|
رونيه غينون والبحث عن "المنقول الحقيقي"[1]
كتب عنه شيخُ الأزهر الأسبق د. عبد الحليم محمود[2] يقول إن غينون من الشخصيات التي أخذت مكانَها في التاريخ: يضعه المسلمون في جوار الإمام الغزالي وأمثاله؛ ويضعه غير المسلمين في جوار أفلوطين، صاحب الأفلاطونية الحديثة، وأمثاله. وقال الأديب الفرنسي الكبير أندريه جيد (1869-1951): "إن كان غينون على حق فإن كلَّ ما كتبتُه ينهار." فأجابه أحدهم: "وتنهار معه كتاباتٌ أخرى، لا يستهان بها [...]." فمن هو رونيه غينون؟ كيف عاش؟ وكيف مات؟ ولماذا اعتنق الإسلام؟ اسمُه في شهادة الميلاد (المعمودية): Guénon René-Jean-Marie-Joseph؛ وهي مؤرخة في 15 تشرين الثاني من العام 1886 للميلاد في مدينة Blois، من إقليم الـLoire الفرنسي. واسمه في شهادة الوفاة "عبد الواحد يحيى"؛ وهي مؤرخة في 8 كانون الثاني من العام 1951 في مدينة القاهرة. هكذا كان قَدَرُه: أن يولد مسيحيًّا كاثوليكيًّا، وأن يموت مسلمًا؛ أن يولد في فرنسا، وأن يموت ويُدفَن في مصر. فما أعجب القدر! قَدِمَ رونيه غينون إلى باريس في العام 1904 عقب نيله شهادة البكالوريا في العام 1903، واتخذ له مسكنًا في شارع Saint-Louis-en-l’Île. وفي العام 1906، انتسب إلى كلِّية Rollin استعدادًا لنيل إجازة في الرياضيات، وكان يومئذٍ طالبًا لامعًا في العشرين من عمره. لكنه فجأة عدل عن هذا القرار. لماذا؟
رونيه غينون شابًّا (1908). يذهب جان كلود فرير إلى أن الحركات الروحية التي كان يعج بها باريس يومئذٍ قد اجتذبتْه وعدلت به – أغلب الظن – عن قصده الأول: فقد كانت هناك الثيوصوفية والحركة الغيبية occultisme والماسونية والهرمسية المارتِنية والعلوم النقلية المختلفة وغيرها.
الدكتور جيرار أنكوس ("پاپوس"، 1865-1916). في هذا العام نفسه، تعرَّف غينون إلى الطبيب Gérard Encausse – وكان يتخذ له اسمًا مستعارًا هو Papus ويزعم أن طريقته المارتِنية Ordre Martiniste هي الوارثة الطبيعية لطريقة "الكهنة الأصفياء" les Élus-Cohens التي تعود إلى مارتينِز دي پاسكوالي Marinez de Pasqually والتي تأسست في القرن الثامن عشر؛ وكان من أبرز أعضائها لويس كلود دُهْ سان مارتِن Louis-Claude de Saint-Martin وجوزيف دُهْ ميتر Joseph de Maistre. بعد انتسابه إلى مدرسة "پاپوس" الهرمسية، سرعان ما ارتقى درجات السلَّم الرتبوي ونال درجة "أعلى مجهول" Supérieur Inconnu؛ لكنه أيضًا سرعان ما أدرك الخلل في انتقال وراثة هذه الطريقة، الصحيحة في أصلها: لم يكن في تعليم پاپوس ما يروي ظمأه الروحي؛ إذ لقد كان ينشد "المنقول الحقيقي" la Tradition véritable. وفي الوقت نفسه، انضم إلى "البنائين الأحرار" (الفرماسون) غير النظاميين، من مثل الماسون الإسبان، محفل Humanidad، والطقس البدائي الأصلي الذي يتَّبعه جماعةُ سويدنبُرغ[3]. عند هؤلاء الأخيرين تسلَّم وشاح "قدوس" Kadosh من ثيودور رويس، وكان "الأستاذ الأعظم" للشرق الأكبر والعاهل المقدس لإمبراطورية ألمانيا. كان على غينون، طوال الحقبة الممتدة بين العامين 1906 و1908، أن يتحمل الأفكار الغامضة – وأحيانًا المشوشة – التي كانت تصدر عن هؤلاء الناس. لكنه آثر الانسحاب بعد أن صدمتْه