|
مفتاح الثيوصوفيا
هيلينا
ب. بلافاتسكي
الباب
الحادي عشر في أسرار التقمُّص (1
من 2) _____ الولادات
الدورية المستجدة
السائل:
أنت تقصد، إذن، أننا جميعًا عشنا على الأرض من
قبل، في العديد من التقمُّصات الماضية، وأننا
سوف نواصل حياتنا على هذا النحو؟ الثيوصوفي: أجل. إن دورة الحياة، أو دورة الحياة الواعية بالأحرى، تبدأ بتمايز الحيوان البشري الفاني إلى جنسين، وسوف تنتهي باختتام الجيل الأخير من البشر، في الجولة السابعة والذرية السابعة من النوع البشري. وباعتبار أننا لسنا بعدُ إلا في الجولة الرابعة والذرية الخامسة، فإن مدَّتها أسهل تخيُّلاً منها تعبيرًا. السائل:
ونحن نستمر في التقمُّص في شخصيات جديدة
على الدوام؟ الثيوصوفي:
بكل تأكيد نستمر؛ وذلك لأن دورة الحياة أو
فترة التقمُّص هذه قد تصحُّ مقارنتُها بعمر
الإنسان. فكما أن كلَّ عمر من هذه الأعمار
مكوَّن من نهارات من النشاط تفصل بينها ليالٍ
من النوم أو من القعود عن النشاط، كذلك، في
دورة التقمُّص، تتبع العمرَ النشيطَ راحةٌ
ديفاخانية. السائل:
وهذا التوالي من الولادات هو الذي يُعرَّف به
عمومًا بوصفه التقمُّص؟ الثيوصوفي: هو كذلك. فإن تقدم الملايين التي لا تُحصى من الأنيَّات نحو الكمال النهائي والراحة النهائية (مادامت فترة النشاط) لا يتمُّ إلا عِبر هذه الولادات إياها. السائل:
وما الذي ينتظم مدةَ هذه التقمُّصات أو
خصائصها المتميزة؟ الثيوصوفي:
إنه كرما، قانون العدالة الجزائية الشامل. السائل:
وهل هو قانون عاقل؟ الثيوصوفي: في نظر المادي، الذي يدعو قانون الدورية الذي ينتظم تجميع الأجسام المختلفة، وسائر القوانين الأخرى في الطبيعة، قوى عمياء وقوانين ميكانيكية، لا ريب أن كرما سيكون قانون مصادفة، لا أكثر. أما في نظرنا، لا يمكن لأيِّ نعت أو صفة وصفُ ذلك القانون اللاشخصي الذي ليس كيانًا، بل قانون ساري المفعول شامل. إذا سألتَني عن الفطنة السببية فيه لا بدَّ أن أجيبك بأني لا أعلم. لكنْ إذا سألتني أن أعرِّف آثاره وأن أخبرك بالمكانة التي تشغلها في معتقداتنا يجوز أن أقول إن خبرة آلاف العصور بيَّنتْ لنا أنها العدل والحكمة والفطنة المطلقة السديدة. إذ إن كرما، في آثاره، هو المسدِّد المتواصل للظلم الإنساني ولكلِّ قصورات الطبيعة؛ المعدِّل الصارم للأخطاء؛ القانون الجزائي الذي يثيب ويعاقب بالقسط المتساوي. إنه، بالمعنى الأكثر تشدُّدًا، "لا يحابي الأشخاص"، مع أنه، من جهة أخرى، لا يمكن استرضاؤه ولا تحييده بالصلاة. وهذا معتقد يشترك فيه الهندوس والبوذيون، الذين يعتقدون جميعًا بـكرما. السائل:
العقائد المسيحية تناقض كلا الهندوس
والبوذيين في هذا؛ وأشك في أن يقبل مسيحيٌّ
واحد بهذا التعليم. الثيوصوفي:
أجل، وقد بيَّن إنْمَن السبب في ذلك منذ سنوات
عديدة خَلَتْ. فعلى حدِّ قوله، بينما "يقبل
المسيحيون بأيِّ هراء، مادامت الكنيسة
تعمِّمه بندًا من بنود الإيمان [...]، فإن
البوذيين يذهبون إلى أن لا شيء يناقضُه
الصوابُ المعافى يصحُّ أن يكون عقيدة من
عقائد بوذا الصحيحة." إنهم لا يعتقدون بأية
مغفرة لخطاياهم، إلا بعد عقاب ملائم وعادل
على كلِّ فعلة أو خاطرة شريرة في تقمُّص لاحق،
وبعد تعويض مناسب للأطراف المتضرِّرين. السائل:
أين يَرِدُ هذا؟ الثيوصوفي: في غالبية كتبهم المقدسة. ففي عجلة الناموس (ص 57) يمكنك أن تجد المبدأ الثيوصوفي التالي: "يعتقد البوذيون أن لكلِّ فعل أو كلمة أو خاطرة عاقبة، لا بدَّ أن تظهر، عاجلاً أو آجلاً، في الحالة الحاضرة أو في الحالة المقبلة. الأفعال الطالحة تُنتِج عواقب طالحة، والأفعال الصالحة تُنتِج نتائج صالحة: الازدهار في هذا العالم، أو الولادة في السماء (ديفاخان) [...] في الحالة المقبلة." السائل:
والمسيحيون يؤمنون بالشيء نفسه، أليسوا
كذلك؟ الثيوصوفي:
ويحك، لا. إنهم يؤمنون بالعفو وبمغفرة
الخطايا جميعًا. إنهم موعودون بأنهم إذا
آمنوا وحسب بدم المسيح (الضحية البريئة!)،
بدمه المسفوح قربانًا منه فداءً عن خطايا
البشرية جمعاء، فإنه سيكفِّر عن كلِّ الخطايا
المميتة. أما نحن فلا نعتقد بالتكفير
بالنيابة، ولا بإمكانية مغفرة أيِّ إله لأصغر
الخطايا، حتى إذا كان "مطلقًا شخصيًّا"
أو "لانهائيًّا"، إذا جاز لمثل هذا الشيء
أن يوجد أصلاً. ما نعتقد به هو العدالة
الصارمة المنصفة. وفكرتنا عن الألوهة
الكلِّية المجهولة، متمثِّلةً في كرما،
هي قدرة معصومة لا يمكن، بالتالي، أن يعتورها
غضب أو رحمة، إنما فقط الإقساط المطلق، الذي
يترك كلَّ علَّة، عَظُمِتْ أم صَغُرَتْ،
تستنفد معلولاتها المحتومة. إن قول يسوع: "بالكيل
الذي تكيلون به يُكال لكم" (متى 7: 2) لا يشير،
لا تصريحًا ولا تلميحًا، إلى أيِّ أمل في رحمة
