|
حول الإصدار الخاص
الخامس تعلَّم
أن تكون أكثر ذكاءً... غوته، فاوست لم يكن
إصدار معابر الخاص الخامس، بعنوان سوريون...
وطنيون... وديموقراطيون،
وليد "إلهام" مصادف وعابر، بل هو فكرة
نمت وترسخت مع الأيام، من خلال تطور الأحداث
وتعمُّق النقاشات. وأول
محرض لهذا الإصدار كان في نظري، كأحد
القائمين على معابر، هو ذلك النقد القوي
الذي مازال يوجِّهه إلينا بعضُ الأصدقاء،
ومفاده أننا لا نحلِّق في عالم الفلسفة
والروحانيات إلا هربًا من مواجهة الواقع، فلا
نتجرأ على مناقشة واقعنا السياسي والاجتماعي
– الأليم والمرير – لأننا، كمعظم أبناء
مدينتنا، نخاف من "السلطان"، وبالتالي،
نخاف من التعاطي المباشر والصريح في هذه
الأمور. وهذا
النقد المشروع جعلني أتفكر في عمق، بيني وبين
نفسي في البداية (لأني، كمعظم أبناء مدينتي،
أخاف فعلاً من "السلطان" ومن جبروته!)،
فأتساءل: هل نحن لا نتجرأ فعلاً على الاقتراب
من السياسة، وبالتالي، لا نأبه لما يجري في
مدينتنا وما حولها؟ والجواب
هو قطعًا: لا، أيها الإخوة! فنحن،
وإن كنَّا نخاف من "السلطان" بعض الشيء،
شأننا جميعًا في هذا البلد، نهتم أيضًا
لواقعنا السياسي والاجتماعي. والبرهان الأول
على هذا هو أننا أصدرنا معابر كمنبر
فكريٍّ حرٍّ من دون أن نستأذن أحدًا، وأننا
حافظنا عليها إلى الآن، وخاصة على حريتها
الفكرية واستقلاليتها التي يشهد لها الجميع. فنحن
إذن – وهذه هي الحقيقة – كنا، ومازلنا،
نتعاطى السياسة، لكنْ من منظور آخر،
مختلف عن منظورات الآخرين: منظور ينطلق من
قناعة عميقة، توصَّلنا إليها بعد طول معاناة،
تقول بأن كلَّ واحد منَّا، لأنه "مسؤول
شخصيًّا عن كل
ما يجري في [بلده وفي] العالم"، ملزَم،
بالتالي، أن يتعاطى في شؤون المدينة وفي كلِّ
ما يمت، مباشرةً وعلى نحو غير مباشر، إلى
سياساتها، كالفلسفة والإيديولوجيات
والأديان والسياسة. وهذا
المنظور أردناه لأنفسنا، عن قناعة تامة، غير
عقائدي وغير مذهبي – منظورًا حرًّا
وصادقًا، لا تقيِّده سوى الحقيقة التي
يسعى إليها، منظورًا أفلاطونيًّا نبيلاً هو
واجب كلِّ مواطن في مدينته. وقد
تجلَّى هذا أول ما تجلَّى في شكل واضح حين
اعتمدنا خط اللاعنف خطًّا ثابتًا لموقعنا
وقررنا نشر ثقافته في مدينتنا وفي محيطنا
الوطني والعربي. واللاعنف
كان الدافع الثاني إلى هذا الإصدار الخاص
الخامس. فنحن، من خلال سعينا لنشر ثقافة
اللاعنف في محيطنا، واجهنا الكثير من الصعاب،
كان أولها الجهل الكبير بما يعنيه هذا التوجه
الإنساني النبيل لدى غالبية مثقفينا ونخبنا
الفكرية، ناهيك عن شعوبنا. فتراثنا في هذا
المضمار فقير مع الأسف! وقد
يعترض بعضُهم هنا فيقول إن هذا غير دقيق، لأن
اللاعنف، بحكم كوننا أبناء هذه الأرض، حيث
"التين والزيتون..." وحيث نبعتْ
دياناتُنا الإنسانية الثلاث، يغدو من قبيل
التحصيل الحاصل – وهذا صحيح نظريًّا، ولكن... كان
العنف دائمًا – كتراث وكثقافة – في صلب
ممارساتنا الدينية، لأنه جزء لا يتجزأ من
كتبها المقدسة (وأنا أقصد بتلك الكتب هنا
التوراة والقرآن) التي هي في النهاية كتب
بشرية، ابنة بيئتها وظروفها. ولذلك رافقَنا
العنفُ على مرِّ التاريخ، ولذلك مازالت
آثارُه السلبية راسخةً حتى يومنا هذا من خلال
مختلف أنواع الأصوليات التي تعيث فسادًا
وخرابًا على أرضنا. لكنْ –
وهذا ما نتلمسه حينما نتفكر في عمق وهدوء –
هناك، في المقابل، وجهٌ آخر للحقيقة، إن لم
نقل إرثًا آخر، إرثًا كانت بذوره موجودةً
قديمًا في روحانية دياناتنا، وعاد ليتجسد في
عصرنا الحديث، إرثًا نهضويًّا وإنسانيًّا،
روحانيًّا وفكريًّا و... سياسيًّا بامتياز. لأننا
حين نتفكر في واقعنا – من خلال ما نعيش اليوم
على أرضنا المشرقية التي يسودها العنفُ
ومنطقُه، كما هو واضح في العراق، حيث يكاد
الجنون أن يبلغ حدَّه الأقصى، وحيث هناك مَن
يسمي هذا الجنون ودماره "مقاومة" أو "جهادًا
في سبيل الله"؛ وكذا الأمر في فلسطين
أيضًا، والمرجح أن يتوسع فيشمل المنطقة
برمتها – لا بدَّ من أن نتفكر في سياسة
المدينة. لأننا
حين نتفكر في هذا الواقع في عمق وحيادية، لا
بدَّ لنا من أن نتلمس بأن المسؤولين عن هذا
العنف والدمار كله ليسوا فقط أعداؤنا
الافتراضيون، بل أيضًا وخاصةً – ولنقلها
صراحة – عقائدياتنا المشوَّهة وفهمنا
المتخلف لجوهر أدياننا. فبسبب هذه
العقائديات، وبسبب تخلف فهمنا، عرقلْنا
سيرورة التطور الطبيعي والسليم لبلداننا –
الأمر الذي أوصلنا إلى ما أوصلنا. فقد كان
هناك دائمًا في بلداننا، كما في مختلف بلدان
العالم، طُرُق أخرى أذكى وأرحم وأكثر فعالية.
ونبدأ من هنا... حيث إن
أي متتبِّع محايد لتاريخنا السوري المعاصر لا
بدَّ أن يلحظ أننا، كشعب وكبلد، لم نفُزْ
باستقلالنا نتيجة ثورات دموية أو كفاح مسلح،
بل توصلنا إليه، بشكل أساسي، عن طريق النضال
السياسي – اللاعنفي – الذي عرف قادتُه
الكبار أن يستفيدوا من ظروف تلك الأيام،
الداخلية والدولية، فجيَّروها لصالح قضيتهم.
وهذا ما جعلهم يتعاملون تعاملاً حضاريًّا مع
"عدو" تلك الأيام المفترَض، أي الانتداب
الفرنسي. إن أي
متتبِّع محايد لتاريخنا السوري المعاصر يعرف
أن هذا النضال كان يومئذٍ بقيادة "الكتلة
الوطنية" ورجالاتها الذين جرت، وتجري،
التعمية عنهم بشكل مكثف، إلى حدِّ أنه لم يعد
يتذكرهم إلا قلة من أحياء عاصروا أيامهم
الأخيرة. من هنا
جاءتنا فكرةُ أن نعيد، قدر المستطاع، إحياءَ
ذكرى هؤلاء الرجالات كجزء أساسي من تراث جميل
ومشرِّف لا يجوز أن يغمره النسيان، خاصةً أن
تاريخ هؤلاء كان، بشكل عام وأساسي، وعلى
الرغم من أخطائهم كبشر، طريق عقل ومبدأ، طريق
حداثة وديموقراطية وتسامح. ولقد
قررنا البدء بأربعة منهم، هم السادة: هاشم
الأتاسي، شكري القوتلي، فارس الخوري، وجميل
مردم بك – رحمتْهم الألوهة جميعًا –، على أن
نستكمل الحديث عن الآخرين لاحقًا، مشيرين إلى
أنهم جميعًا، على الرغم من الخلافات الطبيعية
فيما بينهم، إنما كانوا يسعون إلى تأسيس
مشروع دولة عصرية وديموقراطية. وهذا المشروع
كان هو الأساس وهو الأهم، على الرغم من أنه لم
يُتَحْ لهم، لأسباب وعوامل مختلفة قد نختلف
على تقويمها، إتمامُه مع الأسف، لأنه أيضًا –
وهي كلمة حق تقال... جميع
العُقَّل، من مختلف التوجهات، إنما يجدون
أنفسهم اليوم مجبَرين أن يعترفوا وأن يقبلوا،
وإنْ من منطلق واقع قد يبدو اليوم مشوهًا، أن
ما كان يسعى إليه هؤلاء إنما كان، ومازال، هو
الأصح. *** *** ***
|
|
|