|
الإنتروبية٭ والخطيئة الأصلية
ما دام هذا الكتاب يتحدث عن النمو الروحي، فهو حتمًا سيتحدث عن الوجه الآخر للعملة: معوِّقات هذا النمو. والخلاصة أن ثمة معيقًا واحدًا، وهو الكسل. إذا كان لنا أن نقهر الكسل فسنتغلب تلقائيًا على جميع المعيقات الأخرى، وما لم يكن بمقدورنا ذلك لن نستطيع القفز فوق أي من الحواجز الأخرى. هذا الكتاب، إذًا، هو عن الكسل أيضًا. خلال حديثنا السابق عن ممارسة النظام على أنفسنا كنا نعتبر أن الكسل هو محاولة لتجنب المعاناة الضرورية للنمو، أو، بكلمة أخرى، السير في الطريق الأسهل؛ وخلال اختبارنا وتفحصنا لمعنى الحب كنا أيضًا نختبر حقيقة أن اللاحب هو عدم الاستعداد لجعل ذاتنا أكثر اتساعًا من الداخل؛ الكسل، إذًا، هو نقيض الحب. النمو الروحي مجهد كما ذكرنا مرارًا، ونحن الآن في موقع نستطيع منه أن نتفحص طبيعة الكسل من وجهة نظر أكثر تبصرًا، ونكتشف أن الكسل هو قوة الإنتروبية كما تبدو في حياتنا جميعًا. لسنوات عديدة كنت أجد مفهوم الخطيئة الأصلية غير ذي معنى – بل حتى مثيرًا للاعتراض والنقد –، فلم أكن اعتبر ممارسة الجنس خطيئة، ولا بقية شهواتي المتنوعة؛ وكثيرًا ما كنت أطلق العنان لإشباع رغباتي بتناول وجبة دسمة حتى التخمة، وعندما كنت أتعرض لوخزات سوء الهضم لم أكن أعاني معها من وخزات الشعور بالذنب؛ كنت أعتبر أن مفهوم الخطيئة في العالم هو الخداع، إلحاق الأذى، تعذيب الآخرين، والقسوة؛ لكنني فشلت في اكتشاف أي شعور بالذنب موروث من الطفولة، ولم أجد من المنطقي الاعتقاد أن الأطفال الصغار قد حلت عليهم اللعنة لأن آباءهم أكلوا من ثمار شجرة المعرفة والتمييز بين الخير والشر. لكنني، في المقابل، كنت أعي تدريجيًا انتشار الكسل على نحو واسع، ووجوده في كل مكان. خلال بذلي جهودًا لمساعدة مرضاي على النمو والشفاء وجدتُ أن عدوي الأساسي كان على الدوام كسلهم، وأدركتُ في داخلي رغبة مشابهة لرغبتهم بمقاومة الاتساع الداخلي وإفساح المجال لمساحات جديدة من الفكر والنضج وتحمل المسؤولية. والحال أن الأمر الواقع الذي كنت أتشارك به مع الجنس البشري برمته هو كسلي! وفجأة، عند هذه النقطة، أضحى لقصة الأفعى والتفاحة مغزى ومعنى. يكمن المفتاح دومًا في الحلقة المفقودة: تقترح القصة الشهيرة أن الإله كان يعتاد "التنزه في الحديقة يوميًا عند الظهيرة"، وكان ثمة أقنية مفتوحة للتواصل بينه وبين الإنسان. ولكن، إذا كان الأمر كذلك، لمَ لمْ يقلْ آدم وحواء – معًا أو كل على حدة – قبل أو بعد لقائهما بالأفعى وحوارهما معها: "نحن نودُّ أن نعلم لماذا لا تريد لنا أن نأكل أية ثمرة من ثمار شجرة المعرفة والتمييز بين الخير والشر؛ إننا سعداء للغاية هنا ولا نريد أن نبدو عديمي الامتنان، لكن قانونك المتعلق بهذه المسألة يبدو لنا غير ذي معنى، وسنكون شاكرين للغاية لو تفضلتَ بشرح معنى هذا القانون!". لكنهما لم يقولا هذا بالطبع، وبدلاً من ذلك مضيا قُدُمًا وخرقا القانون الإلهي دون أن يفهما حتى السبب الكامن خلفه، أي دون أن يبذلا جهدًا لتحدي الإله مباشرة أو الشك في سلطته المطلقة أو حتى التواصل معه على مستوى معقول من الرشد والنضج. لقد أنصتا للأفعى؛ بيد أنهما فشلا في تبنِّي جانب الإله من القصة قبل أن يُقدما على التصرف. لمَ هذا الفشل؟ لمَ لم تُتخَذ خطوة ثالثة – وسيطة – بين الإغواء والفعل؟ إن تلك الخطوة المفقودة هي أصل الخطيئة وجوهرها وماهيتها؛ هي خطوة الحوار إذًا. كان بمقدور آدم وحواء أن يقيما حوارًا بين الإله والأفعى، غير أنهما بفشلهما في ذلك أخفقا أيضًا في تبني الجانب الإلهي من المسألة. إنَّ الحوار بين الأفعى والإله هو رمز للحوار بين الخير والشر، الذي يمكن له، بل يجب له، أن يحدث في عقول البشر جميعًا؛ وفشَلنا في إدارة هذا النقاش الداخلي بين الخير والشر (أو، على الأقل، فشلنا في إدارته بإخلاص وعلى أكمل وجه) هو سبب تلك الأفعال "الشريرة" التي تكوِّن الخطيئة. خلال مناقشتهم لحكمة القيام بعمل ما أو عدمها، كثيرًا ما يفشل بنو البشر في تبني جانب الإله من المسألة؛ هم يخفقون في استشارته أو الإصغاء إليه، أي الإصغاء إلى قدرتهم على تمييز الصواب، الكامنة بالفطرة في عقول جميع البشر. نحن نفشل إذًا لأننا كسالى! فالقيام بالحوارات الداخلية يتطلب جهدًا وطاقة ووقتًا. وإذا تناولْنا تلك الحوارات على نحو جدي؛ أي إذا أصغينا إلى" الله في داخلنا"، سنجد أنفسنا مدفوعين – عادة – إلى سلوك السبيل الأصعب، السبيل الذي يتطلب منا جهدًا أكبر، وليس أقل؛ فإدارة الحوار الذي أشرنا إليه تعني فتح الأبواب وتعريض أنفسنا للمعاناة والمشقة، وكل واحد منا – بعدد أكبر أو أقل من المرات – سيحجم عن القيام بعمل كهذا، محاولاً تجنب المهمة العسيرة والمؤلمة. نحن جميعًا – كآدم وحواء، وككل واحد من أجدادنا وممَّن عاشوا قبلنا – كسالى بالفطرة؛ ثمة خطيئة أصلية إذًا بالفعل: إنها كسلنا. وهي حقيقية للغاية، وموجودة داخل كلٍّ منا؛ أطفالاً ومراهقين، راشدين وكهولاً، حكماء وحمقى، موفوري الصحة ومعاقين. ربما يكون بعضنا أقل كسلاً من البعض الآخر، لكننا – جميعًا – كسالى إلى حد ما! فمهما بلغ طموحنا أو طاقتنا، أو حتى حكمتنا؛ سنجد الكسلَ يتوارى في مستوى ما من أعماقنا إذا نظرنا داخلنا بصدق. إنها قوة الإنتروبية: تشدنا نحو الأسفل وتعيق نمونا الروحي. ربما يقول بعض قراء هذه السطور لأنفسهم: "لكنني لست كسولاً! أنا أعمل ستين ساعة في الأسبوع، في أوقات الراحة المسائية كما في أيام العطلة؛ وحتى حين أكون تعبًا آخذ على عاتقي الخروج مع زوجتي، أو أنزِّه أولادي في الحديقة، أو أساعد في أعمال المنزل أو أقوم بأية مهمة أخرى؛ أحيانًا يبدو أن هذا هو كل ما أقوم به: عمل، عمل، عمل!". يمكن لي أن أتعاطف مع أولئك القراء، وأستطيع الإصرار – مع هذا – على أنهم سيجدون الكسل في دخيلتهم إذا بحثوا عنه. ذلك أنَّ للكسل أنْ يتخذ أشكالاً أخرى لا تتعلق بعدد الساعات التي نقضيها في العمل أو نكرِّسها لتحمل مسؤولياتنا تجاه الآخرين. ثمة شكل رئيسي يتخذه الكسل هو الخوف؛ ويمكنني أن استخدم أسطورة آدم وحواء مرة أخرى لإيضاح ذلك. ربما يقول قائل، بالمناسبة، إنَّ الكسل لم يكن هو الذي منع آدم وحواء من سؤال الإله عن الأسباب الكامنة خلف قانونه، بل الخوف: الخشية إزاء عظمة الإله والرهبة منه ومن عقابه. ولكن الخوف كسل أيضًا، إن لمْ يكن كلُّه، فجزء كبير منه. إن جزءًا كبيرًا من خوفنا هو في حقيقة الأمر خوف من تغيير الوضع الراهن، خوف من احتمال فقداننا لما نملك إذا غامرْنا بتغيير وضعنا الحالي. كنت قد شرحتُ، خلال حديثي السابق عن ممارسة النظام على الذات، أن الأفكارَ الجديدة بالنسبة للأشخاص تهديد لهم، لأنهم إذا طبقوها سيضطرون لبذل جهد كبير كي يعدلوا صورتهم عن الواقع، فهُمْ إذًا يهربون تلقائيًا من عمل كهذا؛ وهكذا فغالبًا ما يقاومون بشدة تلك الأفكار بدل أن يحاولوا استيعابها. إن السبب الكامن خلف مقاومتهم هو الخوف. نعم؛ بيد أن أساس هذا الخوف هو الكسل، فهو خوف من العمل الذي يتوجب القيام به. على نحو مشابه، في الجزء المتعلق بالحبِّ تحدثتُ عن مخاطر توسيع داخلنا والاضطلاع بمسؤوليات والتزامات وعلاقات إنسانية جديدة؛ أي أنْ ننحوَ بأنفسنا نحو مستوى أعمق من الوجود. هنا أيضًا تكمن المجازفة في فقدان الوضع الراهن، ويكمن الخوف من العمل الذي يجب القيام به للوصول إلى الوضع الجديد. من المحتمل جدًا، إذًا، أنَّ آدم وحواء كانا خائفين مما قد يحدث لهما إذا وجَّها سؤالاً صريحًا للإله، وهكذا فقد حاولا سلوك الطريق الأسهل، أي الحصول على المعرفة دون بذل جهد، وتمنيا الهروب بتلك المعرفة، لكنهما لم يستطيعا ذلك. إنَّ توجيه السؤال إلى الإله قد يورطنا في القيام بعمل مجهد، والعبرة النهائية من القصة السابقة بأكملها هي أنه ينبغي علينا القيام بذلك العمل! يَعلَم المعالجون النفسيون أن المرضى الذين يأتون لزيارتهم يصابون بالذعر من إجراء تغييرٍ ما في حياتهم، أو، بتعبير أدق، من العمل الذي يتطلبه هذا التغيير، رغم أنهم – أي المرضى – من يطلب ذلك. إن هذا "الذعر–الكسل" هو في الحقيقة ما يقود الأغلبية الساحقة من المرضى (ربما تسعة أشخاص من كل عشرة) إلى ترك العلاج النفسي قبل أن يحقق أهدافه بزمن طويل. إن غالبية هذه الانقطاعات، أو الهروب من العلاج، تحدث خلال الجلسات القليلة أو الأشهر الأولى؛ وعادة ما تكون آلية ذلك الهروب أكثر وضوحًا بكثير لدى الأشخاص المتزوجين الذين يدركون خلال الجلسات القليلة الأولى أن زيجاتهم مضطربة أو غير بناءة على نحو مفزع، وبالتالي فالطريق إلى الصحة النفسية والفكرية ينطوي على أحد خيارين: إمَّا الطلاق أو عملية شاقة ومؤلمة لإعادة بناء الزواج على أسس جديدة تمامًا. يشعر المرضى بالمشكلة غالبًا على نحو غير واع أو تحت شعوري قبل أن يتوجهوا إلى طلب العلاج النفسي، والحقيقة أن الجلسات الأولى لا تفعل شيئًا سوى تأكيد ما كانوا يعلمونه سابقًا ويخشونه. وفي جميع الحالات يتملكهم ذعر من مواجهة ما يبدو أنه صعوبات لا يمكن تحملها، كأن يعيشوا وحيدين أو يعملوا بكدٍّ طيلة أشهر، أو سنوات ربما، مع شركائهم لتحسين علاقتهم بهم وإعادة بنائها جذريًا؛ وهكذا يوقفون العلاج، سواء أكان ذلك بعد جلستين أو بعد عشرين جلسة. قد يتذرعون بحجج على غرار: "يبدو أننا أخطأنا حين ظننا أننا نملك المال الكافي لتحمل نفقات العلاج"، أو أنهم ربما يقرون بصدق: "إنني أخشى ما يمكن أن يجلبه العلاج على زواجي؛ أعلم أن هذا هروب، وربما يتسنى لي يومًا ما أن أمتلك الشجاعة للعودة إلى هنا". وفي جميع الحالات هم يفضلون البقاء في الوضع البائس السابق على بذل الجهود الشاقة التي يكتشفون أنها مطلوبة منهم للخروج من المسارات التي اعتادوا عليها. إنَّ الأشخاص، في المراحل المبكرة من نموهم الروحي، لا يدركون غالبًا حقيقة كسلهم حتى لو تملقوا بالقول: "نعم بالطبع، لديَّ، كأي شخص آخر، لحظاتُ كسلي". ذلك أن الجزء الكسول من الذات – كما الجزءُ الشرير منها – عديمُ الأخلاق ومتخصص في الغدر المُقَنَّع؛ فهو يواري الكسل بجميع طرق العقلَنة المتاحة، التي مازال الجزء الأكثر نضجًا من ذاتنا أضعف من أن يكتشفها أو يقارعها. هكذا إذا، سيردُّ المريض على اقتراح المعالج عليه باكتساب معرفة جديدة فيما يختص بمساحة ما أو جانب داخلي منه: "لقد دُرستْ تلك المساحة من قِبَل كثيرين، ولم يتوصل أولئك لأية أجوبة مقنعة"، أو "أعرف رجلاً حاول القيام بذلك. كان مدمنًا على الكحول وقد حاول الانتحار."