english

 مفتاح الثيوصوفيا

 

هيلينا ب. بلافاتسكي

 

الباب الثانيعشر

 

ما الثيوصوفيا العملية؟

_____

 

الواجب

السائل: لِمَ الحاجة، إذن، إلى العودات إلى التجسُّد مادامت جميعًا، على حدٍّ سواء، تُخفِق في تأمين سلام دائم؟

الثيوصوفي: لأن الغاية النهائية لا يمكن بلوغُها إلا عن طريق خبرات الحياة، ولأن جُلَّ هذه الخبرات عبارة عن ألم وشقاء. وليس بوسعنا أن نتعلَّم إلا عِبْرهما. أما الأفراح والملذات فلا تعلِّمنا شيئًا؛ فهي سريعة الزوال، ولا يمكن لها، على المدى الطويل، أن تجلب غير التخمة. وعلاوة على ذلك، فإن إخفاقنا المستمر في العثور على أيِّ رضًى دائم في الحياة، يفي بحاجات طبيعتنا العليا، يرينا بوضوح أن تلك الحاجات لا يوفى بها إلا على صعيدها عينه، ألا وهو الصعيد الروحي.

السائل: أتكون النتيجة الطبيعية لهذا رغبةً في مبارحة الحياة بطريقة أو بأخرى؟

الثيوصوفي: إذا كنت تقصد بمثل هذه الرغبة الرغبةَ في "الانتحار"، إذ ذاك أقول لك جزمًا لا. مثل هذه النتيجة لا يمكن لها أبدًا أن تكون نتيجة "طبيعية"، بل مردُّها دومًا إلى اعتلال مخِّيٍّ سوداوي، أو إلى نظرات مادية راسخة وقوية. إنه أسوأ الجرائم، ووخيم في عواقبه. إما إذا كنت ببساطة تقصد بالرغبة التوقَ إلى بلوغ الوجود الروحي، وليس لهفةً إلى مبارحة الأرض، لدعوتُها حينئذٍ رغبة جد طبيعية فعلاً. وإلا فإن الموت الطوعي يكون تخلِّيًا عن موقعنا الحالي وعن الواجبات المنوطة بنا، كما يكون محاولةً للتملُّص من المسؤوليات الكَرْمية، وبالتالي، التورُّط في إيجاد كَرْما جديد.

السائل: ولكنْ إذا لم تكن الأفعال على المرتبة الجسمانية باعثة على الرضى، لِمَ ينبغي على الواجبات – وهي أفعال من هذا الصنف – أن تكون حتمية؟

الثيوصوفي: لأن فلسفتنا تعلِّمنا، قبل كلِّ شيء، أن الغرض من القيام بواجباتنا حيال جميع البشر، وحيال أنفسنا في المقام الأخير، ليس بلوغ السعادة الشخصية، بل سعادة الآخرين؛ إحقاق الحقِّ في سبيل الحق، وليس في سبيل ما قد نجنيه منه. السعادة – أو الرضى بالأصح – قد ينجم بالفعل عن أداء الواجب، لكنه ليس الدافع إليه ويجب ألا يكون كذلك.

السائل: ماذا تعنون بالدقة بـ"الواجب" في الثيوصوفيا؟ هو ليس قطعًا الواجبات المسيحية التي كَرَزَ بها يسوع ورُسُله، بما أنكم لا تعترفون لا بذاك ولا بهؤلاء.

الثيوصوفي: أنت مخطئ مرة أخرى. فما تسمِّيه "الواجبات المسيحية" لقَّنه كلُّ المصلحين الأخلاقيين والدينيين قبل العهد المسيحي بعصور طويلة. فكلُّ ما كان عظيمًا وسخيًّا وبطوليًّا في الأيام الخوالي، لم يَجْرِ الكلامُ عليه والوعظ فيه من على المنابر، كما في زماننا، بل كانت تعمل بموجبه أممٌ بأسرها أحيانًا. إن تاريخ الإصلاح البوذي غني بأنبل الصنائع وأكثرها بطولة في إيثارها. عبارة "كونوا كلُّكم قلبًا واحدًا في الرأفة والإخاء والرحمة والتواضع؛ لا تردُّوا الشرَّ بالشرِّ والشتيمة بالشتيمة، بل باركوا"[1] – كان أتباع بوذا يطبِّقونها عمليًّا قبل بطرس بقرون عدة. أخلاق المسيحية جليلة، ما في ذلك ريب؛ لكن مما لا يقبل الإنكار أيضًا أنها ليست بالجديدة، وتعود بأصولها إلى الواجبات "الوثنية".

السائل: وكيف يمكنك أن تعرِّف بهذه الواجبات، أو بـ"الواجب"، عمومًا، كما تفهمون المصطلح؟

الثيوصوفي: الواجب هو ما يجب علينا حيال الإنسانية، حيال رفاقنا البشر، جيراننا، أسرتنا، وخصوصًا ما ندين به لجميع مَن هم أفقر وأعجز منَّا. فهذا دَيْن، ما لم يُسدَّد في أثناء الحياة، يخلِّينا مُعْسِرين[2] روحيًّا ومفلسين خلقيًّا في تجسُّدنا التالي. الثيوصوفيا هي لباب الواجب.

السائل: كذلك هي المسيحية حين تُفهَم حقَّ فهمها وتطبَّق حقَّ تطبيقها.

الثيوصوفي: إنها كذلك ولا شك؛ غير أنها، لو لم تكن دين شفاه في الممارسة، لما كان للثيوصوفيا دورٌ يُذكَر بين المسيحيين. لكنها، لسوء الحظ، ليست من هذا القبيل إلا أخلاق شفاه. فأولئك الذين يقومون بواجبهم نحو الكل، ومن أجل الواجب وحده، هم قلَّة؛ وأقل منهم أولئك الذين يؤدون ذلك الواجب، ويبقون مكتفين برضى ضميرهم الخفي. إن

...... صوت الإطراء العلني

الذي يكرِّم الفضيلة ويكافئها؛[3]

هو الموضوع دومًا نصب أعين المُحسِنين "الذائعي الصيت". جميل أن يقرأ المرء عن الأخلاق الحديثة أو أن يستمع إلى نقاش فيها؛ لكنْ ما قيمة الكلمات إذا لم تُترجَم إلى أفعال؟ وأخيرًا: إذا سألتني عن كيفية فهمنا للواجب الثيوصوفي عمليًّا، وبالنظر إلى كرما، لأجبتك بأن واجبنا هو أن نجرع بلا تأفُّف، وحتى القطرة الأخيرة، كلَّ ما تحويه كأس الحياة في مخزونها لنا، ألاَّ نقطف ورود الحياة إلا من أجل العبير الذي تسفحه على الآخرين، وأن نكتفي نحن بالأشواك، إذا لم يكن بالوسع التمتع بذلك العبير بدون أن يُحرَم أحدُهم منه.

السائل: هذا كلُّه مبهم جدًّا. ففيمَ تتفوقون على المسيحيين فيما تقومون به؟

الثيوصوفي: ليس الأمر ما نقوم به نحن أعضاء الجمعية الثيوصوفية – مع أن بعضنا يفعل ما بوسعه – بل في مقدار الشوط الأبعد من المسيحية الحديثة نحو الخير الذي تقود إليه الثيوصوفيا. أقول – الفعل، الفعل الملتزم، بدلاً من مجرَّد النية والكلام. قد يكون امرؤٌ على ما يحلو له، أشد البشر دنيوية وأثرة وقسوة قلب، بل قد يكون من الأوغاد المغرِقين في السوء، دون أن يمنعه ذلك من أن يسمِّي نفسه مسيحيًّا، أو يمنع الآخرين من اعتباره كذلك. لكنْ ما من ثيوصوفي يستحق هذا الاسم لم يتشبَّع تمامًا بصحة بديهية كارلايل: "غاية الإنسان عمل، لا فكرة، وإن تكن أنبل الأفكار" – ولم يوقِّع حياته ويسوِّها على غرار هذه الحقيقة. إن المجاهرة بحقيقة ما ليست وضعَها موضع التطبيق بعدُ؛ وكلما كان لهذه الحقيقة جَرْسٌ أجمل وأجل، علا الكلامُ عن الفضيلة أو الواجب، بدلاً من العمل بهما، وتذكَّر المرء دومًا، رغمًا عنه، ثمار البحر الميت. المماذقة[4] هي من الرذائل أقذعها؛ وهي أبرز ملامح أعظم البلاد البروتستانتية في هذا القرن – إنكلترا.

السائل: فما الذي تعتبرونه دَيْنًا نحو البشرية بعامة؟

الثيوصوفي: الاعتراف التام بالمساواة في الحقوق والامتيازات للجميع، وبدون تمييز بين عرق أو لون أو منزلة اجتماعية أو نَسَب.

السائل: ومتى تعتبرون أن هذا الدَّيْن لم يوفَّ؟

الثيوصوفي: حينما يقع أدنى اعتداء على حقِّ الآخر – أكان ذلك الآخر إنسانًا أو أمَّة؛ حينما يحدث أيُّ تقصير في معاملته بالمقدار نفسه من العدل واللطف والمراعاة أو الرحمة التي نرغب فيها لأنفسنا. إن نظام السياسة الحالي برمَّته يقوم على إغفال مثل هذه الحقوق وعلى أشرس أنواع الإصرار على الأثرة القومية. يقول الفرنسيون: "العبد سرُّ سيِّده"[5]؛ وعليهم أن يضيفوا: "المُواطِن سرُّ السياسة الوطنية."

