ما هي السلطة؟
ميخائيل باكونين
ترجمة:
عدي الزعبي
مقدمة المترجم
نترجمُ هنا نصًا قصيرًا شهيرًا لميخائيل باكونين، مؤسس الفوضوية
وفيلسوفها الأشهر.
في الثقافة العربية اليسارية، يغيب باكونين والفوضويون تمامًا عن
النقاش الفكري والسياسي، لمصلحة الماركسية وتفرعاتها وأشكالها
المختلفة. لهذا الغياب أسبابٌ متعددة، ونتائجُ كبيرة. لا تتسع هذه
المقدمة للبحث في هذا الموضوع، ولكن أودُّ الإشارة إلى نتيجةٍ رئيسة:
تغييب النقد اليساري لليسار التسلطي، السوفييتي الشيوعي. فقد سادت
كتابات نظرية تُعلي من قضايا التحرر القومي والعلاقات الدولية وانتقاد
الرأسمالية والبرجوازية والإمبريالية، على حساب الحياة اليومية للناس
العاديين المسحوقين تحت نعال السلطة التي تدعي أنها اشتراكية.
كان باكونين أحد أشرس أعداء كارل ماركس، وقد استخدم كلا الرجلين وسائل
قذرة في معاركهما، من نشر إشاعات مُغرضة وتحريف الأقوال والحقائق وغير
ذلك من سخافات. من الجيد أن يتذكر المرء أن الفيلسوف أو المفكر أو
المناضل العظيم ليس معصومًا، على أن جزءًا من الصراع الفكري بينهما ما
يزال شديد الأهمية، ألا وهو النقاش حول السلطة والحرية.
تنبَّأ باكونين بأن دولة ماركس المنشودة ستؤدي إلى استعباد الناس بشكلٍ
كامل، وهو ما حصل بالطبع. ولنكن منصفين، لم يكن لماركس موقف واضح
ونهائي من قضية الدولة، بالرغم من أن الفوضويين يميلون إلى لومه، كمفكر
وكقائد للأممية، على الكارثة التي حصلت.
على أي حال، ما يعنينا هنا هو التالي: يدافعُ باكونين عن الفرد في وجه
السلطة، أي سلطة، دينية أو سياسية او اجتماعية أو علمية، ملكية أم
جمهورية، منتخبة أم استبدادية. أيضًا، يرى باكونين أن السلطة تفسد
الناس، كل الناس، بلا استثناء. لا يوجد صاحب سلطة أو امتياز غير فاسد.
بالإضافة إلى ذلك، ينتقد باكونين دعوات سيادة العلم في المجالات
السياسية والأخلاقية، شارحًا خطر وخطل هذه الدعوات. أخيرًا، يدافعُ
باكونين عن نفسه وعن الفوضويين في وجه التهمة التي توجَّه إليهم
دائمًا: أنتم ترفضون كل السلطات، ولكن لا يمكن بناء مجتمع دون سلطة.
هذا كلامٌ فارغ، لا يرفض الفوضويون كل السلطات بالمطلق؛ هم يسلِّمون
بسلطات محدودة ومؤقتة. في كتاباتٍ أخرى، يدعو باكونين إلى سلطات محلية
تتيح للناس التعبير عن أنفسهم بشكل أكمل وأوضح، رافضًا الديمقراطية
التمثيلية الليبرالية واستبداد السلطات الاشتراكية، معًا.
هذا النص هو من الله والدولة، الكتاب الذي مات باكونين ولم ينته
من العمل عليه. هناك بعض الغموض في الحجج والنقاش، يعود إلى عدم مراجعة
باكونين لنصوصه، بسبب انشغاله الدائم بالسياسة وشؤونها؛ وبسبب الرطانة
الفلسفية الألمانية المملة، التي تطبع التراث الفلسفي الأوربي، غير
الإنكليزي، بأكمله تقريبًا.
