|
مفتاح الثيوصوفيا الباب الحادي عشر في أسرار التقمُّص (2
من 2) _____ مَن هُم أولاء الذين
يعلَمون؟ السائل:
فهل يصحُّ هذا على أنفسنا وعلى الآخرين على
حدٍّ سواء؟ الثيوصوفي:
أجل يصحُّ. كما قلتُ لتوِّي، فإن الرؤية
المحدودة هي نفسها عند الجميع – إلا الذين
بلغوا في التقمُّص الحالي ذروة الرؤيا
الروحية والبصيرة. فكلُّ ما في وسعنا أن
نتصوَّره هو أنه لو كان ينبغي للأشياء أن تكون
مختلفة بالنسبة إلينا لكانت مختلفة بالفعل،
وأننا على ما صَنَعْنا من أنفسنا، ولا نملك
إلا ما استحققناه بأنفسنا. السائل:
أخشى أن من شأن مثل هذا التصور أن يُذيقنا
المرارة. الثيوصوفي:
أعتقد أن الأمر على العكس تمامًا. فإن تكذيب
قانون الجزاء العادل هو الذي من شأنه في
الغالب أن يوقظ كلَّ شعور قِتالي في الإنسان.
فالطفل، كالرجل سواء بسواء، يستاء من العقاب،
أو حتى من مجرِّد توبيخ يعتقد أنه لم يستحقه،
أكثر بكثير مما يستاء من عقاب أقسى إذا شعر
بأنه استحقه. إن الاعتقاد بـكرما هو أسمى
أسباب تصالُح المرء مع قَدَرِه في هذه
الحياة، والباعث الأقوى على الاجتهاد من أجل
تحسين تجسُّده التالي. فكلا السبب والدافع،
بالفعل، ينعدم إذا افترضنا أن قَدَرَنا هو
نتيجة أيِّ شيء غير القانون الصارم، أو أن
المصير بين أيدٍ أخرى غير يديه هو. السائل:
لقد أكَّدت لتوِّك بأن منظومة التقمُّص هذه،
الخاضعة للقانون الكَرْميِّ، معهودٌ بها إلى
الصواب، والعدل، والحسِّ الخُلُقي. ولكن، إذا
صحَّ الأمر، ألا يتم هذا على حساب التضحية
بصفتَي التعاطف والرأفة الألطف، ويتسبب،
بالتالي، في تقسية الغرائز الأرقِّ للطبيعة
الإنسانية؟ الثيوصوفي: في المظهر وحسب، وليس في الجوهر. لا يمكن لإنسان أن يحصل على أكثر من مُستَحَقِّه أو أقل منه بدون أن يوقع ظلمًا بحقِّ الآخرين أو جورًا عليهم يتناسب مع هذا الخلل؛ والقانون الذي يمكن حَرْفُه عِبْر الرحمة لا بدَّ أن يكون مَجْلَبَةً لبؤس أشد من البؤس الذي يجنِّبه، مَجْلَبَةً لنقمة ولعنات أكثر من الامتنان. تذكَّرْ أيضًا أننا، إنْ كنَّا نوجِد الأسباب التي تحرِّض نتائج هذا القانون، لا نُجريه بهذه المثابة؛ فهو الذي يُجري نفسه. وكذلك أن أوْفَرَ زادٍ لتجلِّي الرحمة والعطف العادلين نجده في حالة الـديفاخان. السائل:
تتكلَّم على النُّطساء وكأنهم استثناء من
قاعدة جهلنا المعمَّم. فهل يعلمون حقًّا أكثر
مما نعلم عن التقمُّص والحالات المقبلة؟ الثيوصوفي:
أجل، يعلمون. فبالتمرُّس في مَلَكات نملكها
جميعًا، إنما نَمَّوْها هم وحدهم حتى الكمال،
دخل هؤلاء بالروح هذه المراتب والحالات التي
كنَّا نناقشها. فإبَّان عصور طوال، درستْ
أجيالٌ متوالية من النُّطساء أسرارَ الوجود،
والحياة، والموت، والعَوْد للولادة،
وعلَّموا جميعًا بدورهم بعض الوقائع التي
تعلَّموها على ذلك النحو. السائل:
وهل غاية الثيوصوفيا هي إعداد النُّطساء؟ الثيوصوفي: تعتبر الثيوصوفيا البشرية فيضًا من الألوهة على درب عودتها إلى منبعها. وعند نقطة متقدِّمة على الدرب، يبلغ النطاسة أولئك الذين كرَّسوا عدة تجسُّدات لتحقيقها. إذ، تذكَّر جيدًّا، ما من امرئ قط بلغ مرتبة النطاسة في العلوم السرية في عمر واحد؛ إنما العديد من التجسُّدات ضروري لذلك بعد تشكيل قصد واعٍ ومباشرة التدريب المطلوب. قد يكون العديد من الرجال والنساء في وسط مجتمعنا نفسه باشروا هذا العروج نحو الاستنارة منذ عدة تجسُّدات، ومازالوا، من جراء الأوهام الشخصية للحياة الراهنة، إما جاهلين للأمر، وإما في طريقهم إلى تضييع كلِّ فرصة في هذا العمر للمضيِّ قُدُمًا. إنهم يشعرون بانجذاب لا يُعانَد نحو الغيبيات والحياة العَلِيَّة، لكنهم، مع ذلك، من التمسُّك بشخصياتهم والتعصب لرأيهم، ومن الشغف بالمغريات المضلِّلة للحياة الدنيوية وبملذات العالم الزائلة، بحيث يتخلون عنها؛ وبذلك يفوِّتون على أنفسهم فرصتهم في ولادتهم الراهنة. أما بالنسبة للبشر العاديين، المشدودين إلى الواجبات العملية للحياة اليومية، فإن نتيجةً بمثل هذا النأي غير ملائمة لهم كهدف ولا هي بالدافع الفعَّال قطعًا. السائل:
فماذا، إذن، يمكن أن يكون هدفهم أو قصدهم
الخاص عندما ينتسبون إلى الجمعية
الثيوصوفية؟ الثيوصوفي:
العديد منهم مهتم بعقائدنا ويشعرون غريزيًّا
بأنها أصدق من عقائد أيِّ دين عقائدي. وبعضهم
الآخر آلى على نفسه أن يبلغ أعلى مُثُل الواجب
الإنساني. الفرق بين الإيمان
والمعرفة؛ أو بين الإيمان الأعمى والعاقل السائل:
تقول إنهم يقبلون بعقائد الثيوصوفيا ويؤمنون
بها. لكنْ، بما أنهم لا ينتمون إلى أولئك
النُّطساء الذين جئت لتوِّك على ذِكْرهم، لا
بدَّ، إذن، أن يقبلوا تعاليمكم إيمانًا
أعمى. ففيمَ يختلف هذا الإيمان عن إيمان
الأديان الاتِّباعية؟ الثيوصوفي: مثلما تختلف الثيوصوفيا في معظم النقاط الأخرى كذلك تختلف في هذه النقطة. ما تسميه أنت "الإيمان" – الذي هو، في الواقع، إيمان أعمى فيما يتعلق بدساتير إيمان الأديان المسيحية، يصير عندنا "المعرفة"، أي التسلسُل المنطقي للأشياء التي نعرفها عن الوقائع في الطبيعة. عقائدكم تتأسَّس على التفسير، وبالتالي، على شهادات الرَّائين التي وصلتكم قيلاً عن قال؛ أما عقائدنا فتتأسَّس مباشرة على شهادات الرائين التي لا يطالها تحريف أو تبديل. فاللاهوت المسيحي العادي، على سبيل المثال، يقول بأن الإنسان من مخلوقات الله، ومؤلَّف من ثلاثة أجزاء مكوِّنة – الجسم والنفس والروح – كلها لا غنى عنه لسلامته، وكلها، سواء في الشكل الغليظ للوجود الأرضي الجسماني أم في الصورة الأثيرية لخبرة ما بعد القيامة، ضروري لتكوينه هكذا إلى الأبد، بحيث يكون لكلِّ امرئ وجودٌ دائم منفصل عن بقية البشر وعن الألوهة. أما الثيوصوفيا، من ناحية أخرى، فتقول بأن الإنسان، بما أنه فيض عن الماهية الإلهية المجهولة، لكنْ الحاضرة أبدًا واللانهائية، فإن جسمه، ككلَّ شيء آخر، غير دائم، وبالتالي وهم؛ وبأنْ وحدها الروح فيه هي الجوهر الدائم الأوحد؛ وحتى هذه تفقد فرديتها المنفصلة ساعة تعود إلى الاتحاد التام من جديد بـالروح الكلِّية. السائل:
إذا كنَّا نفقد فرديتنا حتى، إذ ذاك فإن الأمر
ليس إلا فناءً محضًا. الثيوصوفي:
أقول إن الأمر ليس كذلك، مادمت أتكلَّم
على الفردية المنفصلة، وليس على الفردية
الكلِّية. فالأخيرة تصير كجزء متحوِّلة في
الكل: قطرة الندى لا تتبخر، بل تصير البحر.
هل يفنى الإنسان الجسماني عندما يتحول من
جنين إلى شيخ؟ أي ضرب من الغرور الشيطاني يكون
غرورنا إذا وضعنا وعينا وفرديتنا المتناهيين
في الصِّغَر في مقام أعلى من الوعي الكلِّي
واللانهائي! السائل:
يُستَنتَج من ذلك، إذن، أنه ليس هناك،
بالفعل، إنسان، وأن كلَّ شيء روح؟ الثيوصوفي: أنت مخطئ. يُستَنتَج من ذلك أن اقتران الروح بالمادة ليس إلا مؤقتًا؛ أو، بعبارة أوضح، بما أن الروح والمادة واحد، باعتبارهما القطبين المتضادين للجوهر الكلِّي المتجلِّي – فإن الروح تفقد أحقيَّتها باسمها مادام أصغر جزيء وذرة من جوهرها المتجلِّي متشبثًا بصورة ما، من جراء التمايز. الاعتقاد بغير ذلك هو الإيمان الأعمى. السائل:
بذا فإنكم بناءً على المعرفة، لا على الإيمان،
تؤكِّدون أن المبدأ الدائم، الروح، يمر
بالمادة مرور الكرام؟ الثيوصوفي:
سأصوغ الأمر على نحو مختلف فأقول إننا نؤكد أن
مظهر المبدأ الدائم والواحد، الروح، كمادة،
عابر، وليس، بالتالي، أكثر من وهم. السائل:
حسن جدًّا – وهذا تقولون به بناءً على معرفة
وليس على إيمان؟ الثيوصوفي: تمامًا. لكن بما أني أرى تمامًا ما ترمي إليه، يحسن بي أن أبادرك بالقول إننا نذهب إلى أن الإيمان، كما تذهب أنت إليه، مجرد مرض ذهني، وبأن الإيمان الحق، أي πίστις الإغريق، هو "اعتقاد يتأسَّس على المعرفة"، سواء استند إلى برهان الحواس الجسمانية أو الروحانية. السائل:
ماذا تعني؟ الثيوصوفي:
أعني أنه إذا كان الفرق بين الاثنين هو ما
تريد معرفته، إذ ذاك يمكنني أن أقول لك إن ثمة
فارقًا عظيمًا بين إيمان يتأسَّس على
مرجعية وإيمان يتأسَّس على الكشف الروحي. السائل:
وما هو؟ الثيوصوفي: الأول هو استيقان بشري وتطيُّر، والثاني اعتقاد الإنسان وكشفه. فكما يقول البروفسور ألكزاندر وايلدر في مقدِّمته لـالأسرار الإلفسينية[1]: "إن الجهل هو الذي يؤدي إلى انتهاك المقدَّسات. فالبشر يستخفون بما لا يُحسِنون فهمه [...]. إن التيار الباطن لهذا العالم يتوجَّه نحو غاية واحدة؛ والاستيقان البشري [...] ينطوي على قدرة تكاد تكون لانهائية، على إيمان مهول قادر على الإحاطة بأسمى حقائق الوجود برمَّته." وأولئك الذين يحدُّون ذلك "الاستيقان" بالدساتير الإيمانية القائمة على المرجعيَّات وحدها لن يسبروا أبدًا تلك القدرة، ولن يستشفوها حتى، في طبيعتهم. إيمانهم متشبث بشدة بالمرتبة الخارجية وغير قادر على تفعيل الماهية التي تحكمه؛ إذ إن القيام بذلك يحتِّم عليهم أن يطالبوا بحقِّهم في المحاكمة الفردية – وهذا ما لا يجرؤون أبدًا على فعله. السائل:
وهل ذلك "الكشف" هو الذي يرغمكم على رفض
الله كآب، ملك، وحاكم شخصي للكون؟ الثيوصوفي:
بالضبط. نحن نؤمن بمبدأ غير قابل للعلم أبدًا،
لأن الغلط الأعمى وحده من شأنه أن يجعل المرء
يذهب إلى أن الكون، والإنسان العاقل، وسائر
الروائع المحتواة حتى في عالم المادة، يمكن
أن تنمو بدون قوى عاقلة ما تقوم على ذلك
الترتيب الخارق الحكمة لكافة أجزائها. من شأن
الطبيعة أن تضلَّ – وهي مرارًا ما تفعل –
لناحية تفاصيلها وفي التجلِّيات الخارجية
لعناصرها المادية، لكنها لا تضلُّ أبدًا
لناحية عِلَلِها ومعلولاتها الباطنة. لقد ذهب
الوثنيون القدامى بخصوص هذه المسألة مذاهب
أكثر فلسفيةً من نظرائهم الفلاسفة المحدثين،
أكانوا لاأدريين، ماديين، أو مسيحيين؛ إذ لم
يحدث قط أن طرح كاتبٌ وثني حتى الآن قضية أن
الغضب والرحمة ليستا شعورين منتهيين، ويمكن،
لهذا السبب، أن تُجعَلا من صفات إله لانهائي.
لذلك كان آلهتهم جميعًا من طبيعة منتهية.
يعبِّر كاتب عجلة القانون السيامي عن
الفكرة عن إلهكم الشخصي عينها التي نعبِّر
عنها؛ وهاك ما يقول (ص 25): قد يؤمن البوذي بوجود
إله، مستعلٍ على سائر الصفات والنعوت البشرية
– إله كامل، مستعلٍ على الحب والبغض والغيرة،
ينعم بهدوء بسكينة لا ينغِّصها شيء. وعن مثل
هذا الإله لا يتكلَّم أبدًا باستصغار، ليس
رغبةً في كسب رضاه ولا تورُّعًا عن إغضابه،
لكنْ عن إجلال طبيعي. لكنه لا يقدر أن يفهم
إلهًا يتصف بنعوت البشر وصفاتهم، إله يحب
ويبغض ويغضب؛ إله يقصِّر دون معاييره أو حتى
معايير إنسان صالح عادي، سواء كان الإله الذي
يصفه المبشِّرون المسيحيون أو المحمديون أو
البراهمة[2]
أو اليهود. السائل:
لكن بالمقابلة بين إيمانين، أليس إيمان
المسيحي الذي يعتقد، في عجزه وتواضعه
البشريين، أن هناك آبًا رحيمًا في السماء
يقيه الغواية، يُعينُه على الحياة، ويغفر له
زلاَّته، أفضل من إيمان البوذيين
والفيدنتيين والثيوصوفيين البارد
والمتكبِّر، الذي يتاخم الجَبْرية؟ الثيوصوفي: لكَ أن تواصل تسمية اعتقادنا "إيمانًا" إذا كان ذلك يحلو لك. ولكن مادمنا عدنا من جديد إلى هذه المسألة التي لا تفتأ تتكرَّر، أسألك بدوري: إيمانًا مقابل إيمان، أليس الإيمان القائم على المنطق والصواب الصارم أفضل من الإيمان المتَّكئ على مجرد المرجعية البشرية أو على عبادة الأبطال؟ "إيمانـ"نا يتمتع بكلِّ القوة المنطقية للبداهة الرياضية أن 2 + 2 = 4. إما إيمانكم فهو أشبه بمنطق بعض النساء العاطفيات اللواتي قال فيهن تورغينييف بأن 2 زائد 2 يساوي في نظرهن عمومًا 5، وحبة مسك! علاوة على أن إيمانكم إيمان لا يتعارض وحسب مع كلِّ مفهوم قابل للتصور عن العدل والمنطق، بل ويقود، لدى تحليله، الإنسان إلى الهلاك المعنوي، ويعرقل تقدُّم النوع الإنساني، ويجعل القوة حقًّا – وبذلك يحوِّل كلَّ أحد رجلين إلى قابيل لشقيقه هابيل. السائل:
إلام تلمِّح؟ هل يحق لله أن يغفر؟ الثيوصوفي:
إلى عقيدة التكفير عن الخطايا؛ ألمِّح إلى
دستور الإيمان الخطير ذاك الذي تؤمنون به،
والذي يعلِّم أنه مهما كان مبلغ عِظَم
جرائمنا بحقِّ قوانين الله والإنسان، حسبنا
أن نؤمن بتضحية يسوع بنفسه من أجل خلاص
البشرية، فيغسل دمُه كلَّ بقعة دم. عشرون
عامًا وأنا أحذِّر من هذه العقيدة؛ ولعلِّي
بهذا الصدد ألفت نظرك إلى مقطع من إيزيس
سافر، المكتوب في العام 1875. هذا ما تعلِّمه
المسيحية وما نحاربه: "رحمة الله لا حدود
لها ولا يُسبَر لها غور. فمن المتعذَّر تصوُّر
خطيئة بشرية هي من استحقاق اللعنة بحيث لا
يكفي الثمن المدفوع سلفًا لافتداء الخاطئ
لإزالتها، وإنْ يكن أسوأ ألف مرة. وعلاوة على
ذلك، لا يفوت الأوان أبدًا للتوبة. فمع أن
المسيء قد ينتظر حتى الدقيقة الأخيرة من
الساعة الأخيرة من آخر أيام حياته الفانية
قبل أن تنبس شفتاه الشاحبتان بشهادة إيمانه،
فإنه قد يذهب إلى الجنة؛ فكما أن اللص المحتضر
[إلى يمين يسوع] على الصليب فعلها كذلك يستطيع
آخرون لا يقلون عنه سوءًا أن يفعلوها. هذا هو
مذهب الكنيسة ورجال الدين، يطرق به رؤوسَ
مواطنيكم وُعَّاظُ إنكلترا المفضَّلون، في
قلب "نور القرن التاسع عشر"" – أكثر
العصور امتلاءً بالمفارقات. ولكن إلام يقودنا
ذلك كلُّه؟ السائل:
ألا يجعل هذا المسيحيَّ أسعد من البوذي أو
البرهمي؟ الثيوصوفي:
لا، ليس الإنسان المتعلِّم، على كلِّ حال،
بما أن هؤلاء قد فقدوا عمليًّا منذ أمد بعيد
كلَّ اعتقاد بدستور الإيمان القاسي هذا. لكنه
قطعًا يقود أولئك الذين ما يزالون يؤمنون به على
نحو أيسر إلى عتبة كلِّ جريمة قابلة للتصوُّر
من أيِّ دستور آخر سمعتُ به. دعني أقتطع لك من إيزيس
سافر مرة أخرى (انظر المجلد 2، ص 542 و543): إذا خرجنا من دائرة
المعتقَد الصغيرة ونظرنا إلى الكون ككلٍّ
يتوازن بالانتظام الحاذق للأجزاء، كيف يمكن
لأيِّ منطق مُحكَم، كيف يمكن لأيِّ بصيص ضئيل
من حسِّ العدالة، ألا يتمرَّد ضدَّ التكفير
بالوكالة! إذا خَطِئَ المجرم إلى نفسه وحسب
ولم يُسِئْ إلى أحد سواه، إذا كان بالتوبة
الصادقة يستطيع أن ينال إلغاء الأحداث
الماضية، ليس من ذاكرة الإنسان وحسب، لكنْ
أيضًا من ذلك السجلِّ الخالد، الذي ليس لأيِّ
إله – ولا حتى أعلى العليِّين – أن يجعلها
تزول، إذ ذاك فإن هذا الدستور قد لا يكون غير
قابل للفهم إلى هذا الحد. لكن الذهاب إلى أن في
وسع أحدهم أن يسيء إلى أخيه الإنسان، فيقتل،
ويخل بتوازن المجتمع وبالنظام الطبيعي
للأشياء، ثم – عِبْر الجُبْن أو الأمل أو
القسر، لا يهم – يُغفَر له بإيمانه أن سَفْحَ
دم ما يغسل الدم الآخر المسفوح – فهذا لا
يُعقَل! هل يمكن لـنتائج جريمة أن تُلغى،
وإنْ قُيِّضَ للجريمة نفسها أن تُغفَر؟ نتائج
سبب ما غير محدودة أبدًا بحدود السبب، كما لا
يمكن لنتائج الجريمة أن تقتصر على المسيء
وضحيَّته. لكلِّ عمل صالح، ككلِّ عمل طالح،
نتائجُه، التي لا تقل عيانًا عن أثر الحجر
المرمي في الماء الراكد. التشبيه مطروق، لكنه
خير تشبيه أمْكَن تصوُّره قط؛ فلنستعمله.
عِظَمُ الدوائر المتمركزة وسرعتها يتناسبان
طردًا مع عِظَمِ الشيء المقلقِل أو صِغَرِه،
لكن أصغر حصاة، لا بل أضأل ذرة غبار، تصنع
تجعيداتها على سطح الماء. وهذه القلقلة ليست
وحدها مرئية وعلى السطح. فتَحْتَه، غير
مرئية، في كلِّ اتجاه – في الخارج والأسفل –
تدفع كلُّ قطرة أختها حتى تتأثر الجوانبُ
والقاعُ بالقوة. لا بل أكثر، يتخلخل الهواء
فوق الماء، وهذه القلقلة تعبُر، كما يخبرنا
الفيزيائيون، من طبقة إلى طبقة خارجًا في
الفضاء إلى أبد الآبدين؛ لقد أُطلِقَ مؤثِّرٌ
في المادة، وذلك لا يضيع أبدًا، ولا يمكن
استقدامُه من جديد أبدًا! [...] الأمر عينه يصحُّ على
الجريمة، كما يصحُّ على ضدِّها. فالفعل قد
يكون آنيًّا، لكن النتائج أبدية. فإذا كان
بإمكاننا، بعد أن يُرمى الحجر في المستنقع،
أن نستقدمه من جديد إلى اليد، ونطوي الدوائر،
ونلغي القوة المنتشرة، ونعيد المويجات
الأثيرية إلى سابق حالة عدمها، ونزيل كلَّ
أثر لفعلة إلقاء المقذوف، بحيث يتعذَّر على
سجلِّ الزمن أن يبيِّن أن ذلك حَدَثَ قط، إذ
ذاك، إذ ذاك فقط قد نستمع صابرين إلى
مسيحيين يجادلون في فعالية هذا التكفير
بالوكالة، ونكف عن الاعتقاد بالقانون الكَرْمي. أما أن الأمر على ما هو الآن فإننا ندعو العالم بأسره إلى أن يقرِّر أية من عقيدتينا هي الأكثر اعترافًا بالعدالة الإلهية، وأية منهما هي الأقرب إلى العقل، حتى استنادًا إلى بيِّنة البرهان والمنطق البشريين. السائل:
ومع ذلك فإن الملايين يؤمنون بالمعتقد
المسيحي ويرتضونه لأنفسهم. الثيوصوفي:
إنْ هو إلا محض إفراط في الرقة العاطفية يطغى
على مَلَكاتهم المفكِّرة، لن يقبل به أيُّ
محسنٍ أو غيريٍّ حقيقي أبدًا. إنه ليس حتى
حلمًا بالأثرة، بل كابوس للعقل الإنساني.
انظر إلى أين يقود، وأخبرني اسم ذلك البلد
الوثني الذي تُرتَكَب فيه الجرائم في سهولة
أكبر أو بعدد أغزر من البلاد المسيحية. انظر
إلى السجلات السنوية الطويلة والشنيعة
للجرائم المرتكَبة في الدول الأوروبية؛
ودونك أمريكا البروتستانتية التوراتية: ففي
السجون هناك يجري من الاهتداءات أكثر مما
يجري في أثناء الاجتماعات الرعوية العامة
والمواعظ. "انظر الحال التي وصلتها حصيلة
العدالة المسيحية (!): قتلة مضرَّجو الأيدي،
بتحريض من أبالسة الشهوة، والثأر، والجشع،
والتعصب، أو حتى التعطُّش البهيمي إلى الدم،
يقتلون ضحاياهم، بدون أن يمنحوهم، في أغلب
الحالات، وقتًا للتوبة أو للالتجاء إلى يسوع.
ولعل هؤلاء ماتوا خاطئين، وبالطبع – بمقتضى
المنطق اللاهوتي – نالوا جزاء إساءاتهم
الكبرى أو الصغرى. لكن القاتل، إذا اعتقلتْه
العدالة البشرية، وأودعتْه السجن، رقَّ
لحاله العاطفيون، وصلَّوا معه ومن أجله،
فتلفَّظ بكلمات الاهتداء السحرية، يمضي إلى
منصة الإعدام طفلاً مفتدًى من أطفال يسوع!
فلولا جريمة القتل لما أمكن الصلاة معه،
وافتداؤه، والمغفرة له. حقًّا لقد أحسن هذا
الرجل صنعًا بجريمته؛ إذا إنه بذلك فاز
بالسعادة الأبدية! وماذا عن الضحية، وعن
أسرته أو أسرتها، والأقارب، والعيال،
وعلاقاته الاجتماعية – أليس لدى العدالة من
مكافأة لهم؟ هل ينبغي عليهم أن يشْقَوْا في
الدنيا وفي الآخرة، في حين أن مَن أساء إليهم
جالس إلى جانب "لص الجلجثة الصالح"،
مغبوطًا إلى الأبد؟ حول هذه المسألة يلزم
رجال الدين صمتًا حَذِرًا." (إيزيس سافر)
بتَّ الآن تعلم لماذا يرفض الثيوصوفيون –
الذين ينعقد معتقدهم ورجاؤهم الأساسيان على
العدالة للجميع، كما في السماء كذلك على
الأرض – هذا المعتقد. السائل:
مصير الإنسان النهائي، إذن، ليس سماءً يقوم
الله عليها، بل التحول التدريجي للمادة إلى
عنصرها البدئي: الروح؟ الثيوصوفي: إنه تلك الغاية النهائية التي يتجه صوبها كلُّ شيء في الطبيعة. السائل:
ألا يعتبر بعضكم هذا الارتباط، أو "سقوط
الروح في المادة"، شرًّا، ويعتبرون
العَوْد للولادة عذابًا؟ الثيوصوفي:
بعضهم يرى هذا الرأي، ويكدح، بالتالي،
لاختصار فترة اختباره على الأرض. غير أنه ليس
شرًّا صرفًا، بما أنه يوفَّر الخبرة التي
نبني عليها المعرفة والحكمة. وأعني تلك
الخبرة التي تعلِّم أن حاجات طبيعتنا
الروحية لا يمكن أبدًا أن يلبيها غير السعادة
الروحية. فمادمنا في الجسد، نحن خاضعون
للألم، للشقاء، ولسائر الحوادث المخيِّبة
التي تقع إبان الحياة. لذا، ومن تدارُك هذا،
نحصل بالتدريج على المعرفة التي وحدها يمكن
أن تُمِدَّنا بالفرج والأمل بمستقبل أفضل. *** *** *** [1]
Thomas Taylor, The Eleusinian and Bacchic Mysteries, a Dissertation,
New York, J.W. Bouton. [المترجم] [2]
المقصودون هنا هم البراهمة الطائفيون. إذ
إن بَـرَبْـرَهْـمَـن الفيدنتيين هو
الإله الذي نقبله وبه نؤمن.
|
|
|