|
الذكاء
التقني والوعي الكوني رونيه
فويريه، المتوفى في العام 1990، هو من غير شك
خير مَن كَتَبَ عن فكر كريشنامورتي.*
فبخلاف العديد من المؤلِّفين الآخرين، ليست
مؤلَّفاتُه تجميعًا لمعلومات؛ إنها بحثٌ حول
سيرورة الأنا وآليات الفكر، هو من العمق بحيث
يتماهى مع فكر كريشنامورتي ويمنعنا، في المآل
الأخير، من التمييز بينهما. وأخيرًا، أضيف
بهذا الصدد بأن كتبه (مثل ثورة الحقيقي:
كريشنامورتي، المناهج والشعائر
والروحانية، من الزمني إلى اللازمني)
هي من بين الكتب النادرة في مكتبتي التي يمكن
لي أن أعود إليها وأتعلَّم منها الجديد
دائمًا. من
اليسار إلى اليمين: فرانسين فويريه، رونيه
فويريه، صديقة للزوجين (19/9/1989) لقد كان
فويريه أيضًا واحدًا من الباحثين الأكثر
جدِّية في مجال الأطباق الطائرة، حيث طبَّق
كذلك شعاره في البحث حبًّا بالبحث، دون أية
مواقف مسبقة. لقد ظلَّ
فويريه حتى وفاته، على الرغم من تقدُّمه في
السنِّ آنذاك وصحَّته الحرجة، كائنًا مؤثرًا
بطيبته ودفئه الإنساني. ولا يسعني هاهنا إلا
أن أشكره من أعماق قلبي. سمير
كوسا *** س.ك.: رونيه فويريه، لقد درستَ نفسانية
الإنسان مطوَّلاً... رونيه
فويريه:
نعم، لقد حاولت دراسة النفسانية الإنسانية.
درستها في البداية دراسة تكاد أن تكون
كلاسيكية؛ وبناءً على ذلك أطلقت على كتابي
الأول عنوان الذكاء التقني والوعي الشخصي.
كنت قد حاولت في هذا المؤلَّف أن أدرس التأثير
الذي يمارسه كونُ الإنسان تقنيًّا على خصائص
حضارتنا وشخوصنا. س.ك.: نعم. ولكن ماذا تقصد بقولك إن "الإنسان
تقني"، وما علاقة ذلك بالنفسانية
الإنسانية؟ ر.ف.:
لهذا علاقة وثيقة بالنفسانية لأنه، بنظري، قد
أثَّر فيها كثيرًا. فالحيوانات ليست بحيوانات
تقنية. إن لها عضلات، وهي تستخدمها، إلخ. ولكن
فكرة صنع آلة تصوير لم تخطر ببال العصفور
الدوري! إذن فالحيوان البشري قد اخترع آلات،
اخترع هذا كلَّه، اخترع أدوات، وبذلك تحوَّل
كلُّ شيء. فلو بقي الإنسان مكتفيًا بوسائله
الطبيعية لما أمكنه أن يتجول في الفضاء
اليوم، ولما كان وَضَعَ قدمه على سطح القمر.
كان الأمر عبارة عن رواية خيالية لجول فيرن: من
الأرض إلى القمر، ثم تحقق بعد ذلك بزمن
قصير؛ لأنه من المنظور التاريخي نجد أن
الإنسان قد ذهب إلى القمر بعد رواية جول فيرن
بزمن قصير. فلو لم يكن الإنسان ذاك الحيوان
التقني، القادر على صناعة الآلات المصطَنعة،
والقادر، بواسطة هذه الآلات المصطنعة، على
مضاعفة إمكاناته العضلية، وإمكاناته على
المشي الطبيعي والإبصار، لتغيَّر كلُّ شيء،
ولكان الإنسان مجرَّد حيوان في عداد الكثير
من الحيوانات الموجودة على سطح الكوكب. لقد
وصلتْنا، منذ بعض الوقت، صورٌ لأقمار أورانوس
من على بُعد ساعتين ضوئيتين! إن هذا هائل: 300.000
كم/ثا خلال ساعتين – يا لها من مسافة طويلة!