أقترحُ أن قراءة باكونين بخاصة، ومفكري الفوضوية بشكل أعم، ستساعدنا في
تأسيس اليسار التحرري الذي نسعى إليه.
فلنقرأ ما هي السلطة، إذًا.
***
ما هي السلطة؟
ما هي السلطة؟ هل هي القوة الحتمية للقوانين الطبيعية التي تُظهر نفسها
في التعاقب والتسلسل الضروريين لظواهر العالمين الفيزيائي والاجتماعي؟
في الحقيقة، الثورة ضد هذه القوانين ليست فقط ممنوعة، وإنما هي مستحيلة
أيضًا. قد نسيء فهم هذه القوانين أو قد نجهلها تمامًا، ولكننا لا
نستطيع عصيانها؛ لأنها تشكل الشروط الرئيسة والأساسية لوجودنا؛ فهي
تغلِّفنا، وتخترقنا، وتنظِّم كافة تحركاتنا، وأفكارنا، وأفعالنا؛ حتى
عندما نعتقد أننا نعصيها، نحن فقط نظهر قدرتها الكلية.
أجل، نحن بالمطلق عبيد هذه القوانين، ولكن لا ذل في مثل هذه العبودية،
أو بالأحرى، هذه ليست عبودية. لأن العبودية تقتضي وجود سيدٍ خارجي، أي
سلطة منفصلة عن التابع الذي تأمره. ولكن هذه القوانين ليست منفصلة عنا؛
إنها موروثة فينا؛ وتشكل كامل وجودنا الفيزيائي، والعقلي، والأخلاقي؛
نحن نتنفس، ونعمل، ونفكِّر، ونتمنى، فقط تبعًا لهذه القوانين. بدونها
نحن لا شيء، نحن لا نكون. كيفَ، إذًا، نستطيع أن نتمنى أو نريد التمرد
عليها؟
للإنسان حرية وحيدة بالنسبة للقوانين الطبيعية، وهي معرفتها وتطبيقها
على حقل يتوسع باستمرار في التحرير أو الأنسنة الفردية والجماعية التي
يسعى إليها. هذه القوانين، حال معرفتها، تمارس سلطةً لا خلاف عليها
أبدًا بين جماهير البشر. يجب أن يكون المرء حقيقةً أحمقًا، على سبيل
المثال، أو لاهوتيًا، أو على الأقل ميتافيزيقيًا، أو محاميًا، أو
برجوازيًا، كي يتمرد على القانون الرياضي: اثنان زائد اثنان يساوي
أربعة. يجب أن يكون المرء مؤمنًا كي يتخيَّل أن النار لن تُحرق أو أن
الماء لن يُغرق، إلا بالطبع في حال استخدام حيلة ما تعتمد بدورها على
قانون طبيعي. ولكن هذا التمرُّد، أو بالأحرى، محاولة التمرُّد، أو
التخيلات الغبية، لتمرُّدٍ مستحيل، هي قطعًا الاستثناء؛ لأننا نستطيع
القول إن معظم الناس يعترفون بحكم الحس السليم في حياتهم اليومية، أي
بمجمل القوانين الطبيعية المعترف بها عادةً، بطريقة شبه مطلقة.
تكمن المصيبة الكبرى في أن كثيرًا من القوانين الطبيعية، التي أثبتها
العلم كقوانين، ما تزال غير معروفة للجماهير، بفضل الحكومات الوصية
عليهم، الموجودة، كما نعرف، فقط «لمصلحة الشعب». هناك مشكلةٌ أخرى، وهي
أن معظم القوانين الطبيعية المرتبطة بتطور المجتمع البشري، وهي ضرورية
وثابتة وأساسية بالضبط كالقوانين التي تحكم العالم الفيزيائي، لم
يثبتها أو يعرِّفها العلم نفسه بعد كما ينبغي.