إسرافات پاپوس، لكنْ ليس من غير أن ينال درجةً عاليةً في طريقته على طقس "ممفيس مصراييم" Memphis-Misraïm. في هذه الظروف، كان لقاؤه مع Fabre des Essarts، الذي كان يُعرَف باسم Synésius، وكان بطريرك "الكنيسة الغنوصية". على يد هذا الأخير انضم غينون إلى هذه الكنيسة التي حاولت إحياء التراث الغنوصي الأصلي في المسيحية. وقد جعلتْه اهتماماتُه الغنوصية الجديدة ينفصل تدريجيًّا عن تطلعاته الأولى. فما لبث حتى فَصَلَه المارتِنيون والماسون غير النظاميين؛ إذ لم يكن يرى فيهم غير كاريكاتورات شوهاء عن أسراريَّات روحانية عريقة كانوا بعيدين عنها كلَّ البعد. كان هذا في العام 1909. في ذلك العام، يسَّر له سينيسيوس إنشاء مجلة باسم الغنوص la Gnose، ظلت تصدر حتى شباط من العام 1912. قدمت الغنوص نفسها على أنها "الناطق الرسمي باسم الكنيسة الغنوصية العالمية". وبفضل هذه المجلة راح غينون يعمِّق الأفكار التي كان مشغوفًا بها وقُدِّر لها أن تظل الأسُس التي اعتمد عليها في أبحاثه الميتافيزيقية المعمقة اللاحقة. لكنه، بعد مدة وجيزة من ظهورها، جعل منها امتدادًا لمجلة الطريق la Voie، وهي مجلة ظهرت في الأعوام من 1904 حتى 1907، وكانت بإدارة Léon Champrenaud، الذي كان اعتنق الإسلام وتسمَّى متصوفًا باسم "عبد الحق"، وAlbert de Pouvourville، الذي سورِرَ إبان رحلة إلى الصين بالمنقول الطاوي وتسمَّى باسم "ماتْجيوي" Matgioï؛ فما عتم غينون، الذي وجد في أفكارهما صدى لأفكاره، أن ارتبط معهما بصداقة وثيقة[4]. لقد كان على شَمپرونو هذا، بعد أن اهتدى إلى الإسلام، أن يصبَّ اهتمامَه على غينون الشاب، الذي ما لبث حتى اعتنق الإسلام، متصوفًا هو الآخر، وتسمَّى باسم "عبد الواحد يحيى".
ألبير دُهْ پوفورفيل ("ماتْجيوي"، 1862-1939). كان العام 1912 حاسمًا في حياة غينون: ففي هذا العام اعتنق الإسلام، كما رأينا. وفي هذا العام أيضًا تزوج من الشابة Berthe Loury على المذهب الكاثوليكي؛ لكنْ ليس محسومًا تمامًا إنْ كان زواجُه قد تمَّ قبل إسلامه أو بعده. وفي هذا العام أيضًا كان صدور كتابه رمزية الصليب، وقد أهداه "إلى الذكرى الجليلة للشيخ عبد الرحمن عليش الكبير العالم المالكي المغربي"؛ وكان هذا الإهداء يحمل تاريخ 1329 للهجرة، وهو تاريخ يوافق العام 1912 للميلاد. يقول جان كلود فرير، في معرض مقارنته اعتناق غينون للإسلام بالحركات "الروحية" الزائفة التي كانت سائدة في باريس يومذاك: لقد وجد [غينون] نفسه أمام منظور أغنى بكثير، أمام عمق دينيٍّ حقيقي، بقيادة أحد التعاليم الروحية الكبرى. لم يكن تأثير ليون شَمپرونو (1870-1925) في اهتداء غينون إلى الإسلام بالتأثير القليل. لكن هناك شخصًا آخر كان له – على ما يبدو – تأثيرٌ أكبر: ظهر هذا الشخص في حياة غينون منذ العام 1910، وكان يعاونه، إلى جانب عبد الحق (شَمپرونو)، في تحرير الغنوص. كان هذا الشخص هو الذي لقَّن غينون تعاليم الإسلام وعلى يديه نطق بالشهادتين. سويدي الأصل، كان اسمه قبل إسلامه Ivan-Gustaf Agelii، وتسمَّى بعد إسلامه، على يد الشيخ عبد الرحمن عليش (من أشهر فقهاء المذهب المالكي ومن مشايخ الطريقة الشاذلية الكبار في مصر)، باسم "عبد الهادي".