وقد وصلت الصور واضحة وضوحًا شديدًا، وكأننا،
ونحن نشاهدها، أصبحنا على مقربة من هذه
الأقمار. س.ك.: نعم، ولكن ما هو دور التقانية في
تكوين بنيتنا النفسية؟ ر.ف.:
إيه، يصعب شرح ذلك. إن هذه التقانية قد صنعت
منَّا حيوانًا لم يسبق له مثيل على سطح
الكوكب، وأعطت للأبحاث وللصناعات دورًا ما
كانت لتلعبه من قبل. إن العصفور يصنع عشَّه
بطريقة بعينها، والكلب ينظِّم نفسه من أجل
حياته العادية كما تُملي عليه غريزتُه أن
يفعل، في حين أن الإنسان قد غيَّر كلَّ شيء. إن
وجه الأرض يتغيَّر في كلِّ لحظة. س.ك.: هل تقصد أنه لم يعد في مقدور الإنسان
أن يفكر إلا كتقني؟ ر.ف.: آ، لم أقل ذلك! لكني، على أية حال، أعتقد
بأن الإنسان، ضمن الشروط التي وَجَدَ نفسه
فيها، لم يكن هو مَن تفتق عن صيرورته تقنيًّا؛
لقد كان ذلك حادثًا طبيعيًّا في حياته. جاء
هكذا، مزودًا باستعدادات جعلت منه الحيوان
التقني، تقني الأرض. س.ك.: ما هي خصائص التقنية؟ ر.ف.:
إنها تزوِّد الفرد بقدرة خارقة لا يملكها،
على حدِّ علمنا، أيُّ حيوان. س.ك.: وما هو دور هذه التقنية في حياتنا
اليومية وفي علاقاتنا الإنسانية؟ ر.ف.:
إنه لَدور هائل، لأننا، نظرًا لاعتبارات
عديدة، يمكن لنا أن نميِّز بين مَن أطلقتُ
عليهم مؤخرًا في مذكرة لي "المتأمِّلين"
و"العمليين". فالمتأمِّلون أناسٌ
العالمُ في نظرهم معضلة، معضلة خارقة، تبدو
في الظاهر غير قابلة للحلِّ وتشغلهم دائمًا،
كأنها علامة استفهام ماثلة دائمًا أمام
ذهنهم؛ في حين يتقبَّل الآخرون رؤية معينة
إلى العالم، مستقرين فيها وفاعلين داخلها –
وإنه لَموقف مختلف تمامًا. لقد كنت قلت لدافيد
بوهم، ذات مرة، بأنني نوع من علامة استفهام
حية – وهذا ما يزال صحيحًا. س.ك.: نعم. ولكن على صعيد بنية
نفسانيَّتنا، في علاقاتنا، فهمت مما قلتَ
بأننا نتصرف ونحاكم أنفسنا وكأننا تقنيون... ر.ف.:
نعم، نوعًا ما. بإمكاننا القول بأن هناك نوعين
من الوعي في العالم: هناك وعي تقني وعقلي، حيث
توجد مقاييس، وحيث توجد أزمنة، وحيث توجد
مسافات، إلخ. ثم هناك، ربما، "شيء ما" آخر
لا يتدخَّل فيه ذلك كلُّه. فلكوننا تقنيين،
بمعنى معيَّن، نملك وعيًا دقيقًا جدًّا
لانفصالنا بعضنا عن بعض، أو لتميُّزنا عن
الحيوانات الأخرى، أو عن الكواكب، أو عن أيِّ
شيء آخر؛ ولكن ليس من المؤكد أننا، في العمق،
منفصلون عن ذاك. لقد ساهم الذهن التقني،
لدى الإنسان، في زيادة وإنماء شعور بالانفصال
وبالعزلة الشخصيين. وأعتقد أن هذا صحيح، وهو
خطير جدًّا. لقد أحس الإنسان بنفسه معزولاً عن
باقي العالم، فحاول عندئذٍ أن يبرز فيه. س.ك.: أنت تعني، حسبما فهمت، أن هناك نمطًا
آخر من الوعي غير الوعي التقني. فماذا يمكن
لنا
أن نقول عن هذا الوعي الآخر؟ ر.ف.:
ليس هناك ما يقال عنه بشكل دقيق. لكنْ، في
بساطة، يمكن لنا القول إن التقسيمات كافة،
والافتراقات كافة، وكلَّ ما تمَّ اختراعُه،
والنظامَ التمثيليَّ كلَّه المتضمَّن في
الرؤية التقنية إلى العالم يختفي. وإذا ما
أردنا أن نستخدم تشبيهًا نقول إن هناك
منبعًا، منبعًا كونيًّا للتيار، ونحن أشبه
بلمبات مضاءة؛ ولكلِّ لمبة خصوصيتها، وهي تظن
أنها وحدها. إنها أشبه بلمبة استوعت نفسها،
إذا جاز القول؛ لكنها، في المآل، ليست إلا هذه
الطاقة الكونية الكامنة فيها. إنها ليست
معزولة عن ذلك كلِّه. فكأن عضوًا في الجسم
يتخيَّل نفسه معزولاً! س.ك.: من أجل المزيد من الإيضاح والدقة، هل
يمكن لك، إذن، أن تصف لنا سيرورة الأنا؟ ر.ف.:
تقوم سيرورة الأنا بشكل كامل على أن للفرد
وعيًا بانفصاله. وهو، عندما يعلِّل المعطيات
الفيزيائية، يبدو له أن وعيه منغلق في جسم،
وأن هناك أجسامًا مختلفة تجول من حوله.
