|
إضاءات
في عام 1972، وخلال عملية ترميم للمسجد الكبير في مدينة صنعاء باليمن، وأثناء عمل العمَّال في شرفة بين سقفي الهيكل الداخلي والخارجي عثروا على مقبرة، إلا أنهم لم يتعرَّفوا عليها في بادئ الأمر. لكن جهلهم كان مبرَّرًا: المساجد في الحالة العادية ليست مقابر، كما أنَّ الموقع لم يكن يحتوي أية شواهد أو أضرحة، لا وجود لبقايا جسدية بشرية، ولا مجوهرات جنائزية. في الواقع، لم تكن هذه المقبرة تحتوي إلا على هريسة مشوَّهة وغير جذَّابة من رق قديم ووثائق ورقية عتيقة – كتب مهترئة وصفحات مشتتة مكتوب عليها بالنص العربي، مصهورة ومخلوطة ببعضها جرَّاء قرون طويلة من الأمطار والرطوبة، مقضومة خلال كل هذه الفترة من الزمن من قبل الجرذان والحشرات. ورغبة منهم بمتابعة عملهم، قام العمَّال بجمع المخطوطات، حشروها داخل حوالي عشرين كيس من البطاطا، ووضعوها جانبًا على سلَّم أحد مآذن المسجد، حيث تمَّ الإقفال عليها، ونُسيت مرةً أخرى، لكن ليس لفترة طويلة، حتى عثر عليها القاضي إسماعيل الأكوع، وقد كان رئيس السلطات اليمنية للعاديات، وهو من أدرك الأهمية الفعلية لهذه المكتشفات...
تبدو النظرية النسبية في التحليل السياسي، والتي وضعها الراحل نهاد قلعي، الأكثر نجاعةً في فهم الحالة السورية المستعصية، ذلك أنه ومع الغياب شبه التام لأطراف محايدة (الصحافة) قادرة على نقل الوقائع بشكل طبيعي، فإن أفضل طريقة لفهم هذا الاستعصاء السوري تكمن في معرفة مكان الاستعصاء، وكما كنا نتعلم في دروس التربية العسكرية فإن استعصاء أي سلاح يأتي إما من السلاح نفسه أو من الذخيرة أو من الرامي، وبالتالي الخطوة الأولى باتجاه الحل هي معرفة سبب الاستعصاء...
للسكان في الضفة اليمنى من نهر هذا العالم حقوقٌ على الجميع أن يدافعوا عنها. في ضفته اليسرى لا حقوق للسكان، وعلى الجميع أن يرضوا بذلك. أحيانًا يكون العكس هو الصحيح. سياسة يقودها شرطيٌّ كونيٌّ، باسم السلام والحرية وحقوق الإنسان. عبثٌ ساحرٌ يحوِّل العالم إلى فضاء ليس فيه غير أنابيب تنفث دخان الحروب. عبثٌ يفرض على الناس أن يخيطوا شفاههم بخيوط صنعتها أيديهم. عبثٌ يُسكَب في رؤوس البشر: يخيَّل إليهم أنَّ الدجاجة تبيض فيلاً، وأنَّ الفيلَ يصدح كالطير.
منذ فترةٍ مبكرةٍ في حياتي، في بدايات الثانوية تحديدًا، عرفتُ بأن هناك قوانينًا طبيعية "ثابتة" تحكم العلاقات بين الأجسام المادية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. لكن فيما بعد، حين أكملت المرحلة الثانوية، عرفت أن البشرية برمتها إنما كانت مثلي تتوهم لقرون بعد عالم الفيزياء الأبرز "نيوتن" بأن العالم محكومٌ بناموسٍ موحد يتمثل في قوانين عرفت باسم قوانين نيوتن أو ما يعرف اليوم بالفيزياء الكلاسيكية! فالفطرة البسيطة كانت تتوقع بأن ما في الأجرام البعيدة في الفضاء يمكنه أن يشبه ما على الأرض، وكذلك التكوين الذري البسيط، لا بد أن تحكمه علاقات مشتقة من ناموسٍ كونيٍ أوحد.
هذه ثلاث حكايات مقتطفة من وقائع الحياة التونسية ودلالاتها بعد انتهاء الثورة وقيام حكومة جديدة.