أو خلاص مقبلين بالوكالة. لهذا فإننا، إذ
نقرُّ في فلسفتنا بصواب هذه العبارة، لا
يسعنا إلا أن نشدِّد بغير حدٍّ في التوصية على
الرحمة والإحسان ومغفرة الإساءات المتبادلة. لا
تقاوموا الشرَّ [يسوع] وكن بالخير للشرِّ
قاهرًا [بولس الرسول] وصيتان بوذيتان؛ وقد
بُشِّر بهما أصلاً بالنظر إلى جبرية القانون
الكرمي. إن تولِّي الإنسان للقانون، على كلِّ
حال، لهو من قبيل الظنِّ التجديفي. فالقانون
البشري يجوز له أن يتخذ تدابير مقيِّدة، لا
قصاصية؛ إن امرأً، مع إيمانه بـكرما،
يقتصُّ لنفسه ويرفض أن يغفر الإساءات، فيردُّ
بذلك على الخير بالشر، مجرمٌ ولا يؤذي إلا
نفسه. فبما أن كرما لا بدَّ أن يقتصَّ من
المرء الذي أساء إليه، فإنه، بسعيه إلى إنزال
عقوبة إضافية بعدوِّه، بدلاً من أن يترك ذلك
العقاب للقانون الأعظم، مضيفًا إليه حصًّته
الضئيلة، لا يولِّد من جراء ذلك إلا سببًا
لثواب مقبل ينالُه عدوُّه وعقابًا
مستقبليًّا يطاله هو. إن هذا المعدِّل
المعصوم يحدِّد، في كلِّ تقمُّص، نوعية
التقمُّص التالي، الذي يتعيَّن بمجموع
المزايا أو المثالب في التقمُّصات السابقة. السائل:
هل لنا، إذن، أن نستنبط ماضي المرء من حاضره؟ الثيوصوفي:
أجل، لكنْ بمقدار ما نتأكَّد من أن حياته
الحاضرة هي ما ينبغي عدلاً أن تكون عليه
للتكفير عن خطايا الحياة الماضية. بالطبع –
باستثناء الرائين والنطساء الكبار – لا
نستطيع كبشر عاديين أن نعرف ماهية تلك
الخطايا. فكما أننا من نزر المعطيات في حوزتنا
يتعذَّر علينا حتى أن نعيِّن ما كان عليه
شبابُ رجل مسنٍّ، كذلك لا نستطيع، بالأحرى،
استخلاص نتائج نهائية من مجرَّد ما نراه في
حياة امرئ ما بخصوص ما كانت عليه حياته
الماضية. ما هو كرما؟ السائل:
ولكن ما هو كرما؟ الثيوصوفي:
نحن، كما سبق أن قلت، نعتبره القانون الأقصى
للكون، مصدر وأصل ومنبع كافة القوانين الأخرى
الموجودة في الطبيعة برمَّتها. كرما هو
القانون المعصوم الذي يوازن ما بين المعلول
والعلَّة، على المراتب الجسمانية والذهنية
والروحانية للوجود. فبما أنه ما من سبب يبقي
بدون النتيجة المترتبة عليه، من الأكبر إلى
الأصغر، من خلل كوني نزولاً حتى حركة يدك،
وبما أن العلل تولِّد معلولاتٍ من جنسها، فإن كرما
هو ذلك القانون الخفي المجهول الذي يوازن
بحكمة وفطنة وإنصاف بين كلِّ نتيجة وسببها،
مقتفيًا أثر الأخير حتى صانعه. ومع أنه، بحدٍّ
ذاته، غير قابل للمعرفة فإن فعله قابل
للإدراك. السائل:
فهو إذن "المطلق"، "غير القابل
للمعرفة" مرة أخرى، وليس بذي فائدة تُذكَر
في تعليل مشكلات الحياة؟ الثيوصوفي: على العكس. فمع أننا لا نعرف ماهية كرما بحدِّ ذاته، وفي جوهره، فإننا نعرف قطعًا كيفية عمله، ويمكننا أن نعرِّف طريقة عمله ونَصِفَها بدقة. غير أننا لا نعرف علَّته القصوى، مثلما أن الفلسفة الحديثة تعترف عالميًّا بأن العلَّة القصوى لأيِّ شيء "غير قابلة للمعرفة". السائل:
وما قول الثيوصوفيا فيما يتعلق بتلبية
الحاجات الأكثر عملية للبشرية؟ ما هو التعليل
الذي تقدِّمه فيما يخص الشقاء الفظيع والعوز
المدقع اللذين يسودان بين ما يسمَّى بـ"الطبقات
الدنيا"؟ الثيوصوفي:
لبُّ الموضوع هو أن كافة هذه الشرور
الاجتماعية الكبرى – التمييز الطبقي في
المجتمع، والتمييز بين الجنسين في شؤون
الحياة، والتوزيع غير المتساوي لرأس المال
والعمل – هذه كلُّها ناجمة عما نسميه،
اختصارًا لكنْ صوابًا، كرما. السائل:
ولكن قطعًا هذه الشرور كلُّها، التي تبدو
وكأنها تنزل بالجماهير نوعًا ما كيفما اتفق،
ليست الـكرما الفعلي المستحَق والفردي؟ الثيوصوفي: لا، لا يصح أن يعرَّف بها بهذه الصرامة في نتائجها، بحيث تبيِّن أن كلَّ بيئة فردية، وشروط الحياة الخاصة التي يجد كلُّ شخص نفسه فيها، ليست أكثر من الـكرما الجزائي الذي ولَّده الفرد في حياة سابقة. يجب أن نُبقي نُصْبَ أعيننا أن كلَّ ذرة خاضعة للقانون العام الذي يحكم الجسم برمَّته الذي تنتمي إليه تلك الذرة؛ وهنا نقع على السياق الأوسع للقانون الكرمي. ألا تدرك أن جملة الـكارما الفردي تصير كرما الأمَّة التي ينتمي إليها أولئك الأفراد، وأكثر من ذلك، أن مجموع كرما الأمَّة هو كرما العالم؟ الشرور التي تتحدث عنها لا تخصُّ الفرد وحده أو حتى الأمَّة، بل هي عالمية إلى حدٍّ ما. وضمن هذا المنظار الأوسع للتواكل البشري يجد قانونُ كرما مخرجَه المشروع والممهَّد. السائل:
هل أفهم من ذلك، إذن، أن قانون كرما ليس
بالضرورة قانونًا فرديًّا؟ الثيوصوفي:
هذا ما أعنيه بالضبط. فمن المتعذَّر أن يعيد كرما
تعديل توازن القوى في حياة العالم وتقدُّمه
إلى نصابه ما لم يكن يتصف بنهج عمل واسع وشامل.