إيفان غوستاف أغيليي ("عبد الهادي"، 1896-1917). كان أغيليي رسامًا من المدرسة السويدية (ولا يزال إلى اليوم يُعتبَر أحد رواد الرسم الحديث في السويد)، قَدِمَ إلى باريس من أجل توسيع خبرته وأبحاثه. اعتقلتْه الشرطة الفرنسية بجريرة إيوائه أحد الفوضويين، فأتاح له الحبسُ فسحةً من فراغ درس فيها مختلف العقائد الدينية وتعلَّم اللغتين العبرية والعربية. وفي العام 1905، سافر إلى مصر، حيث التقى الشيخ عبد الرحمن عليش (الذي أهدى إليه غينون كتابَه رمزية الصليب). وفي الجامع الأزهر، اعتنق أغيليي الإسلام على يد الشيخ متصوفًا وتسمَّى باسم عبد الهادي. ومن يومئذٍ أصبح عبد الهادي "مقدم" التصوف الإسلامي عمومًا، ومقدَّم الشيخ عليش خصوصًا. وفي العام 1912، بعد عودة عبد الهادي إلى باريس من رحلة إلى السويد، بايع غينون بالإسلام ومنحَه "بركة" الشيخ عبد الرحمن. ولعل هذا كان من وراء إهداء رمزية الصليب على النحو المتقدم. عندما نشبت الحرب العالمية الأولى في العام 1914، انصرف غينون إلى التأليف (إذ كان معفى من الجندية لأسباب صحية)، لكنه اضطر إلى العمل لكي يقوم بأود زوجته وابنة أخته، فراح يدرِّس الفلسفة في مختلف المؤسَّسات الحرة ما بين العامين 1916 و1917، ثم في سطيف (الجزائر) في نهاية العام 1917 والأشهُر الأولى من العام 1919؛ وأخيرًا درَّس الفلسفة مدة قصيرة في كلِّية بلوا، مسقط رأسه. لكنه لم يكن بالمدرِّس الناجح؛ فاستقال في العام 1919. وربما لم يكن مؤهلاً لأية مهنة أخرى من المهن الدنيوية! في العام 1922، انعقدت بين غينون وبين الكاتب والناشر Paul Chacornac صداقةٌ متينة، لم تنقطع إلا بوفاة الشيخ عبد الواحد. كان پول شاكُرناك[5] يصدر مجلة حجاب إيزيس le Voile d’Isis. ومنذ العام 1925، مضى غينون في تعاوُن وثيق مع المجلة التي أعلنت أن هدفها "دراسة المنقول الباطني ومختلف الحركات الروحية القديمة والحديثة". ومنذ العام 1935، قرر صاحب المجلة توجيهَها وفقًا للمنظور الغينوني واتخذ لها اسمًا آخر هو دراسات نقلية Études Traditionnelles، انهمرت فيها مقالات غينون وعدد من تلامذته والمتوافقين معه في الرؤيا التأليفية "النقلية": آنَندا ك. كوماراسوامي، فريتيوف شووُن، جوليوس إيفولا، تيتوس بوركهاردت، ليو شايا، لوك بنوا، جان رايور، ميشيل فَلْسان، ماركو پالِّيس، وغيرهم[6].
رونيه غينون (1925). في 15 كانون الثاني من العام 1928، فُجِعَ غينون بوفاة زوجته بيرت التي ظلت، طوال ستة عشر عامًا، أخلص مُعين له في أبحاثه وكتاباته. وبعد تسعة أشهر، تبعتْها عمتُه، وكانت تقيم معه منذ مدة طويلة في 51 شارع سان لويس أنْ ليل؛ ثم – لكي يكتمل الشقاء – اختطفت يد المنون ابنةَ أخته، وكان لها من العمر أربعة عشر عامًا. * في العام 1929، التقى غينون "مدام دينا"، وهي سيدة أمريكية كانت متزوجة من المهندس المصري حسن فريد دينا. كانت هذه السيدة تعتزم إنشاء مكتبة تهتم بمؤلَّفات غينون وبمختلف النصوص الهندوسية والصوفية الكبرى. عندئذٍ نبتت في ذهنه فكرةُ الذهاب إلى مصر. فغادر فرنسا في الخامس عشر من آذار من العام 1930، ولم يقدَّر له أن يراها ثانية. صَحِبتْه في سفره إلى مصر مدام دينا، لكنها لم تلبث فيها غير مدة قصيرة، فعادت إلى فرنسا، بينما ادَّعى غينون أنه يلزمه البقاء مدة أطول لكي يتابع بحثَه عن مختلف النصوص العرفانية الإسلامية. ثم، شيئًا فشيئًا، أخذ يتخلَّى عن فكرة عودته إلى فرنسا، فاستقر به المقامُ أخيرًا في القاهرة، في حيٍّ لا يبعد كثيرًا عن الأزهر. وهناك وجد موطنه المفضل لكي يعمِّق المعطيات العرفانية للدين الذي كان اعتنقه منذ العام 1912. ومنذ ذلك الحين، بات يُعرَف في مصر باسم "الشيخ عبد الواحد يحيى"؛ أما اسمه الفرنسي فلم يعد يظهر إلا على أغلفة الكتب أو في مقالات مجلة دراسات نقلية وغيرها[7]. خلال هذه الحقبة، راح يعمل في مجلة إسلامية تصدر باللغة العربية، كان اسمها المعرفة؛ لكن تعاوُنه مع هذه المجلة لم يدم طويلاً، لأن المجلة نفسها لم تدم طويلاً. في هذه المجلة أسهم غينون بنصيب لا بأس به في العرفان الإسلامي وغيره بلغة الإسلام نفسها؛ وقد عُرِفَ عنه أنه كان يكتب مقالاتِه فيها رأسًا باللغة العربية.