وعندئذٍ يدرك نفسه كشخص معزول، في الداخل،
ويحاول، كونه معزولاً ومنفصلاً عن باقي
العالم، أن يدفع عن نفسه وأن يثبت وجوده. وفي
المآل، يمسي لديه ذلك الخوف الأساسي الذي
تكلَّم عليه كريشنامورتي، والذي يرتبط،
بالدقة، بكونه معزولاً، منغلقًا على نفسه،
ومحدودًا بنفسه. وبما أن هناك دومًا أشياء
تتجاوزه في غير مكان، فهو يسعى، في شيء من
السذاجة، إلى حماية نفسه ممَّا يتجاوزها،
بتضخيمها. وبذلك ينطلق في سيرورة الاكتساب
هذه – وهذا طبيعي. وهذه ليست حال الحيوان
المدفوع بغريزته: فالهرَّة تنقضُّ على الفأر،
لكنها لا تطرح مشكلات على نفسها، على ما أظن،
بخصوص وعيها؛ وهي لا تحاول أن تصير هرَّة
متفوقة! س.ك.: ما هي منزلة هذا الوعي بالنسبة إلى
الوعي التقني؟ ر.ف.:
إن هذا الوعي لا منزلة له – وهاهنا مكمن
الاختلاف. إنها حالة تزول فيها المقارنات،
يزول الزمان، يزول المكان، إلخ. هي ما يوجد في
قلب الكون. هي الكون منظورًا إليه من زاوية
أخرى. فالكون خرج من ذاك، ولكن عن ذاك
ليس في وسعنا أن نقول شيئًا. نحن، على كلِّ
حال، نعيش في الزمن، ونظن بأننا هنا لأن هناك
أناسًا سبقونا. لكننا، لو طبَّقنا هذه الرؤية
على الكون ككل، لما كان لها من معنى على
الإطلاق: فأيُّ كونٍ سَبَقَ أيَّ كون؟ أو أيُّ
إله سَبَقَ أيَّ كون؟... إنها رؤية تميِّز
التقني. فكما يصنع الإنسان أشياء، يتخيَّل أن
العالم هو مِن صُنْعِ أحدهم؛ وحين أقول "أحدهم"
أعني أنه يتخيل أن هذا الصانع يشبهه نوعًا ما. س.ك.: ولكن هذا الوعي الآخر، هل هو واقع أم
مجرَّد مُصادرة؟ ر.ف.:
أعتقد أن هناك، على نحو ما، أناسًا قد
توصَّلوا إلى هذا الوعي بما يكاد أن يكون
عَرَضًا، لأننا لو حاولنا أن نجهد أنفسنا
للوصول إليه عبر طُرُق تقنية لما وصلنا أبدًا.
إذ ليس لهذا الوعي من خاصية تقنية. وهنا
تمامًا، على العكس، عندما ندرك مدى غباء كلِّ
ما نفعله ضمن سيرورة الأنا، تظهر، على حين
غرة، حالة أخرى. لقد رويتُ خبرتي الشخصية هذه:
كنت في حالة جزع هائل، مرعب، خانق، على شفير
الانتحار، وكنت قد تعلَّمت من كريشنامورتي
أننا نسعى دائمًا إلى الهروب من الآلام التي
تنتابنا، وأن في هذا الهروب ليس من حلٍّ حقيقي
ثمة، وأننا نخدع أنفسنا بهذا الخصوص. منذئذٍ،
كلما حاولت الهرب من الألم الذي أجدني فيه،
كنت أعترف بمقدار بطلان هذا الهروب وبانعدام
معناه. وقد استمرت هذه السيرورة طويلاً؛ ثم،
على حين غرة، وجدت نفسي في حالة أخرى، حالة –
وأنا على الحال التي كنت فيها – لم يكن
بمقدوري نشدانها. لم أكن أبحث عن وَجْد أو عن
شيء ما خارق. لقد وجدت نفسي فجأة في حالة أخرى
انتسفتْ فيها القيمُ كلُّها، وتوارى كلُّ
شيء؛ فشخص كنت أكرهه في الدقيقة التي سبقت،
بات بإمكاني أن أحضنه كطفل بين ذراعيَّ في
الدقيقة التي تَلَتْ. ولكننا، مع ذلك، لا يمكن
أن نجد تسلية في وَصْفِ هذا النمط من الوعي
لأننا سنقع مجددًا في التقنية. فهذا الوعي
يمكن له أن يخترع التقنية، ولكن لا يمكن لها
أن تخترعه؛ إذ العكس هو الصحيح. س.ك.: هل تود أن تقول إنه في ذلك الوعي
الآخر يمكن لنا أن نكون تقنيين، وبأن هناك،
بالإضافة، شيئًا آخر؟ ر.ف.:
ولِمَ لا؟ الإنسان، بالضرورة، وضمن الشروط
التي يعيش فيها، منقاد إلى النظر في مظهر تقني
لحياته، ولكن حياته ككل التبستْ عليه بهذا
المظهر التقني لحياته – وهاهنا مكمن المأساة.
إن الوعي شيء أعمق بكثير من التقنية؛ أو أن
الوعي الإنساني، في عمقه، شيء أعمق بما لا
يقاس من الوعي التقني لدى الكائن الإنساني. س.ك.: مفهوم التقانية هذا – هل هو عينه
الذي تكلَّم عليه برغسون وآخرون أيضًا؟ ر.ف.:
نعم، إن برغسون بنفسه هو الذي استخدم مصطلح
"الحيوان التقني"، وكذلك إدوار لوروا. س.ك.: فهل كانت لديهما الرؤية ذاتها فيما
يخص الوعي؟ ر.ف.:
هذا ما لا أعلم عنه شيئًا؛ لكني لا أظنه، على
كلِّ حال. لقد كانا يعرفان بوجود متصوِّفة،
كانا يعرفان أن هناك أناسًا يمرُّون بحالات
وعي غير معهودة – وهذا أمر ثابت تاريخيًّا.
أما نقاء حالات الوعي هذه فهي مسألة أخرى. ماذا
يحدث، إذن، بعد التحرُّر من التمثيلات، بعد
التحرُّر من الصور التقنية، وبعد ترك كلِّ
ذلك معلَّقًا – ماذا يحدث بعد ذلك كلِّه؟ إنه
أمر يتعذَّر وصفُه تقنيًّا؛ واللغة،
عمقيًّا، هي التي تَبِعَت التقنية من نواحٍ
عديدة. ولكن لا توجد أية لغة لوصف هذه الحالات
الأخرى؛ فاللغة الواصفة، بهذا الخصوص، سالبة.
وهذه الحالة ليست من ضمن الحالات التي اعتدنا
عليها، ولا يمكن لنا وصفها – وإلا تحولتْ إلى
شيء [= غرض]. س.ك.: هل في وسعك أن تصف لنا هذا البحث عن
ملاجئ الذي ذكرتَه؟ ر.ف.:
إنه أمر عادي. الناس جميعًا يمرون بهذا كلِّه.
فهم، عندما يُصابون بخيبة ما، يبحثون عن
طُرُق لتَدَارُكها، ويقومون بأعمال، على
اعتبار أنهم في مجال التمثيلات، في مجال
العدد والكمِّ؛ وهم يحاولون، بشتى الوسائل،
أن يكونوا شخصًا مهمًّا؛ فإذا ما تمَّ
الانتقاص من هذا الشخص، يبحثون عن طريقة
لترميمه وإعطائه صفة اجتماعية جديدة. تلك هي
السيرورة. س.ك.: إنك تتحدث، طبعًا، عن ملاجئ من رتبة
نفسانية، لأن يدي، إذا احترقتْ، لنقل إنني
سوف ألجأ إلى الماء... ر.ف.:
نعم، طبعًا، فهذا أمر سويُّ تمامًا. إن للحياة
مظهرًا تقنيًّا لا يمكن تلافيه على السلَّم
الإنساني؛ ولكن هناك، ربما، مظاهر أخرى غيره.
لقد أفرط الإنسان في التقنية. لم يَغُصْ في
أعماق معيَّنة من وعيه لا ارتباط بينها وبين
بالتقنية – على كون التقنية أمرًا لا غنى له
عنه لكي يحيا الإنسان في كونه هذا. ربما كان
ذلك "الشيء ما" الغامض، الذي هو العالم،
هو الذي زوَّد الإنسان بهذه التقنية. لن أقول
مَن أبدع العالم، لأنني سأضطر عندئذٍ إلى
البحث عمَّن أبدَع مَن أبدَع العالم، وهكذا
دواليك إلى ما لا نهاية. كان هناك "شيء ما"
أزلي الوجود، وداخل هذا "الشيء ما" كانت
هناك إمكانات لإظهار وعي تقني؛ هناك شيء أعمق
من الوعي التقني، شيء على علاقة مباشرة مع
حقيقة لا تتنامى، موجودة منذ الأزل، وهي، حتى
لو كانت قد ابتكرت التقنية، تتعدَّاها وتسمو
عليها. س.ك.: بما أن التقنية قد اجتاحت
نفسانيَّتنا، إذن لا بدَّ أننا، في علاقاتنا
الإنسانية، نستخدم الآخرين كما لو كانوا
أشياء تقنية. ر.ف.:
نعم، هو كذلك. ولكن هذا ليس حديث العهد. لقد
لعبت التقنية دورًا هامًّا جدًّا منذ بدايات
البشرية. س.ك.: لعل من الواجب التوسع في ذلك، لأن
التقنية، في نظر غالبية الناس، هي الآلات،
إلخ. ر.ف.:
نعم، من ناحية واحدة؛ ولكن الأمر لا يقتصر على
الآلات. س.ك.: فما هي التقانية إذن؟ ر.ف.:
التقانية هي القدرة على اختراع أدوات مصطنعة
تمثِّل أجهزة طبيعية لا نملكها. أنا لا أملك
أجنحة، ولا أستطيع التحليق في الفضاء؛ ولكنني
حظيت بذكاء من نمط معين يتيح لي صناعة طائرة؛
إذن أركب الطائرة وأجد نفسي في الفضاء. وقد
تمَّ مؤخرًا إطلاق مسابر في الفضاء أوشكت أن
تتخطَّى المنظومة الشمسية. وما كان للإنسان
أن يتمكَّن من القيام بذلك بوسائله الطبيعية... س.ك.: مما يقتضي مفهوم المشروع... ر.ف.:
أجل، بالطبع. وإن فكرة المشروع ترتبط
بالتقنية. فبإمكاننا الآن أن نعدَّ مشاريع
خارج التقنيات، كما يتم ذلك على الصعيد
النفسي. إذ يود الفرد أن يكون على هذه الصورة
أو تلك، يود أن يحاول الحصول على حبِّ شخص ما،
فيحاول عندئذٍ أن يعرف كيفية التصرف للوصول
إلى غايته، فيضع مشروعًا، إذا صحَّ القول،
لطريقة حياته. س.ك.: وأنت تقول إن هناك حالة يكف فيها عن
وضع مشاريع كهذه... ر.ف.:
قطعًا. س.ك.: ماذا يحل بالكائن الإنساني عندئذٍ؟ ر.ف.:
إنه يحيا حياة طبيعية، إذا جاز لي القول. إنه
يحيا من دون الإحساس بالانفصال عن الآخرين. س.ك.: ولكن، إذا ما فقد الإنسان طموحه لأن
يكون على هذه الصورة أو تلك، طموحه لأن يفعل
هذا الشيء أو ذاك، طموحه لإيذاء الآخرين... ر.ف.:
أنت عجيب! هل المرء في حاجة إلى الطموح ليكون
فاعلاً؟! إن كون المرء فاعلاً ظاهرة طبيعية.
