الحقيقة والأخلاق بين فلسطين والعالم

 

إميل جعبري

 

يرجع لاعتبار الإنسان كائنًا أخلاقيًا الدورُ المهم في بروز مفارقات كبيرة بين القيمة الفلسفية والقيمة الواقعية التاريخية للأخلاق من جهة، وبين الممارسات المرتبطة بها من جهة أخرى. المسألة التي يحاول جاك دريدا نقاشها في كتابه تاريخ الكذب حيث يقول:

... لا يمكن اعتبار الكذب على أنه حدث أو حالة، إنه فعل مقصود وبدل الحديث عن الكذب يجب الحديث عن فعل الكذب... وفعل الكذب يعني أننا نتوجه بالكلام إلى الآخر لكي نسمعه قولاً أو مجموعة من الأقوال، الإنجازية أو أقوال المعاينة، نعرف وفق وعي بيِّن وهادف وحاليٍّ أنها ادعاءات خاطئة جزئيًا وربما كليًّا.. يهدف الكاذب من هذا الفعل إلى خداع الآخرين أو إلحاق الأذى بهم أو تضليلهم.[1]

وبما أن مطابقة الأفعال للأخلاق تتجلى من خلال المقاصد على ما يذهب إليه القديس أوغسطين في رسائله حول الكذب، والذي ينسجم معه دريدا في رؤيته لمعنى الكذب، فإن لفعل الكذب في علاقته بالسياسة أثر تاريخي وإنساني، ودور محوري في خلق واقع شديد التعقيد. واقع لا تتصارع فيه المصالح العليا للمجتمعات وحسب، بل تكابد فيه الحقيقة شتى أنواع المخاتلة والضياع.

الموضوع الذي حاولت حنَّة أرندت مقاربته في مقالتها الشهيرة الحقيقة والسياسة، مفتتحة إياها بالقول: "لا أحد ارتاب أبدًا في أن الصلات بين الحقيقة والسياسة هي صلات سيئة"، بل ذهبت إلى التأكيد على أن السياسيين الديماغوجيين المحنكين يعتبرون الكذب إحدى الوسائل الضرورية والمشروعة. وحاولت جاهدة لفت الانتباه إلى التحولات الكبيرة التي قدمها العصر على مستوى المفهوم وعلى مستوى مختلف الممارسات لأفعال الكذب، الذي لم يبلغ حدوده المطلقة ليصبح كاملاً ونهائيًا إلا في عصرنا هذا.

وصل الفكر المعاصر الحديث إلى أن الحقيقة لا تعطى للعقل البشري ولا يوحى بها إليه وإنما يبنيها، وميَّز منذ لايبنتز بين جنس الحقيقة العقلية المتضمنة حقائق الرياضيات والعلوم والفلسفة، وبين جنس حقيقة الواقع.

وهكذا فإنه حين تقوم حقيقة واقعية ما، تخص مجموعة من البشر، على الخداع فهذا يعني أن للسياسة علاقة بالأمر بشكل من الأشكال.

ذلك أنه وحسب التعريف المذكور لفعل الكذب، لا يمكن للحقائق العلمية أن تقوم عليه، أما الواقع الذي هو سياسة والتي هي بدورها حركة و صراع مصالح وقوى، فالأمر ليس ممكنًا فحسب بل هو قائم تمامًا، حيث الناتج النهائي للقوة في السياسة يعتمد على الرأي، الذي يتم تصنيعه وتخليقه في دوائر القرار السياسي بقصدية تنسجم مع المصالح، ومن يتحكم بهذه المصالح والصراعات المتعلقة بها غير السلطات؟ سيما في عصرنا حيث تغلغلت السلطات في جميع المناحي والشقوق المكونة لحقيقة الواقع في وجه الحقائق الصادقة التي وجدت أرندت:

أن حظوظها [الحقائق] في البقاء والصمود في وجه سطوة السلطة ضئيلة جدًا، وإنها على الدوام عرضة لخطر التلاعب بها لتنحيتها من العالم، ليس بصورة مؤقتة فحسب بل ربما إلى الأبد.

يمكن اعتمادًا على هذه الرؤية القول: لا يوجد شيء وهمي كاذب ومناقض للحق، لكنه في ذات الوقت أكثر واقعية من الحجر، مثل الكيان الصهيوني المسمى دولة إسرائيل.

والأدلة على هذا الأمر لا تحصى إنما يمكن التذكير، على سبيل المفارقة، بأن:

-       "تيودور هرتزل"، ذلك الصحفي اليهودي النمساوي المجري، مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة، لم يتحدث العبرية في حياته ولم يتعلمها ولم يزر فلسطين، ولكنه مع ذلك المؤسس الحقيقي للدولة الصهيونية في فلسطين.

-       وبأنه طرح في المؤتمر الصهيوني الرابع أن يقام الوطن القومي اليهودي في أوغندا بدلاً من فلسطين. وأن الأرجنتين طرحت كذلك مكانًا محتملاً لذلك الوطن الذي وعد به الإله.

-       وبأنها كيان يدعي وعدًا إلهيًّا، تكفلت بتحقيقه أشد مراحل التاريخ "أرضية" حتى الآن، أي الرأسمالية.

-       وبأنه تم بقصدية لامتناهية الخبث ترويج مقولة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب". وتمت محاولة تحقيقها من خلال تهجير اليهود إلى فلسطين وتهجير الفلسطينيين منها.

-       وبأن هذه "الحقيقة" التي صنعتها السياسة وجعلت منها تاريخًا، تكاد تطيح بحقيقة ولدت من الأرض اسمها فلسطين.

ليست مناقشة ظروف وشروط نشوء وولادة وتحقق دولة الكيان الصهيوني، هي الموضوع الرئيس لهذه المقالة، إنما علاقة هذا الأمر بالحقيقة والكذب والسياسة ومصالح الشعوب.

في العلاقة بين الحقيقة والسياسة ومسألة فلسطين يمكن تحديد أربعة أطراف كانت ضحايا للكذبة الكبرى التي صارت واقعًا والمسماة دولة إسرائيل الصهيونية، الضحية الأولى هم الفلسطينيون ثم شعوب المنطقة العربية الآخرون، ثالثًا اليهود، وأخيرًا الحقيقة في العالم.

لكن الواقع يقول إن هذه العلاقة ليست واحدة بالنسبة للجميع حيث لا يمكن المساواة بين الفلسطينيين جميعًا في فداحة الثمن المدفوع من حياتهم وكرامتهم جراء هذه القضية، إذ توجد الغالبية من المحكومين من مورست بحقهم شتى أنواع الخداع وأمضوا حياتهم في النضال بأشكاله المتعددة، وفي المعاناة باختلاف أنواعها وشدتها، تحت حكم الأقلية التي تربعت سدة القرار السياسي والاقتصادي الفلسطيني، وتمتعت بالنفيس من مزايا الحكم التي شاركتها إياها الفئات والطبقات الحاكمة في جميع الدول العربية، هذه الفئات والطبقات التي بدورها خدعت وتلاعبت وتاجرت، واستمرَّت في شراء تبعيتها الرخيصة للمراكز الرأسمالية، على حساب القضية الفلسطينية وعلى حساب قضايا التنمية والديمقراطية والاستقلال الوطني الناجز ومصالح الشعوب في بلدانها.

كذلك الأمر بالنسبة لليهود الذين جرت نمذجتهم وصناعتهم باسم ما سمي مصلحتهم القومية وبدعوى وعد إلهي عجيب، تحول إلى وعد أرضي على يدي "اللورد" بلفور - وبالمناسبة، اللقب الكبير يفتح الأبواب للأكاذيب الكبرى - وزير خارجية بريطانيا، كرأس حربة للطغمة الامبريالية العالمية، بأيدي الحركة الصهيونية، على حساب الحقيقة، وعلى حساب تطورهم الطبيعي ضمن البلدان التي ينتمون إليها كبشر يفترض أن ينعموا بالمساواة في حق الصراع والنضال التاريخي والتطور مع جميع البشر الآخرين، في القضايا العامة للإنسان. الأمر الذي كان كارل ماركس من بين من ناقشوه بعمق وبشكل مبدئي في كتابه حول المسألة اليهودية. داعيًا إلى حل المسألة اليهودية ضمن سياق التطور الديمقراطي والعلماني في فضاء الحراك الاجتماعي والاقتصادي التاريخي للشعوب في الدول التي يوجد فيها اليهود.

هكذا مورست ولا تزال أفعال الكذب السياسي فيما يخص القضية الفلسطينية على مستويين: الأول يتعلق بأفعال الكذب المشتركة التي تمارسها الطبقات الحاكمة على الشعوب في العالم والمنطقة، في سياق عملياتها المختلفة التربوية والأيديولوجية والإعلامية، الهادفة إلى صناعة رأي عام يكفل لها إعادة إنتاج حكمها والاستمرار في تسلطها؛ والثاني المستوى الذي يخص إنشاء وتأسيس دولة الكيان الصهيوني، بدءًا من ادعاء تخليص اليهود مما سمي "معاداة السامية" المشكلة التي تم حلها من خلال احتلال أرض تخص ساميين آخرين، مرورًا بنكث العهود المتعددة المقدمة للعرب ما قبل الانتداب ومن أمثلتها ما أعلنه لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا في خطاب ألقاه في اجتماع نقابات العمال البريطانية في 15-1-1918: "أن بريطانيا تعترف بحق فلسطين وسورية والعراق والجزيرة العربية في الحرية والاستقلال وتكوين حكومات وطنية فيها". والتصريح الذي أصدرته بريطانيا وفرنسا في 7-11-1918، الذي أكدتا فيه أن "السبب الذي حاربتا من أجله في الشرق هو تحرير الشعوب العربية، وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطتها من اختيار الأهالي الوطنيين فيها اختيارًا حرًا"[2].

يكرر جاك دريدا، في كتابه المذكور، مقولتي العهد والوعد والحنث بهما غير مرة معتبرًا "الكذب ذا طابع إنجازي لأنه يتضمن في الوقت ذاته وعدًا بقول الحقيقة وخيانة لذلك الوعد، ويرمي إلى خلق الحدث والدفع إلى الاعتقاد"[3].

تنطبق هذه الصفة الإنجازية للكذب تمامًا على أفعال دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الأولى فيما يخص المنطقة العربية وفلسطين، ليس فقط من خلال نقضها لعهودها المذكورة ، بل كذلك عبر تطبيقها المخادع لعهد الانتداب الذي أطلقته عبر عصبة الأمم، وعبر خيانتها لبنود ذلك العهد نفسه التي ما كانت تسمح لها بأي شكل بتمرير وتطبيق وعد بلفور. إذًا نحن أمام انتهاك نوعي: قصدي وإنجازي، لمبدأ الصدق بصفته أحد أهم المبادئ الأخلاقية الإنسانية.

أما الخاسر الأكبر، والضحية التراجيدية، لعملية الخداع التاريخية هذه فهي الحقيقة ذاتها، وأكثر ما يتجلى ذلك عند الأجيال الجديدة لصناع الكذبة ذاتها، وعند الكثير من شعوب العالم التي باتت مقتنعة بسبب الجهود الهائلة لعملية التصنيع والدعاية طويلة المدى ومتشعبة الأساليب، بأن الواقع الحالي القائم في فلسطين كما تطرحه الدعاية الصهيونية، هو الحقيقة الوحيدة.

هنا تتجلى دقة الكلمات التالية لميشيل دي مونتيني، التي استشهد بها دريدا وأرندت في بحثيهما:

لو كان للكذب كما هو الشأن بالنسبة إلى الحقيقة وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن مما هي عليه، ذلك أننا سنعتبر حينئذ نقيض ما يقوله لنا الكذاب يقينيًّا، لكن عكس الحقيقة، له مئة ألف وجه وحقل لا محدود.

بالمقابل وحين يحدث كل ذلك التزوير والخداع والكذب على يد جماعات سياسية متكاملة، وحكومات دول لها دور في صناعة الواقع العالمي. يصبح الصدق بحد ذاته، كما عبَّرت حنة أرندت:

ودون دعم من قبل قوى السلطة والمصلحة المحرِّفة له، مبدأً سياسيًا فاعلاً من المرتبة الأولى، فحيث يكذب الجميع حول كل ما هو مهم، يكون قائل الحقيقة بقوله إياها قد شرع في الفعل، علم ذلك أم لم يعلمه، ويكون هو قد انخرط في العمل السياسي، ويكون بقوله الحقيقة قد خطا خطوة أولى نحو تغيير العالم[4].

من هذه النتيجة الأخيرة يمكن التأكيد على أن الأخلاق لابد ستقوم بإعادة تحقيق ذاتها كقيم متعالية في حياة الإنسان عامَّة والمعاصر على وجه الخصوص وإلا فإن وجوده كاملاً معرَّضٌ للخطر.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] جاك دريدا، تاريخ الكذب، المركز الثقافي العربي، ص26 - 27.

[2] الموسوعة الفلسطينية الانتداب على فلسطين.

[3] جاك دريدا، المصدر السابق، ص 31.

[4] حنة أرندت، الحقيقة والسياسة، مؤسسة أبحاث ودراسات مؤمنون بلا حدود، ص 24.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني