|
نساء بالسواد
الفصل الثاني
الطفولة سمعت عن "نساء بالسواد" للمرة الأولى في أوائل كانون الثاني 1988. فقد أخبرتني صديقتي ميري أنها سمعت بمجموعة من النساء يتظاهرن كلَّ يوم جمعة في ساحة قريبة، حاملاتٍ لافتاتٍ تطالب بإنهاء الاحتلال[1]. قالت إنها تعتزم الانضمام إليهن ودعتني إلى الحضور، لكنِّي اعتذرت منها. وحين عادت من المظاهرة ذلك اليوم، أخبرتني أنه على الرغم من اقتصار الحضور على 15 امرأة فقط، فقد بدا من الصواب في نظرها الوقوف جنبًا إلى جنب مع مجموعة من النساء احتجاجًا على الاحتلال. قالت إن هذه هي المرة الثالثة التي تتظاهر فيها النساء، وإنهن يعتبرن أنفسهن صاحباتِ وقفة احتجاجية ويعتزمن الوقوف مدة ساعة واحدة أسبوعيًّا. وسألتْ ميري فيما إذا كنتُ أودُّ الذهاب الأسبوع التالي، فأجبتها بأني سأفكر في الأمر. كانت الأخبار مروِّعة طوال الأسبوع، وكان إحساسي بالعجز يتفاقم؛ ومع اقتراب يوم الجمعة التالي، أصبحت حاجتي إلى القيام بفعل ما ملحَّة. أخبرت ميري أني أود الانضمام إليها، فاقترحت عليَّ أن أرتدي ثيابًا سوداء، باعتبار ذلك جزءًا من "الحيلة" التي تستعملها النساء لجذب الانتباه إليهن وإلى رسالتهن – فالأسود يرمز إلى الحداد على ضحايا العنف. ضحكت – فوسائل التحايل لا تناسبني – وذهبت مرتديةً ملابسي العادية. وحين بلغت مكان وقوف المجموعة الصغيرة من النساء، شعرت فورًا بالخجل لأني لم آتِ في ثياب سود. فقد كنَّ يقفن على جدار واطئ يحيط بميدان وسط تقاطُع طُرُق ضاجٍّ بالحركة في القدس، مواجِهاتٍ حركةَ المرور الكثيفة الدائرة حول الميدان. وعلى الجدار المرتفع عن الأرض 3-4 أقدام، كانت تقف مجموعة النساء الصغيرة، جدِّياتٍ وكالحاتٍ في زيِّهن الأسود، خالقاتٍ انطباعًا بيقظة الضمير. أسِفتُ لارتدائي ملابس ملونة. فارتدائي الأسود كان يمكن فعلاً أن يكون تضحية صغيرة للغاية من أجل الصورة القوية التي كانت هذه النساء يُبرِزنَها. ألقيتُ بالتحية على امرأتين من معارفي، وتلفتُّ حولي بحثًا عن لافتة أحملها. لم تكن هناك لافتات احتياطية. بعيدًا على أحد الجوانب لمحت ألڤا الصهباء، زميلة مييكا في الدراسة، تخطُّ لافتة بقلم لبادي الرأس. عرضت عليها مساعدتي، وبدأنا معًا نطبع بخطٍّ أنيق "كفى للعنف، جميعكم"، وحملناها وصعدنا على الجدار. نظرت حواليَّ إلى حركة المرور التي تطوقنا وإلى المارة القليلين على مقربة منا. حاولت أن ألتقط تعبيرات وجوههم. ماذا كان يعتمل في أذهانهم؟ هل كانوا موافقين على المشاعر المعروضة على لافتاتنا أم معترضين عليها؟ كيف يمكن لأيٍّ كان أن يعارض الجهود المبذولة لإنهاء العنف؟ دارت هذه الأسئلة في ذهني في براءة في تلك المرحلة المبكرة. لم يكن هناك حتى ذلك الحين ردٌّ واضح من المارة. أجل، لقد باغتهم حضورُنا قطعًا، لكنهم لم يأخذونا على محمل الجد. ربما كان ذلك المزيج – الملاحظة، لكنْ دون مبالاة حقيقية – هو ما أثار سخطي. ماذا كانت تعني تلك اللامبالاة؟ حسبتْ ميري أنها ربما تتعلق بشعورهم أننا نساء "فقط" يتظاهرن – لا شيء يستدعي الرغوة والزبد سخطًا. وأغلب الظن أن هذا هو ما أثَّر فيَّ أصلاً، ما جعلني أرغب في المجيء مرة أخرى. لذا حضرت بالفعل الأسبوع التالي، لكنْ باللباس الأسود هذه المرة. لقد انتاب الكثيراتِ منَّا – وربما معظمنا – شعورٌ بعدم الارتياح لارتداء الأسود والوقوف على جدار معلِناتٍ وجهةَ نظرنا السياسية. وتصف هِلاَّ يانيڤ شعورها في الوقفات الاحتجاجية الأولى بقولها: دعتني إحدى النساء المنظِّمات إلى الوقفة الاحتجاجية الأولى. [...] أتذكر رغبتي في المشاركة وحرجي من أسلوب العمل. ففكرة الظهور بالسواد كانت تحرجني. وأتذكر في وضوح كم صَعُبَ عليَّ أن أرتدي ملابس سوداء وألتحق بهن. [...] واخَجَلي، إذ لم أستطع التغلب على خوفي وأنضم إلى الوقفة الاحتجاجية الثانية. لكن الوقفة الاحتجاجية في الأسبوع التالي كانت منعقدة أصلاً في "ساحة باريس"، ومذ ذاك أصبحتُ مشارِكة منتظمة. [...] لكن هناك أمرًا ما مرعبًا في الوقوف وسط الشارع، عُرضة للجمهور كلِّه: يستطيع أيٌّ كان أن يتعرف إليكِ وإلى ما تؤيدينه. فحتى ذلك الحين، كنت اعتدتُ أن أشارك مشارَكة متقطِّعة وحسب في النشاطات السياسية التي كانت تجري ضمن مجموعة مغلقة من أناس يفكرون مثلي، أو حيث كنت أحتمي بجمهرة من المتظاهرين الآخرين، كما في "السلام الآن". لم يكن هناك أبدًا مثل هذا الاحتكاك المباشر مع العالم، مع الجمهور. أما الاحتكاك مع "نساء بالسواد" فهو أكثر مباشرةً بكثير، أكثر انكشافًا بكثير.[2] مع أن الكثيرات منا انتابهنَّ شعورٌ بعدم الارتياح، كانت الوقفات الاحتجاجية تنمو في بطء. فحوالى الأسبوع الخامس، كان عددنا يناهز الثلاثين امرأة، جميعنا تقريبًا مرتديات السواد. تلفَّتُ حواليَّ فشعرت بفخر كبير بوقوفي هناك. وكذلك كانت حال النساء الأخريات – كان ذلك جليًّا. من جانب آخر، كان لافتًا أنه لم يلحظنا بعدُ أحد حقًّا: كان قد مضى على وقفات المجموعة الاحتجاجية مدة شهر، لكننا لم نلقَ اهتمامًا حقًّا من أحد. فوسائل الإعلام لم تعتقد أن الأمر يستحق الذكر، كما كان المارة مكتفين بدورهم – "يمرون" بنا مرور الكرام –، وحتى السيارات العابرة كانت تواصل سيرها، وسائقوها مسرورون بعض الشيء لوجود ما يحدقون فيه غير إشارة المرور الحمراء. فالنساء كنَّ دومًا ينفعن للتحديق فيهن! طوال الأسابيع القليلة التالية، ازداد عددنا تدريجيًّا، وبدأنا بتوحيد رسالتنا. ففي الشهور القليلة الأولى، كنا نعدِّل رسالتنا تبعًا لأحداث الأسبوع، متجاوباتٍ ضد أعمال عدوانية وعنفية بعينها كانت تجري. وتدريجيًّا، مع إدراكنا أن الاحتلال كان مصدر معظم هذا العنف، إنْ لم يكن كله، تخلَّينا عن تنويع اللافتات، مبقياتٍ على رسالة واحدة، واضحة وبليغة – "كفى للاحتلال" – على الأكف السوداء الموحَّدة الأسلوب معلقةً على عصا خشبية. ومع أن حوالى 30-40 امرأة كنَّ يحضرن حينذاك في كلِّ وقفة احتجاجية، إلا أن هذا كان يعني أن حوالى 50-60 امرأة كنَّ يشاركن، لكنهن لا يحضرن كلَّ أسبوع. واستمرت وسائل الإعلام الإسرائيلية على تجاهُلها لنا تجاهلاً مطلقًا، مع أن الاحتجاجات والمظاهرات الأخرى الكثيرة جدًّا – مجموعات يختلط فيها النساء والرجال – كانت تحظى آنذاك بانتباه إعلاميٍّ لا يُستهان به. ماعدا المؤسِّسات الأخبر بالسياسة بيننا، لم تهتم غالبيتنا بعدم الانتباه الإعلامي ذاك – لم يبدُ الأمر مهمًّا بنظرنا في تلك الأيام –، إذ كنَّا نشعر أننا مَسوقات كليًّا بحافز داخليٍّ إلى ما يجب علينا عمله. لم تكن لدينا أية إستراتيجية، ولا أي تكتيك، وبضع