها أقرب إلى الماركسية والإلحاد؛ واستمرت هكذا حتى ترسَّخ إيمانُها وتعمَّقتْ خبرتُها الروحية، ما جعلها تقول متأملةً:

لقد أنكر الله ذاته كي يعطينا إمكانية إنكار أنفسنا من أجله. إن هذه الإجابة، إن هذا الصدى الذي نملك وحدنا حقَّ رفضه، هو التفسير الوحيد الممكن لتلك المحبة المجنونة المتمثلة في الخليقة. إن الأديان التي تخيَّلت هذا النكران، أي هذه المسافة الاختيارية، هذا التنحِّي الاختياري للإله، من خلال غيابه الظاهر ووجوده المستتر في عالمنا، هي الدين الحق، الذي يُترجِم بلغات مختلفة ذلك التجلِّي الكبير. أما الأديان التي تصوِّر الإله آمرًا ناهيًا حين يكون بوسعها ذلك فإنها أديان كاذبة. وحتى إن ادَّعت التوحيد فإنها تبقى أديانًا وثنية.

واليهودية (دين آبائها) كانت، من منظور سيمون، إحدى هذه الأديان "الكاذبة". وقد رفضتها بالأخص لأنها كانت، من منظورها، كما صوَّرها موسى،

[...] مجرد أداة لخدمة العظمة القومية. لكن حين دمَّر نبوخذنصَّر الأمة اليهودية، التي فقدت البوصلة التي كانت توجِّهها وأصبحت مختلطة مع مختلف صنوف الأمم والشعوب، فإنها تلقَّت الحكمة كشكل من أشكال التأثيرات الأجنبية. ما جعل [اليهود] يُدخِلون هذه الحكمة قدر المستطاع في قلب دينهم. من هذا المنظور يجب أن نقرأ في العهد القديم نصًّا كسفر أيوب، الذي أعتقد أنه ترجمة مجتزأة ومعدَّلة لكتاب مقدس كان يتحدث عن "إله متجسد، تألَّم، وحُكِمَ عليه بالموت، ومات ليُبعث حيًّا". وهكذا أيضًا [يجب قراءة] أغلب المزامير ونشيد الأنشاد إلخ.

في المقابل، اعتنقت سيمون ڤايل المسيحية من منظورها الجامع (الكاثوليكي)، من دون أن تنتسب يومًا إلى مؤسستها، لأنها

[...] أصبحت متيقنةً من أن المسيحية هي دين العبيد الذي ليس بوسع بعض هؤلاء العبيد اعتناقه، وأنا من هؤلاء[27]،

ولأنه

[...] لما كانت الكنيسة كاثوليكية [جامعة] من حيث المبدأ، وليس من حيث الواقع، فإني أعتبر أن من حقِّي الشرعي أن أكون عضوًا في هذه الكنيسة مبدئيًّا، وليس واقعيًّا، وذلك لا مؤقتًا، بل، فيما يتعلَّق بي، مدى الحياة.

لأن الحكم الوحيد

[...] بين الله وبين تلك الأبحاث المجزوءة، غير المكترثة، المجرمة أحيانًا، عن الجمال هو [...] جمال هذا العالم. [ما يعني أن] المسيحية لن تتجسد ما لم تقترن بالفكر الرواقي، [الذي هو] البر بمدينة هذا العالم وبالكون الذي هو موطننا. لأنه في ذلك اليوم الذي، بسبب سوء تفاهم حصل ويصعب الآن شرحه، [في ذلك اليوم الذي] انفصلت المسيحية عن الرواقية، حكمت المسيحيةُ على نفسها بأن تعيش حياةً مجردةً ومنفصلة.[28]

ونسجِّل هنا أن سيمون ڤايل اهتمت إلى حدٍّ كبير بالحكمة المتمثلة في الديانات الشرقية،

[لأن] الحياة شيء كبير وجميل، [ولأنه] توجد قصيدة هندوسية تدعى البهگڤدگيتا (وهي مترجمة إلى الفرنسية)، عمرها يتجاوز الأربع وعشرين قرنًا، جاء فيها أن كلَّ إنسان يتفكر في كرشنا (أي في الإله) ساعة مماته ينال الخلاص. لأن هذا التفكر هو محبة هذا العالم الذي نغادره والذي يختلط في أثناء حياتنا بما يمكن لنا أن نجنيه منه من متعة.