ما أن يعرِّفها العلم، ثم تنتقل إلى وعي كل الناس، سيُحَلُّ سؤال
الحرية تمامًا. يجب أن تعترف أكثر السطات عنادًا حينها بأنه لا لزوم
لأي تنظيمات سياسية أو لتوجيهات أو لتشريعات، هذه ثلاثة أمور قاتلة
ومؤذية لحرية الشعوب، طالما تُفرَضُ عليهم كأنظمة قوانين خارجية،
وبالتالي استبدادية. الأمر هو كذلك سواء فرضتها الملكية أم برلمان
منتخب بديمقراطية.
تتكون حرية الإنسان فقط مما يلي: أن يطيع القوانين الطبيعية لأنه عرفها
هو نفسه بصفتها قوانين الطبيعة، وليس بسبب فرضها عليه خارجيًا من قبل
أي إرادة خارجية، سواء كانت إنسانية أم إلهية، جمعية أم فردية.
افرض أننا طلبنا من أكاديمية تعليمية، تضم ألمع العلماء، وضع نظام
تشريعي للمجتمع، حيث لا يلهمها إلا الحب الصافي للحقيقة، وتشريع
القوانين تبعًا لآخر اكتشافات العلم. مثل هذه التشريعات، برأيي، ومثل
هذا التنظيم سيكون مسخًا: أولًا، لأن العلم البشري دومًا وبالضرورة
ناقص، فإذا نظرنا إلى اكتشافاته اليوم، سنرى أنه ما زال في بداياته.
لذا فإن إجبار الحياة العملية للبشر، الجماعية كما الفردية، على الخضوع
لآخر الإنجازات العلمية، يعني الحكم على المجتمع وعلى الفرد بالفناء
بخضوعهما لقوانين اعتباطية.
ثانيًا، المجتمع الذي يطيع التشريعات الصادرة عن الأكاديمية العلمية،
لا بسبب فهمه محتواها العقلي، بل لأنها مفروضة من قبل الأكاديمية باسم
العلم الذي يبجِّله الناس دون استيعابه، لن يكون مجتمعًا بشريًا بل
مجتمعًا بهيميًا. سيصبح نسخة أخرى من البعثات في الأورغواي التي خضعت
لزمن طويل لحكم اليسوعيين[1].
سينحدر هذا المجتمع بشكل أكيد وسريع، إلى مستوىً منحطٍ من الغباء.
ما زال هناك سبب ثالث يجعل من هذه الحكومة مستحيلة التحقق، وهو أن
الأكاديمية العلمية التي تتمتع بسلطات مطلقة، حتى لو كانت مشكَّلة من
ألمع الناس، سينهيها في مدة قصيرة وبشكل حتمي فسادها الأخلاقي والعقلي.
وهذا مصير كل الأكاديميات حتى اليوم، مع الامتيازات المعدودة المتاحة
لها. من اللحظة التي يصبح فيها أكاديميٌ «خادمًا» رسميًا مرخَّصًا له،
سينحطُّ أعظم العلماء خاملاً. سيفقد عفويته، وجسارته الثورية، وهذه
الطاقة الوحشية المثيرة للمشاكل المميزة للعباقرة، التي تدعوهم
باستمرار لتحطيم العوالم القديمة المتداعية ووضع أسس عوالم جديدة. بلا
شك سيكتسب تهذيبًا، وحكمة عملية ونفعية. بكلمة، سيصبح فاسدًا.
كل الامتيازات والمناصب المرافقة لها تغتال قلوب وعقول البشر. صاحبُ
الامتيازات، السياسية أم الاقتصادية، فاسد العقل والقلب. هذا قانون
اجتماعي لا استثناء له، ويمكن تطبيقه على الأمم كلها كما على الطبقات
كلها، وعلى الشركات كما على الأفراد. هذا قانون المساواة، الشرط الأسمى
للحرية والإنسانية. الهدف الرئيس لهذا البحث هو بالضبط شرح هذه الحقيقة
في كل تجلياتها في الحياة البشرية.
