إضاءات

تشرين الأول 2017 October

 

يرجع لاعتبار الإنسان كائنًا أخلاقيًا الدورُ المهم في بروز مفارقات كبيرة بين القيمة الفلسفية والقيمة الواقعية التاريخية للأخلاق من جهة، وبين الممارسات المرتبطة بها من جهة أخرى. المسألة التي يحاول جاك دريدا نقاشها في كتابه تاريخ الكذب حيث يقول:

... لا يمكن اعتبار الكذب على أنه حدث أو حالة، إنه فعل مقصود وبدل الحديث عن الكذب يجب الحديث عن فعل الكذب... وفعل الكذب يعني أننا نتوجه بالكلام إلى الآخر لكي نسمعه قولاً أو مجموعة من الأقوال، الإنجازية أو أقوال المعاينة، نعرف وفق وعي بيِّن وهادف وحاليٍّ أنها ادعاءات خاطئة جزئيًا وربما كليًّا.. يهدف الكاذب من هذا الفعل إلى خداع الآخرين أو إلحاق الأذى بهم أو تضليلهم.

وبما أن مطابقة الأفعال للأخلاق تتجلى من خلال المقاصد على ما يذهب إليه القديس أوغسطين في رسائله حول الكذب، والذي ينسجم معه دريدا في رؤيته لمعنى الكذب، فإن لفعل الكذب في علاقته بالسياسة أثر تاريخي وإنساني، ودور محوري في خلق واقع شديد التعقيد. واقع لا تتصارع فيه المصالح العليا للمجتمعات وحسب، بل تكابد فيه الحقيقة شتى أنواع المخاتلة والضياع.

 

كلما أمسكت صحيفة ورقية بشكل عابر سرعان ما أستعيد ذاكرة التصفح مع انبعاث رائحة الورق الممتزج بقهوة الصباح، والتنقل بين صفحاتها، وقد غدا اليوم ممتزجًا بتكنولوجيا المعلومات في مفارقة غرائبية: "الراهن" الممتزج بعصرين مختلفين تمامًا وغير مسبوق بشريًا.. حيث كان الانتقال من عصر إلى آخر يتم تدريجيًا عبر قرون، بينما اليوم، وعلى امتداد الكرة الأرضية، نعيش الانزياحات بقوة وعبر تفاصيلها وهزاتها الشديدة الوطأة على كل الصعد. ومع نَقْرِ حروف الحاسوب أو لمس الألواح الذكية التي تعج بحياتنا، إلا أننا بعد مازلنا أبناء الورق برائحته الزكية التي تثير الشجن، وسط ترقب إبحار العقل البشري المذهل في عصر المعلوماتية حيث لا ندري إلى أين سيأخذنا المستقبل القريب جدًا بين رمشة عين وأخرى.

 

 

توطئة:

نشهد اليوم تراجعًا للدور الذي كانت تلعبه الفلسفة في الحياة العامة عندما وصفت بأم العلوم واستمدت قيمتها من ذاتها، وذلك نتيجة التحولات الاجتماعية الكبيرة وانحلال عصور الحكايات الكبرى ونهاية إيديولوجيات الجنات الموعودة وبداية عصر العولمة الاختراقية الافتراضية وما انعكس عنها من تصاعد لأسهم التقنية والعلم في مقابل التشكيك في قيمة التأمل النظري والتفكير المجرد وممارسة حرية النقد، وقد أدى ذلك إلى تقلص حضور الفلسفة على مستوى الشكل والمضمون وفي إطار الواقع والآفاق في المؤسسة التربوية الرسمية على مستوى التدريس وفي نطاق البحث.

وقد أدت هذه الأزمة إلى ردود فعل دفاعية محافظة وإلى التلويح بإمكانية الاستنجاد بالمنظمات الثقافية والتربوية العالمية والربط بين تعليم الفلسفة والدربة الشخصية على التفلسف من ناحية، والحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان في كل مكان وزمان دون أي تمييز من ناحية ثانية.