السائل: وهل تقومون بدور ما في السياسة؟

الثيوصوفي: نحن، كجمعية، نحرص على تجنب السياسة، للأسباب الموضَّحة أدناه: فالسعي إلى إنجاز إصلاحات سياسية قبل أن نكون أجرينا إصلاحًا على الطبيعة البشرية هو أشبه بجعل الخمرة الجديدة في زِقاق قديمة.[6] فلنجعل البشر يشعرون في أعماق قلوبهم بواجبهم الحقيقي الصحيح نحو البشر أجمعين ويقرُّون به، فتختفي من تلقاء نفسها كلُّ مفاسد السلطة، كلُّ القوانين الجائرة في السياسة القومية، مما كان مبنيًّا على الأثرة البشرية أو الاجتماعية أو السياسية. أحمق هو البستاني الذي يسعى إلى اقتلاع الأعشاب الضارة من مشتله بقطعها عند سطح التربة، بدلاً من أن يجتثَّها من الجذور. فما من إصلاح سياسي مستديم يمكن أن يتحقَّق يومًا ما، مادام الأناسُ الأنانيون أنفسهم باقين، كما في الماضي، على رأس الأمور.

صلات ج.ث. بالإصلاحات السياسية

السائل: الجمعية الثيوصوفية ليست، إذن، منظَّمة سياسية؟

الثيوصوفي: جزمًا لا. إنها منظَّمة دولية بأرقى المعاني، باعتبار أن في صفوف أعضائها رجالاً ونساءً من كافة العروق والمذاهب وأشكال الفكر، يعملون سوية من أجل غاية واحدة، ألا وهي النهوض بالإنسانية؛ لكنها، كجمعية، لا تشارك في أية سياسة، قومية كانت أم حزبية.

السائل: ولِمَ ذلك؟

الثيوصوفي: لا لشيء إلا للأسباب التي ذكرتُها. وعلاوة على ذلك فإن العمل السياسي يجب أن يتنوع بالضرورة بتنوُّع ظروف الزمان وخصائص الأفراد. في حين أن أعضاء ج.ث.، من حيث طبيعةُ موقعهم كثيوصوفيين، متفقون على مبادئ الثيوصوفيا – وإلا لما انضموا إلى الجمعية أصلاً – لكن هذا لا يقضي بأن يكونوا على رأي واحد في كلِّ مسألة أخرى. إنهم، كجمعية، لا يستطيعون أن يعملوا معًا إلا في القضايا التي يشتركون فيها جميعًا – أي في الثيوصوفيا نفسها؛ أما كأفراد، فلكلٍّ منهم مطلق الحرية في اتِّباع الخطِّ المحدَّد للتفكير والعمل السياسيين الخاص به أو بها، مادام لا يتنافى مع المبادئ الثيوصوفية أو يسيء إلى الجمعية الثيوصوفية.

السائل: لكن ج.ث. بمجملها لا تتهرب قطعًا من المسائل الاجتماعية التي تتعاظم أهميتُها اليوم بهذه السرعة؟

الثيوصوفي: إن لفي مبادئ ج.ث. عينها برهانًا على أنها لا تتهرب – أو بالأصح على أن غالبية أعضائها لا يتهربون. فإذا لم يكن بوسع البشرية أن تنمو، ذهنيًّا وروحيًّا، بغير الالتزام، قبل كلِّ شيء، بأشدِّ القوانين الفسيولوجية إحكامًا وعلمية، فإنه يناط بجميع الذين يجاهدون في سبيل هذا النموِّ أن يقوموا بكلِّ ما بوسعهم من أجل تطبيق تلك القوانين إجمالاً. إن جميع الثيوصوفيين، للأسف، يعلمون علم اليقين بأن الوضع الاجتماعي للجماهير العريضة من الناس، في البلدان الغربية بالأخص، يجعل من المتعذَّر، على أجسامهم وأرواحهم على حدٍّ سواء، أن تنال نصيبها من التدريب اللائق، بما يوقف نموَّ كليهما. ولما كان هذا التدريب وهذا النمو واحدًا من الأهداف الصريحة للثيوصوفيا فإن ج.ث. تتعاطف تمامًا مع كافة الجهود الصادقة في هذا الاتجاه وتتناغم معها.

السائل: ولكن ماذا تعني بـ"الجهود الصادقة"؟ إن لكلِّ مصلح اجتماعي دواءه العجائبي؛ وكلُّ مصلح يعتقد بأن دواءه هو الشيء الوحيد الأوحد الذي يقدر أن يحسِّن البشرية وينقذها؟

الثيوصوفي: هذا صحيح كلَّ الصحة – وهو السبب الحقيقي من وراء قلة العمل الاجتماعي المُرضي الذي يتم إنجازه. فغالبية هذه الوصفات العجائبية خلو من أيِّ مبدأ قائد بحق، وهي قطعًا تفتقر إلى مبدأ واحد يصل بعضها إلى بعض؛ وبذلك يُهدَر وقتٌ وطاقة ثمينين بلا طائل. فالبشر، بدلاً من أن يتكاتفوا، يُنازع بعضُهم بعضًا؛ وهذا كثيرًا ما يجري – بكلِّ أسف – من أجل الشهرة والمكاسب، بدلاً من أن يكون من أجل القضية التي يجهرون أنها في القلب منهم، والتي ينبغي أن تكون لها الصدارة في حياتهم.

السائل: كيف تُطبَّق المبادئ الثيوصوفية، إذن، في سبيل تشجيع التعاون الاجتماعي والمثابرة على الجهود الصادقة من أجل الإصلاح الاجتماعي؟

الثيوصوفي: دعني أذكِّرك بهذه المبادئ بإيجاز: الوحدة والسببية الشاملتين، التضامن الإنساني، قانون كرما، التقمُّص. تلكم هي الحلقات الأربع للسلسلة الذهبية التي ينبغي أن تضمَّ الإنسانية في أسرة واحدة، في أخوَّة شاملة واحدة.

السائل: وكيف ذلك؟

الثيوصوفي: في حالة المجتمع الراهنة، وخاصة في البلدان المتحضِّرة المزعومة، نحن نواجه مواجهة مستمرة حقيقةَ أن أعدادًا كبيرة من الناس يعانون من البؤس والفقر والمرض. إن وضعهم الجسماني مُزْرٍ، وملَكاتهم الذهنية والروحية تكاد غالبًا أن تكون هاجعة. وعلى غير ذلك، يعيش أشخاص كثيرون، عند الطرف الآخر من السلَّم الاجتماعي، حياةَ لامبالاة ملهوجة، ورفاهية مادية، وتهتُّك أناني. هذان الشكلان من أشكال المعيشة ليسا محض مصادفة – فكلاهما نتيجة للشروط المحيطة بأولئك الخاضعين لكلٍّ منهما؛ وإهمال الواجب الاجتماعي، من جانب، وثيق الصلة للغاية بالتفتح المكبوح والموقوف، من جانب آخر. إن قانون السببية الشاملة ليصحُّ على علم الاجتماع صحته على فروع العلم الحق كافة. غير أن هذه السببية الشاملة تقتضي بالضرورة، كنتيجة منطقية لازمة عنها، ذلك التضامن الإنساني الذي تشدِّد عليه الثيوصوفيا أيَّما تشديد. فإذا كان فعل الواحد يعود أثرُه على حياة الكلِّ – وهذه هي الفكرة العلمية الصحيحة – فإن بلوغ التضامن الإنساني الحقيقي، الذي تنهض عليه السلالةُ البشرية، لن يتحقَّق أبدًا إلا بأن يصير كلُّ الرجال إخوةً وكلُّ النسوة أخواتٍ، وبأن يمارس الجميع في حياتهم سلوكًا أخويًّا حقًّا. إن هذا الفعل والتفاعل، تلك الأخوة الحق التي يحيا فيها الواحد للكلِّ والكلُّ للواحد، هي واحد من المبادئ الثيوصوفية الأساسية التي يجب على كلِّ ثيوصوفي أو ثيوصوفية أن يلتزم، ليس بتعليمه وحسب، بل وبإعماله في حياته أو حياتها الفردية.

السائل: هذا كلُّه جيد جدًّا كمبدأ عام؛ ولكن كيف السبيل إلى تطبيقه تطبيقًا ملموسًا؟

الثيوصوفي: اُنظر هنيهة إلى ما تدعوه بالوقائع الملموسة للمجتمع البشري. لا تقابِل فحسب بين حياة جماهير الناس، بل بين حياة الكثيرين ممَّن يُدعَوْن بالطبقتين الوسطى والعليا، وما يمكن أن تكون عليه هذه الحياة تحت شروط أكثر صحَّة وأنبل، يسود فيها العدل واللطف والمحبة، بدلاً من الأثرة واللامبالاة والوحشية التي يغلب عليها التسيُّد الآن. إن كلَّ ما في البشرية من خير ومن شرٍّ يضرب بجذوره في الطبع البشري؛ وهذا الطبع مشروط – وقد أُشرِطَ – بالسلسلة التي لا تنتهي من الأسباب والنتائج. لكن هذا الإشراط ينطبق على المستقبل بقدر ما ينطبق على الحاضر والماضي. إن الأثرة واللامبالاة والوحشية لا يمكن أن تكون أبدًا الحالة السوية للسلالة البشرية – إذ إن في الأخذ بهذا الرأي يأسًا من الإنسانية – وهذا ما لا يملك أيُّ ثيوصوفي أن يفعله. فبلوغ التقدم ممكن، لكنه لا يمكن له أن يتم إلا بتنمية أنبل الخصال. إن التطور الحق يعلِّمنا أننا، بتعديل الوسط الذي تحيا فيه المتعضِّية، نستطيع تعديلها وتحسينها؛ وهذا يصحُّ بأدقِّ المعاني فيما يتعلق بالإنسان. لذا فإن كلَّ ثيوصوفي ملتزمٌ بالقيام بكلِّ ما بوسعه، وبكلِّ ما أوتي من قوة، بمدِّ يد العون إلى كلِّ مجهود اجتماعي حكيم ومدروس يضع نصب عينه تحسين وضع الفقراء. بيد أن مثل هذه الجهود ينبغي أن تُصرَفَ بقصد أن ينالوا حريتهم الاجتماعية النهائية، أو لتنمية حسِّ الواجب لدى مَن يغلب عليهم إهمالُه في كلِّ ما يتصل بالحياة تقريبًا.

السائل: أوافقك. ولكن مَن ذا يقرِّر إذا كانت الجهود الاجتماعية حكيمة أو غير حكيمة؟

الثيوصوفي: ما من شخص أو مجتمع يستطيع أن يطرح قاعدة لا تقبل النقض في هذا الصدد؛ وعلى الكثير أن يُترَك للمحاكمة الفردية. غير أن بالإمكان تقديم اختبار عام: هل ينحو العمل المقترَح نحو تشجيع تلك الأخوَّة الحقيقية التي ترمي الثيوصوفيا إلى تحقيقها؟ لن يجد ثيوصوفي حق صعوبةً كبيرة في تطبيق مثل هذا الاختبار؛ فحالما يرضى عن النتيجة، سيكون واجبُه منوطًا باتجاه تشكيل الرأي العام. ولا يمكن أن يتمَّ بلوغُ هذا بغير تلقين تلك التصورات الأعلى والأنبل عن الواجبات العامة والخاصة التي يقوم عليها كلُّ إصلاح روحي ومادي. وفي كلِّ حالة قابلة للتصور عليه أن يجعل من نفسه مركزًا للعمل الروحي؛ ومنه ومن حياته الفردية اليومية، ينبغي أن تشعَّ تلك القوى الروحية التي وحدها تستطيع أن تجدِّد رفاقه البشر.

السائل: ولكنْ لِمَ عليه أن يقوم بهذا؟ أليس هو الآخر، مثله كمثل الجميع، مشروطًا بـكرماه، كما تعلِّمون؟ وألا ينبغي على كرما أن يُستنفَد، بالضرورة، على نحوٍ ما؟

الثيوصوفي: إن قانون كرما عينه هو الذي يؤيِّد كلَّ ما قلت. فلا طاقة للفرد على الانفصال عن السلالة البشرية، ولا للسلالة على الانفصال عن الفرد. قانون كرما ينطبق على الجميع، على حدٍّ سواء، مع أن الجميع ليسوا من التفتح سواء. فالثيوصوفي، في مساعدته للآخرين على التفتح، يعتقد أنه لا يساعدهم على تحقيق كرماهم وحسب، بل ويسدِّد كرماه هو أيضًا، بالمعنى الأدق للكلمة. إن تفتح الإنسانية، التي يشكِّل وإياهم جزءًا لا يتجزأ منها، هو ما يضعه نصب عينيه؛ وهو يعلم أن أيَّ تقصير من جانبه في الاستجابة للأسمى في نفسه لا يؤخِّره هو وحسب، بل يؤخِّر الجميع أيضًا في مسيرتهم قُدُمًا. إنه، بأفعاله، يستطيع أن يعسِّر أو ييسِّر على البشرية بلوغ مرتبة الوجود التالية الأعلى.

السائل: أية صِلَة بين هذا وبين رابع المبادئ التي ذكرتَها، ألا وهو التقمُّص؟

الثيوصوفي: الارتباط وثيق للغاية. إذا كانت حياتنا الحالية تعتمد على تفتح مبادئ معينة عن البذور العائدة إلى عمر سابق فإن القانون يسري فيما يتعلق بالمستقبل. فمتى أحطنا بفكرة أن السببية الشاملة ليست حاضرًا وحسب، بل هي ماضٍ وحاضر ومستقبل، فإن كلَّ فعل على مرتبتنا الحالية سيشغل بصورة طبيعية وبسهولة مكانه الصحيح، وسيظهر لنا في صلته الحقيقية بنا وبالآخرين. كلُّ فعل خسيس وأناني يُعيدُنا القهقرى وليس إلى الأمام، في حين أن كلَّ خاطر نبيل وكلَّ تصرُّف سَمْحٍ هما مَرْقاةٌ إلى مراتب وجودية أسمى وأمجد. فلو كانت هذه الحياة هي كلَّ شيء لكانت، من أكثر من قبيل، فقيرة ومزرية حقًّا؛ لكنها، بوصفها تهيئة لفلك الوجود التالي، يمكن لنا أن نجعل منها البوابة الذهبية التي نعبر منها – لا على نحو أناني وبمفردنا، بل في صحبة رفاقنا – إلى القصور القائمة وراءها.

في التضحية بالنفس

السائل: أتكون العدالة للجميع على حدٍّ سواء، والمحبة لكلِّ مخلوق، أرفع مراتب الثيوصوفيا؟

الثيوصوفي: لا، فثمة أيضًا مرتبة أرفع منها بكثير.

السائل: وما هي؟

الثيوصوفي: هي منح الآخرين أكثر من الذات – هي التضحية بالنفس. تلكم كانت المرتبة والمقياس السائد الذي اتَّسم به، على الأخص، كبار حكماء الإنسانية ومعلِّميها – وأخص بالذكر غوتاما بوذا في التاريخ، ويسوع الناصري، كما وَرَدَ ذكرُه في الأناجيل. ولهذه السجية وحدها أن تكفل لهما إجلالَ أجيال البشر التي أتت بعدهما وامتنانَها. غير أننا نقول إن التضحية بالنفس يجب أن تؤدَّى بتمييز؛ فمثل هذا التخلِّي عن الذات، إذا تمَّ بمنأى عن العدل، أو خبط عشواء، بغضِّ النظر عن العواقب، قد لا ينجلي بلا طائل وحسب، بل يتبيَّن أنه مؤذٍ أيضًا. فمن القواعد الأساسية للثيوصوفيا إنصافُ النفس – باعتبار المرء نفسَه واحدةً من مجموع البشرية، وليس كإنصاف ذاتيٍّ شخصيٍّ، لا أكثر ولكنْ لا أقل منه نحو الآخرين – اللهم، بالفعل، إلا إذا كنَّا، بالتضحية بذات واحدة، يمكن لنا أن نفيد المجموع.

السائل: هل لك أن توضِّح فكرتك بتقديم مثال؟

الثيوصوفي: ثمة في التاريخ أمثلة عديدة لإيضاحها. فالثيوصوفيا ترى أن التضحية بالنفس من أجل الخير العملي لنجدة الكثيرين، أو العديد من الناس، لهي أشرف بما لا يقاس من إنكار الذات من أجل فكرة مذهبية، من نحو فكرة "إنقاذ الوثنيين من الدينونة"، على سبيل المثال. ففي رأينا أن الأب دَمْيان، شاب الثلاثين الذي وَهَبَ حياته كلَّها قربانًا في سبيل مساعدة المجذومين في مولوكاي والتخفيف من عذابهم، والذي مضى ليعيش ثمانية عشر عامًا وحده معهم، حتى أصابه المرض المقزِّز أخيرًا فأرداه، لم يمت سدى. لقد فرَّج عن ألوف الأشقياء البائسين ومَنَحَهم سعادة نسبية؛ سلا عنهم، ذهنيًّا وجسمانيًّا. لقد ألقى ببصيص من النور في ليل حياة مظلم موحش، لا نظير للقنوط منها في قيود المعاناة البشرية. لقد كان ثيوصوفيًّا حقيقيًّا، وستبقى ذكراه حية في سجلاتنا أبد الدهر. إن هذا الكاهن البلجيكي المسكين لهو، في نظرنا، أعظم بما لا يقاس من جميع أولئك المبشِّرين، على سبيل المثال، الحمقى الصادقين، لكنْ المأخوذين بالمجد الباطل، ممَّن ضحوا بحياتهم في جزر بحر الجنوب أو في الصين. أي خير فيما فعلوا؟ ففي الحالة الأولى، توجَّهوا إلى أناس لم ينضجوا بعدُ لتقبُّل أية حقيقة؛ وفي الثانية، إلى أمَّة تُجاري مدارسُ فلسفتها الدينية في سموِّها أية مدارس أخرى، لو أن الشعب المؤتمَن عليها وفَّق بين حياته وبين وصايا كونفوشيوس وغيره من حكماء ذلك الشعب. لقد ماتوا ضحايا لأكلة لحوم البشر والهمج غير المسؤولين، ولتعصُّب عامة الشعب وكراهيتهم؛ في حين أنهم، لو توجَّهوا إلى محافش وايتشابل[7] أو أيِّ حيٍّ مماثل من تلك الأحياء تحت شمس مدنيَّتنا الساطعة، المكتظة بالهمج المسيحيين وبالجذام الذهني، لربما صنعوا خيرًا حقيقيًّا، ووفَّروا حياتهم في سبيل قضية أجدى وأشرف.

