english

الصفحة التالية                  الصفحة السابقة 

نساء بالسواد

الفصل الثالث

أصدقاء وأعداء في وقفات الاحتجاج

 

غيلا سڤيرسكي

البالوعات تلفظ قاذوراتها

كانت الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد" في القدس تُقام بما يُعرَف عمومًا بساحة باريس (مع أنها رسميًا تُسمّى ساحة فرنسا)، عند تقاطع خمسة طرق، ويبعد مسير 10 دقائق عن مركز المدينة و5 دقائق عن المقر الرسمي لرئيس الوزراء. وكان موقع الوقفات الاحتجاجية مقابلاً للكلية الفرنسيسكانية Terra Sancta من جهة وفندق الملوك من جهة أخرى - بين القدس السماوية والقدس الأرضية، كما كنت أفكّر أحيانًا أثناء مواجهة اللحظات التأملية الطويلة. وخلال سنوات الوقفات الاحتجاجية، كان سكان القدس غالبًا ما يشيرون إلى التقاطع بـ "ساحة نساء بالسواد"، مما كان يثلج صدورنا، إذ اقتنعنا أخيرًا أنه كلما كان حضورنا لافتًا أكثر كلما ازداد التأثير الذي نبتغيه. وقد لاحظ الناس وجودنا بالفعل قبل وسائل الإعلام بوقت طويل.

ساحة باريس واحدة من أكثر التقاطعات ازدحامًا في المدينة، وخصوصًا ما بعد ظهر أيام الجمع بين الساعة الواحدة والساعة الثانية، وهو الوقت الذي نقيم فيه وقفاتنا الاحتجاجية. وتنطلق السيارات دائرة حول هذا الميدان الحدائقي، غير بعيد عن الشبه بدوّار بريطاني، وتقف النساء على حواف الجدار مواجهاتٍ للسيارات التي تقوم بجولاتها قبل أن تبتلعها الشرايين المرورية وتأخذها بعيدًا.

وتتاخم إحدى جهات موقع وقفاتنا الاحتجاجية - والتي لقبّناها بـ "الخط الأمامي" - أربعة مسارات طرقية، حيث غالبًا ما يُوقف السائقون محركات سياراتهم حانقين تحت حرارة الشرق الأوسط اللاهبة، بانتظار الإشارة الضوئية الطويلة. وقد أتاح هذا الوضع للسائقين قراءة لافتاتنا والردّ عليها، وبما يزيد عن مجرد لفظ شفوي أحيانًا.

كانت ردود أفعال الكثير من السائقين - والتي هي غالبًا سوقية وجنسية - غير عادية. فالوقفات الاحتجاجية تستثير في أذهان البعض منهم استجابة غَرَزية في رؤية جدار من النساء يبدون قويات وباعثات على الخشية، والأسوأ من ذلك أنهن يعرضن رأي سياسي، أقلّها أنه رأي مختلف عن غيره من الآراء. أما بالنسبة للآخرين، فقد باتت الوقفات الاحتجاجية شكلاً من الحفلات الترفيهية الأسبوعية، بل وربما تقنية للإثارة الجنسية.

ولتدوين ما كان يحدث، أسترجع هنا بعضًا من أكثر الإهانات شيوعًا: "عاهرات" (عمومًا)، "عاهرات العرب" أو "عاهرات عرفات" (خصوصًا)، "أنتن فتيات بحاجة للاغتصاب لكي تشعرن بالتحسّن"، "ماذا يعيب الرجال اليهود؟"، "هل مضاجعة العرب (أو عرفات) أمتع؟"، "جربوه أيتها الفتيات إنه قاس وجيد، Fuck you". كانت هذه العبارات مصحوبة في أغلب الأحيان بإيماءات بالأيدي مطابقة لها. وغالبًا ما كانت تسمية "عاهرات"، الأكثر تداولاً، تُحوَّل إلى اللغة العربية (شرموطات)، رغم وجود كلمة مناسبة تمامًا لذلك في اللغة العبرية (Zona)، وكان الذين يلفظون هذه العبارات من اليهود دومًا. لقد وُوجهتْ الوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء إسرائيل بخطابات متماثلة من المركبات العابرة، كما لو أن كل السائقين الذكور في إسرائيل قد تلقّوا نفس المقرر التعليمي للحصول على رخصة قيادة السيارة.

لا مجال للشك في أن مبعث الكثير من ردود الفعل تجاهنا هو نوعنا الاجتماعي (الجندر)، وليس موقفنا السياسي. ففي المظاهرات المختلطة، رجالاً ونساء، تحمل الشتائم طابعًا سياسيًا بالدرجة الأولى، بكلمات وعبارات مثل "خونة"، "طابور خامس"، "معادون للسامية"، "متناسون للمحرقة"، وما شابه. وقد نلنا نصيبنا من هذه الشتائم، لكن عمومًا كانت المخصّصة لـ "نساء بالسواد" ذات طابع جنسي.

في أحد أيام الجُمع، حضر داني روبنشتاين، وهو صحفي يغطي أحداث الاحتلال لصالح الصحيفة الإسرائيلية (دافار) ومن ثم لصالح (هاآرتس)، وقفة احتجاجية لنا، وكتب في عموده التالي:

مشيت أو قدتُ سيارتي بالقرب من هذه الوقفات الاحتجاجية مرات عديدة، لكنني هذه المرة توقّفتُ. كان الجو في الخارج حارًا وكل نوافذ السيارة مفتوحة. ما من سائق أو عابر تقريبًا كان يمرّ من خلال هذا التقاطع المزدحم إلا ويتلفّظ بعبارة ما - أو بالأحرى يصرخ - ضد "نساء بالسواد". ما تسمعه هناك هو شكل من البالوعة يَصعُب وصفه... 70% من التعليقات، وربما أكثر، كانت متعلّقة بالجنس. على الرغم من أن هناك من كان يصرخ بأمور ذات علاقة بالحالة، مثل "لماذا تُرْبكن الموقف؟ لقد حصلتن على إجابتكن في الانتخابات", أو أقل ملامسة للحالة "إنه يوم الجمعة، عُدنَ إلى المنزل واطبخن".

لكن الغالبية كانت تُعْرِب بتفصيل فائض عن العلاقات الجنسية للنساء المتظاهرات مع العرب عمومًا وعرفات خصوصًا. يا لهذه الأمور التي يسمعها المرء هناك! جنس فموي، جنس شرجي، سادو - مازوشية، وخلاصة لكل السلوك الشاذ في المخدع من السينما الإباحية في تل أبيب والأفلام الزرقاء. عرفات المسكين، الذي يُصوَّر عالميًا كصاحب ميول جنسية شاذة، يتوجب عليه "إتيان" "نساء بالسواد" بكل الطرق المُتاحة تقريبًا، وأساسًا بكل الطرق غير المُتاحة. لقد أُطلق عنوان على وقفات هؤلاء النساء: "عاهرات العرب" وهو لقب أدنى من المستوى الواطئ لعاهرات اليهود، حسنًا... عاهرات السياح ومراقبي الأمم المتحدة اللواتي ينلن بعض الاحترام. لكن عاهرات العرب؟ ما من أمر أكثر حقارة من هذا[14].