ونكتفي بهذا القدر الذي يمكن لنا أن نستخلص منه بعضًا من الحكمة التي استخلصتْها سيمون ڤايل خلال حياتها القصيرة؛ هذه الحكمة التي عبَّرت عنها على أفضل وجه في آخر ما كتبت ويلخِّص حصيلة تجربتها على صعيد المجتمع الإنساني – هذا النص الذي حاولت أن تودِعه ما حلمت به وأرادتْه لبلادها وللإنسانية، كمقدمةٍ لإعلان يتضمن "الواجبات المفترضة نحو الكائن الإنساني"، هذا الكتاب الذي لم تكمله في الواقع ويحمل عنوان...

11
التجذُّر

الذي يتحدث فصله الأول عن "حاجات النفس الإنسانية"، منطلقًا من مفهوم الواجب الذي يعلو على مفهوم القانون:

[...] لا قيمة للقانون مجردًا، لأن قيمته ترتبط دائمًا بالواجب الذي يسعي إلى تحقيقه. [...] والغاية من الواجب في مجال الأشياء الإنسانية هي الإنسان في حدِّ ذاته، لأن هناك واجبًا نحو كلِّ إنسان لمجرد أنه كائن إنساني.

لذا كانت للنفس في قلب المدينة احتياجاتها ومتطلباتها التي يُفترَض أن تكون مكفولة. وهذه الاحتياجات، التي بعضها مادي وبعضها أخلاقي، هي، كما حدَّدتها سيمون:

1.    النظام، هذه الحاجة الأقرب إلى القدر الخالد للنفس الإنسانية، الذي يمكن القول بأنه

[...] نسيج علاقات اجتماعية لا تجعل أحدًا مضطرًّا لأن يخرق بعض الواجبات الصارمة من أجل القيام بواجبات أخرى.

2.    الحرية، التي تعني الوجود الدائم لإمكانية الاختيار، وذلك على الرغم من أن هذه الإمكانية تبقى، على أرض الواقع، مقيَّدة بالقواعد والقوانين التي تم وضعها من أجل الصالح العام. وهذا شيء مفهوم وطبيعي لأن

[...] حرية الناس ذوي الإرادة الطيبة، على الرغم مما يفرضه الواقع عليهم من قيود، تبقى مطلقة على صعيد الضمير.

3.    الطاعة، التي يمكن تقسيمها إلى نوعين:

[...] طاعة القوانين السائدة والطاعة لبشر يُفترَض أنهم قادة. ما لا يعني الموافقة على كلِّ أمر يصدر عن هؤلاء، بل فقط على الأوامر التي لا تحفُّظ عليها من منطلق مقتضيات الضمير.

4.    المسؤولية، التي تعطي الإنسان ذلك الشعور الضروري بأنه

[...] مفيد ولا يمكن الاستغناء عنه. [...] وضمان هذه الحاجة يعني أن على الإنسان أن يتخذ غالبًا القرار اللازم في تلك المسائل، الصغيرة أو الكبيرة، التي يلتزم بها، على الرغم من أنها لا تعنيه مباشرة.

5.    المساواة، كحاجة أساسية للنفس الإنسانية، التي تعني

[...] الاعتراف العلني العام والفاعل، الذي تعبِّر عنه حقيقةً المؤسَّسات والأخلاق، بأن كلَّ كائن إنساني يستحق القدر نفسه من الاحترام ومن التقدير.