رونيه غينون مع تلميذه فريتيوف شووُن (القاهرة 1938). في العام 1934، تزوج غينون للمرة الثانية من فاطمة بنت الشيخ محمد إبراهيم، وسكن عنده غير بعيد عن الأزهر. لكن وفاة حميه في العام 1937 حملتْه على ترك مركز المدينة والانتقال إلى حي الدقي، حيث "لا يسمع ضجةً أو يزعجه أحد"، على حدِّ تعبيره. هناك اتخذ له فيلا صغيرة سُمِّيَتْ "فيلا فاطمة" تكريمًا لزوجته التي رُزِقَ منها ابنتان، خديجة وليلى، ثم ولدًا سمَّاه أحمد[8].
"فيلا فاطمة"، شارع نوال بالدقي. ومن "صومعته" الجديدة، التي لم تكن معروفة للجميع، عكف الشيخ عبد الواحد على الكتابة لمجلة دراسات نقلية، التي كانت تتلقى بانتظام كتاباتِه ومراجعاتِه وتحليلاتِه للكتب الجديدة. ولم يتوقف عن اتصاله بالأوساط الثقافية الفرنسية إلا في زمن الحرب، من 1940 إلى 1945.
أصيبَ غينون في العام 1939 بنوبة روماتيزم "غريبة" ألزمتْه الفراش مدة ستة أشهر. وبحسب قواعد العرفان الإسلامي، راح غينون يختبر "أسماء الله الحسنى"، اسمًا اسمًا، حتى ترقَّت به المقاماتُ إلى "مقام القربة"، مقام الأولياء الكبار، يسمع فيه بلا كلام "اسم الله الأعظم"، وهو الاسم غير المنطوق – هو الكلمات كلها ولا "صوت" له، الاسم الذي يجد مبرِّره في ذاته، وهو الوحيد الذي مازال يفصل الحق عن الخلق، إلى أن يتبين لهم معنى التوحيد الواحد: وحدة الوجود في الحق. صورتان للشيخ عبد الواحد يحيى في القاهرة (1945): الانسجام التام – حتى في اللباس – مع المنقول الإسلامي. وفي العام 1947، غادر "فيلا فاطمة"، لكي يعود فيقيم في مركز القاهرة، قريبًا من القصر الملكي.