ولم يكن من غير المألوف حصول تهجمات جنسانية مُصاغة في أشكال أخرى: "عدن إلى مطابخ منازلكن"، أو "اذهبن لطبخ الـ Cholent" (وجبة يوم السبت التقليدية)، أو "اذهبن لتنظيف منازلكن". وقد أطلَّ أحدهم، ممن يعوزهم حسّ الدعابة، من نافذة سيارته وصرخ بنا "دبّرن لكنّ عملاً". ربما كان يعتقد أن ما يشاهده هو إضراب لنقابة عمال، لكننا نفضّل الاعتقاد أنه كان ببساطة مُثارًا بمنظر هذا العدد الكبير من النساء.

وتقود قراءة التقارير عن حركة السلام النسائية في البلدان الأخرى إلى نفس النتيجة التي لا مُحيد عنها: في الكثير من البلدان، يربط الرجال ذهنيًا بين سلوك جنساني للنساء ووجهات نظر سياسية. فمحاولة تقليم أجنحة النساء ذوات التفكير المستقل عبر التهجّمات الجنسية ليست خاصيّة للشرق الأوسط أو العالم الثالث أو البلدان النامية. ففي الواقع، النعوت التي تُرشَق في وجه نساء "عامية غرينهام" Greenham Common في إنكلترا المتحضّرة أو نساء "الزنّار الأسود" في جنوب أفريقيا من قبل النبلاء البيض، لم تكن أقلّ ازدراء للنساء ومحاولة لتبخيس قدرهن من تلك التي كان يتعرض له "نساء بالسواد" في إسرائيل. من المحزن التفكير أن الشوفينية تبدو عالمية.

كانت الإيماءات البذيئة والسلوك الشائن ردودًا شائعة أيضًا تجاه الوقفات الاحتجاجية. فذات مرة، قصد أحد الرجال العابرين لفت انتباهنا، ومن ثم أنزل سرواله الداخلي. بالنسبة لي لم أجد حرجًا بالتحديق به، مأخوذة بالترابط الذي يقيمه بين أعضائه الجنسية ووقفتنا الاحتجاجية، لكن النساء جميعًا نكزن بعضهن البعض لتحويل أبصارهن بعيدًا وإلا سيشجّعه الأمر.

رجل آخر أنزل سرواله الداخلي داخل سيارته (لم يكن هو السائق، والشكر لله) وألصق مؤخرته على النافذة بينما كان صديقه السائق غارقًا بالضحك. (البعض منا أيضًا وجدن الأمر مثيرًا للضحك، لكن كان لزامًا عليهن استذكار رسالة العنف الكامنة وراءه).

تلقينا الكثير من البصاق، خصوصًا من الحافلات التي كانت تقف بالقرب منا منتظرة الإشارة الضوئية الخضراء. واعتقد بعض الراكبين في هذه الحافلات، وغالبًا من الصبية الصغار، أن ما يعبّرون به عن وجهات نظرهم يستدعي قذف المزيد من البصاق فيما الحافلة تبتعد. كان أمرًا مقززًا للنفس تمامًا أن تتلقّى على وجهك بلغمًا لا يعود إلى طفل ما في عُهدتك. بصاقًا، في نهاية الأمر.

كان الناس يرموننا بما يَصدُف أن يكون في متناولهم: بندورة، برتقال، بقايا سندويشات، أو مياه من مَطَرات. ولم يكن مُستغَّربًا أن نُرمى بالبيض، فإحدى النساء - وكانت المشارَكة الأولى لها في الوقفات الاحتجاجية - فوجئت بأول بيضة على وجهها ومن ثم على ظهرها، بعد سنة من امتحان الضمير فيما إذا كانت ستنضم أم لا إلى وقفاتنا الاحتجاجية. (وقد أصبحت فيما بعد من المتحمّسات لـ "نساء بالسواد).

كان البعض يجهّز أشياءً لرمينا يها، مثل مجموعة من الطلاب الراشدين من مدرسة القدس العليا الذين استخدمونا دريئة منتظمة لدى مرور حافلتهم يوم الجمعة بالقرب من مكان وقفتنا الاحتجاجية؛ يبصقون ويلقون بشتى الأشياء علينا فيما حافلتهم تمر بالقرب من الإفريز. لم نتمكّن من دفع الشرطة للقيام بأي فعل لإيقاف اعتدائهم، فلجأنا إلى اعتماد شابًا جسورًا في الحافلة ليلتقط صورًا فوتوغرافية للفتيان وهم يعتدون علينا. وتطوّع أحد مسؤولي الحافلة لمساعدتنا فاستقل الحافلة ودوّن أسماء الفتيان. حينها، وبعد أن أصبح في حوزتنا أسماء وإثبات فوتوغرافي، حفظنا ملف شكوى لدى الشرطة. وفي اليوم التالي تلقّت عنات، وهي من حفظت الشكوى، اتصالاً هاتفيًا من مدير المدرسة طالبًا اللقاء مع "نساء بالسواد". وافقنا، فناشدنا المدير "كأمّهات"، واستعطفنا أن نأخذ بعين الاعتبار ما سيتركه هذا الحدث من أثر على الشبّان: "إنهم فتيان طيبون؛ وأنتن كأمّهات ستتفهّمن وصمة العار التي ستلحق بهم طوال حياتهم، ألخ، ألخ". لم يكن بمقدوره الطلب منا نقض تهمة جنائية، بل عدم الإدلاء بشهادة ضدهم وحسب. بعد مغادرته ناقشنا الأمر مطوَّلاً. وبصدق، لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة للبعض منا الموافقة على "إيذاء الفتيان". لكن بعض النساء أشرن إلى أن المراهقين الفلسطينيين لا يُمنحوا إطلاقًا البراءة لعدم كفاية الأدلّة، وعلاوة على ذلك، عدم الشهادة ستؤسّس لسابقة لهؤلاء الشباب من أجل الإفلات من العقاب لتعاملهم الوحشي مع النساء. وهذا ما حسم الأمر، فقررنا الإدلاء بالشهادة. ولم يكن مفاجئًا بعدها أن الشرطة لم تتابع الموضوع: لم يستدعوا المصوِّر الفوتوغرافي للإدلاء بشهادته أبدًا، ولم يحيلوا القضية إلى المحكمة.