6.    التراتبية، التي تفترض

[...] وعي المسؤولين بأن الشرعية الوحيدة للإخلاص الذي يُفترَض أن يقدِّمه لهم مرؤوسوهم إنما هي رمزية سلطتهم.

7.    الشرف، الذي يجب أن لا نخلط بينه وبين الاحترام والذي

[...] يكون مكفولاً [لكلِّ فرد] بالكامل، حين تقدِّم كل مجموعة اجتماعية للفرد فيها إمكانية المشاركة في منقول عظيم ذي علاقة بماضيها ومعترَف به في الخارج.

8.    العقاب، كحاجة حيوية من حاجات النفس البشرية؛ وهو نوعان: تأديبي وجنائي، مع الإشارة إلى أن

[...] الحاجة إلى العقاب تنتفي، كما هي الحال، في شكل عام، حين تتحول قوانين العقوبات إلى مجرد أداة إكراه عن طريق الردع.

9.    حرية الرأي، التي يمكن اعتبارها حاجة أساسية من حاجات العقل الإنساني والنفس الإنسانية. وهذه الحرية تفترض، كتحصيل حاصل، حرية التفكير التي تعني أنه

[...] لا يوجد فكر من دونها. لكن الأصح أن نقول بأنه حين لا يوجد فكر فإننا لن نكون أحرارًا أيضًا.

10.                       الأمان، الذي يعني أن

[...] النفس ليست تحت وطأة الخوف أو الإرهاب.

11.                       المجازفة، كحاجة للنفس يولِّد إلغاؤها الملل الذي يشلُّ طاقات الإنسان بمقدار ما يشلُّها الخوف، وهي الشكل الذي

[...] يولد ردَّة فعل مدروسة.

12.                       الملكية الخاصة، التي تبقى أساسية في أيِّ مجتمع إنساني، لأن

[...] النفس تصيبها العزلة والضياع ما لم تُحِطْ نفسها بأشياء هي بمثابة استطالاتها البدنية.

13.                       الملكية العامة، التي تعني

[...] المشاركة في الخيرات العامة، وهي لا تعني الاستمتاع بقدر ما تعني أننا نملك هذه الأشياء فعلاً.

14.                       الحقيقة التي تفوق قداستُها والحاجة إليها كلَّ ما سبق وعدَّدناه من احتياجات، مشيرين إلى أنه

[...] لا يمكن تلبية هذه الحاجة لأيِّ شعب ما لم نوفِّر من أجل ذلك أناسًا يحبون الحقيقة.

ونتفكر مع سيمون بأن هذا كلَّه يعني، كتحصيل حاصل، أن التجذُّر هو الحاجة الأهم على الإطلاق للنفس الإنسانية، وأن هذا التجذُّر لا يتحقق إلاَّ من خلال

[...] المساهمة الحقيقية، الفعالة والطبيعية، [للفرد] في حياة الجماعة.

فجذور الإنسان قد تنقطع، كما تبيِّن سيمون ڤايل في الفصل الثاني من كتابها بعنوان "اقتلاع الجذور"، حين يتعرَّض المجتمع للحرب والاحتلال ويتعرَّض الناس للتهجير، و/أو في قلب المجتمع نفسه، حين يسود الظلم ويسيطر السلطان المتوحش للمال الذي لا يبغي إلاَّ الربح. لذلك نراها تسهب، فتتوسع في شرح ما يعني في مجتمع كمجتمعها

-       اقتلاع جذور العاملين في المصانع حين يتحولون إلى عبيد للرأسمال وللآلة؛ و

-       اقتلاع جذور الفلاحين بسبب انتشار العلاقات الرأسمالية في الريف و/أو اضطرارهم إلى ترك أراضيهم للتوجه إلى المدينة، حيث يتحولون إلى عمال مصانع؛ و

-       في تلك الفقرة من هذا الفصل بعنوان "الأمة واقتلاع الجذور"، حين تتحدث عن الخطر الذي يهدد باقتلاع جذور الأمَّة بالكامل بسبب الحرب والغزوات، كما كانت الحال في تلك الأيام في العالم وفي فرنسا...