السائل: لكن المسيحيين لا يرون ذلك.

الثيوصوفي: بالطبع لا، لأنهم يعملون بمعتقد مغلوط فيه. إنهم يعتقدون أنهم، بتعميد جسم همجي غير مسؤول، ينقذون نفسه من الدينونة. تنسى إحدى الكنائس شهداءها، بينما ترسم كنيسة أخرى في عداد القدِّيسين أناسًا من أمثال لابرو، الذي ضحَّى بجسمه مدة أربعين عامًا، لا لشيء إلا لينفع الهَوام التي ترعى فيه، وينصبون لهم التماثيل. فلو كانت لدينا الوسائل لنصب التماثيل لنصبنا واحدًا للأب دَمْيان، ذلك القديس العملي الحق، ولخلَّدنا ذكراه إلى الأبد، بوصفه قدوة حية للبطولة الثيوصوفية وللرحمة والتضحية بالنفس اللتين لا تليقان إلا بالبوذا وبالمسيح.

السائل: فأنتم، إذن، تعتبرون التضحية بالنفس واجبًا؟

الثيوصوفي: أجل – ونفسِّر ذلك بتبيان أن الإيثار جزء لا يتجزأ من التفتح الذاتي. بيد أن علينا أن نتبصَّر. إذ لا يحق للمرء أن يتضور جوعًا حتى الموت حتى يحصل إنسان آخر على طعام، ما لم تكن حياة ذلك الإنسان، بما لا يدع مجالاً للشك، أنفع للمجموع من حياته هو. غير أن من واجبه أن يضحِّي براحته، وأن يعمل من أجل الآخرين، إذا كانوا غير قادرين على العمل بأنفسهم. إن من واجبه أن يَهَبَ كلَّ ما يمتلك حصرًا، ولا ينفع أحدًا سواه، إذا كان يُمسِكه بأنانية عن الآخرين. الثيوصوفيا تعلِّم نكران الذات، لكنها لا تعلِّم تضحيةً بالنفس متهورة لا خير فيها، ولا هي تسوِّغ التعصب.

السائل: ولكن كيف لنا أن نبلغ مقامًا ساميًا كهذا؟

الثيوصوفي: بوضع وصايانا موضع التطبيق المستنير. بالاستعانة بصوابنا الأعلى، بحدسنا الروحي وحسِّنا الخُلُقي، وبالانصياع لما يمليه علينا ما ندعوه "الصوت الخافت الصغير" لضميرنا، ألا وهو صوت أنيَّتـنا، الذي ينطق فينا بأعلى من زلازل يهوه ورعوده، حيث "يغيب الرب".

السائل: إذا كانت هذه هي واجباتنا نحو الإنسانية بعامة، فما هي واجباتنا نحو جوارنا المباشر، كما تفهمونها؟

الثيوصوفي: هي عينها، زائدة تلك الواجبات التي تنشأ من فروض خاصة تتعلق بروابطنا الأسرية.

السائل: ليس صحيحًا، إذن، كما يُشاع، أنه عندما ينضمُّ أحدهم إلى الجمعية الثيوصوفية سرعان ما يشرع في الانفصال التدريجي عن زوجته وأولاده وفي الاستعفاء من واجباته الأسرية؟

الثيوصوفي: هي، وغيرها كثير، فرية لا أساس لها من الصحة. إن أول الواجبات الثيوصوفية هو قيام المرء بواجباته نحو كلِّ البشر، ولاسيما نحو الذين يدين لهم بمسؤولياته النوعية، إما لأنه اضطلع بها طوعًا، كروابط الزواج، أو لأن قَدَرَه حالفه معها – وأعني تلك المسؤوليات الواجبة نحو الوالدين أو أقرب الناس.

السائل: وماذا عن واجب الثيوصوفي حيال نفسه؟

الثيوصوفي: أن يسيطر على الذات الدنيا ويقهرها عِبْر الذات العليا؛ أن يتطهَّر في سريرته وخُلُقه؛ ألا يخشى شيئًا أو أحدًا غير محكمة ضميره؛ ألا يشرع في شيء ولا يُتِمَّه. أي أنه إذا استصوب القيام بشيء، فليقمْ به علانية وبجسارة؛ أما إذا لم يستصوبه فلا يقربنَّه أصلاً. إن من واجب الثيوصوفي أن يخفِّف من وزره بأن يفكِّر في الحديث المأثور عن إبكتيتوس الذي يقول: "لا تلهينَّك عن أداء واجبك أية غضاضة فارغة قد تأتيك من العالم السفيه؛ فإن استهجانه يتعدَّى حدود سلطانك، وبالتالي، يجب ألا يشغل أيَّ حيِّز من اهتمامك."

السائل: هَبْ، مع ذلك، أن واحدًا من أعضاء جمعيتكم تذرَّع بعجز غيره من الناس عن العمل بالإيثار، بحجة أن "الأقربين أولى بالمعروف"، مصرًّا على أنه أكثر انهماكًا، أو أشد فقرًا، من أن ينفع الإنسانية أو أيَّ فرد من أفرادها حتى – ما هي قواعدكم في حالة كهذه؟

الثيوصوفي: ما من امرئ يحق له القول إنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا من أجل الآخرين، أية كانت ذريعته. فكما قال أحد الكتَّاب الإنكليز: "قُمْ بواجبك المناسب في المكان المناسب، فتجعل العالم كلَّه مدينًا لك." إن كأس ماء بارد يُعطى قبل فوات الأوان لعابر سبيل برَّح به العطش لَواجبٌ أنبل وأجدى من اثنتي عشرة وليمة تُهدَر في غير أوانها في أناس يستطيعون أن يتحمَّلوا تكاليفها. ما من امرئ ليس مستعدًّا بعدُ يقدر أن يصبح ثيوصوفيًّا – وإن يكن يستطيع أن يظلَّ عضوًا في جمعيتنا على كلِّ حال. ليست لدينا قواعد نحمل بها أيَّ إنسان على أن يصبح ثيوصوفيًّا عمليًّا إذا لم يكن يرغب في أن يصبح كذلك.

السائل: فلِمَ ينتسب إلى الجمعية أصلاً؟

الثيوصوفي: هو الأدرى بما يفعل. فهاهنا أيضًا، ليس لنا الحق في التعجيل بالحكم على شخص ما، حتى وإن علا ضدَّه صوتُ مجتمع بأسره – وبإمكاني أن أبرِّر لك لماذا. في يومنا هذا، لم يعد "صوت الشعب" (فيما يخص صوت المتعلِّمين على الأقل) هو "صوت الإله"،[8] بل بالحري صوت التحامُل، والدوافع الأنانية، وأحيانًا كثيرة، صوت اللاشعبية. من واجبنا أن نزرع البذور من أجل المستقبل، وأن نحرص على جودتها، لا أن نقف للتحرِّي عن سبب قيامنا بذلك، وعن كيفية ودواعي اضطرارنا إلى هدر وقتنا، وذلك لأن أولئك الذين سوف يجنون الحصاد في الأيام المقبلة لن يكونوا نحن أبدًا.

في البِرِّ

السائل: وكيف تنظرون، أيها الثيوصوفيون، إلى واجب البِرِّ المسيحي؟

الثيوصوفي: عن أيِّ بِرٍّ تتكلَّم؟ بِرِّ الذهن، أم البِرِّ العملي على الصعيد المادي؟

السائل: أعني البِرَّ العملي، باعتبار أن فكرتكم عن الأخوَّة العالمية تضم، بالطبع، البِرَّ الذهني.

الثيوصوفي: في بالك، إذن، التطبيق العملي للوصايا التي نطق بها يسوع في عظته على الجبل.

السائل: بالضبط.

الثيوصوفي: فلِمَ تدعوها "مسيحية"، إذن؟ هل لأن آخر ما يفكِّر فيه مسيحيو اليوم هو تطبيق هذه الوصايا في حياتهم؟! – على الرغم من أن مخلِّصكم نادى بها وطبَّقها عمليًّا.

السائل: ومع ذلك فهناك العديدون ممَّن يقضون حياتهم في إجراء الصدقات.