ثم كان هناك زفي، وهو رجل في الستينات من عمره. وصدف أن كان يسير بالقرب من وقفتنا الاحتجاجية عائدًا من بقاليته إلى البيت، فأثارت سخطه الشديد وجهة نظرنا إلى حدّ أنه فتّش في حقيبته إلى أن وجد علبة لرذاذ البق، وتمكّن من رشّ بضعة نساء بها قبل أن يتوقّف. وفي النهاية، غرَّمت إحدى المحاكم زفي، وهي المرة الوحيدة الواحدة التي يدفع فيها أحد ثمنًا للعنف ضدنا. (وعاد زفي لاحقًا للاعتذار منا. حقًا إنه أمر نادر).

أجد إغراء في الاستمرار إلى حد الغثيان في تعداد حالات العنف التي كنا نتعرض لها، لكنني سأسرد حادثة واحدة أخرى: مرّت سيارة جيب محمّلة بمراهقين بالقرب منا ورشقونا بالبيض، فأصابت بيضة عين إحدى النساء بجرح. ومرة أخرى تقدّمنا بشكوى، فجاءت الاتصالات الهاتفية هذه المرة من الأهالي. "ابني على وشك الانخراط في الجيش، وسيحرمه ملف لدى الشرطة من الارتقاء إلى رتبة ضابط". وكان الردّ على هذا أكثر سهولة: "شكرًا للآلهة التي منحتنا فرصة أن نمنع الأولاد مثل ابنك من أن يصبحوا ضباطًا في الجيش".

وحتى بعيدًا عن الوقفات الاحتجاجية، كنا عُرضة للاتهامات المضادة من قبل أولئك الذين تعرّفوا علينا من الوقفات. فذات مرة، كنت أحاول إيقاف سيارة أجرة فأبطأ السائق، ثم، حينما تعرّف عليّ، صرخ عبر النافذة "أنا لا اُقِلُّ عشيقات عرفات"، وابتعد بسيارته. وكان هناك أيضًا سائق حافلة على الخط 19 في القدس يدمدم متذمرًا دومًا بخصوص سياستي. "ألا يرحلن من هنا 'نساء بالسواد'؟"، كان يصرخ بي عبر نافذة الرؤية الخلفية ونحن نقترب من موقف حافلات الوقفة الاحتجاجية. ولم يكن يجعلني هذا الأمر محبوبة جدًا من قبل بعض الركّاب الذين حولي. وقد حصلت حوادث كهذه لنساء أخريات، كما كانت هناك اعتداءات عنيفة في كل وقفة احتجاجية، بلا استثناء.

مظاهرات مضادة تجيء وتذهب

شكّل المظاهرات المضادة الأولى في القدس مجموعة غير منظّمة من التيار اليميني. وقد لوّحوا بالعلم الإسرائيلي ووجهوا الاتهامات لـ "نساء بالسواد" باعتبارهن خائنات، نازيات، يهوديات معاديات للسامية، ومتعاونات مع العدو. وكان أعضاء هذه المجموعة يقفون على الرصيف بمواجهة النساء، محاولين حجب لافتاتنا لكي لا يقرؤها سائقي السيارات والمارّة. وذات مرة، توقّفت حافلة بالقرب منا، وكان رجل عربي عجوز بملابسه التقليدية جالسًا في الحافلة يحدّق عبر النافذة بوقفتنا الاحتجاجية. فاقترب أحد اليمينيين من الحافلة ونقر على النافذة بإشارة منه للفت انتباه العربي، ثم أطلق بعض التعليقات المُنتقاة بحق أمّة الرجل العجوز وأمّه. بدا العربي جامد الملامح، مُظهِرًا عدم الفهم. لكن عندما بدأت الحافلة بالتحرك، التفت برأسه نحونا وبعث لنا سريعًا وبهدوء إشارة النصر "V".

وقد أصبح المتظاهرون المضادون، أحيانًا، عدوانيين، قافزين إلى ميدان الوقفة الاحتجاجية ومحاولين دفعنا خارجه. حصل هذا الأمر في تل أبيب وحيفا والقدس والكثير من أماكن الوقفات الاحتجاجية. وبالنسبة للأشهر القليلة الأولى من الوقفات الاحتجاجية، وقبل أن تُرسَم الأدوار بشكل واضح، ردّت بعض النساء (وأنا من بينهم، وأقولها بشيء من الخجل) على هذه الاستفزازات باستراتيجياتنا الهجومية الخاصة. فهاجر وأنا، وكلتانا طويلتا القامة في بلد رجاله قصار القامة، كنا نستطيع بسهولة ترهيب متظاهر مضاد منفرّدًا. ومع انضمام إيليانا برودي لنا، وهي امرأة ضئيلة القامة، استطعنا حتى أن ندفع المتسلّلين اليمينيين، دون التعرّض للعقاب، لإخلاء الجدار وملء الفراغ على وجه السرعة بإيليانا بمظهرها البريء. ودخلنا، هاجر وأنا، في بعض المشاجرات الجسدية وأبلينا بلاء حسنًا، عليّ قول ذلك. وكانت هاجر أيضًا هائلة في التحقير اللفظي للخصوم، وهي موهبة لا أمتلكها. وكان هناك عدد من النساء اللواتي يبرعن في هذه المبارزات اللفظية، حيث حصلت معارك لفظية ضارية مع المتفرجين في هذه المرحلة المبكرة.

لكن سرعان ما وضعت النساء الأخريات حدًّا لردودنا الأكثر عدوانية، حينما قدمن لنا المساعدة على فهم قوة الردّ اللاعنفي، وكيف أننا ننتقص من مكانتنا بالرد على الترهيب بالمثل. لذا، وعلى الرغم من شعورنا بالإحباط للوهلة الأولى، وافقت هاجر وبضعة نساء وأنا على التقيّد بسياسة اللاعنف والتزام الصمت حيال ما نواجهه من سخرية مهينة. لقد كان مُضحكًا استمرار الوضع، لكننا أدركنا أيضًا أنه كان ذو نتيجة عكسية من حيث الانتقاص من كرامتنا وقوتنا. وإن لم أكن مخطئة، تنفّست النساء الأخريات الصعداء عندما توقّفنا عن ذلك. وتبنّت كل الوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء إسرائيل سياسة الردّ اللاعنفي التي باتت علامة مميّزة للوقفات الاحتجاجية في كل إسرائيل.