لتصل في نهاية الفصل الثالث من الكتاب، الذي عنوانه أيضًا "التجذر" (عنوان هذا الكتاب الذي كان آخر ما كتبت) والذي ناقشت فيه، من منظور فلسفي، ماهية المخارج المتاحة لنا كبشر كي نحافظ على الحياة ونعمِّق تجذُّرنا في هذه الأرض، فتوصلت إلى النتيجة التي تقول بأنه ليس هناك من مخرج أمامنا إلاَّ العمل الذي يجب أن يصبح أكثر روحانية:

فالفكر الإنساني يسيطر على الزمن، متنقلاً بسرعة بين الموت وبين الحياة، فيعبُر المسافات كلها؛ أمَّا مَن يعمل فهو يخضع للزمن، كالمادة الصماء التي تتخلَّله في كلِّ لحظة. من هذا المنظور، ندرك كيف يعنَف العمل بطبيعة الإنسان. ولهذا السبب يعبِّر العمال عن العذاب الذي يولِّده العمل بالقول إنهم "يجدون الوقت طويلاً". وقبول الموت، حين يكون الموت حاضرًا ونراه عاريًا، هو الانتزاع الأخير، الآني، لما يدعوه كل واحد منَّا بالأنا. أمَّا قبول العمل فهو أقل منه عنفًا. لكنه حيث يكتمل فإنه يتجدَّد مع كلِّ صباح وطوال هذه الحياة الإنسانية، يومًا بعد يوم، وفي كلِّ يوم، من الصباح إلى المساء، ليتكرَّر مجددًا في اليوم التالي، وغالبًا ما يستمر حتى الممات. ففي كلِّ يوم يقبل العامل عمل يومه وطوال هذه الحياة؛ يقبله سواء كان حزينًا أو فرحًا، سواء كانت تغمره الهموم أو لا تهمه إلاَّ التسلية، سواء كان متعبًا أو مفعمًا بالطاقة.

لأنه مباشرةً بعد القبول بالموت، يأتي القبول بذلك القانون الذي يجعل العمل ضروريًّا للحفاظ على الحياة، [يأتي] كأكمل تجسيد للطاعة يستطيعه الإنسان. وتصير باقي النشاطات الإنسانية، كقيادة البشر ووضع الخطط التقنية والفن والعلم والفلسفة وغيرها، بعد ذلك، أقل شأنًا من العمل البدني الذي أصبح روحانيًّا من حيث مضمونه.

مما يجعل من السهل بعدئذٍ تحديد المكانة التي يجب أن يتبوأها العمل في الحياة الاجتماعية المنظَّمة. فهو يجب أن يكون مركز روحانيتها.

12
تأمل وصلاة

وأجدني، في نهاية هذا العرض، أقف حالمًا، أردِّد مع سيمون هذه الأبيات "الرواقية" الواردة في آخر هذا الكتاب غير المكتمل؛ هذه الأبيات التي تلخِّص حالها وهي تخاطب الله فتقول:

إليك أقدِّم هذا العالم الذي يدور من حولنا،
هذا العالم المطيع أينما أخذته والقابل جبروتك.
فهذه هي فضيلة العبد الذي تمسكه يدك التي لا تُقهَر،
تلك اليد التي تقبض معًا على النار الأزلية وعلى الصاعقة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] « Du temps », Libres propos, nouvelle série, nº 8, 1929 ; repris dans Premiers écrits philosophiques, pp. 141-147, in Œuvres complètes, t. I, Gallimard, 1988.

[2] Premiers écrits philosophiques, pp. 159-165, in Œuvres complètes, t. I, Gallimard, 1988.

[3] « Quelques réflexions autour de la notion de valeur » (1941).

[4] « Leçons de philosophie », représentées par Anne Reynaud-Gherithault, Plon, 1989, p. 142.