حينما فاجأ الحراك الثوري السوري السوريين والعالم أجمع، كانت المعارضة السورية تتسكع في الفناء الخلفي للفعل السياسي وتعيش واقعًا مزريًا. وكانت تنقسم ما بين إعلان دمشق الذي كان يعاني صعوبات حقيقية بسبب ملاحقة السلطة المستمرة أعضاءه وقياداته، وبسبب الانشقاقات المستمرة التي تجرى بين صفوفه من جانب، وبين القوى والتنظيمات القومية والماركسية التي خرجت من إعلان دمشق بعد خسارتها في الانتخابات الداخلية في مؤتمره الوطني عام 2007. وبالتالي لم يكن من دون معنى أن تفشل هذه المعارضة في قيادة الحراك الثوري السوري. بيد أن تلكؤ المعارضة أدى إلى فراغ سياسي كان لا بد لقوى سياسية جديدة من أن تملأه. هكذا، ولد في سورية، ومن دون سابق قصد أو تخطيط، لاعب سياسي جديد قيض له أن يلعب دورًا كبيرًا في الأشهر الستة الأولى، ثم قيض لهذا الدور أن ينحسر بعد ذلك تدريجًا.
في مكان ما، إن اجتمعا سيقول القتيل للقاتل: "لمَ قتلتني؟". ولأنه يملك حق الرد هناك فإن القاتل ربما سيسأل قتيله: "لمَ دفعتني إلى قتلك؟". يعرف الاثنان أن تبادل الأدوار بينهما كان في لحظة سابقة ممكنًا. أي أن يكون القاتل قتيلاً ويكون القتيل قاتلاً. أما الآن وقد التصقت كل صفة بحاملها، فإن العودة إلى الماضي لم تعد ممكنة. هذا لا يعني أن المرء، قبل أن يكون قاتلاً، قد خرج من بيته ليمارس القتل. كذلك الحال بالنسبة الى الشخص قبل أن يكون قتيلاً وأصبح كذلك في ما بعد، الذي لم يخطط حين الخروج من البيت لكي يكون ميتًا بصفة قتيل.
"الإله" المفقود في كتاب الليل قصةً مؤلمةً حصلت في معتقل "أوشفيتز" الرهيب، أنقلها هنا بشِعريَّتها راجيًا من القارئ الكريم ألا يأخذها بحَرْفيَّتها. في أحد الأيام، تمَّ جمع المساجين ليشاهدوا شنق مجموعة من المعتقلين، وبينهم طفلٌ نحيلٌ في الثانية عشرة من عمره. سحب الجنود الكرسي من تحت قدمي الطفل، لكنه لم يختنق بسرعة، ولم يكن له من الوزن ما يكفي لتنكسر عنقه، فظل معلقًا في الهواء ينازع دهرًا قبل أن يخلِّصه الموت. أحد المساجين قال بصوتٍ مضطرب: "أين هو الله؟" لكن لا مجيب! وبعد بضع دقائق من الصمت الخانق، والطفل المنازع ما زال حيًا، ودموعه المالحة تنهمر من عيون الجميع، يكرِّر السائل تساؤله بإلحاح: "أين هو الله؟"، فيجيب قلب الكاتب: "إنه معلَّقٌ على المشنقة!".
بدأت الثورات في بلدان أوروبا (وفي المستعمرة الأميركية) قبل أن تحصل في بلدان آسيا وإفريقيا، القارَّتين الأخريين القديمتين، وذلك بسبب تضافر مجموعة شروط، منها: الثورة العقلية، التي ترافقت مع الإصلاح الديني والثورة على السلطة البابوية، والثورات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، والثورة على السلطة المطلقة والإقطاع، والتي ترافقت مع ظهور المدن، وتبلور طبقة برجوازية تجارية وصناعية، وانتشار المطابع والجامعات. طبعًا لم يحصل كل ذلك في جميع البلدان بطريقة متشابهة، أو في الوقت ذاته، كما لم تصل كلها إلى النتائج نفسها، وعلى المستوى نفسه، إذ أنها عكست في ذلك حال التطور السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي في البلد المعني وظروفه المحيطة.
أحتاج إلى مشاهدة المزيد من مقاطع الفيديو الخاصة بالشهداء للتأكد من اسم الشهيد وتفاصيل استشهاده. يوميًا العشرات. وفي أوقات التدقيق الدوري لقواعد البيانات، مئات خلال ساعات اليوم القليلة. معدل مشاهدة الفيديو الواحد دقيقة واحدة. خلال ساعة بالإمكان مشاهدة ستين جثمان، إلا إذا كانت المقاطع تعود لمجازر جماعية، فالرقم يضرب بأضعاف. جثمان بعد جثمان، بعضه في الكفن والآخر لا يزال ملفحًا بجراحه ودمائه. بعض الوجوه يبدو عليها الذعر والدهشة. أهذا أنت أيها الموت؟ وجوه أخرى تخالها نائمة لشدة ما يبدو السلام على معالمها. بعضها جميل ببشرة ناعمة وأفواه صغيرة مزمومة، وشبح ابتسامة ذكية. الشهداء الأطفال، وعبثهم الأبدي بأرواحنا.
|
|
|