بدأت الأحزاب والحركات اليمينية في تنظيم وقفاتها المعارضة الخاصة المنتظمة. وكانت المجموعات الأطول استمرارًا من المتظاهرين المضادّين هي "شباب تحيا" (حزب يميني متطرف سقطت مشاركته في الكنيست بعد فشله في انتخابات 1988)، و"ضحايا الإرهاب العربي" (مجموعة يمينية متطرفة أخرى مهتمّة بالانتقام أكثر بكثير من اهتمامها بصالح الضحايا)، ونشطاء "كاخ"، وهم عصابات كانت من مُريدي الحاخام العنصري كاهانا. وتفشّت تظاهرات هذه المجموعات نفسها في كافة أرجاء البلاد، مستخدمة نفس التكتيكات في كل مكان، مما كان يعني أن نشاطاتهم مُخطَّط لها ومُنسَّقة على المستوى الوطني. وكان التكتيك المفضّل لدى "المتسللين" إلى الوقفات الاحتجاجية: الوقوف بيننا، مرتدين اللباس الأبيض، ورافعين لافتاتهم الخاصة. لكن الوقفات الاحتجاجية في تل أبيب تعاملت مع هذا الوضع بكفاءة: لبس عدد من النساء ملابس بيضاء وحملن لافتات تندّد بالاحتلال. وهكذا استسلم المتظاهرون المضادون في الحال.

وتورّطت مجموعات المتظاهرين المعادين المنظمة في اعتداءات لفظية على نحو متكرر، وأحيانًا اعتداءات جسدية. وقد تصاعدت هذه الاعتداءات في السنة الثانية للوقفات الاحتجاجية، ودومًا بعد عملية للإرهاب العربي يُقتَل فيها يهود. وكان لا بد من الافتراض أن أناسًا مثلنا، يؤيدون الدعوة للتسوية مع "العدو" هم عديمو الإحساس تجاه الخسائر في الأرواح من "جانبنا"، أو هم مسؤولون عن ذلك. وحصلت إحدى الحوادث المأساوية في السادس من تموز 1989، عندما تشبّث إرهابي عربي بعجلة القيادة لحافلة دافعًا إياها إلى حفرة على جانب الطريق، وكانت الحصيلة مقتل 14 إسرائيليًا وجرح 27. في اليوم التالي، وكان يوم جمعة، حرّض كاهانا غوغاء في حالة سُعار في مركز مدينة القدس. وعندما تفرّق الحشد، تسابق البعض منهم، مُثارين بديماغوجيا مليئة بالكراهية، إلى موقع وقفتنا الاحتجاجية القريب وهاجموا النساء، ممسكين باللافتات وقبضاتهم تتطاير في كل اتجاه.

وصل رجال الشرطة - الذين أُرسلوا إلى حشد "كاخ" لمنع العنف - على ظهور خيولهم للسيطرة على الشغب، واقتحموا بتهوّر ميدان شجار اليمين الهائج والنساء اللواتي كن يحاولن الدفاع عن أنفسهن. وخلال بضعة دقائق، انطلقت الغازات المسيلة للدموع، وتشتّت الجميع في كل الاتجاهات. بعد ذلك، أعادت النساء التجمّع في مكتب بعيد مؤلف من ثلاث وحدات، حيث كن ما زلن يشعرن بالاختناق من تأثير الغاز والصدمة. والتأمنا كمجموعة دعم للتخفّف من بعض ما شعرنا به من خوف.

بعد خمسة أيام من اعتداء "كاخ"، اجتمعنا لكي نقرر كيفية التعامل مع العنف المتصاعد ضدنا. وتوضح لحظات ذلك الاجتماع (مُترجمة عن العبرية) بعض المؤشرات عن استراتيجيتنا، بالإضافة إلى مخاوفنا، كفاءة تنظيمنا إلى حد ما، واعتزازنا بما كنا نقوم به[15].

النشرة الإعلامية - القدس "نساء بالسواد" - 14 تموز 1989

تاليًا لأحداث يوم الجمعة الفائت (7 تموز 1989) والتي تمّ فيها الاعتداء على "نساء بالسواد" من قبل كاخ، عُقد اجتماع يوم الأربعاء في الثاني عشر من تموز شارك فيه 40 امرأة. وهذه خلاصة استنتاجاتنا:

أ -  مقرارات:

1. لدى "نساء بالسواد" في القدس ثلاثة مبادئ أساسية لا حياد عنها:

1.    الوقفات الاحتجاجية مقتصرة على النساء فقط.

2.    الملابس سوداء.

3.    لافتة "الكف" تقول "كفى للاحتلال".

2. التواجد في الوقفات الاحتجاجية:

المطلوب من النساء هو محاولة الوصول في الوقت المحدد؛ من أجل الحفاظ على مظهر ولياقة مناسبتين بوقفة احتجاجية؛ وألا ينجررن إلى استفزازات ومجادلات.

ستتجوّل المراقبة الأسبوعية حول موقع الوقفة الاحتجاجية. الرجاء تفهّم طلباتها.

ب - إعلانات

1.    الأمن الأفضل هو بالعدد الأكبر. فكلما كنا أكثر عددًا، سنكون أكثر أمنًا وفعالية.

2.    ستُقام ورشة عمل حول الردود اللاعنفية على العنف يوم الثلاثاء 17 تموز الساعة الثامنة والنصف مساء. من أجل التفاصيل يرجى مراجعة إيفون، هاجر، هيلا، أو هيا.

3.    سيُعقد تجمع دعم مباشرة بعد أي اعتداء (للتحادث والتشارك ونيل الدعم) في موقع قريب من مكان الاعتداء. من أجل التفاصيل، كما في الأعلى.

4.    الغاز المسيل للدموع لا يُغسَل بالماء، ولا يُغطَّى بمنشفة، ولا يُفرَك. ابتعدي وتنشّقي هواء نقيًا (وسيزول سريعًا). اغسلي ملابسك مباشرة بعد ذلك. أما أولئك الذين يعانون من الربو أو من آفات قلبية وتأثروا بشكل مباشر فعليهم التوجّه فورًا إلى غرفة الطوارئ المناوبة.

5.    الإسعافات الأولية: سيتواجد طبيب وتتوفّر عدّة إسعافات أولية في موقع الوقفة الاحتجاجية.

6.    التفرّق: عند انتهاء الوقفة الاحتجاجية أو في حال اتخاذ قرار بالتفرّق، يجب الإخلاء فورًا وبسرعة. لا يبقى أحد من أجل المحادثات أو ما شابه.

7.    سيكون مراقب من جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل متواجدًا في الموقع.

ت - الشرطة

1.    كل أسبوع، وخصوصًا في الأيام التي يُحتَمل أن تكون خطرة، تُقَدّم طلبات للشرطة لإرسال دورية. وقد لبّت الشرطة طلباتنا في 75% من الوقت. (عنات تنسّق هذا).