ما هو طموح الحيوان؟ لا طموح لديه. لديه غرائز
تنقضُّ على ما سيفيده كقُوْت. فهل يعرف، نوعًا
ما، ما سيفيده قوتًا، وهل يعرف أن ذلك سيطيل
من عمره، هل لديه مفهوم عن الزمن؟ هذه قضية
أخرى. لكن النشاط ظاهرة طبيعية. هناك أنشطة
ذات أشكال، وأنشطة لا شكل ظاهر لها، على ما
يبدو، وهي التي كانت منشأ الأشكال كافة. س.ك.: آمل ألا يشبه هذا الوعي غريزة
الحيوان! ر.ف.:
لا، جزمًا لا. س.ك.: فما الفارق بينهما إذن؟ ر.ف.:
الفارق، فيما أظن، عصيٌّ على التعريف، لأنه
من مجال ليس متاحًا لنا على وجه العموم. س.ك.: لأنك تتكلَّم على عمل من دون مشروع... ر.ف.:
نعم، عمل خارج النطاق التقني. لكنني أصر، على
كلِّ حال، على بقاء مظهر تقني للحياة؛ وضمن
هذا المظهر، ستكون هناك دومًا مشاريع. لكن
ثَمَّ شيئًا ما يتجاوز ذلك كلَّه. ليست
التقنية البشرية هي التي اخترعت الكون. إن
لدينا جسمًا، هو أداة خارقة؛ ونحن نخترع
أدوات خارقة، ولكننا لم نخترعه. أتينا إلى هذا
العالم بجسمنا هذا الذي هو آلة تفوق الخيال،
معمل كيميائي خارق. لقد انطلقنا من ظاهرة
الخلية الواحدة لنصل إلى ذاك. فهناك، مثلاً،
خمسون مليونًا من العُصيَّات في شبكية العين
وبضعة ملايين من المخاريط. ولكن الحقيقة
غامضة بالنسبة إلينا. فهذه المنضدة، للوهلة
الأولى، توحي بالاطمئنان؛ لكني، إذا ما نظرت
إليها على المقياس الذري، فإنها ستبدو أشبه
بفريق من النحل. سأرى إلكترونات تحوِّم حول
البروتونات، ولن أتعرَّف إلى الكون الذي أنا
موجود فيه. إذا ما نظرت إلى العالم على مقياس
معيَّن فسيصير عصيًّا على التعرُّف في نظري. س.ك.: بما أنك تذكر العلم، يوجد حاليًّا
علماء يقولون أيضًا بأن هناك مجالاً آخر غير
الذي تمَّتْ دراسته حتى الآن، هو أعمق منه،
ويشبه، تقريبًا، وصفك له. ر.ف.:
إنني أحذر العلماء، من بعض النواحي. إنهم
بارعون للغاية في مجال اختصاصهم؛ ولقد
شبَّهتم ذات مرة بأناس يظنون أنهم إذا ما
درسوا ما يحدث في الطابق الأرضي دراسة كاملة
فإنهم سيجدون أنفسهم في الطابق الأول – الأمر
الذي لا يبدو لي صحيحًا تمامًا. س.ك.: هل بإمكانك أن تقدِّم مثالاً على
ذلك؟ ر.ف.:
لا. فرجال العلم أناس مجبرون على التفكير بلغة
الأعداد... س.ك.: لا، أنا لم أقصد أشخاصًا بعينهم، بل... ر.ف.:
طيب، إنهم ينبشون الكون الفيزيائي بكلِّ ما
أوتوا من براعة، ولديهم ذكاءٌ قد يكون
باهرًا، وهم يظنون بأنهم سينتزعون آخر
الأسرار بذكائهم هذا، بالطُرُق ذاتها. ولكن
الحقيقة النهائية لا تشبه هذا برمَّته. إنها
شيء يتخطَّى المظهر التقني للوجود. وبالتالي،
حتى لو بلغت التقنيةُ حدود الكمال، لن تصل
إليها أبدًا؛ ولهذا طرحت مثال الطابق. هناك
طوابق وعي، إذا صحَّ القول، وأنا لم أصل إلى
حالة أخرى بواسطة تحسين رؤيتي إلى العالم؛
فعلى العكس، وجدت نفسي فجأة في حالة أخرى
لأنني أقررت بمحدودية رؤيتي إلى العالم وبمدى
عجزها. ولكننا، إذ تستغرقنا حالة ما، يصعب
علينا اختبار حالة أخرى. س.ك.: ولكن، لماذا نختبر حالة أخرى؟ ر.ف.:
لأنها، ربما، قد تكون أهم من كلِّ ما عداها.
وبذلك ندخل مجددًا في مجال المقارنة. س.ك.: لماذا؟ ر.ف.:
لأننا إذا ما نظرنا إلى العالم بالعينين
المعهودتين نرى أنه شديد التشويش، شديد
التناقض، شديد العنف، وشديد اللَّبْس؛
والإنسان نفسه قد أنهكه هذا التشويشُ وهذا
العنف، وذلك كلِّه. ولهذا فقد يود أن يختبر
حالة وعي لا يعرف كيف يبحث عنها، حالة وعي
تُرى الأشياءُ فيها من زاوية أخرى، وربما ليس
ببصره هو. سيعبُر إلى حالة أخرى – هذا كلُّ ما
في الأمر. لا يمكن لطفل حديث السنِّ أن تكون له
اهتمامات الشخص البالغ؛ وإذا ما حاول البالغ
أن يبرِّر له هذه الاهتمامات لما فهم شيئًا.
ومن بعدُ تأتي لحظة يجد الطفل نفسه فيها وقد
اكتسب وعي البالغين. طيب، فلنقل، إن شئت، إن
هذا الوعي هو حالة "فائقة البلوغ" للوعي
ولا يمكن لنا صناعتُها. إنها أسمى من كلِّ
المصنوعات، وهي ربما منبع المصنوعات كلِّها. س.ك.: ولكن الطفل، في المثال الذي طرحته عن
الطفل والبالغ، هو مصنوع التربية، إلخ. ر.ف.:
أنا لا أقول العكس، ولكن هذا الأمر لا يمنع أن
وعي الطفل عاجز عن تحديد موقعه على صعيد وعي
البالغ. ونحن نعاني من العجز نفسه عن المرور
إلى الحالة "الفائقة البلوغ" – هذا كلُّ
ما في الأمر. لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع
التخلِّي عن رؤيتنا لكي تجتاحنا، على حين
غرة، رؤيةٌ أخرى؛ فالطفل نفسه، بطريقته هو،
عبر التربية وكلِّ ما تشاء من عوامل، قد
تخلَّى عن رؤيته البدائية إلى نفسه وإلى
العالم. وليس من المؤكد أننا واقفون في أعلى
السلَّم – وإنها لمقارنة كارثية أن نورِدَ
السلَّم على سبيل المقارنة. س.ك.: ماذا ستكون العلاقات بين الناس الذي
يحيون هذا الوعي؟ ر.ف.:
هذا سؤال شخص تقني. إن أولئك الذين يتحلَّوْن
بهذا الوعي لا يطرحون على أنفسهم مشكلات كهذه.
إننا نتحدث عن رؤية أخرى إلى العالم، حيث
تنعدم الأبعاد، ينعدم الزمن، لأنه إذا كان
الكون موجودًا، فلأنه، عمقيًّا، موجود
دائمًا. ولكن "دائمًا" لا معنى لها
بنظرنا؛ فهو يتخطَّى الديمومة. هناك "شيء
ما" موجود، ومن هذا "الشيء ما" خرج
كلُّ شيء. ولكن مجموع ما خرج منه لا يمكن له أن
يعيد تكوينه، لأن هذا المجموع نتاج ثانوي. س.ك.: لماذا؟ ر.ف.:
لأنه نتيجة. ولكننا نقع عندئذٍ في الغلط نفسه.