، أو "إنني أكبر سنًا من أن يكون بمقدوري تعلُّم حِيَل جديدة"، أو "أنت تحاول دفعي كي أصبح نسخة طبق الأصل عنك، ولا يجدر بالمعالجين النفسيين أن يفعلوا هذا!". إنَّ جميع الأجوبة السابقة وكثيرًا سواها ليست إلا محاولات لتغطية الكسل وإخفائه، صُمِّمتْ لمواراته ليس عن المعالج النفسي بقدر مواراته عن المريض نفسه؛ وتمييز الكسل، كما هو عليه، مع الإقرار بوجوده فينا، هو في الحقيقة بداية بتره واستئصاله. وللأسباب الآنفة الذكر فإن الأشخاص الذين اجتازوا مراحل أكثر تقدمًا على طريق النضج الروحي هم الأكثر إدراكا لكسلهم الذاتي!. الأقلُّ كسلاً، إذًا، هم من يعلَمون أنهم كسالى. وخلال نضالي الشخصي المستمر في سبيل النضج كثيرًا ما أعي في دخيلتي أفكارًا جديدة تميل، كما لو بطبيعتها الذاتية، إلى التسلل والهروب مني؛ أو أشعر أنَّ سُبُلاً بناءة من الأفكار الجديدة تطفو فجأة على السطح، فأُلفي نفسي أسيرُ بخطوات تلقائية على درب جديد. إنني أشك أن تلك الأفكار الخلاقة غالبًا ما تنزلق بعيدًا عني دون أن ألاحظها، فأجول بخاطري مبتعدًا عن تلك السلاسل الفكرية البناءة دونما علم بما أفعل؛ لكنني، حين أعي أن أقدامي تقودني نحو ذلك الاتجاه، أجد نفسي مرغمًا على بذل جهد إرادي لأحث الخطى في عينِ الاتجاه الذي كنت أحاول تجنبه!. المعركة ضد الإنتروبية، إذًا، لا تنتهي؛ ففي دخيلتنا جميعًا جزء معافى وآخر مريض. وبصرف النظر عن درجة إصابتنا بالعصاب أو حتى بالذهان، وحتى لو تملَّكتْنا مشاعر الذعر وسيطر علينا التصلب، ثمة جزء منا، مهما كان صغيرًا، يريد لنا أن ننمو، ويحب التغيير والتطوُّر، يجذبه الجديد والمجهول ويبدي استعدادًا للعمل ولتحمل المخاطر التي ينطوي عليها النمو الروحي. وعلى النحو ذاته، مهما بدَت علينا الصحة، ومهما كنا ناضجين وعلى قدر كبير من التمتع بالنمو الروحي، ثمة جزء منا، مهما كان صغيرًا، لا يريد لنا أن نجهد أنفسنا، بل يتشبث بالماضي وبالمألوف، ويخشى أي تغيير أو جهد، ويتوق إلى الراحة وإلى غياب الألم بأي ثمن حتى لو كان ذلك الثمن هو الركود والعجز والانكفاء. الجانب الصحي يبدو، إذًا، لدى بعضنا، ضئيلاًَ على نحو مثير للشفقة ويتحكم به كسل الجانب المريض ومخاوفه؛ بينما ينمو البعض الآخر بسرعة يصل من خلالها الجانب الصحي (المسيطر) بحماس إلى درجات عليا من النضال في سبيل الصعود والتطور للاقتراب من الألوهة. بيد أن الجانب الصحي يجب أن يبقى حذرًا ويقظًا في مواجهة كسل الجانب المريض (الكامن فينا دومًا). إننا، بني البشر، جميعًا سواسية فيما يتعلق بهذا الأمر. في داخل كلٍّ منا شخصان: أحدهما صحي والآخر مريض، أو دافعان: دافع الحياة ودافع الموت، إذا شئتم. إنَّ كلاً منا يمثل الجنس البشري برمته؛ ففي خبايانا جميعا تكمن غريزة التوق إلى الألوهة والآمال البشرية السامية، تمامًا كما تكمن الخطيئة الأصلية – الكسل: قوة الإنتروبية، الموجودة أبدًا، تشدنا إلى الخلف، نحو الطفولة، باتجاه الرحم والمستنقع اللامتمايز الذي بدأ منه نشوؤنا وتطوُّرُنا. ترجمة: سامر زكريّا *** *** *** ٭ الإنتروبية: الطاقة الفوضوية، غير المستفاد منها.
|
|
|