يعتبر الثيوصوفيون صحيحًا أن تواكل البشرية
هو علَّة ما يسمَّى الـكرما التوزيعي؛
وهذا القانون هو الذي يقدِّم الحلَّ لقضية
الشقاء الجماعي الخطيرة والتفريج عنه. وعلاوة
على ذلك، فإن القانون الغيبيَّ ينصُّ أن
المرءَ الذي يتسامى على نقائصه الفردية لا
يمكن إلا أن يرفع، وإنْ قليلاً، الجسمَ
برمَّته الذي يشكِّل جزءًا لا يتجزأ منه. وعلى
النحو نفسه، فإن المرءَ الذي يأثم، أو يعاني
نتائج الإثم، لا يفعل ذلك وحده. ففي الواقع،
لا وجود لشيء يدعى "انفصالية"؛ وقوانين
الحياة لا تجيز الاقتراب من تلك الحالة
الأنانية إلا في حدود النية أو الدافع. السائل:
ألا توجد وسائل يمكن بها تركيز الـكارما
التوزيعي أو كرما الأمَّة أو تجميعه، إذا
جاز القول، وسَوْقُه إلى تحقيقه الطبيعي أو
الشرعي بدون كلِّ هذا العذاب المتمادي؟ الثيوصوفي:
كقاعدة عامة، وضمن حدود معينة يتصف بها العصر
الذي ننتمي إليه، لا يمكن التسريع من قانون كرما
أو إبطاؤه في تحقيقه. لكني متأكد من الأمر
التالي: لم يتم قط بلوغ حدود الممكن في أيٍّ من
هذين الاتجاهين. أصغِ إلى السرد التالي لطور
من أطوار العذاب القومي، ثم اسألْ نفسك،
آخذًا بالحسبان القوة الفاعلة للـكرما
الفردي والنسبي والتوزيعي، عما إذا لم يكن
بالإمكان تعديل هذه الشرور تعديلاً واسعًا
والتفريج عنها عمومًا. ما أنا على وشك قراءته
لك هو بقلم مخلِّصة وطنية، امرأة، إذ
تغلَّبتْ على الذات، وباتت حرَّة الاختيار،
اختارت أن تخدم الإنسانية، حاملة على عاتقيها
على الأقل مقدار ما يستطيع عاتقا امرأة أن
يحملاه من كرما الأمَّة. هذا ما تقول: أجل، إن الطبيعة
تتكلَّم دومًا، ألا تظنون ذلك؟ – غير أننا
أحيانًا نثير من الضجيج ما يعلو على صوتها.
لذا فمن المريح جدًّا أن نخرج من المدينة
ونستكنَّ برهة في أحضان الأم. أتذكر أمسية في
هامستِد هيث تفرجنا فيها على الشمس وهي تغيب؛
ولكن ويلي! – على أيِّ عذاب وبؤس غابت تلك
الشمس! جلبتْ إليَّ سيدةٌ بالأمس سلَّة كبيرة
من الأزهار البرية. فكرت بأن بعض أفراد أسرتي
في إيسْتْ إنْدْ كانوا أحقَّ منِّي بها؛
وهكذا نزلت بها إلى مدرسة فقيرة جدًّا في
وايتشابِل هذا الصباح. وليتك رأيت كيف أشرقتْ
تلك الوجوه الصغيرة الشاحبة! ثم ذهبت لشراء
طعام للعشاء لبعض الأطفال في مطعم صغير. كان
واقعًا في شارع خلفي ضيق، مليئًا بأناس
يتدافعون؛ كانت رائحة نتن لا يوصف تنبعث من
سمك ولحم وأطعمة أخرى، تعجُّ جميعًا في شمس
وايتشابِل التي تقرِّح بدلاً من أن تطهِّر.
كان المطعم خلاصة لكلِّ الروائح: فطائر
باللحم بقرش واحد، كتل كريهة من "الطعام"
ورفوف من الذباب – مذبح لبعلزبول[1]
نفسه! وحوله أطفال يتكالبون على الفتات،
أحدهم، بوجه كوجه ملاك، يجمع نوى الكرز
بمثابة حمية خفيفة ومغذية. عدت غربًا، وكلُّ
عصبٍ فيَّ يرتعد مقشعرًّا، متسائلة عما إذا
كان ثمة ما يمكن القيام به في بعض أحياء لندن
غير ابتلاعها في زلزال وتجديد سكانها عن بكرة
أبيهم، بعد تغطيسهم في نهر ليثي[2]
ما، بحيث لا يستبْقون أثرًا لذكرى! عندئذٍ
فكرت في هامستِد هيث وشرعت في التفكُّر. لو
استطاع المرء، بأعجوبة ما، أن يظفر بالقدرة
على إنقاذ هؤلاء الناس، لما كان الثمن يستحق
العدَّ؛ لكن ألا ترون معي أن الناس هم
الذين ينبغي أن يتغيِّروا – فكيف يمكن إنجاز
ذلك؟ في الشرط الذي يعيشون فيه الآن لن
يستفيدوا من أية بيئة يمكن وضعهم فيها؛ بيد
أنهم، في محيطهم الحالي، لا بدَّ أن يستمروا
في التفسخ. هذا البؤس الذي لا ينتهي، المقطوع
الأمل منه، وهذا الانحطاط البهيمي، الذي هو
ثمرته وجذره، يحطم قلبي. إنه أشبه بشجرة
البَنيان: كلُّ غصن يتجذَّر ويطلق فروعًا
جديدة. أي فرق بين هذه المشاعر والمشهد الهادئ
في هامستد! ومع ذلك فنحن، أشقاء وشقيقات هذه
المخلوقات المسكينة، ليس لدينا الحق في
التمتع بأحياء مثل هامستِد هيث إلا لاكتساب
القوة لإنقاذ أحياء من نحو وايتشابِل. (بتوقيع
اسم يتمتع بقدر من الاحترام والشهرة لا يجيز
إعطاءه للمتهكِّمين.) السائل:
تلك رسالة حزينة لكنها جميلة؛ وأظنها تقدِّم
تقديمًا باديًا للعيان كيفية العمل الرهيبة
لما سمَّيتَه "الـكرما النسبي
والتوزيعي" ولكن، أوَّاه! لا يبدو أن ثمة
أمل قريب لأيِّ تفريج، ما لم يحدث زلزالٌ أو
أيُّ بلاء عام مماثل! الثيوصوفي:
بأيِّ حقٍّ نفكِّر على هذا النحو، في حين أن
بمقدور نصف البشرية أن يُحْدِثَ تفريجًا
فوريًّا للحرمان الذي يعاني منه رفاقُهم؟
عندما يساهم كلُّ فرد في الخير العام بما في
وسعه من مال، أو جهد، أو فكر مشرِّف، إذ ذاك،
وإذ ذاك فقط، سيعود ميزان الـكرما القومي
إلى نصابه – وحتى ذلك الوقت ليس لنا الحقُّ
ولا الصواب في القول إن هناك على الأرض حياة
أكثر ممَّا في وسع الطبيعة أن تقوم بأوده.
وإنه لمن نصيب النفوس البطولية، نصيب مخلِّصي
قومنا وأمَّتنا، أن يجدوا علَّة هذا الضغط
غير المتساوي للـكرما الجزائي، فينهضوا،
بجهد فائق، لإعادة تعديل ميزان القوى وإنقاذ
القوم من بلاء معنويٍّ أشد كارثيةً وأدْوَمَ
شرًّا بألف مرة من نظيرته الكارثة المادية،
التي يبدو أنك ترى فيها المخرج الوحيد الممكن
لهذا البؤس المتراكم. السائل:
طيب، قُلْ لي، إذن، كيف تصفون قانون كرما
هذا على نحوٍ إجمالي؟ الثيوصوفي: نحن نصف كرما بوصفه قانون إعادة التعديل الذي ينزع أبدًا إلى إعادة التوازن المختل إلى نصابه في العالم الجسماني وإلى ترميم التناغم المكسور في العالم المعنوي. نقول إن كرما لا يعمل دومًا بهذه الطريقة أو تلك، إنما بأنه يعمل فعلاً لكي يرمِّم التناغم ويصون قسطاس التوازن، الذي بفضله يوجد الكون. السائل:
أعطني مثالاً موضِّحًا على ذلك. الثيوصوفي:
سأعطيك لاحقًا توضيحًا كاملاً. لكنْ تخيَّل
الآن بِركةَ ماء. هَبْ أن حجرًا سقط في الماء
وصنع مويجاتٍ مُقَلْقِلَة. هذه المويجات تنوس
بين الوراء والأمام حتى تنحو أخيرًا، من
جرَّاء فعل ما يسميه الفيزيائيون قانون
تبدُّد الطاقة، إلى الراحة ويعود الماء إلى
وضع السكون الهادئ الذي كان عليه. بالمثل، فإن
جميع الأفعال، على كلِّ مرتبة، تنتج
قَلْقَلَةً في التناغم المتوازن للكون،
والذبذبةُ الناجمة على هذا النحو تستمر في
الجريان إلى الوراء وإلى الأمام، إذا كان
نطاقُها محدودًا، حتى يعود التوازن إلى نصابه.
ولكن بما أن كلَّ قَلْقَلَةٍ كهذه تبدأ من
نقطة معينة ما، من الواضح أنه لا يمكن إعادة
التوازن والتناغم إلى نصابهما إلا بإعادة
ملاقاة، في تلك النقطة بالذات، كافة
القوى التي حُرِّكَتْ انطلاقًا منها. ولديك
هنا برهان على أن عواقب أفعال الإنسان
وخواطره إلخ لا بدَّ أن ترتدَّ عليه
بالقوة نفسها التي حُرِّكَتْ بها. السائل:
لكني لا أرى مِنْ سجية معنوية في هذا القانون.
يبدو لي مثل القانون الفيزيائي البسيط الذي
ينصُّ على أن الفعل وردَّ الفعل متساويان
ومتعاكسان. الثيوصوفي: لا عجب أن أسمعك تقول ذلك. لقد ترسَّختْ في الأوروبيين عادةُ اعتبار الحقِّ والباطل، الخير والشرِّ، أمورًا تخصُّ جملة قوانين اعتباطية، إما من وضع البشر، وإما من فَرْضِ إله شخصي عليهم. غير أننا، نحن الثيوصوفيين، نقول بأن "الخير" و"التناغم"، من ناحية، و"الشر" و"اللاتناغم"، من ناحية أخرى، إنما هي مترادفات. لا بل أكثر من ذلك، نذهب إلى أن كلَّ الألم والشقاء نتاج لقصور في التناغم، وأن السبب الوحيد الرهيب، الذي لا ثاني له، لقَلْقَلَة التوازن هو الأثرة في شكل أو في آخر. من هنا فإن كرما يردُّ إلى كلِّ امرئ العاقبة الفعلية لأفعاله هو، بدون أيِّ اعتبار لخاصيَّتها المعنوية؛ لكن بما أنه يتلقَّى حصَّته عن الكل، فمن الواضح أنه سيضطر إلى التكفير عن كلِّ الآلام التي تسبَّب فيها، مثلما أنه سوف يحصد، فَرَحًا وسرورًا، ثمارَ كلِّ الفرح والتناغم الذي ساعد على تحقيقه. خير ما أفعل الآن هو أن أقتطف، لفائدتك، مقاطع من كتب ومقالات بقلم ثيوصوفيينا – مَن لديهم منهم تصورٌ صحيح عن كرما تحديدًا. السائل:
ليتك تفعل، بما أن أدبياتكم تبدو ضنينة جدًّا
بخصوص هذا الموضوع. الثيوصوفي:
ذلك لأنه أصعب عقائدنا جميعًا. منذ وقت
قصير ظهر الاعتراض التالي بقلم أحد المسيحيين: هَبْ أن التعليم
الثيوصوفي صحيح، وأن "على الإنسان أن يكون
مخلِّص نفسه، أن يتغلَّب على النفس وينتصر
على الشرِّ الذي في طبيعته المزدوجة، من أجل
أن ينال انعتاق نفسه"، ماذا يتعيَّن على
المرء أن يفعل بعد أن يصحو ويتحوَّل إلى حدٍّ
ما عن الشرِّ والإثم؟ كيف له أن يحصل على
الانعتاق، أو المغفرة، أو محو الشرِّ أو
الإثم الذي سبق أن ارتكبه؟ يقدِّم السيد ج. هـ.