رونيه غينون مع "فاطمة هانم"، زوجته الثانية، وولده أحمد رضيعًا (1949). * لكنْ قبل أن نسدل الستار على آخر مشهد من فصول حياة الشيخ عبد الواحد، لا بدَّ لنا أن نسأل السؤال الكبير: لماذا أسلم غينون؟ وماذا وجد في الإسلام ولم يجده في المسيحية؟ يحاول جان كلود فرير الإجابة عن هذا السؤال – وإن بدت إجابتُه مجرد محاولة لا تشبع نهمًا لفضوليٍّ شغوفٍ باستطلاع سرِّ حياة إنسان عظيم مثل غينون. يقدِّر فرير أن غينون كان يرى في ما آلت إليه المسيحيةُ الكاثوليكية عقيدةً ظاهرية exotérique بحتة. لم يستطع أبدًا، وهو يجوس خلال الدروب الجرداء، طُرُق الروحانية الشرقية الصرفة، ممثلةً في الفيدنتا الهندوسي والتصوف الإسلامي – لم يستطع أبدًا، يقول فرير، أن يتحمل الجوانب البالغة الأنوثة في المسيحية التي تخصِّص، بواسطة حضور السيدة مريم البتول، جزءًا كبيرًا للعاطفة، للعنصر الرطب والترابي. بينما كان يرى في الإسلام طريق التوازن بين الشرق والغرب (الشرق الذي اجتذبه بروحانيته والغرب الذي لم يستطع أن يتخلَّى عنه بالكلِّية)، الإسلام الذي تبقى نواتُه الباطنة القاعدةَ الصلبة والأساسَ المكين ("اللب") الذي ينهض عليه الدينُ نفسه ("القشر"). لذلك كانت اليُبوسة الخالية من التعرجات التي اتصف بها العالَم الإسلامي هي التي أغرت غينون بالمطلق: لقد هجر تعاريج التجلِّيات الوجودية وأخاديدها، لكي يلج في فضاء مجرد، حيث يكمن "الحَرام" le Sacré في اللامتجلِّي، في سلطان المعرفة الخالصة. لقد كان "الكشف العقلي" Intuition Intellectuelle المحض، الذي يدرك الأشياءَ في "أعيانها الإلهية" Archetypes، هو الذي يسيطر على التأمل الذي راح غينون ينشده لدى ملَّة محمد، إلى جانب التوحيد الوجودي الخالص نفسه، الذي وجده عند شنكراتشاريا ومدرسته الفيدنتية الهندوسية، وفي عقيدة "الطاو" Tao الصينية (كما تجلَّت في نصوص لاو تسُه وخوانغ تسُه)، وفي سرَّانية المعلم إكْهَرْت والآباء المشرقيين المسيحية[9].
رونيه غينون (القاهرة 1950) قبيل وفاته. على كلِّ حال، كان دين النبي، في صيغته الصوفية الأسرارية الباطنة، هو الذي كان متاحًا مباشرة له للتهدئة من روعه وخوفه من العاطفي، من المحسوس. فالله، في الإسلام، يجلُّ عن الوصف، حَرامٌ وصفُه وتمثيله: نقاء وتجريد وتنزيه. كان غينون يكتشف في الإسلام إمكاناتٍ روحيةً يئس من العثور عليها في الكثلكة التي أضاعت نواةَ المسيحية الباطنية وبات يسيطر عليها الظاهرُ سيطرةً تامة، حتى تلاشت فيها إمكانيةُ نوال "مُسارَرة" Initiation أو "معمودية روحية" كاملة. لقد استولت على غينون فكرة الوحدة في الله، لا التشعب في المتكثِّر. * في منتصف كانون الأول من العام 1950، لزم غينون الفراش من مرض ألمَّ به؛ وكان يشكو من قروح في فخذه اليمنى. كان يخشى من تسمُّم في الدم، إلا أن صحته تحسنت بعد أيام. لكن ما لبث الداء أن عاوده في السابع من كانون الثاني من العام 1951، فانتابتْه تشنجاتٌ حادة لم يعد يستطيع معها أن يستسيغ طعامًا. في مساء ذلك اليوم دخل في حال الاحتضار. وفي الساعة العاشرة ليلاً جلس في فراشه وقال (بالعامية المصرية): "النَّفَس خِلِصْ!" ولما كانت الساعة الثالثة والعشرون أخذ يلفظ أنحابه الأخيرة ذاكرًا: "الله... الله...". في اليوم التالي، شُيِّعتْ جنازتُه – وكانت جنازة متواضعة لم يحضرها أيُّ ممثل عن الأزهر! – ودُفِنَ في مقبرة "الدرَّاسة" إلى جوار حميه الشيخ محمد إبراهيم، ووجهُه متَّجه صوب مكة المكرمة.