 

ما هي السلطة؟

ما هي السلطة؟ هل هي القوة الحتمية للقوانين الطبيعية التي تُظهر نفسها في التعاقب والتسلسل الضروريين لظواهر العالمين الفيزيائي والاجتماعي؟ في الحقيقة، الثورة ضد هذه القوانين ليست فقط ممنوعة، وإنما هي مستحيلة أيضًا. قد نسيء فهم هذه القوانين أو قد نجهلها تمامًا، ولكننا لا نستطيع عصيانها؛ لأنها تشكل الشروط الرئيسة والأساسية لوجودنا؛ فهي تغلِّفنا، وتخترقنا، وتنظِّم كافة تحركاتنا، وأفكارنا، وأفعالنا؛ حتى عندما نعتقد أننا نعصيها، نحن فقط نظهر قدرتها الكلية.

أجل، نحن بالمطلق عبيد هذه القوانين، ولكن لا ذل في مثل هذه العبودية، أو بالأحرى، هذه ليست عبودية. لأن العبودية تقتضي وجود سيدٍ خارجي، أي سلطة منفصلة عن التابع الذي تأمره. ولكن هذه القوانين ليست منفصلة عنا؛ إنها موروثة فينا؛ وتشكل كامل وجودنا الفيزيائي، والعقلي، والأخلاقي؛ نحن نتنفس، ونعمل، ونفكِّر، ونتمنى، فقط تبعًا لهذه القوانين. بدونها نحن لا شيء، نحن لا نكون. كيفَ، إذًا، نستطيع أن نتمنى أو نريد التمرد عليها؟

 

عرفت الفلسفة مع إيمانويل ليفيناس تحولاً لم تشهده ربما منذ أفلاطون. كأن الفلسفة معه وصلت إلى ضالتها، أو تذكرت الدلالة التي قامت عليها أو من أجلها، وهي الآخر أو الوجه. يعلن ليفيناس أن الفلسفة قد نسيت سؤالها الأول، ونسيت معه معنى السؤال. كما يصرح أمام أعين معاصريه أن الإيطيقا هي الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى، ليتركهم في شواش، خاصة أنه يسلك في برهانه مسلكًا فينومينولوجيًا يصعب إهماله أو التغافل عنه.

"الأخلاق هي الفلسفة الأولى"؛ هذا يعني أنَّ الفلسفة كانت تسير نائمةً نوعًا ما - كما سيقول ديريدا شارحًا ليفيناس، وأن موضوعاتها كلها منذ أفلاطون حتى هوسرل كانت موضوعات خاطئة قامت على إعراضٍ بدأ منذ اهتمت الفلسفة بالكينونة والحقيقة ونسيت منشأ هذه المقولات وأصلها.

داخل هذا التحول الذي زعزع الفلسفة في عقر دارها (الأنطولوجيا) شهدت الفلسفة مع ليفيناس انقلابًا في موضوعاتها أيضًا، فالوجه ليس أولها والمداعبة ليست آخرها. هكذا، تُصيب قارئ كتاب ليفيناس الأبرز Totalité et infini؛ الذي يعالج موضوعات الفلسفة الكبرى، الدهشة وهو يرى صفحات عدَّة من هذا الكتاب أفردها ليفيناس لموضوع المداعبة والحنيَّة.

 

 

"ما من أحد أعرفه إلا ويريد أن يفهم الفن. لكن، لماذا يا ترى لا نسعى جاهدين إلى فهم شدو العصفور؟ لماذا نحب الليل، والورود، وكل الأشياء التي من حولنا، من دون أن نسعى إلى فهمها؟ عندما يتصل الأمر بالصباغة يظن الناس أن من واجبهم أن يفهموها. فلو أن الناس أمعنوا النظر لأدركوا أن الفنان يعمل عمله بدافع الضرورة، وأنه هو نفسه لا يعدو أن يكون جزءًا لا قيمة له من العالم، وأن لا قيمة مخصوصة له تفوق قيمة الأشياء الأخرى التي تمتعنا في العالم من دون أن نستطيع تفسيرها. الناس الذين يحاولون تفسير الصور هم في الغالب الأعم مخطئون".

 

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني