|
الـذِّهـن في الـتَّـأمُّـل
النص التالي مدخل جيد إلى رؤية كريشنامورتي للتأمل. ففيه، كما في محاضراته وكتاباته الأخرى، يركز بلا هوادة على أهمية الانتباه الواعي إلى حياتنا وتصرفاتنا اليومية، مشددًا، على غرار سقراط، أن "حياة لا يُفحَص عنها لا تستحق أن تعاش" وأن حياةً لا نظام فيها يضاهي في صرامته منطق الرياضيات حياةٌ تخلو من أساس حقيقي للتأمل. وهو، إذ ينفي المفهوم التقليدي للتأمل كسيطرة على الفكر، أو كمنهج يُتَّبَع، يقول: "لا بدَّ من معرفة تامة بالنفس. [...] وإذن فلا منهج ثمة، لا طريقة، لا تركيز – والذهن الذي فهم هذا كلَّه عبر النفي يصير فائق السكون سكونًا طبيعيًّا." فهلاَّ قام القارئ معنا برحلة الاكتشاف المذهلة هذه؟! المترجم ***
ما هو عيشنا اليومي؟ إذا كنت تطيق النظرَ إلى حياتنا اليومية، إذا كنت تقدر على رصدها، فما هي فعليًّا؟ في وسع المرء أن يرى أن في ذلك العيش قدرًا كبيرًا من التشوش، قدرًا كبيرًا من الامتثال والتناقض، حيث كل إنسان يناوئ إنسانًا آخر، حيث أنتَ في عالم الأعمال متأهب لحزِّ عنق سواك. سياسيًّا، اجتماعيًّا، خُلقيًّا، هنالك قدر كبير من التشوش؛ وحين تنظر إلى حياتك أنت، ترى أنها، من لحظة ولادتك حتى موتك، سلسلة من النزاع. لقد أمست الحياة ساحةَ معركة. أرجوك أن ترصد الأمر – ليس لأنك يجب أن تتفق مع المتكلم أو تختلف معه، بل ارصدْه وحسب، راقبْ فقط عيشك اليومي الفعلي. وحين ترصد على هذا النحو فعلاً، لا مندوحة لك من رؤية ما يجري فعليًّا: كيف يكون المرء يائسًا، وحيدًا، شقيًّا، في نزاع، واقعًا في شَرَك التنافس، العدوان، الفظاظة، العنف. هذه فعليًّا حياتنا كلَّ يوم؛ وهي ما نسميه العيش. وإذ لا نتمكن من فهمها، أو حلِّها، أو تخطِّيها، نفرُّ منها إلى إيديولوجيا ما، إلى إيديولوجيا بعض الفلاسفة الأقدمين، أو المعلمين الأقدمين، أو الحكمة القديمة، ونظن أننا بفرارنا من الفعليِّ وجدنا حلاًّ لكلِّ شيء. ولهذا فإن الفلسفة، المُثُل، أشكال شبكات الفرار المتنوعة الكثيرة بعينها، لم تحل مشكلاتنا ولا بأية طريقة من الطرق. فنحن بالضبط ما كنَّا إياه قبل خمسة آلاف عام أو تزيد: متبلِّدون، تكراريون، مريرون، غاضبون، عنيفون، عدوانيون، مع ومضة جمال أو سعادة عَرَضية ما، مرعوبون دومًا من ذلك الشيء الأوحد الذي ندعوه الموت. وحياتنا اليومية لا جمال فيها، لأن معلِّميكم الدينيين وكتبكم أيضًا قالوا: "تجرَّدْ من الرغبات، كُنْ عديم الرغبة، لا تنظر إلى امرأة لأنها قد تغويك، ولأنك، كي تجد الله أو الحقيقة، لا بدَّ أن تكون متعففًا." وحياتنا اليومية معاكسةٌ لأقوال المعلمين كافة. فنحن فعليًّا ما نحن: بشر تافهون، صغار، ضيقو الأذهان، مرعوبون. ومن دون تغيير ذلك، لا قيمة مطلقًا لأيِّ مقدار من بحثكم عن الحقيقة أو إطنابكم المتعالِم في الكلام أو شرحكم لكتاب الگيتا ولسائر كتبكم المقدسة التي لا تُحصى. لذا يحسن بك أن تلقي بكتبك المقدسة كلِّها بعيدًا وتبدأ من جديد لأنها، بشارحيها، ومعلِّميها، ومرشديها، لم تأتِك بالاستنارة. فمرجعيتها، ومسلكيَّتها القسرية، وروادعها، لا معنى لها على الإطلاق. لذا يحسن بك أن تضعها كلها جانبًا وتتعلم من نفسك – إذ إن فيها تكمن الحقيقة، وليس حقيقة سواك. إذن، هل من الممكن، أولاً، تغيير حياتنا؟ لأن حياتنا فوضوية، حياتنا مفتتة – كنْ شيئًا ما في المكتب، اذهبْ إلى المعبد، إذا كنت ما تزال تميل إلى هذه الأمور، ثم كنْ شيئًا مختلفًا كليًّا مع الأسرة، وأمام مسؤول ضخم تصير كائنًا بشريًّا مرعوبًا، يائسًا، متملقًا ذليلاً. فهل في وسعنا أن نغير هذا كلَّه؟ لأنه من دون تغيير حياتنا اليومية، يفتقد سؤالُك عن ماهية الحقيقة، أو عن وجود إله أو عدم وجوده، أيَّ معنى إطلاقًا. نحن بشر مفتتون، محطَّمون، وفقط حين نكون كيانًا إنسانيًّا كليًّا، صحيحًا، تامًّا، ثمة إمكانية للوقوع على ذلك الشيء اللازمني. إذن، يجب علينا أولاً أن ننظر إلى حياتنا. فكيف تنظر إلى حياتك؟ رجاءً، تابعْ هذا قليلاً. سوف نبسِّطه قدر المستطاع لأنه مشكلة شديدة التعقيد جدًّا. والمشكلة الوجودية المعقدة جدًّا لا بدَّ من مقاربتها في منتهى البساطة، وليس من خلال نظرياتكم وآرائكم وأحكامكم كلِّها، لأنها لم تُجْدِ على الإطلاق. قَناعاتكم الدينية برمَّتها لا معنى لها. لذا لا بدَّ لنا من القدرة على النظر إلى هذه الحياة التي نعيشها كلَّ يوم؛ لا بدَّ لنا من القدرة على رؤيتها كما هي بالضبط. وتلك هي الصعوبة التي ستواجهنا، وأعني، الرَّصْد. فماذا تعني كلمة "رَصْد" تلك؟ ليس هناك فقط الإدراك الحسِّي بالعين، كأنْ ترى هذه البوگنفيلية [زهرة "الجهنمية"]. رجاءً أن تتابع هذا خطوة خطوة. إذ ذاك، وأنت ترصد ذلك اللون، تصنع صورة، تكون لديك أصلاً صورة؛ ثم تخصِّصْ اسمًا لها. تستحبها أو تمقتها، فتكون لديك أفضليات. وإذن فمن خلال الصور التي عندك عن تلك الزهرة، ترى. فأنت لا ترى فعليًّا، بل إن ذهنك يراها أكثر من العين. صحيح؟ رجاءً افهموا حقًّا هذا الأمر الشديد البساطة: واقع أننا لا نرى الطبيعة فقط بعيون راكمتْ معرفةً عن الطبيعة، وتاليًا، من خلال صورة، بل ننظر إلى البشر كذلك من خلال مختلف صنوف قناعاتنا وآرائنا وأحكامنا وقيمنا. مثال ذلك: أنت هندوسي، والآخر مسلم؛ أنت كاثوليكي، والآخر پروتستانتي أو شيوعي، وهكذا دواليك. إذن فأنت حين تنظر، حين ترصد حياتك، ترصدها من خلال الصورة، من خلال القناعات التي سبق لك أن شكَّلتَها. تقول: "هذا جيد" أو "هذا سيء"، أو: "هذا يجوز وذاك لا يجوز." إذن فأنت تنظر، ترصد، من خلال الصور أو القناعات التي شكَّلتَها. ولهذا فأنت فعليًّا لا تنظر إلى الحياة. هل تفهم هذا الأمر البسيط جدًّا؟ لذا فأنت، لكي تنظر إلى حياتك كما هي، لا بدَّ لك من حرية الرصد. يجب عليك ألا تنظر إليها كهندوسي، كبيروقراطي، كربِّ أسرة، بل عليك أن تنظر إليها في حرية. وتلك هي الصعوبة في الأمر: أنت تنظر إلى حياتك – اليأس، الألم المبرِّح، الكرب، هذا الصراع الهائل – بعينين قالتا: "لا بدَّ من تغيير هذا إلى شيء آخر"، "لا بدَّ من تحويل هذا لجعله أجمل". حين تفعل ذلك، لا تكون على علاقة مباشرة بما ترى. صحيح؟ هل أنت تتابع هذا؟ – ليس التفسير الذي يقدِّمه المتكلم، بل هل أنت ترصد فعليًّا حياتك، ترصد كيفية نظرك إليها؟ أنت تنظر إليها من خلال صورتك، من خلال قناعتك، وبالتالي، لا تنظر إليها؛ أنت تنظر عبر الصور الماضية، وبالتالي، لا تدخل في تماس مباشر معها. إذن، فأنت حين تنظر إلى الحياة، أي إلى حياتك اليومية – ليس الحياة النظرية، ليس الحياة المجردة التي تقول فيها: "جميع البشر واحد" – ترى أنك تنظر من خلال معرفتك الماضية، من خلال الصور جميعًا، التراث النَّقلي، تراكُم الخبرة البشرية برمَّتها، الأمر الذي يحول بينك وبين النظر. ذلك أمر لا بدَّ من إدراكه: حتى ترصد، فعليًّا، حياتَك، عليك أن تنظر إليها نظرة جديدة، أي أن تنظر إليها من غير أية إدانة، من غير أية مُثُل، من غير أية رغبة في قمعها أو في تغييرها. أن ترصد وحسب! فهل أنت فاعل هذا؟ هل أنت تستعمل المتكلم مرآةً ترى فيها حياتَك أنت؟ ولأنك تراها من خلال قناعات، فهذا يحول بينك وبين النظر إليها نظرًا مباشرًا والدخول في تماس معها. فهل أنت فاعل هذا؟ ولا أسألك إن كنت ستفعله حين تعود إلى البيت، لأنك إنْ لم تفعله الآن لن تفعله لاحقًا. وإذا لم تكن تفعله فلا تكترثْ بالاستماع. انظرْ إلى السماء، انظرْ إلى تلك الشجرة، انظرْ إلى جمال الضوء، انظرْ إلى الغيوم بمنحنياتها، برقَّتها. إذا نظرتَ إليها من دون أية صورة، تكون قد فهمتَ حياتك أنت. لكنك تنظر إلى نفسك كراصد وإلى حياتك كشيء يقتضي الرصد. هنالك فصل بين الراصد وبين المرصود: أي أنك تنظر إلى حياتك كراصد، كشيء منفصل عن حياتك. صحيح؟ إذن، هناك فصل بين الراصد وبين المرصود. هذا الفصل بعينه هو جوهر كلِّ نزاع، جوهر كلِّ صراع، ألم، خوف، يأس. أي أنه حين يكون فصلٌ بين البشر – فصل القوميات، فصل الأديان، الانقسامات الاجتماعية – لا مفرَّ من النزاع. هذا قانون؛ هذا هو الصواب، المنطق. هناك پاكستان من جانب والهند من الجانب الآخر، يتعاركان. أنت برهمي وسواك ليس برهميًّا، وهناك كراهية، انقسام. وإذن فذلك الانقسام مستظهَرًا، بكلِّ نزاعه، هو عينه الانقسام الداخلي بوصفه الراصد والمرصود. فهلاَّ فهمتَ هذا؟ إذا لم تفهمه لن تستطيع أن تمضي قُدُمًا، لأن ذهنًا في نزاع ليس في مكنته يومًا أن يفهم ماهية الحقيقة؛ لأن ذهنًا في نزاع ذهنٌ معذَّب، ذهنٌ ملتوٍ، ذهنٌ مشوَّه. فكيف يمكن لذهن كهذا أن يكون حرًّا لرصد جمال الأرض أو جمال السماء، الشجرة، جمال طفل، أو جمال امرأة أو رجل، أو جمال الحساسية الفائقة وكل ما تنطوي عليه؟ إذن، من دون فهم هذا المبدأ الأساسي، ليس كمثال، بل كواقع، لا مناص لك من الوقوع في النزاع. وإذن فالمسألة هي: ما هو هذا الراصد، الراصد الذي فَصَلَ نفسه عن المرصود؟ أرجوكم، هذا ليس فلسفة، ليس قضية فكرية أو شيئًا يمكن لكم مناقشته، إنكاره، الاتفاق أو الخلاف عليه. هذا شيء عليك أن تراه بنفسك، ولهذا فهي مسألتك أنت، لا مسألة المتكلم. أنت ترى أنه حين تكون غاضبًا، في لحظة الغضب، لا يوجد راصد؛ في لحظة اختبار أمر ما لا يوجد راصد. حين تنظر إلى غروب الشمس ذاك – وغروب الشمس ذاك شيء شاسع – حين تنظر إليه، في تلك اللحظة لا يوجد راصدٌ يقول: "أنا أرى الغروب." الراصد يأتي بعد ثانية. كذلك حين تكون غاضبًا: في لحظة الغضب لا يوجد راصد، لا يوجد مختبِر، بل توجد فقط حالة الغضب تلك؛ وبعد ثانية، يأتي الراصد ليقول: "ليتني لم أغضب"، أو يقول الراصد: "كنت على حق حين غضبت." بعد ثانية – وليس في لحظة الغضب – تكون بداية الفصل. هل تفهم؟ إذن، كيف يحدث هذا؟ في لحظة الخبرة، هناك غياب كلِّي للراصد. فكيف يتفق للراصد بعد ثانية أن ينوجد؟ أنت مَن تطرح السؤال، ولست أنا، ليس المتكلم. اطرحْه على نفسك ولسوف تجد الجواب. هل تفهم، يا سيدي؟ لا مناص لك من العمل لأن هذه حياتك أنت. وإذا قلتَ: "طيب، لقد تعلمتُ شيئًا من المتكلم"، إذ ذاك فأنت لم تتعلم شيئًا على الإطلاق. لقد جمعتَ بضع كلمات وحسب، وتلك الكلمات القليلة مجتمعةً تصير الفكرة. الفكر المنظَّم هو الفكرة، ونحن لا نتكلم عن أفكار، لا نتكلم عن فلسفة جديدة. فالفلسفة تعني محبة الحقيقة في الحياة اليومية، لا حقيقة ذهن متفلسف يبتكر أفكارًا. وإذن، كيف يتفق لهذا الراصد أن ينوجد؟ حين تنظر إلى هذه الزهرة، في اللحظة التي ترصدها عن كثب، لا يوجد راصد، يوجد نظرٌ وحسب. ثم تبدأ بتسمية تلك الزهرة. إذ ذاك تقول: "ليتها كانت عندي في حديقتي أو في بيتي." إذ ذاك تكون أصلاً بدأتَ بتشكيل صورة عن تلك الزهرة. صانع الصور، إذن، هو الراصد. صحيح؟ هل أنت تتابع هذا كلَّه؟ راقبْه في نفسك، أرجوك. إذن فالصورة وصانع الصور هما الراصد، والراصد هو الماضي. "الأنا"، بوصفها الراصد، هي الماضي، "الأنا" هي المعرفة التي راكَمْتُها: معرفة الألم، الأسى، العذاب، الكرب، اليأس، الوحدة، الغيرة، والجزع الرهيب الذي يكابده المرء. هذه هي "الأنا" برمَّتها، التي هي معرفة الراصد المتراكمة، التي هي الماضي. صحيح؟ إذن فأنت حين ترصد، ينظر الراصد إلى تلك الزهرة بعيون الماضي. وأنت لا تعرف كيف تنظر من دون الراصد، وبالتالي، تستجلب النزاع. إذن فسؤالنا الآن هو: هل تستطيع أن تنظر، ليس إلى الزهرة وحسب، بل إلى حياتك، إلى بَرَحك، إلى يأسك، أساك – هل تستطيع أن تنظر إليه دون تسميته، دون أن تقول لنفسك: "يجب أن أتخطَّاه، يجب أن أقمعه" – أن تنظر إليه وحسب من دون الراصد؟ افعلْ ذلك، أرجوك، ونحن نتكلم الآن. أي خُذْ ميلك الخاص، أو خُذِ الحسد. أنت تعلم حقَّ العلم ما هو الحسد، أليس كذلك؟ هذا أمر مألوف جدًّا عندك. الحسد هو المقارنة، قياس الفكر، مقارنة ما أنت بما ينبغي أن تكونه، أو بما تود أن تصيره. إذن فأنت تعلم ما هو الحسد – فانظر إليه وحسب. أنت تحسد جارَك الذي يملك سيارة أكبر، أو بيتًا أفضل. أي أنك تقارن نفسَك به، وبهذا يولد الحسد؛ أنت تعرف ماهية ذلك الشعور. فهل في مقدورك أن تنظر إلى ذلك الشعور من دون أن تقول إنه صواب أو خطأ، من دون تسميته، من دون أن تقول إنه الحسد، بل أن تنظر إليه من دون أية صورة؟ إذ ذاك فإنك تتخطَّاه. فبدلاً من أن تتصارع والحسد – أنك يجب أن تكون أو لا تكون، أنك لا بدَّ أن تقمعه – من دون أن تتكبد ذلك الصراع كلَّه، ارصدْ غضبَك، حسدَك، من غير أن تسمِّيه. لأن التسمية هي حركة الذاكرة الماضية التي تبرر أو تدين. أما إذا استطعت أن تنظر إليه من غير تسمية، إذ ذاك فستحرص على أن تتخطاه. وإذن فلحظة تعرف إمكانية تخطِّي "الموجود" تمتلئ بالطاقة. صحيح؟ المرء الذي لا يعرف كيفية تخطِّي "الموجود"، لأنه لا يعرف كيفية التعامل معه وبالتالي يخاف، فيهرب، إذ يرى تعذُّره – شخص كهذا يخسر طاقة. إذا كان عندك مشكل، واستطعتَ حلَّه، إذ ذاك تكون لديك طاقة. رجلٌ يتخبط في ألف مشكلة ولا يعرف كيف يتعامل معها يخسر طاقته. فبالطريقة نفسها انظر إلى حياتك، ما هي عليه: بشعة، تافهة، سطحية، خارقة العنف – هذه كلها كلمات لوصف ما يجري فعليًّا. ليس العنف في الجنس وحسب، بل والعنف الملازم للسلطة والمنصب والنفوذ. انظر الآن إلى الأمر بعينين لا تتقافز فيهما الصورُ على الفور. تلك هي حياتك، إذن. فانظر إلى حياتك التي فيها ما تسمِّيه حبًّا. ما هو الحب؟ نحن لا نناقش النظريات عما يجب على الحب أن يكونه. نحن نرصد ما نسمِّيه حبًّا: "أحب زوجتي." لا أدري ما تحبون، وأشك إن كنتم تحبون أي شيء على الإطلاق! هل تعرفون ما يعنيه الحب؟ هل الحب هو اللذة؟ هل الحب هو الغيرة؟ هل يستطيع رجلٌ طَموح أن يحب؟ – قد يضاجع زوجته وينجب بضعة أطفال. والرجل المصارع ليصير شخصًا هامًّا في السياسة أو في عالم الأعمال، أو في العالم الديني، حيث يود أن يصير قديسًا، حيث يود أن يصير عديم الرغبات – ذلك كله جزء من الطموح، العدوان، الرغبة. هل يستطيع رجل تنافسي أن يحب؟ وأنتم جميعًا تنافسيون، ألستم كذلك؟ – وظيفة أفضل، منصب أفضل، منزل أفضل، أفكار أنبل، صور أكمل عن نفسك – أنتم تعرفون كلَّ ما تعانون. فهل هذا هو الحب؟ هل يمكن لك أن تحب وأنت تكابد هذا الاستبداد كلَّه، حين تستطيع أن تسيطر على زوجتكَ أو أنتِ على زوجكِ أو على أطفالك؟ حين تسعى إلى السلطة، هل ثمة إمكان للحب؟ وإذن فبنفي ما ليس حبًّا يكون الحب. هل تفهمون، أيها السادة؟ عليكم أن تنفوا كل شيء ليس حبًّا. أي: لا طموح، لا تنافس، لا عدوان، لا عنف، لا بالقول ولا بالفعل ولا بالفكر. حين تنفي ما ليس حبًّا، إذ ذاك تعرف ماهية الحب. والحب شيء شديد، شيء تشعر به شعورًا قويًّا جدًّا. الحب ليس اللذة. لذا فعلى المرء أن يفهم اللذة – لا أن يرمي إلى حبِّ أحدهم، بل أن يفهم اللذة. فإذا استطعت أن ترصد حياتَك ستكتشف بنفسك ماهية الحب. لأن ذلك ينطوي على شغف عظيم. ليس شهوة، بل شغف. كلمة "شغف" أصلها من "شُغاف" أي وجع شَغاف القلب. فهل تعرف ما يعنيه الوجع؟ – ليس كيفية الهروب من الألم أو التصرف حيال الألم، بل التألم، مكابدة وجع هائل في الباطن. إذ ذاك، حين تتوقف كل حركة فرار من ذلك الوجع، ينبع من ذلك شغفٌ عظيم، هو أقصى الحب. وعليك أيضًا أن تجد ماهية الموت، ليس في الدقيقة الأخيرة، ليس حين تكون مريضًا، غائبًا عن الوعي، سقيمًا، غير قادر على الوضوح، – فهذا يحصل للجميع: الشيخوخة والمرض والموت، – بل وأنت شاب، نضر، نشيط، تذهب إلى مكتبك البغيض كلَّ يوم، لتؤوب إلى سجن أسرتك الشخصي الصغير. جِدْ، وأنت نشيط وحيٌّ، معنى الموت. بنية الجسم تمضي فعلاً، تبلى، كما في الشيخوخة – وهذا طبيعي. وفي الإمكان أن تدوم مدة أطول، بحسب أسلوب العيش الذي يتخذه المرء. إذا كانت حياتك ساحة معركة من اللحظة التي تولد فيها إلى أن تموت فإن جسمك يبلى في سرعة أكبر. قلبك يعاني التوتر، ومن خلال التوتر الانفعالي يضعف القلب. هذه حقيقة مؤكدة. وحين يكون المرء نشيطًا، لا بدَّ من زوال الخوف حتى يكتشف معنى الموت والمغزى منه. وغالبيتكم ترتعب من الموت، ترتعب من ترك الأشياء التي عرفتموها، ترتعب من مغادرة أسرتكم، الأشياء التي راكمتموها، من التخلي عن معرفتكم، كتبكم، مكتبكم – ما جمعتموه. والذهن، الذي هو الفكر، إذ لا يعرف ما سوف يحدث حين تموتون، يقول: "لا بدَّ من وجود نوع مختلف من الحياة، لا بدَّ من استمرار الحياة في صورة ما" – "حياتي"، حياتكم الفردية. ومن ثم تشيدون بنيان الاعتقاد بالعَوْد للتجسد [التقمص] برمَّته، ألا تفعلون؟ هل سبق لكم أن نظرتم في ماهية التجسد؟ ما هو الشيء المقيَّض له أن يولد من جديد في الحياة المقبلة؟ – مراكمتكم للمعرفة كلها، أفكاركم كلها، النشاطات كلها، الخير أو الشر أو الأشياء القبيحة التي فعلتموها كلها. لأن ما تفعلونه الآن سوف يرتد عليكم في العمر المقبل. صحيح؟ ألا تؤمنون بهذا كلِّه؟ ما يعني أن ما يهم، إذا كنتم تصدِّقونه حقًّا، هو ما تفعلون الآن، كيف تتصرفون الآن، ما هو سلوككم الآن، لأنكم في العمر المقبل سوف تؤدون ثمنه – على افتراض أنكم مؤمنون بهذا كله، مؤمنون بـكرما. إذا كنتَ واقعًا حقًّا في شِباك هذا المعتقد، إذ ذاك يجب أن تولي انتباهًا تامًّا لحياتك الآن، لما تفعل، لما تفكر فيه، لكيفية معاملتك للآخر. لكنك لا تؤمن إيمانًا بهذه الشَسَاعة، بهذا العمق. إيمانك مجرد سلوى، مهرب، كلمة عديمة القيمة. لذا فاكتشفْ ما يعنيه الموت، ليس جسمانيًّا، بل عن كلِّ ما هو معلوم – عن أسرتك، عن تعلقك، عن سائر الأشياء التي راكمْتَها: الملذات المعلومة، المخاوف المعلومة؛ مُتْ – بحيث يصبح الذهنُ نضرًا، فتيًّا، وبالتالي، بريئًا. إذن، هناك تجسد، ليس في الحياة التالية، بل في اليوم التالي. التجسد في اليوم التالي أهم بما لا يقاس منه في المستقبل، بحيث يكون ذهنك مدهش البراءة. كلمة "براءة" تعني ذهنًا معافى، صحيحًا من كلِّ علَّة. هل تفهم، سيدي، جمال الأمر؟ – ذهن صحيح أبدًا من العلل. ومثل هذا الذهن ذهنٌ بريء. لذا فإن الذهن المعتل لا بدَّ أن يموت عن العلل كلَّ يوم، بحيث يستيقظ في الصباح التالي عن ذهن نضر، رائق، لا شائبة فيه، بريء من كلِّ الندوب. تلك هي طريقة العيش الحق. إنها ليست نظرية؛ وعليك أن تقوم بها أنت. لذا لا بدَّ من فهم المرء نفسه فهمًا تامًّا، لا بدَّ من وجود هذا النظام الذي ليس عادةً، الذي ليس ممارسة، الذي ليس تربية لأية فضيلة. الفضيلة تنوجد كزهرة طيبة حين تفهم الفوضى في حياتك. فمن الفوضى يأتي النظام. وإذ ذاك يمكن لك أن تبدأ في تقصِّي ما سعى الإنسان في طلبه طوال قرون متوالية. ما فتئ الإنسان يطلبه، محاولاً اكتشافه. لكنك لا تستطيع أصلاً أن تفهمه أو تقع عليه إذا لم تكن قد وضعتَ الأساسَ في حياتك اليومية. وإذ ذاك يمكن لنا أن نسأل ما هو التأمل، ليس كيفية التأمل أو ما هي الخطوات الواجب اتخاذها للتأمل، أو ما هي المناهج والطرق الواجب اتباعها للتأمل، لأن المناهج كلَّها، الطرق كلَّها، تجعل الذهن آليًّا. أتفهم، يا سيدي؟ التأمل هو أروع الأشياء إنْ كنت تعرف معنى ذهن يكون "في التأمل" – وليس كيفية التأمل. سوف نرى ما ليس التأمل. أتفهم؟ إذ ذاك سوف تعرف ما التأمل وما ليس إياه. عبر النفي، تقع على الإيجابي؛ لكنك إذا سعيتَ وراء الإيجابي، سيقودك إلى طريق مسدود. نقول إن التأمل ليس ممارسة أيِّ منهج. تعرفون أناسًا يجلسون وينتبهون إلى أصابع أقدامهم، أو أجسامهم، أو حركاتهم – المران، المران، المران؛ الآلة تستطيع أن تفعل ذلك. لذا لا يمكن للمناهج أن تكشف عن جمال الشيء المسمَّى بالتأمل، عن عمقه، وعن روعته. كذلك ليس التأمل هو التركيز. حين تركِّز أو تحاول أن تركز، ففي ذلك التركيز هناك الراصد والمرصود. وإذن، لا منهج ثمة، لا طريقة، لا تركيز – والذهن الذي فهم هذا كلَّه عبر النفي يصير فائق السكون سكونًا طبيعيًّا. وفي ذلك، ليس ثمة راصد حقق نوعًا ما من الصمت. ففي ذلك الصمت هناك إخلاء للذهن من الماضي كلِّه. وما لم تفعل هذا في حياتك اليومية، لن تفهم روعته، لطافته، جماله. عليك به، ولا تكتفِ بتكرار ما يقوله المتكلم. فإذا كررت، يصير الأمر پروپاگاندا [دعاية] – وهي كذبة. وإذن، حين يتصف الذهن بهذا النظام التام، النظام الرياضي – وهذا النظام انوجد إيجادًا طبيعيًّا عبر فهم الفوضى في حياتنا اليومية – إذ ذاك فإن الذهن يصير خارق السكون. ولهذه السكينة فضاء شاسع، وليست هدوء غرفة صغيرة. إنها ليست هدوء أو صمت انتهاء الضجيج. الذهن الذي فهم مشكلة الوجود هذه برمَّتها – الحب والموت والعيش، جمال السماوات، الأشجار، الناس، الجمال الذي أنكرَه جميعُ مرشديكم الدينيين (ولهذا تدمرون أشجاركم، تدمرون الطبيعة) – سيعرف ما يحدث في ذلك الصمت. لا أحد يستطيع أن يصفه. مَن يصفه لا يعرف ما هو. أمر اكتشافه منوط بك أنت. بنگلور، 31 كانون الثاني 1971 *** *** *** ترجمة: ديمتري أ. |
|
|