2.    في المدن الكبيرة والمواقع الأخرى لـ "نساء بالسواد" لم توفّر الشرطة أي حماية أو مساعدة، بل تتخذ موقفًا فظًّا وحقودًا. وستُجمَع البيانات من مختلف الوقفات الاحتجاجية وستُعالَج من قبل فرع حيفا لجمعية الحقوق المدنية التي ستطلب من الشرطة تصريحًا واضحًا لسياستها بخصوص حق "نساء بالسواد" في القيام بمظاهرة قانونية.

ث - اقتراحات ما تزال معلّقة

1.    أعرب مختلف النساء عن الرغبة في إضافة لافتات تربط ما بين الاحتلال و(أشكال أخرى من) العنف.

2.    تم اقتراح إصدار كراسة لـ "نساء بالسواد" تعبّر عن مبرر الوقفات الاحتجاجية.

3.    عبّرت بعض النساء عن الحاجة لنشاط سياسي مخصّص لغرض تغيير المواقف ضمن المجتمع (في الشارع).

جـ - اللجنة التنظيمية

النساء اللواتي يرغبن بالمشاركة في صنع السياسة مدعوّات للاجتماع في يوم الأحد الأول من كل شهر الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر في موقع سيُكشَف عنه للمهتمّات. (أعضاء اللجنة التنظيمية اللواتي سينظّمن هذا الاجتماع: إيفون، هاجر، هيلا، هيا، عنات، شوشانا، وسارة).

وأخيرًا

نحن نزداد عددًا وقوة: فاليوم تنتشر الوقفات الاحتجاجية من أقصى الشمال (الجليل الغربي والأعلى) إلى الجنوب (عربة وقريبًا إيلات)؛ وعلى تقاطعات الطريق السريع، وفي المدن الكبيرة، وحتى في الكثير من الكيبوتزات. وهذه هي البداية وحسب...

(المطلوب من النساء المساهمة ببعض الشيكلات من أجل عدّة الإسعافات الأولية ودفع ثمن نسخة من هذه الصفحة).

نسخة إلى: "نساء بالسواد" في تل أبيب، حيفا، بئر السبع، وفي كيبوتز سامار، جان شموئيل، حزوريا ناحشون، ألخ.

الرجاء تمرير هذه الورقة.

الأسبوع التالي، ارتفع عدد النساء في الوقفات الاحتجاجية في القدس إلى 150 امرأة.

في إحدى الفترات العصيبة، كانت منظمة كاخ العنصرية هي الخصم الرهيب لنا. لقد طبعوا ووزعوا نشرة تقول (بأحرف سوداء كبيرة): "أنبذوا الأشخاص السود"، أعقبها قائمة بأسماء سبعة من "نساء بالسواد" (هاجر روبليف، إيفون دوتش، هيلا يانيف، ديتا بيترمان ]من تل أبيب[، عنات هوفمان، سارة شتاين، وأنا) مع عناويننا وأرقام هواتفنا. واختتمت القائمة بعبارة: "انضموا إلينا من أجل المزيد من العمل. حركة شباب كاخ". وتلا توزيع هذه النشرة سيل من المضايقات الشخصية. فقد تلقّينا نحن السبعة عددًا كبيرًا من المكالمات الهاتفية التي تحمل التهديدات (مرة لي، ورافق المكالمة الهاتفية صوت أعيرة نارية، وتلقّى أطفال عنات مكالمة أخبرهم فيها المتّصلون أن أمهم ماتت)، ووجدت هاجر قنبلة مزيفة أمام باب منزلها مع لائحة اغتيال في داخلها، ووصلت عربة الموتى إلى بيت سارة شتاين "لنقل جسد المتوفاة مؤخرًا سارة شتاين". كان الوضع مثيرًا للأعصاب. وقد دوّنت الشرطة كل الشكاوى، وتنصّتت على مكالماتنا الهاتفية، لكن رغم استفساراتنا المتكررة حول مجرى التحقيق، تلاشى كل الأمر أخيرًا. كنت آمل من كل قلبي لو أن الشرطة حفظت المعلومات التي جمعتها من هذا التحقيق لاستخدامها ضد نشطاء كاخ في قضايا أكثر خطورة.

مع ذلك يبدو الأمر سخيفًا، ففي إحدى الفترات زرعت حركة خُلْدًا وسط "نساء بالسواد، في القدس. كانت شابة في الثامنة عشرة من عمرها تقطن في المستوطنة المتطرفة كريات عربة المجاورة للخليل، وقد اضطلعت بالدور بناء على طلب صديقها الحميم نعوم فيدرمان الذي كان آنذاك الناطق باسم كاخ. ولم تدرك النساء أن هناك جاسوسة بينهن إلى أن قام عدة أشرار من كاخ باقتحام وتعطيل اجتماعًا كنا نعقده في كنيس[16] بغرض مناقشة كيفية الردّ على عنف كاخ. وكان لابد من وجود مُطَّلع لهم لكي يكتشفوا ذلك الاجتماع، وهم لم ينكروا هذا الأمر. فعندما سُئل فيدرمان من قبل الصحافة كيف كان شعور صديقته الحميمة حول مشاركتها في الوقفات الاحتجاجية، أجاب: "رغم أنها وجدت صعوبة من الناحية العاطفية الوقوف جنبًا إلى جنب مع من يسعون إلى إلحاق الضرر بدولة إسرائيل. إلا أنها تفهّمت أن على المرء أن يقاسي من أجل مصلحة أمّته" [17]

وفي وقت ما، شرّعت الشرطة لسياسة فصل "نساء بالسواد" عن أولئك الذين جاؤوا للتظاهر ضدنا. وعندما دشّنت الشرطة "فصل القوات" بيننا وبقيت لفرضه بالقوة، أصبحت الحياة في الوقفات الاحتجاجية أكثر احتمالاً.

خلال فترة طويلة - ربما تقارب السنة - ارتأى المتظاهرون المضادون كهدف لهم "ادعاء الحق" بميدان الوقفات الاحتجاجية قبل وصول "نساء بالسواد" إليه. وبذا، وتحت مبدأ "الفصل"، أجبروا الشرطة على إبعادنا إلى موقع أقل بروزًا عبر الشارع. في البداية، ردّ "نساء بالسواد"، بمحاولة الوصول إلى الميدان في وقت أكبر، للمطالبة به قبلهم. لفترة، كان رجال "يش جقول"، وهي منظمة للمستنكفين ضميريًا عن الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة، يحرسون المدى للنساء. ومن ثم نظّمنا حلقات من النساء لادعاء الحق بالميدان منذ الساعة الثامنة في الصباح الباكر. (ابنتي الشابة دينا براند، وكانت حينها في الثالثة عشرة من عمرها، ستشارك غالبًا في هذا الوضع، جالسة بهدوء على جدار الميدان تشرح بأناة للقادمين بأنها من "نساء بالسواد" وأن هذه المنطقة قد سُلِبت منهن. ولم يبدِ كل الناس الاحترام لدعواها). لكن القدوم مبكرًا أصبح مربكًا ومُضحكًا أيضًا لوجوب الظهور مبكرًا ومبكرًا كل يوم جمعة لـ "تحقيق السبق".