منَّا فقط بذلن جهدًا لتطويع أخريات[3]. بعض النساء انضم إلينا بعد أن دعتهنَّ صديقات، وأخريات شاهدننا من نوافذ السيارات أو الحافلات، فخرجن والتحقن بالمجموعة. وبدأنا نعتز بأن مجموعتنا كانت تنمو، وإنْ في بطء. بعد حوالى شهرين من الوقفات الاحتجاجية، بدأ بعضُ المارة يلحظون وجودنا فعلاً. وأظن أن ما أثَّر فيهم هو مظهر النساء القويات. وبدأ بضعة رجال من المارة يصرِّحون جهرًا بما يدور في أذهانهم – ومعظمُه مُستلهَم من جنسنا أكثر مما هو مستلهَم من سياستنا. لقد بادرونا بـ"عاهرات!" وتساءلتُ عما جعلهم يفكرون بنا كـ"عاهرات". مظهرنا القوي؟ وقوفنا هناك مستقلاتٍ عن الرجال؟ لباسنا الأسود؟ أم أن لفظ "عاهرة" كان مجرد طريقة عند بعض الرجال لإكراه النساء على قبول أدوار كانت أشيع وأكثر قابليةً للضبط؟ بعضهم قطعًا ثارت أعصابه لمرأى 30 امرأة، جميعهن باللباس الأسود، آخذات أنفسهن على محمل الجد، يحملن لافتاتٍ تتعلَّق بقضايا سياسية، ويواجهن استفزازاتٍ لفظيةً بصمت القبور. النساء والسياسة؟ لا بدَّ أن هذا المزيج بعينه قد أرعب بعضهم. المراهقة بحلول الشهر الرابع أو الخامس، كنا نؤلِّف وقفة احتجاجية منتظمة من 50 امرأة أو نحو ذلك، وكان منظرنا قد بدأ يبدو مؤثرًا. كما بدأت الوقفات الاحتجاجية أيضًا في تل أبيب وحيفا، مما عزَّز شعورنا جميعًا بالقوة. وكثير من المشاهدين، ممن كانوا غير موافقين على سياستنا، كانوا يتمهَّلون فعلاً ويعبِّرون عن مشاعرهم – بعبارات عنيفة في كثير من الأحيان. بعض هذه العبارات كان مخيفًا، وبعضها الآخر بدأنا نشعر أنه يزيدنا قوة. إذ إن سماع الشتائم، والإحساس بالخوف، لكنْ من غير أن يثنينا عن الاستمرار، كان ذا مفعول قوي. بدأنا نستمد من هذه الوقفات الاحتجاجية ثقة متنامية بأنفسنا نحن. القلق مازال موجودًا، لكنه بدأ أيضًا يمتزج بشعور متقطِّع بالتحدي. وكلما ازدادت المعارضة لنا سُمِّيةً تنامى إدراكُنا بأن رسالتنا تشق طريقها. سائقو السيارات بدءوا أيضًا يتجاوبون، صارخين بعبارات غاضبة عبر نوافذ سياراتهم وهم متوقفون عند إشارة المرور. لكن أين كان السائقون والمشاة الموافقون على آرائنا؟ لقد بدأنا نلحظ أن أولئك المتفقين معنا كانوا دمثين، لا يصرحون برأيهم جهرًا، لا بل يكتمون تأييدهم صراحة. كانت تلك سنوات سيطرة الجناح اليميني في الحياة السياسية الإسرائيلية، حين لم يكن متاحًا للجناح اليساري أن يعبِّر عن مشاعره علنًا في أمان[4]. وكانت غالبية المارة ممَّن يدعمون مواقف "نساء بالسواد" يرفعون إصبعين على استحياء بإشارة النصر V، أو أحيانًا يرفعون إبهامهم إلى الأعلى علامة التأييد. لكن لم يرفع أحدهم عقيرته بصيحة من نحو: "إلى الأمام!"، "عذارى طاهرات" (معاكَسَةً للتسمية الأخرى)، أو حتى مجرد صيحة "هوراه!" استحسانًا. وأخيرًا، اقترحت إحدى النساء فكرة حمل لافتة مكتوب عليها (بالعبرية) "كفى للاحتلال... أطلق البوق مرتين" لاستنهاض تأييد مسموع لموقفنا. ولكوني فارعة الطول، كثيرًا ما كان ينتهي بي الأمر إلى حمل تلك اللافتة، متخذةً موقعًا عند الزاوية قبل بلوغ سائقي السيارات الإشارة الحمراء، على أمل ألا يخجلوا من إطلاق أبواقهم مادامت سياراتهم تتحرك. وقد ازداد حماسي جدًّا لتلك اللافتة ولدوري في انتزاع بضعة أبواق