الجماعة العلمية الموكلة بحكم المجتمع ستنتهي قريبًا إلى تكريس نفسها
لا للعلم أبدًا، بل لأمر آخر مختلف تمامًا؛ وكما هو حال كل السلطات
المستقرة، ستسعى إلى تأبيد حكمها عن طريق جعل المجتمع الموكل لها حكمه
أكثر غباءً، وبالتالي أكثر اعتمادًا على سلطة العلماء.
ولكن ما يصحُّ على الأكاديميات العلمية يصحُّ أيضًا على المجالس
المُنتخبة، حتى تلك المختارة بالاقتراع العام. ربما تتغيَّر تركيبتها،
بالطبع، ولكن هذا لن يمنع تشكيل جماعة من السياسيين المنتفعين بعد بضع
سنين تتفرَّغ لتوجيه الشؤون السياسية كنوع من الأرستقراطية السياسية أو
الأوليغارشية. شاهد ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا.
لذا، فلنتخلَّى عن التشريعات الخارجية وعن السلطة. لا يمكن فصل أحدهما
عن الآخر، ويميل كلاهما إلى خلق مجتمع عبودي.
هل يعني ذلك أنني أرفض كل أنواع السلطة؟ يا لهذه الفكرة التعيسة. فيما
يتعلَّق بالأحذية، أنصاع لسلطة الإسكافي؛ فيما يتعلق بالمنازل،
والأقنية، وسكك الحديد، أستشير المعماري أو المهندس. لمثل هذه المعرفة
المتخصصة، أتبع سلطة مثل هؤلاء «العلماء». ولكنني لا أسمح للإسكافي ولا
للمهندس «للعالم» أن يمارسوا سلطتهم علي. أنا أنصت إليهم بحرية وبكامل
الاحترام الذي يستحقه ذكاؤهم، وشخصيتهم، ومعرفتهم، محتفظًا دومًا في
حقي الذي لا جدال فيه في النقد والاعتراض. أنا لا أطمئن إلى استشارة
سلطة واحدة في أي فرع متخصص؛ بل أستشير جهات مختلفة؛ وأقارن بينهم
لأختار ما أراه الأفضل. ولكنني لا أعترف بأي سلطة معصومة، حتى في
الأسئلة المتخصصة؛ وبالتالي، مهما يكن الاحترام الذي أحمله لصدق وإخلاص
أي فرد، فأنا لا أمحض أي شخص إيمانًا مطلقًا به. مثل هذا الإيمان سيقضي
على عقلي، وعلى حريتي، وحتى على نجاحي فيما أقوم به؛ سيحوِّلني فورًا
إلى عبد غبي، وأداة لتحقيق رغبات وإرادة الآخرين.
إذا خضعتُ لسلطة الخبراء، موافقًا على اقتراحاتهم وتوجيهاتهم لمدة ما
وإلى درجة ما، فأنا أفعل ذلك فقط لأن لا أحد يرغمني على ذلك. لو لم يكن
الأمر كذلك لتمرَّدت عليهم بعنف وتمنيت أن تذهب مجالسهم، وتعليماتهم،
وخدماتهم، إلى الجحيم، واثقًا من أنهم سيجعلونني أدفع ثمن فتات الحقائق
المغلَّفة بالأكاذيب، التي قد يعطونني إياها، بخسارتي لحريتي واحترامي
لذاتي.
أنا أخضعُ لسلطة الخبراء لأنها مفروضة عليَّ من قبل عقلي أنا. أعرفُ
أنني عاجز عن فهم جزء كبير من المعرفة البشرية في كافة تفاصيلها
وتطورها. حتى أعظم المفكرين لا يستطيع الإحاطة بالكل، ومن هنا ضرورة
التخصص والتعاون في العمل. خذ واعطِ؛ هذه هي الحياة البشرية. كل منا
يقود ويُقاد بدوره. لذا لا وجود لسلطة ثابتة، بل هو تموُّجٌ مستمرٌ من
سلطة وتبعية مشتركة، ومؤقتة، وفوق كل شيء طوعية.