ففي اللغة السببية هناك السبب والنتيجة. س.ك.: وهذه هي المحيِّرة... ر.ف.:
قلت في كتاباتي إننا نفهم تمامًا أننا لا نفهم
شيئًا البتة فهمًا عقليًّا. لقد استقر، من
خلالنا، عالمٌ يتصف بالصيرورة؛ فيه أشياء
تحدث: هناك بداية، وهناك تتمة، وهناك نهاية؛
وفيه هذا وذاك – وذلك كلُّه لا يعقله الكون.
متى بدأ الكون افتراضًا، ومتى سينتهي؟ هذا لا
معنى له. هناك منبع غامض، يتعالى عن هذه
الحدود جميعًا؛ ومع ذلك، أمكن له أن يُظهِر
إلى الوجود كائناتٍ لديها رؤية محدودة إلى
الأشياء، هذه البرامج، هذا الزمن، وهذا
المكان، إلخ. س.ك.: لكننا، إذ ننظر إلى الطبيعة، قد يخطر
ببالنا نوع من البرنامج... ر.ف.:
من الممكن أن يكون هناك برنامج؛ لكن هذه قضية
أخرى. س.ك.: ألا يتناقض ذلك مع اللاتقنية؟ ر.ف.:
لا. فبإمكان اللاتقنية أن تحوي التقنية فيها؛
إنها تحوي كلَّ شيء، دون أن تكون هي تقنية من
حيث الأساس. إن طبيعتها الحقيقية ليست تقنية.
فالتقنية عامِل مُضاف صار أساسيًّا بنظرنا؛
لكنها، من منظور تلك الحقيقة، مجرد نموٍّ
مُضاف إلى حضورها الأبدي. س.ك.: سؤال من تقني: لماذا تحتاج الطبيعة
إلى التقنية؟ ر.ف.:
إني لا أعرف شيئًا عن ذلك! هل تحسب أني الله؟
لا يمكن لنا أن نقول شيئًا عن ذاك. س.ك.: علينا، إذن، أن نكفَّ عن الكلام عليه! ر.ف.:
أجل. اختبارُه شيء، أما الكلام عليه فهو مبهَم
نوعًا ما. أعتقد أن هذا "الشيء ما" لا
يظهر إلاَّ عندما نتبيَّن تمامًا جميع حدود
سواه – نتبيَّنها في العمق. إننا نولي ثقتَنا
ما نفعل، تقنيتَنا، هذا الأمرَ أو ذاك،
جدارتَنا، فضائلَنا، وكلَّ ما يترتَّب عنها.
ولكن هذا لا يفيدنا في الوصول إلى شيء أبعد،
حيث تفقد هذه المفاهيم كلُّها معناها – حتى
إذا كان هذا "الشيء" قادرًا، لسبب غامض،
على صُنْع عالم يكون فيه لهذه المفاهيم معنى. س.ك.: إن هذا لغريب! ر.ف.:
العالم خارق، ونحن لا نفقه منه شيئًا. ومَن
يسعى حقًّا إلى فهمه يعرف أنه لا يفقه شيئًا –
عقليًّا. س.ك.: إنه كون يخلق التساؤل، لينتهي بنا،
في آخر المطاف، إلى عدم السؤال! ر.ف.:
لا، ليس الأمر على هذا النحو. فهذا الكون ليس
خارجنا. وفي هذا سر. لقد انبثق عنه شيء، هو
الإنسان، الذي يطرح الأسئلة. ومن وراءه، إذا
جاز لنا القول – وهنا نضطر إلى استعمال تشبيه
مكاني؛ إذ ليست في حوزتنا أية صورة لوصفه –
أجل، وراءه، هنالك "شيء" آخر. ***
*** *** أجرى
الحوار: سمير كوسا ترجمة:
ليلى خيري نشواتي عدسة:
ديمتري أفييرينوس *
هو جدُّو كريشنامورتي (1895-1986):
حكيم ومفكِّر، ولد في الهند وتبنَّته
الجمعية الثيوصوفية واعتبرته، وهو في سنِّ
الـ14، "المعلِّم العالمي". ثم أصبح
مفكرًا لا ينتمي لأية ديانة أو مذهب فلسفي.
والحقيقة، برأيه، "بلاد بلا دروب"، لا
علاقة لها بدين أو مذهب أو فلسفة. (المترجمة) |
|
|