مؤيِّدة، فكنت أحملها عاليًا، وذراعاي ممدودتان إلى أقصى حد، غير عابئة بالوجع فيهما من جراء الثبات على هذا الوضعية 60 دقيقة. لقد اعتبرت الأمر آنذاك مساهمةً كبرى في رفع معنويات المجموعة. وبين الحين والآخر، كانت سيارات تطلق أبواقها موافقةً، فكان نوعًا من العزاء سماعُ أننا لم نكن وحيدات تمامًا. لسوء الحظ، سرعان ما علمنا أن إطلاق البوق من دون سبب وجيه مخالِف للقانون، وقد هدَّد ضباط شرطة ممَّن لم يفتتنوا بوجهة نظرنا بمخالفة السيارات التي تعبِّر أبواقها عن آرائها السياسية، فتخلينا عن اللافتة. بدأت أعداد متزايدة من النساء تنضم إلينا. ولم يكن من النادر أن تلحظنا امرأة تقود سيارتها في الجوار، وتفكِّر مليًّا وهي وسط السير، فتعود بسيارتها إلى الوراء، وتركنها، وتنضم إلينا في ميدان الوقفة الاحتجاجية؛ أو أن تترجل امرأة من حافلة وتخطو لتنضم إلى المجموعة. وكانت إحدى النساء المنتَظِمات في حضور الوقفات الاحتجاجية امرأة مقعَدة، يُحضِرُها رجل على كرسيها المتحرك، ويرفعها وهي على الكرسي حتى الميدان، ثم ينتظر في الجوار انقضاء ساعة الوقفة، ثم يُنزِلُها ويعود بها بعدئذٍ. لا أعرف اسم هذه المرأة، لكن مرآها كلَّ مرة كان يبعث السرور في نفسي. كلما ازدادت وقفاتنا وكبر عددنا، أخذنا أنفسنا على محمل الجد أكثر. وقد أخذت هاجر، إحدى المؤسِّسات، على عاتقها دور "ضابط النظام"، فارضةً شتى قيود الانضباط. كانت تدور على المجموعة مفتشةً عدة مرات إبان الوقفة الاحتجاجية وتُسمِعُنا توبيخاتها: "توقَّفن عن الكلام، هذه ليست حفلة شاي"؛ "مُري صديقك أن يقف خلفك، إنه يحجب رؤيتك"؛ "ابتاعي لنفسك قميصًا أسود خالصًا ليس عليه هذا الرسم في الزاوية – أو البسيه ظاهره باطنه"؛ والعبارة الأزلية: "أنت متأخرة". كانت الكثيرات منَّا، وربما معظمنا، يخشين هاجر، بحضورها القوي ولسانها السليط الذي يعنِّف المزعجين ورجال الشرطة والمتأخِّرات عن موعد الوقفة بالضراوة نفسها. ومن أوجُه عدة، أصبحت هاجر في نظرنا رمز الوقفة الاحتجاجية؛ وعلى الرغم من الخلافات معها التي كانت تبرز على نحو غير متوقَّع عند الكثيرات منا، إلا أنها كانت تحظى منا دومًا باحترام لا يتزعزع. في تلك الأثناء، صنعت لنا مايا بلوهم وشايا وايت بلوم "أكفًّا" مكتوبًا عليها بالعبرية والعربية والإنكليزية، ثم بالروسية، تكريمًا للموجة الكثيفة من المهاجرين الروس إلى إسرائيل إبان تلك الفترة. واستُبدِلتْ بالكرتون الرقيق أيدٍ من الورق المقوى المضغوط أشد صمودًا للمطر والثلج والبَرَد؛ ثم تطوعت حينئذٍ نساءٌ أخريات لتغيير اللافتات البالية. حينما عدنا بالذاكرة إلى سنتنا الأولى في "نساء بالسواد"، أمكننا أن نحصي الوقفات الاحتجاجية في ثلاث مدن إسرائيلية. أكبر هذه الوقفات كانت في القدس، حيث كان عدد الملبِّيات للدعوة كلَّ أسبوع يناهز الثمانين امرأة أو نحو ذلك، حيث باتت حلقة النساء تطوِّق الميدان بأكمله. ومع أننا بدأنا نلحظ طيفًا واسعًا من الآراء السياسية فيما بيننا – من الاعتدال إلى الراديكالية إلى اللاانتماء – إلا أننا كنا نعزِّز على مهل شعورًا من الولاء حيال الوقفات الاحتجاجية، ليس بسبب التضامن بعضنا مع بعض في قضيتنا المشتركة فحسب، بل لأننا بدأنا نرصُّ صفوفنا ضد المعادين لنا أيضًا. بلوغ النضج مع دنوِّنا من الذكرى السنوية الأولى لـ"نساء بالسواد"، بدأت النساء يناقشن كيفية إحياء هذه الذكرى وفي أي تاريخ. أيجب علينا الاحتفال بالذكرى السنوية للانتفاضة نفسها (9 كانون الأول) أم بالذكرى السنوية للوقفة الاحتجاجية الفعلية الأولى لـ"نساء بالسواد" (8 كانون الثاني)؟ عقدنا اجتماعًا قبل أسبوعين من ذكرى ولادة الانتفاضة لمناقشة المسألة بحضور حوالى ثلاثين امرأة؛ وكانت القضية الأساسية هي: هل نحيي ذكرانا الخاصة أم ذكرى الانتفاضة؟ بعد نقاش مطوَّل، قررنا أخيرًا أن نقيم الحدث الجماهيري بعد أسبوع واحد من ذكرى الانتفاضة، بحيث نسجِّل موقفًا يُشرِكُنا مع الوضع الفظيع في الأراضي المحتلة، لكنْ من غير أن نحتفل بعيد الفلسطينيين. ثم تناقشنا حول كيفية استقدام أكبر عدد من النساء إلى اجتماعنا الحاشد، واضعاتٍ نصب أعيننا هدف إيصال العدد إلى 365 امرأة – امرأة مقابل كلِّ يوم من أيام الانتفاضة. كان هذا تحديًا هائلاً لوقفتنا الاحتجاجية الصغيرة التي لم يتخطَّ عددُ المشاركات فيها المائة ولا مرة واحدة. توازَعنا المهمات: كان على عناة هوفمان تحضير إعلانات نعي تحملها النساء – إشعار أسود الحواف يقول: "العدالة ماتت، فلترقد بسلام". فيما تولَّت هِلاَّ يانيڤ إعداد منشور بالعبرية يشرح مَن هنَّ "نساء بالسواد"، أقوم بترجمته إلى الإنكليزية؛ وهذه المنشورات توزَّع باليد على المتفرجين. وتطوَّعت عدة نساء لصنع أكفٍّ إضافية لجميع المحتجَّات، فيما تطوعت أخريات للاتصال بوسائل الإعلام وحثِّها على القدوم. وبينما كنَّا على وشك فضِّ الاجتماع، ذكرت إيڤون دويتش أن "المؤتمر اليهودي النسائي الدولي الأول" سينعقد في القدس الأسبوع القادم. كان هذا حدثًا دوليًّا كبيرًا – 320 زعيمة نسائية بارزة – برعاية مشتركة من ثلاث منظمات يهودية كبرى[5]، سيختتم أعماله عشية يوم خميس. وكانت مجموعة من "نساء بالسواد" إسرائيليات تخطِّط لمؤتمر "تكميلي" صبيحة اليوم التالي – اليوم المعتاد لوقفتنا الاحتجاجية – لمناقشة قضايا الانتفاضة، بنيِّة جذب أكبر عدد ممكن من النساء من الخارج إليها. وبذلك يُختتَم مؤتمرُ السلام بمسيرة نسائية حاشدة من موقعه (في مقر "حركة الإصلاح"، غير بعيد عن مكان وقفتنا الاحتجاجية) إلى موقع "نساء بالسواد"، حيث سينضممن إلينا. وارتأت إيڤون أن نغير موعد احتفالنا من أسبوع بعد ذكرى الانتفاضة إلى أسبوع قبلها، للاستفادة من هذا الفريق الإضافي من النساء. ووافقنا جميعًا على الفور. كان هذا يعني، طبعًا، أن أسبوعًا واحدًا يفصل بين اجتماعنا الحالي وبين الحدث نفسه – وهي مهلة غير كافية للتنظيم بكلِّ المعايير –، لكننا كنَّا جميعًا متحفزِّات تمامًا. جهزت عناة 100 نسخة من "العدالة ماتت، فلترقد بسلام" – على افتراض أن ثلث النساء سيحملنها –، فيما أعدَّت أخريات بياناتٍ صحفية. وتم قص الأكف والتخطيط عليها. كما أعدَّت مجموعة من النساء بإشراف هِلاَّ عريضةً موجَّهة إلى شامير حتى، رئيس الوزراء آنذاك، تدعو إلى وقف سفك الدماء وإنهاء الاحتلال والشروع في محادثات سلام. واضطلعت مجموعة من النساء أيضًا بمهمة "رقيبات" في الوقفة الاحتجاجية، مع أشرطة مميِّزة حول أذرعهن، تناط بهن مسؤوليةُ حفظ النظام – الإبقاء على الرصيف خاليًا، اتقاء القلاقل، وتوزيع النشرات المُعَدة. كل شيء كان جاهزًا. فهل ستحضر 365 امرأة؟ كان يوم الجمعة المُخطَّط له، 2 كانون الأول 1988، يومًا جميلاً مشمسًا، وكان المؤتمر الصباحي تحديًا لا يُستهان به. فبعنوانه "دعوة إلى السلام: ردُّ الناشطات النسائيات على الاحتلال"، كان أول مؤتمر نسائي بالكامل في إسرائيل يُخصَّص للتصدي لقضية الحرب عمومًا، وأول مؤتمر على الخصوص يسلِّط الضوء على عواقب الاحتلال الإسرائيلي على حياة النساء، إسرائيليات وفلسطينيات. وقد حضرتْه "نساء بالسواد" يهوديات وفلسطينيات، ممثلاتٍ عن الوقفات الاحتجاجية في أنحاء إسرائيل كلِّها، ونساء يهوديات تقدميات من أرجاء العالم كافة. وكان أحد أهم الإنجازات العملية لهذا المؤتمر تشكيلُ "تحالف النساء من أجل السلام"، ممثِّلاً منظماتِ السلام النسائية في إسرائيل كلِّه. بعد المؤتمر، هرعتُ إلى الساحة ووصلتُ قبل الساعة المقرَّرة بوقت طويل. كانت 20 امرأة قد سبقنني. ثم سرعان ما وصل المزيد منهن، وبحلول الساعة الواحدة، كان ميدان الوقفة الاحتجاجية مطوقًا بالكامل بحوالى 100 امرأة. لم يسبق لي أن رأيت هذا العدد من النساء مبكرات بهذا القدر. إذ ذاك بدأت النساء يتوافدن زرافات ووحدانا وينضممن إلينا على الجدار. وحوالى الساعة الواحدة وعشر دقائق، كان لا بدَّ لنا من تشكيل صفٍّ ثانٍ من النساء تحت الصف الأول، مطوقاتٍ الميدان بالكامل... مرتين! جزمًا كانت هناك 200 امرأة في ذلك الحين. ثم وصل في الساعة الواحدة والربع موكبان من النساء مرتدياتٍ السواد من جهة المؤتمر، متقدِّمات على جانبَي "جادة أغرون". كان في إمكاننا أن نراهنَّ وهن يقتربن من بُعد، يَسِرْنَ مزهوات وقويات، إلى أن بلغن تقاطُعنا، واقفات عند إشارة المرور مثل بنات ليسِسْتراتا[6] الفخورات، ثم عبرن الشارع معًا حيث أمكن للجميع رؤيتهن. أتذكَّر أن شعوري كان من التأثر بمشهدهن حتى إن الدموع طفرت من عينيَّ. كانت هناك "نساء بالسواد" من تل أبيب وحيفا، ونساء من مدينة الناصرة العربية، وزائرات عديدات من الخارج: بِلاَّ أبتسُخ (سياسية وناشطة نسائية مرموقة من نيويورك)، رونيه إپلباوم (إحدى مؤسِّسات "أمهات ميدان مايو" في الأرجنتين)، لِتي كوتِّن پوغريبن (محررة مجلة المرأة ولاحقًا ناشطة في عمل السلام الأمريكي–الإسرائيلي)، مارشا فريدمان (عضو كنيست سابقة مقيمة الآن في سان فرانسيسكو)، فيليس تشيسلر (كاتبة نسائية وعالمة نفس أمريكية مشهورة)، وإليزابيث هولتسمان (عضو سابق في الكونغرس من نيويورك)، بالإضافة إلى العديد جدًّا من النساء المرموقات في الحركة النسائية ودوائر السلام. كان من الرائع رؤيتهن هناك، يَسِرْنَ يدًا بيد لينضممن لنا. أصبحنا، حينذاك، بحرًا من النساء. بعضهن انضم إلينا على جدار الميدان، لكن لم يكن هناك متسع للجميع. لكن "رقيباتنا" المذهلات كن قد احتطْن مسبقًا لما يمكن القيام به في حال زاد العدد عن الحد، فأرسلن المجموعة الأولى لتملأ زاوية "تيرا سانكتا" ["الأرض المقدسة"] من التقاطع، ووجَّهن المجموعة الثانية إلى زاوية "الكنيس الموحد"، والثالثة إلى زاوية "سوپرسول" لتملأها، والرابعة إلى زاوية "فندق الملوك". كنا جميعًا كالبنيان المرصوص! وما كنَّا بمصدقات للمشهد – كل زاوية من زوايا الميدان والميدان بكامله مغطى بـ"نساء بالسواد"، كلٌّ منهن