القبول بسلطة ثابتة دائمة كونية مستبعد بالضبط لأنه لا يوجد إنسانٌ
«كوني» قادر على فهم كل العلوم وكل أوجه الحياة الاجتماعية، بتفاصيلها
الغنية التي بغيابها يصبح تطبيق العلم في الحياة مستحيلاً. وفي الواقع
لو استطاع إنسانٌ واحدٌ فهم كل ذلك، ولو حاول استخدام ذلك لفرض سلطته
علينا، سيكون ضروريًا طرده من المجتمع، لأن سلطته ستحولنا حتمًا إلى
عبيد وبلهاء. لا أعتقد أن على المجتمع أن يتحامل على العباقرة كما كان
الحال حتى اليوم؛ ولكنني أيضًا لا أعتقد أنه يجب محاباتهم كثيرًا، ولا
يجب أن يحصلوا على امتيازات خاصة أو حقوق حصرية مهما كانت، وذلك
للأسباب التالية. أولاً، لأن المجتمع غالبًا سيضع الدجَّال مكان
العبقري؛ ثانيًا، لأنه عن طريق نظام الامتيازات هذا، قد يتحوَّل
العبقري الفعلي إلى دجَّال، وبالتالي ستفسده وتحطُّه الامتيازات؛
وأخيرًا، لأن المجتمع سيُقرُّ سيدًا على نفسه.
باختصار نحن نعترف بالسلطة المطلقة للعلم، حيث أن الموضوع الوحيد للعلم
هو الصياغة المعمَّقة والنسقية لكل القوانين الطبيعية الكامنة في
الحياة المادية والفكرية والأخلاقية لكلا العالَمين الفيزيائي
والاجتماعي، الذين هما عالمٌ واحدٌ هو نفسه. هذه هي السلطة الشرعية
الوحيدة، شرعيةٌ لأنها عقلانية ومتسقة مع الحرية البشرية، ونعلن هنا أن
أي سلطةٍ أخرى هي سلطةٌ مزيفة واعتباطية وقاتلة.
ولكن مع رفضنا السلطة المطلقة الكونية المعصومة لرجال العلم، نحن نرغب
بقبول سلطة الخبراء العلمية المحترمة، ولو كانت نسبية، ومؤقتة ومحدودة،
ولا نطلب إلا استشارتهم واحدًا تلو الآخر، ممتنِّين لمعلوماتهم الدقيقة
طالما يرغبون بدورهم أن يتعلَّموا منا. على العموم، لا نطلب إلا أن نرى
التأثير المشروع والطبيعي علينا لأصحاب المعرفة العظيمة، والخبرة
العظيمة، والعقول العظيمة، وقبل كل شيء القلوب العظيمة، هذا التأثير
المُعتَمد بحريَّة، وغير المفروض أبدًا باسم أي سلطة رسمية أو حقوق
مؤسساتية؛ لأن كل سلطة أو حق مؤسساتي، ومفروض على الناس بصفته تلك،
يصبح فورًا قمعًا وبهتانًا، وسيفرض علينا حتمًا العبودية والسخافات.
بكلمة، نحن نرفض كل التشريعات، وكل أشكال الامتيازات، وكل السلطات
الرسمية والحقوقية والتشريعية المفروضة علينا، حتى لو أتت عن طريق
الاقتراع العام، مقتنعين بأنها لن تخدم إلا الأقلية الحاكمة المستغِلة
على حساب الأكثرية الهائلة المستعبدة لها.
بهذا المعنى نحن جميعًا فوضويون...
يعود التقدم الهائل في العلوم الوضعية مقارنةً بعلم اللاهوت،
والميتافيزيقيا، والسياسة والحقوق التشريعية إلى ما يلي: بدلاً من
التجريد الخاطئ الذي تقدِّمه هذه المذاهب، تطرح العلوم تعميمات صحيحة
تعبِّر عن طبيعة ومنطق الأشياء، وعلاقاتها، وقوانين تطورها. هذا ما
يميز بعمقٍ العلوم عن كل الأشكال الأقدم من التفكير، وسيضمن للأبد
أهميتها للمجتمع. ستشكِّل العلوم بمعنى محدد الضمير الجمعي للمجتمع،
ولكنها تشابه بقية الفروع في شيء واحد: بما أنها أيضًا تقوم بالتجريد،
فهي مجبرة بسبب طبيعتها نفسها أن تتجاهل الإنسان الواقعي، الذي بدونه
لا يوجد أي تجريد. لمعالجة هذا الخلل الجذري، على العلوم أن تستخدم
طريقةً جديدة. استفادت مذاهب الزمن الماضي دومًا من جهل الناس وضحَّت
بهم بسعادة في سبيل تجريداتها، ومصادفةً كان هذا الأمر مربحًا لمؤيدي
هذه المذاهب ممن يتكونون من لحمٍ ودم. يجب على العلوم الوضعية، معترفةً
بعجزها التام عن إدراك الأفراد الواقعيين والوصول إليهم، أن ترفض كافة
المطالبات لها بحكم المجتمعات. بانخراطها في الحكم، ستعمل فقط على
التضحية بالناس الواقعيين في سبيل تجريداتها التي تشكل الموضوع الوحيد
لعملها المشروع.
العلم الصافي للتاريخ، على سبيل المثال، لم يوجد بعد؛ بالكاد اليوم
بدأنا في فهم احتمالاته المعقَّدة جدًا. ولكن فلنفترض أنه تطوَّر بشكل
كامل، ما الذي يمكن أن يقدِّمه لنا؟ ما يستطيع تقديمه هو صورة مخلصة
وعقلانية للتطور الطبيعي للشروط العامة-المادية، المثالية، الاقتصادية،
السياسية، الاجتماعية، الدينية، الفلسفية، الجمالية،
والعلمية-للمجتمعات التاريخية. ولكن هذه الصورة الكونية للحضارة
البشرية، مهما تكن تفاصيلها، لن تُظهِرَ إلا تخمينات عامة وبالتالي
مجرَّدة.
ملايينُ البشر اللذين يشكِّلون المواد الحية والمتألمة لهذا التاريخ،
بانتصاراته وأحزانه - انتصاراته بسبب قوانينه العامة، وأحزانه بسبب
الذبائح البشرية «المسحوقة تحت عجلاته» - بلايين الأفراد المغمورين
اللذين لم تكن التطورات العظيمة في التاريخ لتحدث دونهم – واللذين،
تذكَّر، لم يستفيدوا شيئًا من هذه التطورات - لن يجدوا حتى ركنًا
صغيرًا في حولياتنا. لقد عاشوا وتمت التضحية بهم، لقد سُحقوا لخير
الإنسانية عامةً، هذا هو الأمر باختصار[2].
هل يجب أن نلوم علم التاريخ؟ هذا ظلمٌ وسخف. لا يمكن فهم الأفراد
بالفكر، أو بالتأمل، أو حتى بالكلام البشري، الذي يستطيع التعبير عن
التجريدات فقط؛ لا يمكن فهمهم في الحاضر أكثر مما يمكن فهمهم في
الماضي. لذا فالعلوم الاجتماعية نفسها، علوم المستقبل، ستتجاهلهم
بالضرورة. ينحصر حقنا في الطلب من العلوم أن تشير لنا بيد مخلصة وواثقة
إلى الأسباب العامة للمعاناة. من بين هذه الأسباب لن تنسى التضحية
بالأفراد الأحياء وتبعيتهم (التي لا تزال منتشرة، للأسف) للتعميمات
المجردة، وفي الوقت نفسه تظهر لنا الشروط العامة الضرورية للأفراد
الواقعيين اللذين يعيشون في المجتمع. هذه هي مهمتها؛ وهذه هي حدودها،
إن تعدَّتها أصبحت عاجزة ومميتة. خلف هذه الحدود يكمن ضغطُ وتلاعبُ
ممثلي السلطات الحاكمة الرسميين وكهنتها. لقد حان الوقت للتخلُّص من كل
البابوات والكهنة، لا نريدهم بعد الآن، حتى لو سمُّوا أنفسهم
«الديمقراطيين الاشتراكيين»[3].