القاهرة، مقبرة الدرَّاسة، مدفن الشيخ محمد إبراهيم، يرقد في جواره غينون. بلغت مؤلَّفاته سبعة عشر كتابًا، تُرجِمَتْ كلها إلى معظم اللغات العالمية – ما عدا العربية[10]! *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [1] معظم المعلومات الواردة في هذا المقال ملخَّصة عن مقال "حياة في الروح" لجان كلود فرير Jean-Claude Frère, « Une vie en esprit ». (المحرِّر) [2] التقى د. عبد الحليم محمود رونيه غينون شخصيًّا في القاهرة – بعد لأْيٍ – في عدة مناسبات، منها انعقاد إحدى حلقات الذكر. (المحرِّر) [3] هو عمانوئيل سويدنبُرغ (1688-1772): ثيوصوفي وراءٍ سويدي، عقب سلسلة من الرؤى حصلت له في العام 1743 ووصفَها في كتابه الخفايا السماوية، تبسَّط في شرح عقيدة سمَّاها "أورشليم الجديدة"، مفادها أن لكلِّ شيء معنى روحيًّا، وحده الله يحيط بعلمه. (المحرِّر) [4] إلى ماتْجيوي ("عين النهار") يعود الفضل في اطِّلاع رونيه غينون على الأبعاد الميتافيزيقية العليا للمنقول الطاوي Taoïsme، التي استلهمها فيما بعد لكتابة مؤلَّفه الرائع الثالوث الأكبر. جدير بالذكر أيضًا اتصالُ عدد من الرهبان الهندوس الفيدنتيين بغينون في تلك الفترة ومُسارَرتهم إياه بالطريقة التوحيدية المطلقة في الهندوسية (خصَّص لها غينون ثلاثة كتب رائعة، أهمها: الإنسان ومآله بحسب الفيدنتا). بذلك يكون غينون قد اتصل مباشرة بممثلين عن الأركان الثلاثة الأساسية للروحانية المشرقية – الهندوسية، الطاوية، التصوف الإسلامي – التي، فضلاً عن التراث الروحي المسيحي (ببُعديه الهيليني واللاتيني) الذي هَضَمَه، شكَّلتْ العناصرَ المنسجمة التي أسَّس عليها تأليفَه الروحي "النقلي" الشامل. (المحرِّر) [5] شاكُرناك هو كذلك كاتب سيرة غينون بعد وفاته بعنوان: حياة رونيه غينون البسيطة. (المحرِّر) [6] للاطلاع على المنظور "النقلي" traditionalisme إلى الروحانية، كما عبَّر عنه هؤلاء المؤلِّفون، فليُراجَع في معابر (باب "منقولات روحية"، كانون الأول 2005) مقال أحمد تموز "موقع المُسارَرة من علم الباطن"، حيث يجد القارئ في ثبت المراجع عددًا من أهم كتب غينون، وكذلك (في العدد نفسه) الحوار مع فريتيوف شووُن "رسالة إلى إنسان اليوم حول الروحانية والفن والأصول". (المحرِّر) [7] من اللافت للنظر أنه لم يدرِ باعتناق غينون الإسلام وبتصوفه إلا المقربون منه وحسب؛ حيث لا نجد في مؤلَّفاته، التي يستشهد فيها بالمنقولات الروحية كافة من غير ما تمييز أو مفاضلة، ما يشير إلى ذلك. وهذا إن دل على شيء فيدل على أن "الطريقة" التي يعتمدها المرءُ في حياته الروحية هي، في نظر غينون، شأن شخصي لا دخل لأحد فيه، ولا يمت بصلة إلى "ترويج" من أيِّ نوع. (المحرِّر) [8] بعد أربعة أشهر من وفاة غينون، وُلِدَ له ابن ثانٍ سمتْه أمُّه "عبد الواحد"، تيمنًا باسم أبيه. [9] تعرَّف غينون إلى اللاهوت الصوفي المسيحي المشرقي عن طريق مؤلَّفات اللاهوتي الروسي الكبير فلاديمِر لوسكي التي اعتمدَها مراجع في أواخر كتاباته. (المحرِّر) [10] نلفت نظر القراء إلى صدور كتاب بعنوان من ينابيع التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، خصَّص الكاتبُ الصديق محمد أمير ناشر النعم ثلثَه تقريبًا لغينون ودوره الممكن في تجديد الفكر الإسلامي من منظور نقلي كلِّي (دار فصلت للدراسات والترجمة والنشر، حلب 2005)؛ وقد أورد الكاتب فيه مقالاً كاملاً كَتَبَه غينون بالعربية لمجلة المعرفة بعنوان "اعرف نفسك بنفسك" (1931)، ناهيك عن مقبوسات عديدة من كتابه أزمة العالم الحديث (بترجمة حسام الدين جلال، مخطوط). (في حوزتنا أيضًا مخطوط لترجمة حديثة لهذا الكتاب الأخير بعنوان الخلاصة في أزمة عالم الحداثة، بترجمة موسى الحوشي، عضو أسرة تحرير معابر.) (المحرِّر)
|
|
|