الثيوصوفي: نعم، لكنْ من فضلة ثرواتهم الضخمة! لكن دلَّني على ذلك المسيحي، بين كبار المحسنين، الذي يتخلَّى للصٍّ يرتعش بردًا ويتضور جوعًا، قد يسرق قميصه، عن ردائه أيضًا؛ أو يعرض خدَّه الأيمن لِمَنْ يلطمه على خدِّه الأيسر،[9] ولا يفكِّر حتى في الاستياء من ذلك؟

السائل: آه، ولكن لا تنسَ أن هذه الوصايا يجب ألا تؤخَذ على محمل الحرف. لقد تغيَّرت الأزمنة والظروف منذ أيام المسيح. وعلاوة على ذلك، فقد كان يتكلَّم بالأمثال.

الثيوصوفي: إذ ذاك لِمَ لا تعلِّم كنائسكُم بأن عقيدة الدينونة الأبدية ونار جهنم يجب أن تُفْهَم بوصفها من الأمثال هي الأخرى؟ ولِمَ يصرُّ عددٌ من أكثر وعَّاظكم شعبية، بينما هم يسمحون إجمالاً بفهم هذه "الأمثال" كما تفسِّرونها، على المعنى الحرفي لنيران جهنم وعلى التعذيب الجسماني لنفس "من طبيعة الأميانت"[10]؟ إذا كانت الأولى "مثلاً" فإن الثانية كذلك. إذا كانت نار جهنم حقيقة حرفية فإن على وصايا المسيح في العظة على الجبل أن تُطاعَ بالحرف الواحد. وإني لأؤكد لكم أن العديدين ممَّن لا يعتقدون بألوهية المسيح – مثل الكونت ليف تولستوي وعدد من الثيوصوفيين – يطبِّقون بحرفيَّتها هذه الوصايا، النبيلة نظرًا لطابعها العالمي. ولربما طبَّقها غيرهم كثير من الرجال الطيبين والنساء الطيبات، لو لم يكونوا أكثر من متيقنين من أن مسيرة كهذه في الحياة سوف تنتهي بهم، أغلب الظن، إلى مأوى المجانين – من فرط ما هي مسيحية قوانينُكم!

السائل: ولكن الجميع قطعًا يعلمون أن كذا من الملايين تُصرَف سنويًّا على المبرَّات الخاصة والعامة.

الثيوصوفي: أوه، نعم؛ ويَعْلَقُ نصفُها بالأيدي التي تتناقلها قبل أن تصل إلى المعوزين؛ في حين أن حصة كبيرة أو ما يتبقى منها يصل إلى أيدي المتسوِّلين المحترفين – الذين هم أكسل من أن يعملوا – وبهذا لا ينتفع منه بشيء أهلُ البؤس والشقاء فعلاً. ألم تسمع بأن أولى نتائج فيض الإحسان على حيِّ إيست إنْدْ في لندن كانت ارتفاع أسعار الإيجار في وايتشابل بحوالى عشرين في المائة؟

السائل: فما العمل إذن؟

الثيوصوفي: العمل فرديًّا، وليس جماعيًّا؛ اتِّباع الوصايا البوذية الشمالية: "لا تضعنَّ أبدًا طعامًا في فم جائع بيدِ سواك"؛ "لا تدع أبدًا ظلَّ جارك (شخص ثالث) يتوسَّط بينك وبين محلِّ جُوْدك"؛ "لا تترك أبدًا للشمس وقتًا تجفف فيه دمعةً قبل أن تكون قد كَفْكَفْتَها بنفسك"؛ وأيضًا: "لا تعطِ أبدًا مالاً للمحتاج ولا طعامًا للكاهن الذي يستجدي على بابك بواسطة خَدَمِكَ، لئلا ينتقص مالُك من الامتنان، أو ينقلب طعامُك إلى صفراء."

السائل: ولكن كيف لهذا أن يُطبَّق عمليًّا؟

الثيوصوفي: الأفكار الثيوصوفية عن البِرِّ تعني البذل الشخصي من أجل الآخرين؛ الرحمة واللطف الشخصيين، الاهتمام الشخصي برفاه المعذَّبين؛ التعاطف والتبصُّر والعون الشخصي في همومهم أو احتياجاتهم. نحن الثيوصوفيين لا نعتقد بصحة تقديم المال (على افتراض أنه متوفِّر لدينا) بواسطة أيدي غيرنا من الناس ومنظِّماتهم. نحن نعتقد بإمكان إعطاء المال قدرةً وفعاليةً أعظم بألف مرة بصلتنا وتعاطفنا الشخصيين مع أولئك الذين يحتاجونه. نحن نؤمن بإشباع جوع النفس إيمانَنا بملء خواء المعدة – إن لم يكن أكثر؛ إذ إن الامتنان يُحسِنُ إلى مَن يشعر به أكثر مما يُحسِنُ إلى مَن يُشعَر نحوه به. أين الامتنان الذي كان على "ملايين ليراتك" أن تستدرَّه؟ وأين المشاعر الطيبة التي كان عليها أن تحرِّضها؟ أهو بادٍ في كراهية فقراء إيست إنْدْ للأغنياء؟ في تنامي فريق الفوضوية وفساد النظام؟ أم في الآلاف من هاتيك الفتيات العاملات التعسات، ضحايا نظام "الكدح"،[11] المدفوعات كلَّ يوم إلى تدبُّر أمر معيشتهنَّ بشقِّ النفس باللجوء إلى البغاء؟ أفهل يشكركم المسنُّون العجزة من رجالكم ونسائكم على المآوي؛ أو فقراؤكم على المساكن الوبيئة والوخيمة التي يُسمَح لهم فيها بِنَسْلِ أجيال جديدة من الأطفال المعتلِّين الغدبيين الكسيحين،[12] لا لشيء إلا لضخِّ المال في جيوب أمثال شايلوك[13] من مُلاَّك هذه البيوت؟ لهذا فإن كلَّ دينار ذهبي من تلك "الملايين" التي تبرَّع بها أناس طيبون، يطمعون في أن يصيروا من المحسنين، يحطُّ كلعنة محرقة على الفقراء الذين يُفترَض فيها أن تفرِّج كربتهم – بدلاً من أن تكون بركة عليهم. نحن ندعو هذا توليد كرما قومي – ولسوف تكون نتائجه رهيبة يوم الحساب!

الثيوصوفيا للجماهير

السائل: وأنتم تعتقدون بأن الثيوصوفيا قد تستطيع، بتدخُّلها، إزالة هذه الشرور، ضمن شروط حياتنا الحديثة العملية والعصيبة؟

الثيوصوفي: لو كان لدينا مال أكثر، ولو لم يكن على غالبية الثيوصوفيين أن تعمل من أجل كفاف يومها، أؤمن جزمًا بأننا كنَّا نستطيع ذلك.

السائل: كيف؟ هل تتوسمون في عقائدكم أن تجد تربة لها بين الجماهير غير المتعلِّمة، في حين أنها من الاستغلاق والصعوبة بحيث إنها تكاد أن تستعصي على المثقفين من الناس؟

الثيوصوفي: أنت تنسى شيئًا، ألا وهو أن تربيتكم الحديثة، التي تفاخرون بها إلى هذا الحدِّ، هي بالضبط ما يجعل الثيوصوفيا مستعصية على فهمكم. إن ذهنكم من الاكتظاظ بالبهلوانيات الفكرية والتصورات المسبقة بحيث إن حدسكم وإدراككم الطبيعيين للحقيقة يتوقفان عن العمل. فلا الميتافيزياء ولا التعليم ضروريان لجعل امرئ يفهم حقيقتَيْ كرما والتقمُّص في خطوطهما العريضة. اُنظرْ إلى ملايين البوذيين والهندوس الفقراء غير المتعلِّمين، الذين يرون في كرما والعوْد إلى التجسُّد حقيقتين وطيدتين، لا لشيء إلا لأن أذهانهم لم تُتخَم وتُمسَخ بإكراهها على السير في أخدودٍ مناوئ للطبيعة. إن شعورهم الإنساني الفطري بالعدالة لم يُشوَّه فيهم بحملهم على الإيمان بأن خطاياهم سوف تُغفَر لهم لمجرَّد أن أحدهم قد أُعدِمَ من أجلهم. ولاحِظ جيدًا أن البوذيين يعيشون وفقًا لمعتقداتهم بدون تذمُّر على كرما، أو ما يعتبرونه قصاصًا عادلاً؛ على حين أن عامة المسيحيين لا يعيشون وفقًا لمثالهم الخُلُقي، كما ولا يقبلون بنصيبهم راضين. من هنا كلُّ هذه الشكوى والاستياء وشدة الصراع على الوجود في بلاد الغرب.

السائل: ولكن أفلا تستغني هذه القناعة، التي تثني عليها إلى هذا الحدِّ، من كلِّ دافع إلى الكدِّ، فتعطِّل حركة التقدم؟

الثيوصوفي: ونحن الثيوصوفيين نقول إن تقدُّمكم ومدنيَّتكم اللذين تتبجحون بهما ليستا أفضل من سِرْب الحباحب، يرفرف فوق مستنقع ينفث أبخرة سامة وفتَّاكة. ذلك لأننا نشهد الأثرة والجريمة والفجور وكلَّ الشرور التي تخطر بالبال تنقضُّ على البشرية التعسة من صندوق بندورا[14] الذي تدعونه عصر التقدم، وتتفاقم بتفاقم مدنيَّتكم المادية. فأمام ثمن كهذا، أجْمِل بعطالة البلاد البوذية وبخمولها، اللذين لم يبرزا إلا كعاقبتين من عواقب فترات مديدة من الرقِّ السياسي.