أخيرًا، ناقشت "نساء بالسواد" هذا الوضع مطوَّلاً في أحد اجتماعاتنا المسائية. "لا تخلوا الشوارع لليمين"، قالت مجموعة من النساء مشجّعة سياسة عدوانية أكثر تجاه المنتهكين لحرمة مكاننا. وقالت مجموعة أخرى: "ليس من الضروري التشبّث بالأرض"، بإعادة صياغة لمؤيدي حركة "إسرائيل الكبرى". وأخيرًا قررنا استخدام موقع آخر: إذا سُلِبت ساحة باريس من قبل المتظاهرين المضادين، فسنقيم وقفاتنا الاحتجاجية في أحد الأمكنة على رصيف مقابل لمكاتب الحاخامية الرئيسية في القدس. وهذا ما فعلناه لعدة أسابيع. رغم أن الوقوف على مستوى الشارع جعلنا عرضة للسيارات التي قد تتقصّد ضربنا وإن عرضيًا ونحن نقف على الإفريز. كان قرار تغيير الموقع صائبًا، حيث فقد المتظاهرون المضادون مبرر وجودهم حيث كان "نساء بالسواد" بعيدات عن الأنظار. وبعد أسبوع أو أسبوعين من غيابنا، لملموا لافتاتهم وغادروا الميدان، زاحفين بتحدٍ إلى الرصيف الذي نقف عليه، حيث يمكن أن يواجهوننا مرة أخرى. لكن "نساء بالسواد" خبيرات بالتكتيكات، فعادت بضعة منا خلسة إلى الميدان بينما كان اليمينيون منخرطين بخلق الضوضاء وترديد الشعارات عبر الشارع. وفي الوقت الذي أدركوا فيه أن النساء كن يتسربّن بعيدًا، كان الميدان قد "أُعيد الاستيلاء" عليه من قبل "نساء بالسواد"، وأصبح بإمكان البقية العودة إليه ببهجة والادعاء بالسبق. لم تكن صبيانية هذه الحوادث خاسرة بالنسبة لنا، لكن لا يمكن للمرء أن يلومنا على المطالبة بقليل من الرضا، أليس كذلك؟

وعلى أية حال، التزمنا بسياستنا بعدم الرد على الاستفزازات، وأصبح هذا الأمر أكثر سهولة على مرّ السنين. الحوادث الوحيدة التي وقعت هي عندما أحسّ حليف لنا عرضي كان يقف في الجوار بأنه مدعوّ للردّ على هجوم علينا و"الدفاع عن شرفنا"، حينها بدأت الملاكمة. وتكررت هذه الظاهرة في الوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء إسرائيل: غالبًا ما ارتبطت الاعتداءات الجسدية من قبل المعارضين بردود من قبل الرجال القريبين الذين شعروا بالاضطرار "للدفاع عنا". وقد حافظت النساء على مبدأ عدم الردّ، رغم أننا خرقنا غالبًا الانضباط ودردشنا ما بين أنفسنا، لكن نادرًا فقط ما تحمسّنا للرد على الاعتداءات اللفظية بالمثل.

أمضت مجموعات المعارضة السياسية المنظمة أسابيعًا، وأحيانًا أشهرًا، مقيمة وقفاتها المضادة الأسبوعية بالقرب منا، لكنهم جميعًا تفرّقوا تدريجيًا بمرور الزمن. وكان هذا مبعثًا آخرًا لشعورنا بالرضا. وكان الأكثر ثباتًا هم شديدو الاهتياج الذين اكتشفوا طريقهم لمواجهة زوايا الشارع: الرجل العجوز الذي كان يضايقنا باستمرار بعبارته "أنتن مصابات بالأيدز"؛ المرأة التي صرخت فينا باهتياج "جميعكن سحاقيات" (تمتمت هيا بهمس "بعضنا فقط")؛ اثنان من مُشكّلي الإشارات بالقبضات، وكانوا يرفعون قبضة برسالة جديدة في الوقت المناسب، بينما القبضة تمسك القبضة الأخرى بعلامتهما الفارقة، "أرامل بالسواد"؛ الشاب الذي كان يجول حول موقع الوقفة الاحتجاجية ملوِّحًا لنا بأنشوطة؛ الرجل العجوز (وكان قد أُدين للتو بالقتل غير المتعمَّد لأحد الفلسطينيين) الذي كان يصوِّب متجهّمًا خيزرانته نحونا. وفي الوقفات الاحتجاجية خارج القدس، كانت الخيزرانة تتحول إلى بندقية إم 16 ورشاش عوزي ومختلف أنواع الأسلحة اليدوية التي يحملها الجنود أو المواطنون المارّون، حيث كان المستهدف بتعمّد "نساء بالسواد"، ومع ذلك، وللشكر، لم يطلق أحد منهم النار.

كان للوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء إسرائيل خصومها الصامدون. وبعض هؤلاء، مثلنا، لم يتوانى عن الحضور طيلة سنوات، فتطور بيننا نوعًا من مودّة الخصوم. فذات مرة التقت سارة مصادفة بأحدهم في المدينة، لكن لم يستطع أي منهما التذكّر من أين يعرفان بعضهما البعض. قال لها: "لقد خسرت بعضًا من الوزن، تبدين رائعة". قالت سارة بإشراق: "شكرًا جزيلاً، أنت تبدو أيضًا على ما يرام". وأقرّ أخيرًا: "لكنني لا أستطيع تحديد أين التقينا. ففكّرا معًا لوهلة. قالت أخيرًا سارة: "السلام الآن؟". قال: "أوه، يا إلهي"، واستدار مبتعدًا.

هل الشرطي صديق لك؟

في مختلف رسائلك، تواصل استخدام تعبير "نساء بالسواد". إلى من تشير؟ هل كل امرأة ترتدي الأسود يوم الجمعة في حي رحافيا تعتبر "امرأة بالسواد"؟.

كان هذا هو الردّ المراوغ - في الحقيقة المعادِ - من قبل نائب القائد شاهار إيالون الذي كان يرأس وحدة سيارة الدورية في القدس، ردًّا على رسالة محامٍ في كانون الثاني عام 1989، حين اشتكى المحامي من أن الشرطة لم تكن تحمي النساء في الوقفات الاحتجاجية من الاعتداءات. ولاحظ المحامي أنه "منذ عدة أسابيع، تقدّم المتظاهرون بشكوى حول إلقاء أشياء عليهم، بما في ذلك الحجارة". فأجاب الضابط بغطرسة: "ماذا تعني بـ 'المشتكين'؟ نساء يدردشن فيما بينهن أو اتصالات إلى خط ساخن ما".

لم يكن خافيًا الازدراء الساخر في رد نائب القائد إيالون. وبدون أساس أيضًا، معتبرًا أن الكثير من الشكاوى الرسمية بشأن التهجّمات وطلبات الحماية حُفِظت من قبل في مركز الشرطة. ولاحظوا أيضًا جزء آخر من ردّ الضابط: "لقد ردّت الشرطة بسرعة وحزم على كل حادث وقع مؤخرًا في منطقة ساحة باريس وحُفِظت شكاوى حولها من قبل أي جانب بخصوص الضرر أو الاعتداء المتبادل" - كما لو أن النساء في الوقفات الاحتجاجية قد اعتدين أيضًا على المتظاهرين المضادين.

كانت عنات هوفمان تواصل تسجيلاً مستمرًا للعديد من الهجمات على الوقفات الاحتجاجية في القدس وتحفظ بانتظام شكاوى في قسم الشرطة. قالت:

أنا أسجل كل شيء. فإذا أصبح لدينا إميل غرونزويغ أخرى ]قُتلت عام 1983 بسبب قنبلة رماها يميني معادٍ لحركة السلام الآن[، لن تكون الشرطة قادرة على الزعم أن ليس لديها فكرة عمّا حدث، وأنها لم تكن تتوقّعه بالكامل[18].

كانت عنات هي القيّمة على المراسلات مع الشرطة والمبعوث المعتاد إليهم. وتتضمن سجلاتها الشكوى المحفوظة ضد اليعازر كرامر الذي لوّح لها بسكين مهددًا في وقفة احتجاجية. وبعد اعتقاله واستجوابه جرى إطلاق سراحه، وبعد أسبوعين حصل اعتداء ثانٍ عليها. وتكشف رسائل عنات عن تأريخ مستمر للاعتداء تلو الاعتداء، ولم يتم تأكيد التُهم سوى في قضية واحدة فقط. فمعظمها اُختتمت بالصيغة العامة: "قررت الشرطة/النائب العام أن ليس هناك مصلحة عامة في التحقيق أو إحالة القضية إلى المحكمة".

ضعف حماية الشرطة للوقفات الاحتجاجية كونها عرضة للاعتداء في كل مكان كان مترافقًا مع معاملتهم القذرة لأمور "نساء بالسواد". ففي إحدى القضايا، حفظت امرتين شكوى ضد سائق شاحنة قفز من شاحنته وضرب إحدى المرأتين. وبعد عدة أسابيع، وصلت رسالة من الشرطة تشير إلى أنها لن تحيل إلى المحكمة قضية "الاعتداء المزعوم من قبل هاجر روبليف ضد سارة شتاين". هه؟ لقد بادلوا بين الضحايا والمعتدين. لكنها كانت ستغلق الملف بكل الأحوال "بسبب نقص المصلحة العامة".

كان الوضع في كل مكان سيء إن لم يكن أسوأ. ففي عدة وقفات احتجاجية (ماجيدو، جان شموئيل، أكرا) كانت الشرطة نفسها تضايق النساء - اُعتقلن وجُلبن إلى المركز للتحقيق معهن، وأُطلق سراحهن بعد ساعات بدون توجيه تُهم. وفي حيفا، قامت الشرطة نفسها بالاعتداء على النساء في مناسبتين على الأقل، ورفضت عدة مرات قبول شكاوى "نساء بالسواد" ضد أولئك الذين هاجموهن. وفي تل أبيب، كانت سو كاتز تُعلّم النساء إجراءات الدفاع عن النفس في الوقفات الاحتجاجية حيث كنَّ مهدَدات باستمرار من قبل المارة. أما في الوقفات الاحتجاجية عند تقاطع أكرا - سافيد فكانت أنيكا كيلنر تضطر إلى الذهاب إلى مركز الشرطة كل أسبوع للحصول على تصريح من أجل الوقفة الاحتجاجية كشرط لحماية الشرطة - رغم أن التصريح لم يكن مطلوبًا قانونًا. وعلى أي حال، لم تكن الشرطة تظهر إلا في منتصف الوقفة الاحتجاجية.

وفي واحدة من الإجابات المذهلة من الشرطة، كتبت الناطقة باسمها "كما تعلمن، الشرطة تحمي الوقفات الاحتجاجية في كل يوم جمعة"؛ كذبة فاقعة. لكن لا داعي للقلق. ففي جواب على رسالتنا الاحتجاجية، ردّت الناطقة: "اعتقدتُ أنه سيكون من البديهي أن رسالتي السابقة في التاسع والعشرين من كانون الثاني كانت غير صحيحة" ]التأكيد في الأصل[.

هل كان هذا نظامًا كوميديًا أم ماذا؟ قد يكون، إن لم يكن بالنسبة لجدّية التهديدات. وعلى الرغم من شدّة البعض من هذه الحوادث، لم تخصّص الشرطة أبدًا دورية منتظمة للوقفات الاحتجاجية خارج القدس، وفي القدس، خُصصت دورية منتظمة فترة طويلة بعد أن أصبحت الهجمات أمرًا مألوفًا - ثلاث سنوات ونصف طوال. وعندما يبدأ الاستفزازيون في إثارة العنف حولنا، كان يتوجب على إحدى النساء أن تشق طريقها عبر التقاطع للاتصال بالشرطة التي لا تصل أحيانًا إلا بعد أن تكون الوقفة الاحتجاجية قد تفرّقت. وكان الاتصال الهاتفي بالشرطة قاعدة في كافة أنحاء الوقفات الاحتجاجية. ويمكن فقط تفسير رفض حماية "نساء بالسواد" بعداء الشرطة لنا، وبالمقابل التساهل مع سوء سلوك اليمينيين - عدم تطبيق القانون ضد العنف بدوافع سياسية من قبل اليمين[19]. وبرأيي، لم يكن هذا بسبب دعم ضباط شرطة فرديين لوجهات نظر المتطرفين، رغم أنه من المحتمل أن بعضهم كان يقوم بذلك. فحين سُئل نعوم فيدرمان، الناشط في كاخ، إن كان قد فهم سبب عدم اعتقال الشرطة أبدًا لهم بسبب المضايقاتهم أو الاعتداءات أو تجاوز الحدود، أجاب: "أفهم بالتأكيد. فهذا يُظهر كم من القدر تكره الشرطة 'نساء بالسواد' وتحب كاهانا"[20].

