|
منقولات روحيّة
صاغ كبارُ الشعراء الفرس الكثيرَ من المنظومات البديعة، أشهرها على الإطلاق منظومة منطق الطير لفريد الدين العطار. عاش صاحبُها بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وألَّف أعمالاً عديدة، قيل إن عددها مساوٍ لعدد سور القرآن الكريم؛ إلا أن هذا العدد يبقى رمزيًّا. وقد أحصى البحاثة المختصون الكثير من أسماء الكتب التي نُسِبَتْ إلى الشاعر النيسابوري؛ والثابت أن الأعمال الصحيحةَ النَّسَبِ إليه تسعةُ كتب تُعتبَر من قمم الأدب الروحاني العالمي. أعظم هذه الأعمال وأكثرها ذيوعًا كتاب منطق الطير؛ وهو منظومة شعرية صوفية رمزية، فاق عددُ أبياتها الأربعة آلاف وستمائة بيت، محورُها رحلةٌ طويلة تقوم بها الطيور المختلفة بقيادة الهدهد بحثًا عن سلطان لها هو السيمُرغ. وفي هذه المنظومة التي تضج بالرموز، ترمز الطيور إلى سالكي الطريق إلى الحضرة الإلهية، فيما يرمز الهدهد إلى شيخ المريدين؛ أما السيمُرغ المنشود فهو [...] السلطان المطلق الدائم، ومائة ألف عالَم، مليئة بالجُند والحَشَم، ليست إلا نملة على باب هذا السلطان الأعظم [...]. (ص 417)
اكتشفتُ مؤلَّفات روبير لنسن في العام 1974 من خلال كتابه الزِنْ الصادر عن منشورات مارابو الشعبية. كنت آنذاك مقيمًا في دمشق، والأستاذ ندره اليازجي، أول مَن أدخلني إلى مجال الروحانية، كان يشدد على ضرورة القيام بـتأليف بين العقل والعلم وبين الخبرة الروحية. كنت إذن متقد الاهتمام بكلِّ ما يمت بصلة إلى هذا المجال؛ وقد علمت أن لنسن يتعمق فيه منذ الثلاثينيات وأنه كان يصدر مجلة الوجود الحر التي تعالج هذه المسائل.
أردت من هذا المقال طرح سؤال بسيط: ترى، إلى أيِّ حدٍّ تُعَد معارفُنا العلمية الحديثة بعيدةً عن هذا الإطار العرفاني؟ في عبارة أخرى، هل يمكن لنا في بحثنا التجريبي اليوم التخلِّي عن بحثنا العريق عن نماذج وجودنا البدئية؟ إن علومنا الحديثة تقول عكس ذلك. ويكفي أن نتأمل قليلاً في مواضيع بحثنا لندرك أننا نبحث عن نموذج أولي للكون وللمادة وللقوى، وأننا، في سعينا إلى ذلك، لا نكتشف النموذج الأولي، بل العلاقات بين النماذج. وكلما غصنا أكثر في بحثنا، تكشَّفتْ لنا صيرورةٌ تراتبية للكون تغيب في لانهايتَي الكبير والصغير. إننا نقف دائمًا عند هذه العتبة، حيث تحملنا معرفتُنا إلى تخوم عرفاننا المتجدد. وسيكون لنا أن نعاين، عِبْر أدوار تطورنا المقبلة، مزيدًا من التفتح على نماذج أكثر بدئية في أعماقنا. كتب عنه شيخُ الأزهر الأسبق د. عبد الحليم محمود يقول إن غينون من الشخصيات التي أخذت مكانَها في التاريخ: يضعه المسلمون في جوار الإمام الغزالي وأمثاله؛ ويضعه غير المسلمين في جوار أفلوطين، صاحب الأفلاطونية الحديثة، وأمثاله. وقال الأديب الفرنسي الكبير أندريه جيد (1869-1951): "إن كان غينون على حق فإن كلَّ ما كتبتُه ينهار." فأجابه أحدهم: "وتنهار معه كتاباتٌ أخرى، لا يستهان بها [...]."
عجبتُ لِمَن ينادي بثقافة تسامح، فيعمل على التأسيس لها في الوعي المعاصر، دون أن يلامس تصوراتِ الوجود المولِّدة للسلوك الإنساني. فالتسامح الحقيقي، المتجذِّر في كينونة الإنسان، ليس موقفًا عقلانيًّا أو نفسانيًّا من الآخر، وإنما هو موقف كوني وجودي.
|
|
|