تحمل كفًّا، وكل ثلاثة أو أربعة نساء يحملن لافتة "العدالة ماتت، فلترقد بسلام". بل إننا ملأنا المساحة الممتدة أمام "بنك الحسم" بـ"أصدقاء نساء بالسواد" – رجال أرادوا أن يهتفوا لنا مشجعين، ونساء لم يأتين لابساتٍ السواد، لكنهن أردن التماهي معنا. آڤي بوتاڤيا، أحد مؤيدينا الذكور، كان الشخص الوحيد من غير "نساء بالسواد" الذي سمحت له رقيباتنا بالتجول بيننا موزِّعًا على النساء مناديل صغيرة فيها فاكهة مجفَّفة وبندق. كان هناك إحساس حقيقي بالرسالة والجدِّية في شأن هذه الوقفة الاحتجاجية. لا ضحك كثير ولا كلام. معظمنا كنَّ خاشعاتٍ لما يحصل من حولنا. ثم ذهبت إحدى النساء لكي تحصي العدد في كلِّ زاوية من الزوايا. كان عددنا يناهز الـ500 امرأة – وهو إحصاء صحيح ودقيق. وحين أُعلِنَ الحاصل، هتف الجميع ابتهاجًا. كان هناك مراسلون يصورون وآلات تصوير تومض، ومارة تُوزَّع عليهم منشورات، وكلاب تنبح، وشاع جو انتصار. وبينما كنت واقفة هناك بين ابنتي وصديقتها، فكرت في مقدار شعوري بالانتشاء. وتساءلتُ أيضًا عمَّا سيحدث عند الساعة الثانية بعد الظهر. هل سنتفرق جميعًا وحسب؟ لم أكن أرغب في المغادرة. كان شعوري رائعًا بمجرد الوقوف هناك. ما الذي حدث فعلاً في الساعة الثانية؟ مفاجأة أخرى. نبيلة اسبانيولي – وهي امرأة فلسطينية من "نساء بالسواد" في حيفا كانت تقف على الجدار – شرعت في غناء "سوف ننتصر"، فراح الجميع يغني معها. غنَّينا بالإنكليزية وبالعبرية، ثم غنَّينا بالعربية؛ وفجأة أدركتُ عدد النساء الفلسطينيات الكبير بيننا. غنَّينا أبيات القصيدة كلَّها، وحين انتهينا، غنَّيناها كلَّها من جديد. اقترب رجل منا صارخًا فينا بينما كنَّا نغني، وصار عنيفًا للغاية. لكن سو كاتز (وهي صاحبة حزام أسود في التايكواندو) اتجهت نحوه مع امرأة أخرى، فسحبتاه بعيدًا. لقد غطَّى صوت غنائنا على صيحاته. وكثيرات منَّا طوَّقن جاراتهن بأذرعهن، مترنحات إلى الخلف والأمام ونحن نغنِّي. يا له من شعور! في آخر المطاف، حوالى الساعة الثانية والنصف، صَعُبتْ علينا العودةُ إلى البيت. لقد شعرنا شعورًا قويًّا بالكثير. استدارت كل منَّا وتعانقنا، وبعض النساء بكى، ولا أحد أراد للأمر أن ينتهي. لم يصل أحد من رجال الشرطة قط، وبحلول تلك اللحظة، كنَّا مكتظات على الرصيف، ولا واحدة منا تستطيع التحرك في أيِّ اتجاه. وأخيرًا، بدأت الرقيبات بتوجيهنا للتحرك في اتجاه واحد لأن المنطقة صارت مكتظة اكتظاظًا غير معقول. وانضممتُ إلى هِلاَّ وبضع أخريات لتسليم العريضة – مذيَّلة بأكثر من 400 توقيع – إلى رئيس الوزراء شامير في منزله المجاور. لكن، لسبب ما تعذَّر تفسيره، لم يُسمَح لنا بالدخول لمقابلته. (سلَّمناها إلى مُساعده في مكتبه يوم الأحد التالي.) في تلك الأثناء، كنا قد بدأنا نطفو في رفق عائدات إلى الأرض من شعورنا بالانتشاء، فكان يمكن لنا أن نتدبر مسائل أكثر عملية مثل العودة إلى البيت. في تلك الليلة – ويا للعجب! – أفردت لنا محطةُ تلفزيون إسرائيل تغطيةً جدية في نشرة أخبارها، عارضةً مدى المظاهرة بكامله، شارحةً الغاية منها. كما غطَّت المظاهرةَ عدةُ صحف – ليست كثيرة، لكنْ تلك كانت التغطية الإعلامية الأولى التي حظينا بها داخل إسرائيل. كان ذلك مَعْلَمًا. منذ هذا الحدث الجماهيري، بعد بدء وقفتنا الاحتجاجية المتواضعة بعام، حافظنا على عددنا من المشارِكات – حوالى 100 امرأة – في الوقفات الاحتجاجية في القدس كلَّ يوم، مطرًا وصحوًا. وثابر آڤي على جلب البندق والفاكهة المجففة. كلٌّ منا شعرت بأنها جزء من أخوية خاصة. لم ينتهِ الاحتلال بعد، لكنَّا شعرنا أنه إذا كان في إمكان أحد أن يوقفه فهو نحن. ولقد بذلنا أقصى جهودنا لنكون منضبطات – لكي نحضر في "زي موحَّد" (الأسود الخالص) ونلتزم الصمت. أخذنا أنفسنا على محمل جدٍّ كبير – وأجل، بدأنا نشعر بالقوة! * * *
ترجمة:
غياث جازي [1] المقصود هو الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية. (المترجم) [2] نيري ليڤني، "مرأى السواد"، صحيفة حدشوت، 7 أيلول، 1990 [بالعبرية]. [3] غالبية أوائل المتطوعات جئن عن طريق النساء المنتميات أصلاً إلى داي لاكيبوش والناشطات في "شاني" – "نساء إسرائيليات ضد الاحتلال". كما حاولت الناشطات في الوقفات الاحتجاجية في تل أبيب وحيفا تطويع نساء. وكانت الاتصالات الهاتفية في البدايات هي الطريقة المفضَّلة لذلك. [4] اختبرت هذا الشعور بنفسي في إحدى المناسبات. ففي أيار 1989، صادف أنْ كنتُ في مركز مدينة القدس حين أردى إرهابي فلسطيني ثلاثة إسرائيليين مسنِّين طعنًا وجرح آخرين عدة. وقفت بين المتجمهرين من المارة أراقب بينما كانت سيارات الإسعاف تنقل الضحايا بعيدًا، فإذا بصيحة تنطلق من أحدهم: "الموت للعرب"، وردد الهتاف آخرون معه. وجدتني أستمع مرعوبة. وبغتة، دارت كاميرا التلفزيون، التي كانت مركَّزة على سيارات الإسعاف، نحونا، فَعَلَتْ أصواتُ الصارخين بذلك المطلب. وفي لحظة خاطفة، رأيت الكاميرا مسلَّطة علي، فكان لا بدَّ أن أقول شيئًا مختلفًا، فصرخت في وجه العدسة: "لقد قتل اليهود أيضًا عربًا." لو اتسع لي الوقت لكان بمقدوري أن أفكِّر في قول شيء ما أكثر فطنة، لكن تلك كانت الكلمات التي جالت في ذهني مباشرة يومذاك. وبينما كانت الكاميرا تعبُر، تلقَّيت سيلاً من الركلات بالركبة من خلفي، ثم من الأمام. لقد عرَّفني الجمهور برأيه في "محبِّي العرب"، إلى أن خلَّصني أخيرًا أحد رجال الشرطة... الذي أفسح المجال لتصاعُد ردِّ الفعل قبل أن يتدخل. [5] تعرَّض المؤتمر، الذي اشترك في رعايته "المؤتمر اليهودي الأمريكي" و"المؤتمر اليهودي العالمي" و"شبكة النساء الإسرائيليات"، لوطأة غضب عارم في أوساط ناشطي السلام، لأن الأجندة غضَّت النظر عن قضيتَي الاحتلال والانتفاضة، مع أن موضوع المؤتمر كان "تعيين المشكلات – إيجاد الحلول". وهناك تحليل جيد لخلفية هذا التصرف بقلم لِتي كوتِّن پوغريبن في كتاب: دبورة، غولدا، وأنا: أنثى ويهودية في أمريكا، نيويورك: منشورات كراون، 1991، ص 312-328. [6] اسم علم يعني باليونانية حرفيًّا "فارطة عقد الجيوش"، وهو عنوان مسرحية مناوئة للحرب كتبها أرسطوفانس حوالى العام 411 ق م. تطوِّق النساء في المسرحية، تقودهنَّ ليسِسْتراتا، بيوت المال العام وتهجرن أزواجهن في المضاجع لوضع حدٍّ للحرب الپيلوپونيسية الدائرة رحاها بين أثينا واسپارطة ولإحلال السلام. ومع أن النساء نفرن في البداية من اقتراح الامتناع على أزواجهن والتعفف، إلا أنهن وافقن أخيرًا وأقسمن جميعًا يمين الولاء لقضية السلام. (المدقِّق) |
|
|