على أية حال، أعتقدُ أن تغاضي الشرطة عن عنف اليمين كان مبعثه بالدرجة الأولى عدم أخذهم على محمل الجد تهديدات وممارسات اليمينيين ضد اليهود الآخرين. ومن المؤكد أن إحدى المجموعات اليهودية المتعصّبة أشعلت النار في أبواب منازل نشطاء يساريين؛ حسنًا، كذلك ألقى شاب يهودي يُدعى يونا أفروشمي قنبلة يدوية على حشد لـ "السلام الآن"؛ لكن عمومًا - كما تعتقد الشرطة - كان المتطرفون اليمينيون مجرد أولاد طيبين يتصرفون بقليل من الانفلات. ولسوء الحظ، لم يكن الأمر هكذا حتى اغتيال إسحق رابين في تشرين الثاني 1995 قبل أن تبدأ الشرطة وأجهزة الأمن ببسط حماية جدية لأهداف العنف السياسي من قبل اليهود اليمينيين، ومن ثم بالدرجة الأولى للسياسيين.

من الإنصاف (العدل، كما نقول في الشرق الأوسط) عليّ أن أضيف أن شكاوى أيضًا حُفظت لدى الشرطة بحق "نساء بالسواد"، ومعظمها الغالب لكون بعضًا منا كان يضع زرًا يُظهر العلم الإسرائيلي متقاطعًا مع العلم الفلسطيني في نوع من الإعلام الإشاري للتعايش. فجرت اعتقالات لمختلف نشطاء السلام، ومراسلة بين محامي الحقوق المدنية ومكتب النائب العام من أجل ترسيخ أن وضع مثل هذا الزر "بحدّ ذاته" لا يشكّل انتهاكًا للقانون. ومع ذلك، أشار النائب العام إلى أن الزر "يشابه إلى حدّ كبير رموز المنظمات الإرهابية ]المحظورة قانونًا[" ويمكن أن يشكّل لبسه انتهاكًا للقانون تحت ظروف معينة. واستمر أعداء "نساء بالسواد" بالادعاء أن ارتداء العلم الفلسطيني في الوقفات الاحتجاجية كان "استفزازًا" وبالتالي يشكّل الظروف التي تُسوِّغ الاعتقال[21].

وأصدقاء مخلصون بصدق

لكنني سأكون مهملة إن لم أذكر أناسًا رائعين كانوا يأتون إلى الوقفات الاحتجاجية من كافة أنحاء إسرائيل لدعمنا؛ أودي آمون، ستيف بوث، إيمانويل فارجون، إيلان شريف، يوسي وولفسون، والعديد من الآخرين الذين جلبوا لنا الماء المنشِّط خلال الأيام القائظة في شمس hamsin، أو أحيانًا مجرد تأكيد حضورهم. آفي بوتافيا الذي كان يجلب لنا الماء في الصيف والفواكه المجففة والبندق في أشهر لشتاء القاسية. والمرأة التي قدّمت لنا قبعات سوداء كانت قد خاطتها بنفسها. والمرأة المجهولة التي أوقفت سيارتها بجانب وقفتنا الاحتجاجية أثناء هطول مطر غزير، وأنزلت نافذة سيارتها، ومدّت لنا بمظلتها. "كيف يمكننا إعادتها لك؟" سألناها. "إنها هدية"، أجابت وابتعدت.

وشكر خاص لعزرا إسحق، الذي كان يجيء كل يوم جمعة لسنوات، ويناول كل امرأة في الوقفة الاحتجاجية وردة حمراء. وعزرا، المؤمن بالسلام، يعمل سمكريًا، ويشعر بأن شراء مائة وردة حمراء بساق طويلة كل يوم جمعة كان خير ما يُنفق فيه نقوده. ولذا كان يمكن أن تجد كل يوم جمعة جميع النساء في الوقفات الاحتجاجية في القدس يحملن وردة حمراء في يد، وفي اليد أخرى لافتة صغيرة على شكل كفّ يد تقول "كفى للاحتلال". وعلى نحو مذهل، أصبحت هذه الوردة مصدر اتهامات في بعض الصحف الأجنبية والمحلية - ذلك أن "نساء بالسواد" يلبسن ألوان العلم الفلسطيني: ملابسنا السوداء، الأحرف البيضاء على لافتاتنا، والوردة الحمراء بساق أخضر. فمن بين كل الأمور الكثيرة التي قُيلت بخصوص "نساء بالسواد"، كان هذا من الأكثر غرابة. وكنا نستطيع فقط أن نردّ، على هذا الأساس، بأن أكل البطيخ الأحمر سيكون أيضًا محرّمًا قريبًا في إسرائيل.

  

ترجمة: غياث جازي

تدقيق: أكرم أنطاكي

*** *** ***


 

horizontal rule

[14] داني روبنشتاين، أمهات ساحة باريس، دافار، 11 تشرين الثاني، 1988 ] باللغة العبرية[.

[15] روفن كامينر، في تحليله لـ "نساء بالسواد"، يُعلّق حول هذه اللحظات: "... تتكشّف النشرة الإعلامية عن تركيب ثري شبه فسيفسائي من الدهاء السياسي، الشطارة التنظيمية، التصميم الجماعي والانتباه للتفاصيل الذي هو سمة مميزة لأية مجموعة جدّية من أناس لديهم فكرة جيدة عمّا يريدون وكيف ينوون بلوغ هدفهم". أنظر سياسة الاحتجاج، ص 86.

[16] الشكر للحاخام ليفي ويمان كيلمان لسماحه لنا استخدام كنيس كول هانيشاما للعديد من اجتماعات الوقفات الاحتجاجية في القدس.

[17] ياير نيهوراي، جاسوسة لكاخ تتظاهر مع نساء بالسواد، يوم شيشي، 29 حزيران 1990 ]بالعبرية[.

[18] ناحمان جيلبوا، "كل شيء عرضي على الدوام"، Al HaMishmar، 7 أيلول 1990 ]بالعبرية[

[19] دراستين توثّقان هذه الظاهرة: أنظر تقرير Karp الذي نشرته وزارة العدل الإسرائيلية، التحقيق في الشكوك ضد إسرائيليين في يهودا والسامرة، 23 أيار 1982 ]بالعبرية[؛ وبتسيلم، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، فرض القانون تجاه المواطنين الإسرائيليين في الأراضي المحتلة، القدس، آذار 1994.

[20] نيري ليفن، الأسود المُبصر، ص 25.

[21] رسالة من شموئيل بريسبيرغر، عضو الليكود (جناح يميني) في مجلس مدينة القدس، إلى يوسف هاريش، النائب العام، ودوف شيلانسكي، رئيس الكنيست، 13 شباط 1999 ]بالعبرية[. من أرشيف "نساء بالسواد" لعنات هوفمان.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود