|
منقولات روحيّة
لطالما أسرجتُ خيلَ الهمَّة لسنين خَلَتْ، أعدو بها نحو سهوبك التي لا تُحَدُّ، يا مولاي. ولطالما وَجَفَتْ خيلي وكَبَتْ، ووقفتْ وقفةَ المتهيِّب عن مغامرة كهذه! وكنتُ كلما أفردتُ أشرعتي لأخوض غمارَ بحرك، رأيتُها تنطوي من جديد، تشكو العجزَ والتقصير. فمَن أنا أمامك، أيها الهرم المتطاول حدَّ السماء؟! وأية جرأة محاولتي الإحاطة بالمحيط؟!
النص التالي مدخل جيد إلى رؤية كريشنامورتي للتأمل. ففيه، كما في محاضراته وكتاباته الأخرى، يركز بلا هوادة على أهمية الانتباه الواعي إلى حياتنا وتصرفاتنا اليومية، مشددًا، على غرار سقراط، أن "حياة لا يُفحَص عنها لا تستحق أن تعاش" وأن حياةً لا نظام فيها يضاهي في صرامته منطق الرياضيات حياةٌ تخلو من أساس حقيقي للتأمل. وهو، إذ ينفي المفهوم التقليدي للتأمل كسيطرة على الفكر، أو كمنهج يُتَّبَع، يقول: "لا بدَّ من معرفة تامة بالنفس. [...] وإذن فلا منهج ثمة، لا طريقة، لا تركيز – والذهن الذي فهم هذا كلَّه عبر النفي يصير فائق السكون سكونًا طبيعيًّا." فهلاَّ قام القارئ معنا برحلة الاكتشاف المذهلة هذه؟!
صاغ كبارُ الشعراء الفرس الكثيرَ من المنظومات البديعة، أشهرها على الإطلاق منظومة منطق الطير لفريد الدين العطار. عاش صاحبُها بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وألَّف أعمالاً عديدة، قيل إن عددها مساوٍ لعدد سور القرآن الكريم؛ إلا أن هذا العدد يبقى رمزيًّا. وقد أحصى البحاثة المختصون الكثير من أسماء الكتب التي نُسِبَتْ إلى الشاعر النيسابوري؛ والثابت أن الأعمال الصحيحةَ النَّسَبِ إليه تسعةُ كتب تُعتبَر من قمم الأدب الروحاني العالمي. أعظم هذه الأعمال وأكثرها ذيوعًا كتاب منطق الطير؛ وهو منظومة شعرية صوفية رمزية، فاق عددُ أبياتها الأربعة آلاف وستمائة بيت، محورُها رحلةٌ طويلة تقوم بها الطيور المختلفة بقيادة الهدهد بحثًا عن سلطان لها هو السيمُرغ. وفي هذه المنظومة التي تضج بالرموز، ترمز الطيور إلى سالكي الطريق إلى الحضرة الإلهية، فيما يرمز الهدهد إلى شيخ المريدين؛ أما السيمُرغ المنشود فهو [...] السلطان المطلق الدائم، ومائة ألف عالَم، مليئة بالجُند والحَشَم، ليست إلا نملة على باب هذا السلطان الأعظم [...]. (ص 417)
اكتشفتُ مؤلَّفات روبير لنسن في العام 1974 من خلال كتابه الزِنْ الصادر عن منشورات مارابو الشعبية. كنت آنذاك مقيمًا في دمشق، والأستاذ ندره اليازجي، أول مَن أدخلني إلى مجال الروحانية، كان يشدد على ضرورة القيام بـتأليف بين العقل والعلم وبين الخبرة الروحية. كنت إذن متقد الاهتمام بكلِّ ما يمت بصلة إلى هذا المجال؛ وقد علمت أن لنسن يتعمق فيه منذ الثلاثينيات وأنه كان يصدر مجلة الوجود الحر التي تعالج هذه المسائل.
|
|
|