من جهة، لا غنى عن العلم للتنظيم العقلاني للمجتمع، ومن جهة أخرى، بسبب
عدم قدرته على فهم ما هو حي وواقعي، يجب ألا يتدخل العلم في التنظيم
الواقعي والعملي للمجتمع. كيف يمكن حل هذا التناقض؟
يمكن حل هذا التناقض بطريقة واحدة: بالتخلُّص من العلم كسلطة أخلاقية
منفصلة عن حياة الناس، ومُمثَّلَة في هيئة معتمدة من «العلماء». يجب أن
ينتشر العلم بين الجماهير. العلم، بعد أن دعوناه ليكون ضمير المجتمع
الجمعي، يجب أن يكون حقيقةً في متناول الجميع. لذا، ودون أن يخسر شيئًا
من ميزته الكونية، التي إن سلبت منه لن يكون علمًا، وفيما يستمر في
البحث حصرًا عن الأسباب والشروط العامة، والعلاقات الداخلية الثابتة
للأفراد وللأشياء، سيلتحم بالحياة الواقعية والمباشرة للأفراد.
لنكرر، الحياة، وليس العلم، من يخلق الحياة؛ لا تولد الحرية إلا من
الأفعال العفوية للناس أنفسهم. من المبهر بالطبع، لو استطاع العلم
البدء في إنارة مسيرة الجماهير العفوية نحو التحرر. ولكن لا ضوء أبدًا
أفضل من ضوء زائف وخابٍ، يُنار فقط لتضليل من يتبعونه. في نهاية الأمر،
لن يفتقد الناس الضوء. لم يقطعوا هذا الدرب التاريخي الطويل ويدفعوا
ثمن أخطائهم قرونًا من العبودية عبثًا. الخلاصة العملية لتجاربهم
المؤلمة تشكِّل المعرفة التقليدية، والتي من بعض النواحي تستحق
الاحترام بالضبط كالمعرفة النظرية. أخيرًا، قسم من الشباب، أولئك
الطلاب البرجوازيون اللذين يحملون كراهية للزيف والنفاق والظلم والجبن
البرجوازي تكفي ليجدوا الشجاعة كي يديروا ظهورهم لها، وبالعنفوان
الكافي كي يتبنّوا القضية الإنسانية والعادلة للبروليتاريا، سيلعبون
دور المرشدين الأخويين للناس: بفضلهم، لن تسنح فرصة لتشكيل حكومة
«العلماء».
العلم، عندما يتحول إلى تراثٍ مملوكٍ للجميع، سيلتحم بمعنى محدد
بالحياة الواقعية والمباشرة لكل فرد. سيكسب نفعًا وشرفًا ما سيخسره من
كبريائه وطموحه، وحذلقة التلقين. على أي حال، لن يمنع هذا العباقرة،
اللذين ينظِّمون أنفسهم في سبيل البحث العلمي بشكل أفضل من أكثرية
رفاقهم، من تكريس حيواتهم حصريًا لهذا البحث وتقديم خدمات عظمى
للإنسانية. على أنهم لن يطمحوا إلى أي تأثيرٍ اجتماعي باستثناء التأثير
الطبيعي للذكاء المميز على محيطهم، ولن يحصلوا على أي مكافأةٍ باستثناء
البهجة الرفيعة التي يجدها العقل النبيل دائمًا في إشباع شغفه النبيل.
*** *** ***
عن موقع الجمهورية