كونلي جوابًا في محلِّه، مفاده أنه ما لأحَدٍ
أن يأمل في "جعل القاطرة الثيوصوفية تسير
على السكة الثيولوجية."[3] فعلى حدِّ قوله: إن إمكان التملُّص من
المسؤولية الفردية ليس من مفاهيم الثيوصوفيا.
ففي هذا المذهب ليس ثمة شيء من نحو المغفرة أو
"محو الشرِّ أو الإثم اللذين سبق ارتكابهما"،
اللهم إلا بالعقاب المناسب لمرتكب الخطيئة
إياها وبترميم التناغم في الكون الذي
تقَلْقَلَ من جراء تلك الفعلة الآثمة. لقد كان
الشرُّ شرُّه، وبينما يتعيَّن على آخرين أن
يعانوا من عواقبه فإن التكفير لا يتم إلا على
يده هو. إن الحالة المنظور
فيها [...] التي يكون المرءُ فيها قد "صحا
وتحوَّل إلى حدٍّ ما عن الشرِّ أو الإثم" هي
الحالة الذي يكون المرء فيها قد أدرك أن
أفعاله شريرة وتستحق العقاب. في ذلك الإدراك
يسود حتمًا حسٌّ بالمسؤولية الشخصية؛ وحسُّ
المسؤولية المروِّعة تلك يتناسب تمامًا مع
مدى صحوته أو "تحوُّله". وبينما يشتد
عليه هذا الحسُّ يُحَثُّ على قبول عقيدة
التكفير بالنيابة. يقال له بأنه يجب
أيضًا أن يتوب – وما من شيء أيسر من ذلك. ذلك
أنه من لطائف ضعف الطبيعة البشرية أن نميل
بالضبط إلى الندم على الشرِّ الذي ارتكبناه
عندما يُلفَتُ انتباهُنا إليه، بعد أن نكون
قد عانينا منه نحن أو تمتعنا بثماره. ولعل
تحليل هذا الشعور عن كثب يبيِّن لنا أن ما
نندم عليه هو بالحري الضرورة التي بدا أن
الشرَّ يتطلَّبها كوسيلة لبلوغ مآربنا
الأنانية، لا الشرَّ نفسه. مهما بدا مغريًا
منظورُ طرح وزر آثامنا "عند أسفل الصليب"
هذا للذهن العادي فإنه لا يزكِّي نفسه في نظر
الطالب الثيوصوفي. فهو لا يفقه لماذا يمكن
للخاطئ، ببلوغه معرفةَ شرِّه، أن يستحق أية
مغفرة على إثمه الماضي أو أيَّ محوٍ لذلك
الإثم؛ أو لماذا تؤهِّله التوبة أو السلوك
المقبل القويم لتعليق قانون الارتباط بين
السبب والنتيجة الكوني من أجله. فنتائج
فِعاله الشريرة ما تزال موجودة؛ والمعاناة
التي تسببتْ فيها آثامُه للآخرين لا تمحى.
الطالب الثيوصوفي يأخذ نتيجة الإثم في حقِّ
الأبرياء في حسبانه؛ إنه لا يعتبر الشخص
المذنب وحسب، بل وضحاياه أيضًا. الشر انتهاك لقوانين
التناغم التي تحكم الكون، والقصاص الناجم عنه
يجب أن ينزل بمنتهك ذلك القانون نفسه. لقد نطق
المسيح بالتحذير: "اذهب ولا تخطئ ثانية
لئلا تصاب بأسوأ" وقال القديس بولس: "اعملوا
من أجل خلاصكم. ما يزرعه المرء إياه يحصد."
وذلك، للمناسبة، هو صياغة مجازية بديعة
لعبارة البورانا الأقدم بكثير من الإنجيل
– ومفادها أن "كلَّ إنسان يحصد عواقب
أفعاله." ذلكم هو مبدأ قانون كرما
الذي تعلِّمه الثيوصوفيا. وسينِّتّ، في كتابه
البوذية الباطنية، وَصَفَ كرما بكونه
"قانون السببية الأخلاقية". و"قانون
الجزاء"، كما تترجم السيدة بلافاتسكي
معناه، أفضل. إنه القوة التي مع أنها غامضة،
تقودنا قُدُمًا حتمًا عبر دروب لا تخطر
بالبال من الذنب إلى العقاب. لكنه أكثر من ذلك. إنه
يثيب المزايا بمقدار الحتمية والسعة التي
يعاقب عليها المثالب. إنه نتاج كلِّ فعل
وخاطرة وكلمة وتصرف؛ به يقولب البشرُ أنفسَهم
وحيواتِهم وخبراتِهم. إن الفلسفة الشرقية
ترفض فكرة نفس جديدة مخلوقة من أجل كلِّ مولود
جديد. إنها تعتقد بوجود عدد محدَّد من
المونادات، تتطور وتنمو باطرَّادٍ كمالاً
عبر استيعابها للعديد من الشخصيات المتتالية.
وهذه الشخصيات هي نتاج كرما؛ وبفضل كرما
والتقمُّص تعود الموناد الإنسانية مع الزمن
إلى مصدرها – الألوهة المطلقة. وفي كتابه التقمص
يقدِّم إ. د. ووكر التعليل التالي: عقيدة كرما،
بإيجاز، تنصُّ على أننا صنعنا أنفسنا على ما
نحن بأفعالنا السابقة، وعلى أننا نبني
أبديَّتنا المقبلة بأفعالنا الحالية. ما مِن
قَدَرٍ غير الذي نعيِّنه نحن بأنفسنا. ما مِنْ
خلاص أو دينونة إلا التي نقدِّرها نحن على
أنفسنا [...]. ولأنها لا تقدِّم أية حماية
للأفعال المذنبة وتتطلب رجولة خالصة فإن
ترحيب الطبائع الضعيفة بها أقل من ترحيبها
بالمذاهب الدينية اليسيرة، من نحو التكفير
بالنيابة، والشفاعة، والمغفرة، والاهتداء
على فراش الموت [...]. ففي مجال العدالة
الأبدية، يرتبط الأذى والعقاب ارتباطًا لا
تنفصم عراه بوصفهما الحَدَثَ نفسه، لأنه ليس
ثمة تمييز فعلي بين الفعل ونتيجته [...]. إن كرما،
أو أفعالنا القديمة، هو الذي يشدُّنا
مجدَّدًا إلى الحياة الأرضية. ومقام الروح
يتغير بحسب كرماها؛ وهذا الـكرما
يحرِّم أية استمرارية مطوَّلة في حالة واحدة،
لأنه يتغير فعلاً على الدوام. فمادام
الفعل محكومًا بدوافع مادية وأنانية فإن
نتيجة ذلك الفعل يجب أن تتجلَّى في العودات
الجسمانية إلى الولادة بالدوام نفسه. وحده
الإنسان الخالص من الأنانية تمامًا يستطيع أن
يتملَّص من جذب الحياة المادية. لم يبلغ ذلك
إلا الصفوة، لكنه غاية الإنسانية. ثم
يقتطف الكاتب من العقيدة السرية: مَنْ يعتقدون بـكرما
ينبغي أن يعتقدوا بالقَدَر الذي يحوكه كلُّ
إنسان حول نفسه، من الولادة حتى الممات،
خيطًا خيطًا، مثلما يحوك العنكبوت شباكه؛
وهذا القَدَر مقود إما بالصوت السماوي للنمط
الأولي غير المرئي خارجنا، أو بإنساننا
النجمي أو الباطن الألصق بنا، الذي كثيرًا
جدًّا ما يكون الجنِّي الشرير للكيان
المتجسِّم الذي يدعي إنسانًا. كلاهما يقود
إلى الإنسان الظاهر، لكن أحدهما ينبغي أن
يسود؛ ومنذ مستهل هذه المعمعة غير المرئية
نفسه يتدخل قانون التعويض الصارم والجبري
ويتخذ مساره، متابعًا عن كثب تقلُّبات
المعركة. وعندما يحاك آخرُ خيوط، ويبدو المرء
وكأنه مغلَّف بالشبكة التي صنعها بنفسه، إذ
ذاك يجد نفسه خاضعًا تمام الخضوع لسلطان هذا
القَدَر الذي صنعه بنفسه [...]. أما عالِم
الغيبيَّات أو الفيلسوف فلن يتكلَّم على طيبة
العناية الإلهية أو قسوتها؛ بل، مطابقًا
بينها وبين كرما–نميسيس،[4]
سوف يعلِّم بأنه، في كلِّ حال، يصون الأخيار
ويكلؤهم برعايته في هذه الحياة وفي الحيوات
المقبلة، وأنه يعاقب الآثم – أجل، حتى ولادته
الجديدة السابعة – مادام، بإيجاز، أثرُ
تَسبُّبِه في قَلْقَلَة أصغر ذرة في عالم
التناغم اللانهائي حتى لم يوازَن أخيرًا. إذ
إن حُكْمَ كرما الأوحد – وهو حُكْمٌ أبدي
قيوم – هو التناغم المطلق في عالم المادة،
مثلما هو الأمر في عالم الروح. لذا فإنه ليس كرما
الذي يثيب أو يعاقب، بل نحن الذين نثيب أنفسنا
أو نعاقبها بحسب ما إذا كنَّا نعمل مع
الطبيعة، من خلالها، ومعها، ممتثلين
للقوانين التي يتوقف عليها ذلك التناغم، أو
خارقين إياها. وما كان لسُبُل كرما أن
تصير عصية على الفهم لو أن البشر عملوا متحدين
متناغمين، لا متفرِّقين متنابذين. إذ إن
جهلنا لتلك السُّبل – التي يدعوها فريق من
البشر سُبُلَ العناية الدامسة والمعقدة،
بينما يرى فريق آخر فيها فعلَ الجبرية
العمياء، وفريقٌ ثالث مصادفة محضة، بلا آلهة
ولا شياطين يقودونها – سيختفي ببساطة إذ
نَسَبْنا هذه كلَّها إلى علَّتها الصحيحة
وحسب [...]. نحن نقف حيارى أمام لغز صنعتنا
وأحاجي الحياة التي لا نطيق حلَّها، ثم نتهم
السفنكس[5]
العظيم بافتراسنا. لكن الحقَّ أنه ليست ثمة
حوادث في حياتنا، ولا يوم مكروه، أو فأل سيئ،
إلا ويمكن اقتفاء أثره حتى أفعالنا نحن في هذه
الحياة أو في حياة أخرى [...]. وقانون كرما
متواشجُ الحياكةِ مع قانون التقمُّص بما لا
فكاك منه [...]. وحدها هذه العقيدة يمكنها أن
تفسِّر لنا مشكلة الخير والشر الغامضة،
وتصالح الإنسان مع ظلم الحياة الظاهري الرهيب.
لا شيء غير يقين كهذا من شأنه أن يهدِّئ من روع
حسِّنا المتمرِّد بالعدالة. إذ إنه حين ينظر
امرؤ غير مطَّلع على هذه العقيدة النبيلة من
حوله ويرصد التفاوتات في الولادة والحظوظ، في
العقل والمقدرات؛ عندما يرى الأمجاد تُسبَغ
على الحمقى والفاسقين، الذين أمطر عليهم
الطالعُ أفضاله بمجرد امتيازهم بالنسب، ويرى
جارهم، بما يتمتع به من عقل راجح وفضائل نبيلة
– الأكثر استحقاقًا من كلِّ وجه – يهلك من
الفاقة ومن نقص العطف – عندما يرى المرء هذا
كلَّه ويضطر إلى التولِّي، عاجزًا عن التفريج
عن المعاناة غير المستحَقَّة، وأذناه
تطنَّان وقلبه يدمى من صراخ الألم من حوله –
فإن معرفة كرما المباركة تلك وحدها تحول
بينه وبين لعن الحياة والبشر، وكذلك خالقهم
المفترَض [...]. هذا القانون، سواء كان واعيًا
أو غير واعٍ، لا يقدِّر شيئًا ولا أحدًا
تقديرًا مسبقًا. إنه يوجد حقًّا منذ الأبد
وفيه، إذ هو الأبدية نفسها؛ وهو، بهذه
المثابة، بما أنه ليس ثمة فعل يتساوى مع
الأبدية، لا يصح أن يقال بأنه يفعل، بل هو
الفعل نفسه. إنه ليس الموجة التي تُغرِقُ
الإنسان، بل الفعل الشخصي لذلك المسكين الذي
يمضي عن عَمْدٍ ويضع نفسه تحت طائلة الفعل
اللاشخصي للقوانين التي تحكم حركة المحيط. كرما
لا يخلق شيئًا والقانون الكرمي ينتظم النتائج
– باعتبار هذا الانتظام ليس فعلاً، بل هو
التناغم الكلِّي، الميَّال أبدًا إلى العودة
إلى نصابه الأصلي، مثل غصن، إذ يُحنى قسرًا،
يرتدُّ بقوة مكافئة. فإذا اتفق له أن يخلع
الذراع التي حاولت أن تثنيه عن وضعه الطبيعي،
هل نقول إن الغصن هو الذي كسر ذراعنا، أم أن
حماقتنا نحن هي التي تسببت في ضررنا؟ لم يسعَ كرما
قط لتدمير الحرية العقلية والفردية، مثل
الإله الذي اخترعه أهل التوحيد. وهو لم يدبِّر
أحكامه في الظلمة عن قصد لكي يحيِّر الإنسان،
ولن يعاقب مَنْ يجرؤ على تقصِّي أسراره. على
العكس، إن مَنْ يكشف، عبر الدراسة والتأمل،
دروبه الشائكة، ويلقي ضوءًا على تلك السُّبُل
المظلمة، التي يهلك في تعرجاتها كلُّ هذا
العدد من البشر من جراء جهلهم لمتاهة الحياة،
يعمل من أجل خير رفاقه البشر. كرما قانون
مطلق وأبدي في عالم التجلِّي؛ وبما أنه لا
يمكن أن توجد إلا علَّة مطلقة واحدة، علَّة
أبدية واحدة، حاضرة أبدًا، فإن المعتقدين بـكرما
لا يجوز اعتبارهم ملحدين أو ماديين، وأقل من
ذلك جبريين؛ إذ إن كرما واحد مع غير
القابل للعلم، الذي هو مظهر من مظاهره، في
آثاره في عالم الظواهر. وتقول
كاتبة ثيوصوفية قديرة أخرى (غاية
الثيوصوفيا، للسيدة ب. سينِّتّ): كلُّ فرد يصنع كرما،
إما صالح وإما طالح، في كلِّ فعل وخاطرة في
حياته اليومية؛ وهو، في الوقت نفسه، يستنفد
في هذه الحياة الـكرما الناتج من أفعال
الحياة السابقة ورغباتها. عندما نرى أناسًا
مصابين بأمراض ولادية يجوز لنا أن نفترض، في
مأمن من الغلط، بأن هذه الأمراض هي النتائج
الحتمية لأسباب ولَّدوها في ولادة سابقة. قد
يُحاجَج بأن هذه البلايا، بما أنها وراثية،
فإنها لا تمتُّ بصلة إلى تقمُّصٍ ماضٍ؛ لكننا
ينبغي أن نتذكر أن الأنية، الإنسان الحق،
الفردية، ليس لها أصل روحي في الوالدين
اللذين تتجسَّم من خلالهما مجدَّدًا، بل
تنشدُّ إلى التجانسات التي جذبها نمطُ حياتها
السابق من حولها في التيار الذي يحملها،
عندما يحين وقت الولادة من جديد، إلى البيت
الأكثر ملاءمة لتفتُّح تلك لميول [...]. عقيدة كرما
هذه، عندما تُفهَم حقَّ فهمها، مصمَّمة جيدًا
لتقود أولئك الذين يدركون حقيقتها إلى نمط
حياة أرقى وأفضل وتساعدهم؛ إذ إنه يجب ألا
ننسى أن خواطرنا أيضًا، وليس أفعالنا وحسب،
متبوعة بكلِّ تأكيد بحشد من الظروف لا بدَّ أن
تؤثر، خيرًا أو شرًّا، في مستقبلنا، والأهم
من ذلك، مستقبل العديد من رفاقنا من
المخلوقات. فلو كانت خطايا السهو والتفويض،
على نحوٍ ما، تخصُّنا نحن وحدنا، فإن أثرها
على كرما الخاطئ سيكون طفيف العواقب. إن
واقع أن كلَّ خاطرة وفعل عبر الحياة يحمل في
ثناياه، صلاحًا أو طلاحًا، تأثيرًا من جنسه
على أعضاء آخرين من الأسرة الإنسانية يجعل
حسًّا صارمًا من العدالة، والمناقب، وعدم
الأنانية، من الضرورة بمكان من أجل السعادة
أو التقدُّم المقبلين. إن ارتكاب جريمة، أو
انطلاق خاطرة شريرة من الذهن، حالما يتم، لا
رجعة فيه – ولا يمكن لأيِّ مقدار من التوبة أن
يمحو نتائجه في المستقبل. التوبة، إذا كانت
صادقة، ستردع المرء عن تكرار الأغلاط؛ لكنها
لا تستطيع أن تنجيه أو تنجي غيره من نتائج
الأغلاط التي سبق أن ارتُكِبَتْ والتي
ستلاحقه لا محالة إما في هذه الحياة أو في
الولادة الجديدة التالية. ويتابع
السيد ج. هـ. كونلي: إن المعتقدين بدين
قائم على عقيدة كهذه على استعداد تام
لمقارنتها بدين آخر يكون فيه قَدَرُ الإنسان
إلى الأبد معيَّنًا بحوادث عمر أرضي وجيز
واحد، يسلوه في أثنائه وَعْدُ "حيثما تسقط
الشجرة، هناك سوف تلبث"؛ دين تكون فيه أبهى
آماله، عندما يصحو على معرفة إثمه، عقيدةُ
التكفير بالنيابة، وفيه تكون حتى هذه العقيدة
مقيَّدة، بحسب قانون إيمان الكنيسة المشيخية
البروتستانتية. بأمر من الله، من أجل
ظهور مجده، بعضُ البشر والملائكة مقدَّر
عليهم مسبقًا الحياةُ الأبدية، فيما بعضُهم
الآخر مقضيٌّ عليهم مسبقًا بالموتُ الأبدي. وهؤلاء الملائكة
والبشر، المقدَّر والمقضي عليهم مسبقًا،
مكوَّنون بصفة خاصة لا تبديل لها؛ وعددهم
مؤكد ومعيَّن بحيث إنه لا يمكن له لا أن يزداد
ولا أن ينقص [...]. وبما أن الله اصطفى المختارين
لمجده [...] فما مِنْ أحَدٍ مفتدى بالمسيح،
مدعو، مبرَّر، متبنَّى، متقدِّس، ومخلَّص
فعليًّا، غير المختارين وحسب. أما بقية البشرية فقد
حلا له، بحسب تدبير مشيئته التي لا يُسبَر لها
غور، بها يهب الرحمة أو يمسكها كما يحلو له،
لمجد سلطانه المطلق على خلقه، أن يجوز عنهم
ويكتب عليهم الخزي والغضب على خطاياهم
تسبيحًا لعدله الفائق. هذا
ما يقوله المنافح القدير. وأفضل ما نختتم به
الموضوع، على غراره، هو مقتطف من قصيدة رائعة.
هو ذا يقول: إن الجمال البديع
لعرض إدوِنْ أرنولد لـكرما في قصيدة نور
آسيا[6]
يحدوني إلى إيرادها هنا؛ لكنها أطول من أن
تَرِدَ برمَّتها. فهاك مقتطفات منها: كرما – تلك النفس في
كلِّيتها وهي الأشياء التي
فَعَلَتْ، والخواطر التي انتابتها، "الذات" التي
حاكتْها بلحمة الزمان غير المنظور متقاطعة مع سداة
الأفعال غير المرئية. * * * * * قبل البداية وبلا
نهاية، كالفضاء أزليًّة،
واثقةً كاليقين، تثبُتُ قدرةٌ إلهية
تدفع إلى الخير، ووحدها قوانينُها
تدوم. لا أحد يزدريه؛ مَنْ يعصَه يخسر، ومن
يخدمه يكسب؛ والخير الخفي يكافئه
بالسلام والغبطة، والشر الخفي
بالأوجاع. يرى كلَّ شيء، ولا
شيء يخفى عليه؛ افعل الصواب –
يكافئك! افعل غلطًا واحدًا – يَنزِلْ بك قصاصُه
العادل، حتى إذا أخَّره دهرما
طويلاً. لا يعرف غضبًا ولا
مغفرة؛ بما هو الحقيقة التامة، تدابيره معصومة،
وميزانه المقسِّط يزن؛ الزمن عنده ليس بشيء،
في وسعه أن يحكم غدًا، أو بعد أيام عديدة. * * * * * كذا هو القانون الذي
يقود إلى البِرِّ، الذي ليس بمقدور أحدٍ
أخيرًا أن يحوِّل مجراه أو يوقِفَه؛ لبابُه هو المحبة،
غايتُه هي السلام والتحقيق
الحلو. أطِعْه. والآن
أنصح لك بمقارنة نظراتنا الثيوصوفية في كرما،
قانون الجزاء، والحكم فيما إذا لم تكن أكثر
فلسفية وعدالة من هذه العقيدة الجامدة،
القاسية والحمقاء، التي تختزل "الله"
إلى عفريت أبله – من ذلك المذهب الذي ينصُّ أن
"المختارين وحدهم" سيُكتَبُ لهم الخلاص،
بينما يُقضى على البقية بالهلاك الأبدي! السائل:
نعم، أفهم ما ترمي إليه عمومًا؛ لكني أتمنى
عليك أن تعطيني مثالاً عيانيًّا ما على فعل كرما. الثيوصوفي: هذا ما لا أستطيع أن أفعله. الشيء الوحيد الذي في وسعنا أن نستيقن منه، كما سبق أن قلت، هو أن حيواتنا وظروفنا الحالية هي النتائج المباشرة لأفعالنا وخواطرنا في حيوات قد مَضَتْ. لكنْ نحن – باعتبارنا لسنا لا رائين ولا مُسارَرين – ليس في وسعنا أن نعرف شيئًا عن تفاصيل عمل قانون كرما. السائل:
هل يستطيع أحد، وإنْ كان ناطسًا أو رائيًا، أن
يتتبَّع سيرورة إعادة الموازنة الكرمية هذه
بالتفصيل؟ الثيوصوفي:
جزمًا يستطيع: "الذين يعرفون"
يستطيعون ذلك بإعمال قدراتهم الكامنة حتى في
البشر قاطبة. *** [1]
رئيس الشياطين في التراث اليهودي. (م) [2]
نهر "النسيان" في الأساطير اليونانية؛
مَن يسبح فيه يفقد ذاكرته. (م) [3]
أي "اللاهوتية"، الخاصة بالفقه
المسيحي – خلافًا للمعنى الأصلي لكلمة theologia
اليونانية التي تعني "المعرفة الإلهية"
أو "معرفة الله" (من ثيوس، "إله"،
ولوغوس، "معرفة"). (م) [4]
نميسيس، إلهة الثأر عند قدماء الإغريق. (م) [5]
كائن جسمه جسم لبؤة ورأسه رأس امرأة. هو وحش
طيبة في أسطورة أوديب الإغريقية الذي يطرح
على المارة أحجية ويفترسهم إذا لم
يتمكَّنوا من حلِّها: "ما هو الكائن الذي
يدبُّ على أربعة في طفولته، ويسير على
اثنتين في منتصف عمره، ويسير على ثلاثة في
شيخوخته؟" (م) [6]
قصيدة طويلة رائعة يقصُّ فيها الشاعر سيرة
حياة البوذا سيدهرتا غوتاما. (م) |
|
|