السائل: أفيكون كلُّ هذه الميتافيزياء والسِّرانية اللتين تنشغلون بهما إلى هذا الحدِّ لا أهمية له؟

الثيوصوفي: أما بنظر الجماهير، التي لا تحتاج إلا إلى الإرشاد والدعم العمليين، فلا وزن لهما يُذكَر؛ وأما بنظر المثقفين – القادة الطبيعيين للجماهير، أولئك الذين تتبنى تلك الجماهير أنماط تفكيرهم وعملهم، عاجلاً أم آجلاً – فإنهما ذواتا أهمية كبرى. فبواسطة الفلسفة وحدها يستطيع الإنسان العاقل والمثقف أن يتجنب الانتحار الفكري الناجم عن الاعتقاد المبني على الإيمان الأعمى؛ ووحده استيعاب التواصل الدقيق والتماسُك المنطقي للعقائد المشرقية، إن لم نَقُلْ الباطنية، يؤهِّله لإدراك حقيقتها. فاليقين يولِّد النخوة، و"النخوة هي عبقرية الإخلاص، ولا طاقة للحقيقة على إحراز أيِّ نصر بدونها"، كما يقول بَلْوِرْ ليتُّون[15]؛ بينما ينوِّه إمِرسُن،[16] محقًّا كلَّ الحق، إلى أن "كلَّ حركة عظيمة ومهيبة في سجلات العالم لهي تكرِّس انتصار النخوة". فهل من شيء حريٍّ بأن يبعث شعورًا كهذا أكثر من فلسفة بهذا السموِّ، بهذا الاتِّساق، بهذه المنطقية، وبهذه الإحاطة، كعقائدنا المشرقية؟

السائل: ومع ذلك فإن أعداءها كثيرون جدًّا، والثيوصوفيا تواجه كلَّ يوم خصومًا جُدُدًا؟

الثيوصوفي: وهذا بالضبط ما يبرهن على تفوُّقها وقيمتها الجوهريين. فالناس لا يكرهون إلا ما يخشون؛ وما من أحد يتجشم عناء الإطاحة بما لا يهدِّد الصَّغار أو يعلو عليه.

السائل: فهل تأملون في نشر هذه النخوة بين الجماهير ذات يوم؟

الثيوصوفي: ولِمَ لا؟ بما أن التاريخ يخبرنا أن الجماهير تبنَّت البوذية بحماس، في حين أن الأثر العملي لفلسفة الأخلاق هذه عليهم، كما أسلفت، لا يزال يتجلَّى في ضآلة نسبة الجريمة بين الشعوب البوذية بالمقارنة مع كلِّ ديانة أخرى. أهم ما في الأمر هو اجتثاث أخصب مصادر الجريمة والفجور – ألا وهو اعتقاد البشر بإمكان نجاتهم من عواقب فِعَالهم.[17] علِّمْهم أعظم القوانين – كرما والتقمُّص – ولن يشعروا توًّا في أنفسهم بالكرامة الحق للطبيعة الإنسانية وحسب، بل وسيتحوَّلون عن الشرِّ ويتجنبونه كما يتجنبون الخطر المادي.

كيف يستطيع الأعضاء مساعدة الجمعية

السائل: وكيف تتوقعون من أعضاء جمعيتكم أن يساعدوا في العمل؟

الثيوصوفي: أولاً، بدراسة العقائد الثيوصوفية واستيعابها، بحيث يمكن لهم تعليم الآخرين، وخاصة الشباب؛ وثانيًا، بانتهاز كلِّ فرصة للتحدث إلى الآخرين ولشرح ما هي الثيوصوفيا وما ليس هي، وبتصويب التصورات المغلوطة عنها ونشر الاهتمام بالموضوع؛ وثالثًا، بالمساعدة على تداول أدبياتنا، بشراء الكتب إذا توفرتْ لديهم الوسيلة لذلك، بإعارتها وتقديمها لأصدقائهم، وبحثِّ هؤلاء على القيام بذلك؛ ورابعًا، بالذود عن الجمعية ضدَّ التخرُّصات المغرضة التي تنهال عليها، بكلِّ التدابير المشروعة التي يقدرون عليها؛ وخامسًا – وهذا أهم ما في الأمر – بأن تكون حياتهم نفسُها مثلاً يُحتذى.

السائل: لكن هذه الأدبيات كلَّها، التي تعلِّقون على نشرها كلَّ هذه الأهمية، تبدو لي غير ذات فائدة عملية في مساعدة البشرية. فهذا ليس ببِرٍّ عملي.

الثيوصوفي: أما نحن فنرى غير ما ترى. نحن نرى بأن كتابًا جيدًا، يوفِّر للناس قوتًا طيبًا للفكر، يقوِّي أذهانهم ويجلوها، ويمكِّنهم من استيعاب حقائق شعروا بها شعورًا مبهمًا دون أن يستطيعوا صياغتها، لَيقدِّم خدمة حقيقية وراسخة. أما فيما يتعلق بما تسمِّيه أعمال البِرِّ العملية، لإسعاف أبدان رفاقنا البشر، فإننا نقوم بالقليل الذي في وسعنا؛ غير أن غالبيتنا، كما سبق أن قلت لك، فقراء، على حين أن الجمعية نفسها لا مال لديها حتى لدفع أجور طاقم من العاملين. إن جميع مَن يجاهدون بيننا في سبيلها، يقدِّمون تعبهم مجانًا، ويقدِّمون المال أيضًا في معظم الحالات. أما القلة التي تملك وسائل القيام بما يُدعى عادة بأعمال البِرِّ فإنها تعمل بالوصايا البوذية وتؤدي عملها بنفسها، لا بالوكالة أو بالتبرُّع علنًا لصناديق الإحسان. أما ما يجب على الثيوصوفي أن يقوم به، قبل كلِّ شيء، فهو نسيان شخصيته.

ما ينبغي على الثيوصوفي أن يُحجِمَ عنه

السائل: هل لديكم في جمعيتكم أية قوانين أو بنود تحريمية على الثيوصوفيين أن يتقيدوا بها؟

الثيوصوفي: لدينا العديد منها، ولكن – واأسفاه! – ما من واحد منها إلزامي. إنها تعبِّر عن المثل الأعلى لمنظمتنا؛ غير أننا مرغمون على ترك التطبيق العملي لمثل هذه الأمور لاجتهاد الأعضاء أنفسهم. ومن سوء الحظِّ أن حالة أذهان البشر في القرن الحالي هي ما هي، بحيث إننا إذا لم نسمح لهذه البنود بالبقاء على الهامش، إذا جاز التعبير، فلن يجرؤ رجل أو امرأة على المجازفة بالانضمام إلى الجمعية الثيوصوفية أصلاً. وهذا، على وجه التحديد، ما يحدوني إلى كلِّ هذا الإصرار على الفرق بين الثيوصوفيا الحق والجمعية الثيوصوفية – وِعائِها الكادح والحَسَن النية، لكن غير اللائق بها.

السائل: هل لك أن تخبرني عن هذه الصخور المُهلِكة في عرض بحر الثيوصوفيا؟

الثيوصوفي: أنت مصيب إذ تدعوها صخورًا؛ ذلك أن أكثر من ع.ج.ث. واحد، على إخلاصه وطيب نواياه، اندفع بزورقه الثيوصوفي حتى تحطَّم عليها شظايا! ومع ذلك يبدو تجنبُ أشياء معينة أسهل الأشياء في العالم. هاك، على سبيل المثال، سلسلة من أمثال هذه النواهي، التي تنطوي على واجبات ثيوصوفية إيجابية:

على الثيوصوفي ألا يصمت عمَّا يسمع من الأقاويل والافتراءات الشريرة التي تُشاع عن الجمعية، أو عن أشخاص أبرياء، أكانوا من زملائه أم لم يكونوا.

السائل: ولكن هَبْ أن ما يسمعه المرء هو الحقيقة، أو قد يكون صحيحًا بدون أن يكون هو على علم بذلك؟

الثيوصوفي: عليه حينئذٍ أن يطلب براهين دامغة على الزعم، ويستمع إلى كلا الطرفين بلا تحيُّز، قبل أن يسمح للاتهام بالمرور دون تكذيب. لا يحق لك أن تصدِّق الشرَّ قبل أن تحصل على برهان على صحة التصريح لا يقبل الدحض.

السائل: وأي موقف يكون موقفه حينذاك؟

الثيوصوفي: على الرأفة والحِلْم والبِرِّ والصبر على المَكاره أن يكونوا دومًا حاضرين لحملنا على العفو عن إخواننا الخُطاة، وإصدار أرفق حُكْم ممكن على الذين يضلُّون. على الثيوصوفي ألا ينسى أبدًا أن يأخذ بالحسبان النقائصَ ومَواطِنَ الضعف في الطبيعة البشرية.

السائل: أعليه أن يعفو تمامًا في حالات كهذه؟

الثيوصوفي: في كلِّ الحالات، وخاصة إذا كان هو مَن ارتُكِبَت الخطيئة في حقِّه.

السائل: لكنْ ماذا عليه أن يفعل إذا كان بالعفو يجازف بالإساءة، أو بالسماح بالإساءة، إلى الآخرين؟

الثيوصوفي: عليه أن يقوم بواجبه – بما يُمليه عليه ضميرُه وطبيعتُه العليا – إنما بعد تمعُّن ناضج. فالعدل يقضي بعدم إيذاء أيِّ كائن حي؛ بيد أن العدل يأمرنا أيضًا بعدم السماح أبدًا بإنزال الأذى بأشخاص أبرياء، أو حتى بشخص بريء واحد، وذلك بالسماح للمذنب بالسراح، لا يردعه رادع.

السائل: وما البنود الناهية الأخرى؟

الثيوصوفي: ما من ثيوصوفي ينبغي أن يقنع بحياة خاملة أو عابثة، لا خير فيها لنفسه، ومن باب أولى، لسواه. عليه أن يعمل لمنفعة القلة الذين يحتاجون إلى مساعدته إذا لم تكن له طاقة على الكفاح في سبيل الإنسانية، وبالتالي، على العمل من أجل ترقِّي القضية الثيوصوفية.

السائل: إن هذا ليتطلَّب طبيعة استثنائية؛ وقد يكون عسيرًا على بعض الناس.

الثيوصوفي: خير له، إذن، أن يبقى خارج ج.ث.، بدلاً من أن يبحر في سفينة ليست سفينته. ليس مطلوبًا من أحد أكثر من وسعه، سواء في التفاني أو الوقت أو العمل أو المال.

السائل: وماذا بعد؟

الثيوصوفي: ما من عضو عامل له أن يعلِّق قيمةً على تقدُّمه أو تفقُّهه الشخصيين في الدراسات الثيوصوفية أكبر مما ينبغي؛ بل عليه بالحري أن يكون مستعدًّا للقيام بكلِّ ما بوسعه من العمل الإيثاري. وعليه ألا يُلقي بكلِّ عبء الحركة الثيوصوفية ومسؤوليتها الثقيلين على أكتاف ثلة العاملين المتفانين. على كلِّ عضو أن يشعر بأن من واجبه أن يأخذ الحصة التي يستطيع النهوض بها من العمل المشترك، وأن يسهم فيها بكلِّ ما أوتي من وسائل.

السائل: هذا هو الصواب بعينه. وماذا بعد؟

الثيوصوفي: ما من ثيوصوفي يحق له أن يضع كبرياءه أو مشاعره الشخصية فوق كبرياء جمعيته أو مشاعرها ككل. إن مَن يضحِّي بسمعة الجمعية، أو بسمعة سواه من الناس، على مذبح كبريائه الشخصية، أو منفعته الدنيوية، أو غروره، ينبغي ألا يُسمَح له بالبقاء عضوًا. فعضو متسرطِن واحد كفيل بإصابة البدن برمَّته.

السائل: هل من واجب كلِّ عضو أن يعلِّم الآخرين وأن يبشِّر بالثيوصوفيا؟

الثيوصوفي: إنه لكذلك فعلاً. ما من عضو يحق له أن يبقى خاملاً بحجَّة أن معارفه أقل من أن يعلِّم. فليكن على ثقة من أنه سيجد دومًا مَن هم أقل منه معرفةً. والمرء لا يكتشف جهله ويحاول إماطته قبل أن يشرع في محاولة تعليم الآخرين. لكن هذا بند ثانوي.

السائل: فما هو، في نظرك، إذن، أهم هذه الواجبات الثيوصوفية الناهية؟

الثيوصوفي: أن يكون المرء على استعداد دائم للإقرار بأغلاطه وللاعتراف بها. أن يخطئ بالحري بالمبالغة في الثناء على جهود جاره منه بالإقلال من شأنها. ألا يغتاب أبدًا شخصًا آخر أو يفتري عليه؛ بل أن يقول له دومًا، صراحة ووجهًا لوجه، كلَّ مأخذ له عليه. ألا يجعل من نفسه أبدًا صدًى لأيِّ شيء يسمعه يسيء إلى غيره، ولا أن يضمر ضغينة ضدَّ مَن يُتَّفق لهم أن يسيئوا إليه.

السائل: لكن كثيرًا ما يكون من الخطورة أن تُقال الحقيقة للناس في وجوههم. ألا تظن ذلك؟ سمعت عن واحد من أعضائكم امتعض بمرارة، وغادر الجمعية، وصار من ألدِّ أعدائها، لا لشيء إلا لأن حقائق فظة قيلت له في وجهه، وأُنْحِيَ عليه باللائمة بخصوصها.

الثيوصوفي: لقد صادفنا العديد من أمثاله. فما من عضو، بارزًا كان أم نكرة، غادرنا أصلاً بدون أن يصير عدوَّنا اللدود.

السائل: وكيف تعلِّل هذا؟

الثيوصوفي: الأمر ببساطة كما يلي: بعد أن يكون الشخص، في معظم الحالات، شديد الإخلاص للجمعية في بادئ الأمر، وبعد أن يكيل لها أشد المدائح غلوًّا، فإن العذر الوحيد الممكن الذي يستطيع مرتدٌّ أن يتخذه ذريعة لسلوكه اللاحق وقصر نظره الماضي هو أن يلبس لَبوسَ الضحية البريئة والمخدوعة، وبهذا يرفع اللائمة عن كاهله وينحو بها على كاهل الجمعية بعامة، وقادتها بخاصة. إن أمثال هؤلاء الأشخاص يذكِّرون المرء بالحكاية القديمة عن الرجل ذي الوجه الممسوخ الذي حطَّم مرآته على الأرض ظنًّا منه بأنه كانت تعكس سيماءه على نحوٍ معوجٍّ!

السائل: ولكنْ ماذا يجعل هؤلاء القوم ينقلبون على الجمعية؟

الثيوصوفي: إنه الغرور الجريح، في صورة أو في أخرى، في أغلب الأحيان – إنْ عمومًا لأن إملاءاتهم ونصائحهم لا يؤخذ بها بوصفها قاطعة ومعتمَدة؛ وإنْ لأنهم ممَّن يفضِّلون أن يكون لهم المُلك في جهنم على أن يخدموا في الجنَّة – باختصار، لأنهم لا يطيقون أن يكونوا في المنزلة الثانية بعد غيرهم في أيِّ شيء. هناك، على سبيل المثال، عضو – "سيد عرَّاف" حقيقي – انتقد وكاد أن يطعن في كلِّ عضو من أعضاء ج.ث.، ليس أمام الثيوصوفيين وحسب، بل أمام الغرباء أيضًا، متذرِّعًا بأن سلوكهم جميعًا غير ثيوصوفي، لائمًا إياهم تحديدًا على ما كان يفعله هو نفسه طوال الوقت. وأخيرًا، ترك الجمعية، متذرِّعًا بأنه بات على يقين عميق بأننا جميعًا (المؤسِّسَيْن بالأخص) محتالون! هناك عضو آخر، بعد أن حاك الدسائس بكلِّ وسيلة ممكنة لكي يوضَع على رأس شعبة واسعة من الجمعية، ووجد بأن الأعضاء لم يقبلوا به، انقلب على مؤسِّسَيْ ج.ث.، وصار ألدَّ أعدائهما، ولم يفوِّت فرصة للتشهير بأحدهما، لا لشيء إلا لأن هذا الأخير لم يستطع، ولم يُرِدْ، أن يفرضه على الأعضاء. تلك كانت ببساطة حالة غرور جريح إلى حدٍّ فظيع. وهناك عضو آخر كان يريد ممارسة السحر الأسود، وقد مارسه في واقع الأمر – أي مارس تأثيرًا نفسانيًّا شخصيًّا في غير محلِّه على عدد من الأعضاء، في الوقت الذي كان يدَّعي فيه التفاني وسائر الخصال الثيوصوفية. وحين تمَّ وضعُ حدٍّ لهذا كلِّه، انسلخ هذا العضو عن الثيوصوفيا، وهو الآن ينشر الافتراءات والأكاذيب عن القائدين المنكودَي الحظ عينهما بأخبث الطُّرُق، ساعيًا إلى تحطيم الجمعية بتسويد سمعة اللذين لم يتمكَّن ذلك "العضو" الفاضل من خداعهما.

السائل: ماذا تفعلون بمثل هؤلاء الأشخاص؟

الثيوصوفي: ندعهم وكرماهم. إذا كان أحدهم يرتكب الشرَّ فهذا لا يبرِّر للآخرين ارتكابَه.

السائل: ولكن، بالعودة إلى الافتراء، أين يقع الحدُّ الفاصل بين الاغتياب وبين النقد المنصف؟ أليس من واجب المرء أن يحذِّر أصدقاءه وجيرانه ممَّن يعلم أنهم أقران خطيرون؟

الثيوصوفي: إذا كان السماح لهم بالمضيِّ بلا وازع يعرِّض أشخاصًا آخرين للأذى من جراء ذلك، فمن واجبنا قطعًا أن نصرف الخطر بتحذيرهم سرًّا. بيد أنه ما من اتِّهام ضدَّ شخص آخر، صحيحًا كان أم كاذبًا، ينبغي أن يُشاع. فإذا كان صحيحًا – والغلط لا يؤذي إلا مرتكبَه – إذ ذاك دعوه وكرماه؛ أما إذا كان كاذبًا، فإنكم بذلك تتجنبون زيادة الحيف في العالم. لذا، اصمتوا عن هذه الأمور مع كلِّ مَن هو غير معنيٍّ بها مباشرة. لكنْ إذا كان في تكتُّمكم وصمتكم احتمال لتأذِّي الآخرين وتعريضهم للخطر، ساعتئذٍ أضيف إلى ما قلت: قُلِ الحقَّ ولا تبالِ، وقُلْ مع أنِّسْلي: "استشر الواجب، لا الأحداث." فهناك حالات يُكرَه فيها المرءُ على الهتاف: "ألا بئس التكتُّم إذا كان يحول دون أداء الواجب."

السائل: يخيَّل إليَّ أنكم، إذا عملتم بهذه الحِكَم، فسوف تجنون محصولاً بهيجًا من المشاكل!

الثيوصوفي: هذا ما نعاني منه في الواقع. لا بدَّ لنا من الإقرار بأننا الآن عرضة للتعيير عينه الذي تعرَّض له المسيحيون الأوائل. عبارة "انظروا كم يحب هؤلاء الثيوصوفيون بعضهم بعضًا!" قد تقال فينا الآن بدون أية شبهة حيف.

السائل: إذا كنتَ بنفسك تقرُّ بأن النميمة والافتراء والخصومة لا تقلُّ في ج.ث. عنها في الكنائس المسيحية – إن لم تَفُقْها – ناهيك عن الجمعيات العلمية، فأيُّ ضرب من الأخوَّة أخوَّتكم؟

الثيوصوفي: بالفعل هي نموذج مُزْرٍ، على ما هي عليه الآن – وإلى أن يُغربَل ويعاد تنظيمُه بعناية، لن يكون أفضل حالاً من النماذج الأخرى. إنما تذكَّر بأن الطبيعة البشرية هي هي داخل الجمعية الثيوصوفية وخارجها؛ وأعضاؤها ليسوا بقدِّيسين. إنهم، في أحسن الأحوال، خُطاة يحاولون أن يتحسَّنوا، وعرضة للتقهقر من جراء مَواطِن ضعف شخصية فيهم. أضف إلى ذلك أن "أخوَّتنا" ليست هيئة "معترفًا بها" أو راسخة؛ وهي تقف، إذا جاز القول، خارج حظيرة الشَّرْع. وهي، إلى ذلك، في وضع من الفوضى المطبقة؛ كما وأنها، ظُلمًا، تفوق في عدم شعبيتها أية هيئة أخرى. فلا غرو، إذن، أن يلجأ أولئك الأعضاء الذين فشلوا في تحقيق مُثُل الجمعية الأسمى، بعد أن يغادروا الجمعية، إلى أعدائنا ابتغاء نيل حمايتهم المتعاطفة، فيصبُّون جام صفرائهم ومرارتهم في آذان هؤلاء المستعدة للإصغاء للغاية! وإذ يعرفون بأنهم سيجدون الدعم، والعطف، والأذن المصغية لكلِّ اتهام يحلو لهم أن يشنُّوه ضدَّ الجمعية الثيوصوفية، مهما كان سخيفًا، فإنهم سرعان ما يفعلون ذلك، ويفشُّون غيظَهم في المرآة البريئة التي عَكَسَتْ وجوههم بكلِّ صدق. المرء لا يغفر أبدًا لِمَن يسيء إليهم! إن إحساسه باللطف الذي يُعامَل به، والذي يجازيه بالجحود، يدفعه إلى سَوْرةٍ هوجاء من تبرير النفس أمام العالم وأمام ضميره هو. أما العالم فهو أكثر من مستعد لتصديق كلِّ ما يقال ضدَّ جمعية يكرهها. وأما ضميره... حسبي ما قلت حتى الآن، خشية أن أكون قلت أكثر مما ينبغي!

السائل: أنتم في وضع لا تُحسَدون عليه، على ما يبدو لي.

الثيوصوفي: فعلاً. ولكن أفلا تعتقد بأنه ينبغي أن يوجد من وراء الجمعية وفلسفتها شيء هو من النبل، والسموِّ، والحقيَّة، بحيث إن قائدا الحركة ومؤسِّساها لا يزالان يواصِلان العمل من أجلها بكلِّ ما أوتيا من قوة؟ إنهما يضحِّيان من أجلها بكلِّ راحة، بكلِّ فلاح دنيوي، وبكلِّ نجاح، وحتى بطيب سمعتهما – لا بل حتى بشرفهما – لا لشيء إلا ليتلقوا في مقابل ذلك استنكارًا متواصلاً لا ينقطع، اضطهادًا لا هوادة فيه، بهتانًا لا يكلُّ، جحودًا مستمرًّا، سوءَ فهم لخيرة جهودهما، ضربات ولكمات من كلِّ حدب وصوب – في حين أنهما، بمجرَّد التخلِّي عن عملهما، سيجدان نفسيهما على الفور، وقد أُعتِقا من كلِّ مسؤولية، في مأمَن من أيِّ هجوم آخر.

السائل: أعترف بأن مثابرة كهذه تبدو لي مدهشة جدًّا؛ وقد تساءلت عن سبب قيامكم بهذا كلِّه.

الثيوصوفي: صدَّقني أننا لا نقوم به من أجل إرضاء أنفسنا، إنما أملاً في تدريب بضعة أفراد يواصلون عملنا من أجل الإنسانية، وفقًا لبرنامجه الأصلي، بعد موت المؤسِّسَيْن وارتحالهما. ولقد عثرا فعلاً على ثلة من هذه النفوس النبيلة والمتفانية لتحلَّ محلَّهما. وبفضل هذه الثلة، ستجد الأجيال القادمة الدرب المؤدِّية إلى السلام أقل شوكًا بقليل، والطريق أكثر انفراجًا بقليل؛ وبهذا يكون هذا العذاب كلُّه قد أثمر عن نتائج طيبة، ولن تضيع تضحيتُهما بنفسهما سدى. أما الساعة، فإن الهدف الرئيسي والأساسي للجمعية هو زرع بذور في قلوب البشر، قد تنتش مع الوقت، فتؤدي، في ظروف أكثر مؤاتاة، إلى إصلاح صحيح، يقود إلى سعادة للجماهير أكبر من التي تمتَّعتْ بها حتى الآن.

*** *** ***


horizontal rule

[1] رسالة القديس بطرس الأولى 3: 8-10. (المترجم)

[2] عاجزين عن الإيفاء. (م)

[3] لم نعثر على المصدر. (م)

[4] هي القول بلا فعل؛ وضدها المخالصة. (م)

[5] « Tel maître, tel valet. »

[6] العبارة للمسيح، وهي مأخوذة من إنجيل مرقس 2: 22. (م)

[7] من أحياء لندن الموغلة في الفقر والبؤس آنذاك. (م)

[8] بحسب مثل روماني قديم: Vox populi, vox Dei. (م)

[9] إشارتان، على التوالي، إلى قولين ليسوع في إنجيل متى 5: 40-41: "من أراد أن يحاكمك ليأخذ قميصك، فاترك له رداءك أيضًا" و"من لطمك على خدِّك الأيمن، فاعرضْ له الآخر".

[10] أي لا تحترق. (م)

[11] بالإنكليزية: sweating system؛ نظام يستعمل ربُّ العمل فيه اليد العاملة بأزهد الأجور، مستغلاً اضطرارها إلى العمل. (م)

[12] "الغدب" scrofula هو سلُّ العقد اللمفاوية؛ وهو مرض ينتقل غالبًا عن طريق الخنازير؛ أما "الكسيح" فالمقصود به المريض المصاب بالكساح. (م)

[13] شخصية المرابي اليهودي الشهيرة في مسرحية شكسبير تاجر البندقية. (م)

[14] باندورا أول امرأة في العالم تُخلَق من التراب اقتصاصًا من الرجل لأنه أخذ النار من بروميثيوس؛ أما الصندوق فقد أُعطِيَ لها وأُمِرَتْ بأن لا تفتحه، ولكنها عَصَتِ الأمر وفتحتْه، فأطلقتْ منه جميع الشرور على العالم، وعندما نجحتْ في إغلاقه من جديد لم يكن قد بقي فيه إلا الأمل. (م)

[15] إدوارد جورج بَلْوِر ليتُّون (1803-1873) روائي سرَّاني إنكليزي، مؤلِّف رواية آخر أيام بومبي الشهيرة. (م)

[16] رالف والدو إمِرسُن (1803-1882) فيلسوف أمريكي، مؤسِّس مدرسة "التسامي" الفلسفية مع تلميذه وصديقة هنري د. ثورو. (م)

[17] يؤثَر عن البوذا قولُه: " لا في السماء، ولا في عرض البحر، ولا في كهف جبلي، ولا في أيِّ مكان من العالم، يستطيع المرء أن يتهرب من سيِّئ فِعالِه." (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود