|
منقولات روحيّة
الوحي، بأبسط صوره، هو عملية ورود معلومات ومعارف إلى النبي من المطلق، وعملية الورود هذه لا يمكن لها أن تتم إلا في حال كانت هناك عملية اتصال من نوع ما، بين وعي النبي (البشري)، وبين وعي الرب (المطلق). ومن هنا تكون الحاجة ملحة لفحص هذه الحقيقة، أي حقيقة حصول عملية الاتصال هذه، أو ربما فحص إمكان حدوثها من عدمه. وتأتي الحاجة لبحث موضوع إمكان تحقق عملية الاتصال بالمطلق من كون هذه العملية لم تنل حقها الكافي من البحث، مع أهميتها وتأثيرها الكبير في حضارة البشر وتاريخهم. والسعي إلى بحث إمكان الاتصال بالمطلق يتضمن ويرتكز على شك بوجود هذه الإمكانية، بمعنى أنه يتضمن شكًا بثبات تحقق عملية الوحي باعتبارها ظاهرة اتصال بين الإنسان والمطلق. إذن فبحث هذا الموضوع ينطلق من مجموعة من الأسئلة من قبيل: هل تحققت، في يوم ما، ظاهرة الوحي؟ وهل حققت، هذه الظاهرة، عملية اتصال بين المطلق والإنسان؟ وهل تضمنت تناقل رسائل اتصالية كما هو شأن جميع عمليات الاتصال الأخرى؟ وهل نتج عن هذه العملية وعي النبي بالرسالة التي أراد المطلق منه وعيها، ثم وبمرحلة لاحقة هل نجح النبي بإيصال هذه الرسالة إلى الناس؟
بذكرنا للميم والعين والسين نكون أمام تعامل رمزي مع ثلاث شخصيات إسلامية كان لها التأثير الكبير في الإنتاجات الفكرية والمذهبية للطوائف الشيعية وللتيارات الغنوصية والإشراقية في الإسلام؛ والمقصود هنا ثلاث شخصيات بثلاثة أفعال مختلفة وملتبسة، ونقصد محمد وفعل النبوة، علي وفعل الإمامة، سلمان الفارسي وفعل الصحبة. ولم يكن النظر إلى هذه الشخصيات مقتصرًا على سيَّرها التاريخية، بل كان ينظر إليها كشخصيات روحانية متعالية ومفارقة، أو لنقل نماذج أولية. بالإضافة إلى النبي محمد والإمام علي يعتبر سلمان الفارسي من أبرز الشخصيات الروحية في التراث الإسلامي، فقد تبوأ مكانة أساسية عند معظم الطوائف الإسلامية سواء المعتدلون منهم أو الغلاة، باعتباره واحدًا من آل البيت، حسب قول النبي حينما اختلف عليه المهاجرون والأنصار كل منهما يقول سلمان منا، فقال النبي: "سلمان منا أهل البيت". ولسلمان الفارسي، حسب معتقدات بعض الطوائف الإسلامية، خصوصًا الطوائف الشيعية، حضور مزدوج: واحد تاريخي والآخر روحي، إلا أنه وكما بين هنري كوربان ذلك، يوجد ترابط بين الحضور التاريخي والحضور الروحي؛ لأن المسار الذي عرفته حياة سلمان أصبح رمزًا لمسار مثالي بات من اللازم على كل النفوس أن تسلكه لتحقق اكتمالها، فالفتى سلمان تربى في بلاد فارس على العقيدة المجوسية ثم تحول عنها إلى المسيحية، لكن بعد أن سمع بأمر الرسالة الجديدة؛ الرسالة المحمدية، رحل إلى مكة لملاقاة النبي. لقد عانى ما عانى في رحلته إلى أن وصل إلى هدفه. وبعد ذلك أصبح هذا الفتى الأجنبي واحدًا من الصحابة المقربين، وفردًا من أهل بيت النبي بالتبني طبعًا.
ما دام هذا الكتاب يتحدث عن النمو الروحي، فهو حتمًا سيتحدث عن الوجه الآخر للعملة: معوِّقات هذا النمو. والخلاصة أن ثمة معيقًا واحدًا، وهو الكسل. إذا كان لنا أن نقهر الكسل فسنتغلب تلقائيًا على جميع المعيقات الأخرى، وما لم يكن بمقدورنا ذلك لن نستطيع القفز فوق أي من الحواجز الأخرى. هذا الكتاب، إذًا، هو عن الكسل أيضًا. خلال حديثنا السابق عن ممارسة النظام على أنفسنا كنا نعتبر أن الكسل هو محاولة لتجنب المعاناة الضرورية للنمو، أو، بكلمة أخرى، السير في الطريق الأسهل؛ وخلال اختبارنا وتفحصنا لمعنى الحب كنا أيضًا نختبر حقيقة أن اللاحب هو عدم الاستعداد لجعل ذاتنا أكثر اتساعًا من الداخل؛ الكسل، إذًا، هو نقيض الحب. النمو الروحي مجهد كما ذكرنا مرارًا، ونحن الآن في موقع نستطيع منه أن نتفحص طبيعة الكسل من وجهة نظر أكثر تبصرًا، ونكتشف أن الكسل هو قوة الإنتروبية كما تبدو في حياتنا جميعًا.
لغفلة مفهوم أثير عند الصوفية، وقد نضج وتبلور نظريًا عند أبي حيان التوحيدي (القرن الرابع الهجري)، ويعد صاحب رؤية صوفية عميقة انجلت عبر نصه الهام الإشارات الإلهية رغم أنه لم يكن صوفيًا بالمعنى الدارج للكلمة، وهي مسألة لا ينبغي أن تعد معيارًا للحكم على مدى مصداقية رؤيته الصوفية ومشروعيتها معرفيًا وقيميًا، من وجهة نظرنا. ولنتوقف عند مفهوم الغفلة كما صاغه التوحيدي، حيث إن "الغفلة" لا تعني عنده العدم المعرفي المحض، وإنما تعني حضورًا معرفيًا إزاء الموضوع، لكنه حضور الجهالة والغياب والعجز عن إدراك الحقيقة أو إدراكها إدراكًا وهميًا زائفًا ينطوي على الشبهة والضلالة والمخايلة، بمعنى أن الموضوع يستتر محتجبًا بظاهره الخارجي المموه الذي يستلب الوعي ويغيبه عن لب الموضوع وحقيقته الخفية الكامنة في عمقه، بل عن كونه حجابًا على الحقيقة، وليس منها في شيء، وإن كان يومئ إليها من طرف خفي، بوصفه أحد إمكانات الوجود. يقول التوحيدي:
|
|
|