[5] من مقال "حياة عاملات التعدين وإضرابهن" (1936)، مجلة الثورة الپروليتارية، العدد 224، 10 حزيران 1936.

[6] من رسالة إلى صديقتها ألبرتين تيڤنون، شباط 1935، أعمال سيمون ڤايل، غاليمار، ص 142.

[7] "حياة عاملات التعدين وإضرابهن"، المرجع المذكور.

[8] "التجذر"، أعمال سيمون ڤايل، ص 1214.

[9] « Impressions d’Allemagne (août et septembre) : L’Allemagne en attente » (1932), paru dans La Révolution prolétarienne, nº 138, 25 octobre 1932 ; repris dans Écrits historiques et politiques, vol. 1, pp. 120-137, in Œuvres complètes, t. II, Gallimard, 1988.

[10] "دور الاتحاد السوڤييتي في السياسة الدولية" (1933).

[11] المرجع نفسه.

[12] "تأملات حول أسباب الحرية وأسباب الظلم الاجتماعي" (1934).

[13] من رسالة إلى جورج برنانوس (1938)، نشرتها نشرة أصدقاء جورج برنانوس (1950)، ثم نُشرت في الكتابات التاريخية والسياسية، غاليمار، 1960، مجموعة Espoir، ص 320-324.

[14] "أفكار لن تعجب" (1936)، الكتابات التاريخية والسياسية، مجموعة Espoir، ج 2، ص 388-389.

[15] "في سبيل عدم تدخل شامل" (1936-1937)، الكتابات التاريخية والسياسية، مجموعة Espoir، ج 3، ص 43-46.

[16] جمع لويس روبو هذه المقالات في مجلد واحد: Louis Roubaud, Viêt-nam, la tragédie indochinoise, Librairie Valois, 1931.

[17] « Essais et combats », nº 2-3 ; repris dans Écrits historiques et politiques, vol. 3, pp. 145-151, in Œuvres complètes, t. II, Gallimard, 1983.

[18] « Réponse à une question d’Alain » (1936), Écrits historiques et politiques, Gallimard, 1960, coll. « Espoir » ; repris dans Écrits historiques et politiques, vol. 2, pp. 329-332, in Œuvres complètes, t. II, Gallimard, 1991.

[19] « Réflexions sur la guerre » (1933), La Critique sociale, nº 10, novembre 1933 ; repris dans Écrits historiques et politiques, vol. 1, pp. 288-299, in Œuvres complètes, t. II, Gallimard, 1988.

[20] « Réflexions sur la Barbarie » (1939), Écrits historiques et politiques, vol. 1, pp. 222-225, in Œuvres complètes, t. II, Gallimard, 1989.

[21] « L’Iliade ou le poème de la force » (1940-1941), Les Cahiers du Sud, nº 230 et 231, décembre 1940 et janvier 1941 ; repris dans Écrits historiques et politiques, vol. 3, pp. 227-253, in Œuvres complètes, t. II, Gallimard, 1989.

[22] من أغنية من أيام كومونة باريس بعنوان "زمان الكرز".

[23] من رسالة إلى شقيقها أندريه، حوالى 28 آذار 1940.

[24] « Réflexions à propos de la théorie des quanta » (1942), Les Cahiers du Sud, nº 251, décembre 1942 (signé Emil Novis) ; repris dans Sur la science, Gallimard, 1966, coll. « Espoir ».

[25] « Commentaires de textes pythagoriciens » (1942), extraits de « Descente de Dieu », in Intuitions pré-chrétiennes, Fayard, 1985, pp. 117-171.

[26] "الشقاء ومحبة الله"، من كتاب أفكار متفرقة حول محبة الله، غاليمار، مجموعة Espoir، 1963، ص 83-131.

[27] Dito.

[28] Attente de Dieu, Éditions du vieux Colombier (1950) ; repris dans Attente de Dieu, Fayard, 1966.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود