|
ملكوت ما وراء الكوانتم
(1) منذ فترةٍ مبكرةٍ في حياتي، في بدايات الثانوية تحديدًا، عرفتُ بأن هناك قوانينًا طبيعية "ثابتة" تحكم العلاقات بين الأجسام المادية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. لكن فيما بعد، حين أكملت المرحلة الثانوية، عرفت أن البشرية برمتها إنما كانت مثلي تتوهم لقرون بعد عالم الفيزياء الأبرز "نيوتن" بأن العالم محكومٌ بناموسٍ موحد يتمثل في قوانين عرفت باسم قوانين نيوتن أو ما يعرف اليوم بالفيزياء الكلاسيكية! فالفطرة البسيطة كانت تتوقع بأن ما في الأجرام البعيدة في الفضاء يمكنه أن يشبه ما على الأرض، وكذلك التكوين الذري البسيط، لا بد أن تحكمه علاقات مشتقة من ناموسٍ كونيٍ أوحد. العلم اليوم تجاوز هذه النظرة، ولو استفاق نيوتن من موته الآن لا أعتقد أنه سيشعر بصدمة كبيرة فحسب، وإنما سيجنُ جنونه حين يعرف أن العلاقات التي تنظم العالم المايكروي الذري الصغير Micro world تختلف بشكل غريب! فمن المفترض أن الإلكترونات التي تدور حول النواة في الذرة تشبه الكواكب في العالم الماكروي الكبير Macro world وهي تدور حول النجوم، ومنها الشمس. لكن قوانين العالم الذري تختلف عن قوانين نيوتن. كانت البشرية قبل اكتشاف العالم الكمي تغرق في حلمها الكلاسيكي الموروث عن جهود غاليلو وديكارت ونيوتن وسلسلة طويلة من المفكرين والعلماء. الحلم الذي ظنت به أنها انتصرت أخيرًا على ظلامية الأسطورة التي عششت في ثقافتها للآف السنين. لكنها لم تدري بعد، حتى أيامنا هذه، أنها لا تزال تتعلم في مدرسة التاريخ، للتو أدركت بأن عالمنا مجرد كرة من المطاط تطفو على سطح محيطٍ واسعٍ وعميق من الحقائق. تكنولوجيا النانو، وتقانة البرمجيات الحديثة، الليزر، علم البيولوجيا الجزيئية وهندسة الجينات، كلها خبرات تتوسع أفقيًا في هذا المحيط، لكنها لا تستطيع أخذنا إلى أعماق جديدة بعد. عالم الكوانتا الغامض لا يبعد عن كرة عالمنا الحسي المطاطية تلك سوى مسافة قليلة في عمقٍ ضحل. العالم تحت الذري وليد مشترك بين عالمين. هو يحمل فقط نصف صفات عالمنا المدرك، النصف الآخر لا نزال في طور محاولة التعرف عليه. عالم الكم مجرد محطة عابرة لفهمٍ أعمق، مرحلة متوسطة بين العالم النيوتوني التقليدي كما تستشعره حواسنا وعالم آخر أكثرُ عمقًا لم نكتشفه بعد! فكواكب العالم الذري تختلف عن كواكب العالم الكبير بشكلٍ لافت. العالم الكبير تحكمه قوة أساسية هي قوة الجاذبية أو الثقالة gravitation، فيما العالم الذري، ورغم وجود الجاذبية كقوة ضعيفة متبادلة بين الكتل، إلا أن القوة الكهربائية هي القوة الأساسية التي تحكمه وتبني هيكله. لهذا السبب، قوانين الكم (الكوانتم Quantum) التي ظهرت تاليًا بعد نيوتن، قبل حوالي قرنٍ من الزمن، يمكنها أن تفسر العالمين معًا: العالم الذري الصغير، والعالم الماكروي الكبير. وفيما فيزياء نيوتن بقيت محصورة في تفسير العالم الكبير، فإن قوانين الكم أصبحت ذات دائرةٍ أوسع لجمعها بين العالمين، لكنها ليست كافية بعد لتفسر لنا ما هو الوعي consciousness في الدماغ، ولا الكثير من ظواهر الباراسيكولوجي، وأهمها وأبرزها ظاهرة التخاطر telepathy. (2) لو تأملنا هذا المشهد مليًا، وسألنا أنفسنا عن الذي سوف يحصل فيما "لو" كانت قوانين نيوتن بالفعل هي التي تحكم العالمين الكبير والصغير؟ في هذه الحالة، كل مظاهر الانبعاث والطاقة التي تأتي كانعكاسات لقوانين الكم سوف تختفي. لن تكون هناك شمسٌ تشع بالضياء، ربما ولا حتى منظومة عصبية ودماغ كهربائي متقد بالطاقة! بمعنى آخر، قد لا يكون هناك أي معنىً لشيء اسمه "الحياة". كل شيء في ذلك العالم المفترض سيكونُ ميتًا. لكن، ماذا "لو" كانت قوانين العالمين معًا هي قوانين العالم الكوانتي (الكمي) الصرفة!؟ أي تكون هناك قوى كهربائية وجاذبية معًا بين الأرض والشمس، كما هي بين الإلكترونات والبروتونات في الفضاء الذري الصغير؟ الحياة حينئذٍ ستكونُ في كل شيء، حتى الأرض، الكوكب الذي نعيشُ فوقه، ستبدو وكأنها حيةً في سلوكها وحركتها حول الشمس، كما يبدو الإلكترون في سلوكه الغريب في الفضاء الذري حسب قوانين الكم اليوم. لا أحد يدري اليوم حقًا ما هي طبيعة وهيئة الشمس لو كانت مثل نواة الذرة باعثة لمجالٍ كهربائيٍ موجب بشكل مهول يترابط مع مجال الأرض الكبير السالب! (3) يكاد العالم الذري أن يحمل في فلسفة قوانينه معنى الحياة... ويكاد العالم الكبير أن يحمل معاني الموت المتعددة... فالظواهر الكمية التي تحدث في العالم الذري، لو أردنا أن ننقلها كما هي لتحدث في العالم الكبير، لأصبح عالمنا الحسي المرئي مثل عوالم ألف ليلة وليلة، أو قصص هاري بوتر الحديثة. على سبيل المثال، ظاهرة التأثير النفقي Tunnel effect التي تجعل القسيمات النووية الصغيرة تنبعث من نوى الذرات أثناء عملية الإشعاع، تعني أن هناك احتمالاً كبيرًا جدًا في أننا حين نلاقي الحائط ندخل فيه لنخرج من الجانب الآخر دون أن يحدث أي تلامس أو ضرر في أجسامنا أو في الحائط. إذ يُحدِثُ دخولنا في الجدار نفقًا "سحريًا" يعاود الانغلاق بعد أن ننفذ إلى الجانب الآخر ببساطة. لكن هذا لا يحدث في عالمنا الحسي رغم وجود احتمال يقل عن واحد بالمليار في حدوثه حسب نظرية الكم. أما ظاهرة التزامن الكمي Quantic Synchronism حين ينطلق فوتونا ضوء في الذرة إلى خارجها، فهي تعني أن أحد الفوتونين حينما ينعكس أو ينكسر، فإن الآخر ينعكس وينكسر مثله وكأنهما واحد دون وجود أي تأثير مادي تواصلي بينهما. إذ يبدو وكأن أحدهما "شعر" بما حدث للآخر!! (وهذا أمرٌ معروف في فيزياء الكم ومجرب مخبريًا). هذا يعني ببساطة، وحين ننقل هذه الظاهرة لعالمنا الحسي الكلاسيكي، أن تعرض الطفل لحادث مؤلم يعني شعور أمه بوعكة مفاجئة دون سبب موضوعي منطقي في نفس اللحظة وعلى نحو متزامن. وهذا يحدث في عالمنا الحسي بشكل كبير وواضح. لكن، لماذا يكون اختراق الحائط بطريقة سحرية ضعيف الحدوث في عالمنا الحسي النيوتوني، فيما شعور الأم بطفلها أمر طبيعي جدًا؟ لأن اختراق الحائط حسب ظاهرة التأثير النفقي الكوانتية يحدث ضمن بنية العالم المادي فوق الجزيئي، فيما مشاعر الأم تجري ضمن بنية "الوعي" المجهولة، والتي يعتقد بأنها "تحت ذرية" كما يتصور العالم روجر بنروز وآخرين، وربما تحت كوانتية كمية وأعمق من هذا بكثير إلى ما قبل الزمان والمكان بتصوري الشخصي. فتأثير النفق، والتزامن الكمي، تتزايد احتماليتها كلما غصنا في "أعماق" بنية الوجود تحت الذرية. وكلما ارتفعنا مقتربين من كرة المطاط (التي نعيش عليها في محيط الحقائق) تصبح احتمالية تحقق هذه الظواهر أضعف وأضعف! الليزر هو أحد نواتج ظاهرة التزامن الكمومي الكوانتي، تمامًا مثل التخاطر telepathy بين البشر المرتبطين بصلة قرابة قوية أو بمشاعر من الحب المتبادل. وهذا يعني، وبما أن حوادث التخاطر تحدث بنسبة لا بأس بها، فإن المشاعر والأفكار تنتمي بشكل مؤكد، كما يذهب بنروز والكثيرين، إلى الأعماق الكمومية من تكوين هذا العالم. اختراق الجدران، أو هبوط الكرسي الذي نجلس عليه فجأة إلى عمق عشرة أمتار تحت الأرض هو احتمال ضعيف لأنه واقع ضمن إطار عالم نيوتن - عالمنا المدرك حسيًا. (4) لماذا يؤمن الأقدمون بحوادث التزامن ما دامت ضعيفة الاحتمال في عالمنا الكبير الواسع؟ فمرور سربٍ للبط فوق برج سيزر في شيكاغو على سبيل المثال، يمكن أن يوحي لإنسان بدائي بتزامن حدوث عمل "إرهابي" في هذه البناية يقود إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وعلى نحو متزامن دون وجود رابط موضوعي وفي نفس الوقت. هذا ممكن ودون أن يعزى ذلك للصدفة فقط لو كنا نعيش في عالم الكوانتا، عالم الكم. فحضور سرب البط في الجو يؤدي إلى وقوع حادث بإيقاع تزامني، لا سببي! كذلك أيضًا، يمكن أن نعمم ظاهرة "تواجد" الإلكترون في مئات الأماكن الاحتمالية حول الفضاء الذري حسب قوانين الكم على مستوى احتمالية تواجدي الآن في العراق أو في جزر الكناري وفي نفس اللحظة، كما في قصة عرش بلقيس الذي رآه سليمان مستقرًا عنده في أورشليم–القدس قبل أن يرتد إليه طرفه وقد جلبه له آصف بن برخيا في لمح البصر من أرض اليمن! أليس من الغريب أن تكون قصص الخيال الإنساني والميثولوجيا القديمة وقصة مصباح علاء الدين مشابهة لسيناريوهات قوانين الكم فيما لو حكمت عالمنا؟ هل هي الصدفة وحدها ما تجعل العديد من ظواهر الباراسايكولوجي ممكنة القبول فيما لو كانت قوانين الكم في محل قوانين العالم الكلاسيكي الذي يحتكم إليه عالمنا الحسي الأكبر؟ ترى، إلى ما سيقودنا التأمل العميق في "ملكوت الله" المزعوم في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، حين نقارنه بملكوت الكوانتم الافتراضي هذا؟ (5) حين نقول ملكوت الكوانتم الافتراضي غير موجود، هذا لا يعني أن عالم الكوانتم غير موجود. عالم الكم (الكوانتم) موجود، ونحن البشر متأكدون تمامًا من وجوده ونحاول استثمار هذه القوانين تكنولوجيًا في حضارتنا المعاصرة، وأهم تطبيقاته المتعددة هو الليزر الذي أسهبنا في الحديث عن القوانين الغريبة المدهشة التي تسهم في تكوينه وما يتمتع به من خصائص في مواضيع كثيرة خلت. وقد توصلنا في مواضيع سابقة إلى رسم صورة افتراضية أولية عن وجود خلفية تسبق خلق الذرات وقسيماتها الصغيرة: الإلكترونات والبروتونات، وتسبق أيضًا التجمع الهائل للطاقة الموجية الكهرومغناطيسية لحظة الانفجار العظيم. إنها صورة قبل الزمان والمكان، والتي قد تكون هي الأصل والأساس في انبثاق هذا العالم بمستوييه الاثنين: الصغير الكمومي الكوانتي، والكبير الكلاسيكي النيوتوني. كأن عالم الكم مرحلة بينية، نقطة عبور إلى عالم أولي أساسي تنشط فيه أواليات التكوين "الكهربائي" الممثلة ربما بالمجال فقط. فعالم الكم يجمع بين المجال وشحنته الناقلة وبين الكتل المادية المميزة لعالمنا الحسي، كأنه يخبرنا بأن قاع المحيط الذي نعوم فيه مكونٌ من المجال. هذا القاع الذي لم نكن لندركه لولا ملكة "الخيال" Imagination التي اعتبرها أينشتاين أهم ملكات العقل. (6) الخيال، الأفكار، الوعي... أكاد أجزم بأنها نتائج ومفاعيل تنتمي إلى ذلك القاع، رغم تداخلها مع فعاليات جزيئية فيزيولوجية في الدماغ والجهاز العصبي، لتكون العمليات العقلية متدرجة "الأعماق" تمامًا مثل عالمنا. يكاد العقل البشري أن يكون صورة مصغرة لهذا الوجود بكافة أعماقه. فما نستشعره حسيًا ينتمي بالفعل إلى العالم الكلاسيكي النيوتوني، لكن في أعماق الشعور أغوار لا نفهمها أو ندركها بسهولة. كذلك الخيال، لا يبدو وكأنه "حر" كما نتصور، هنالك حدود يحدها القاع العميق والعالم الحسي المرئي. قصص العفاريت والميثولوجيا القديمة تبدو وكأنها ليست بإبداع حقيقي حين ندرك أن خيالاتها تحدها قوانين الكوانتا العميقة. كذلك هي الديانات البشرية قاطبة، بما في ذلك ادِّعائها وجود عالمٍ بعد الموت. مجرد التفكير بانتماء "جزء" من عقلنا وأفكارنا وربما قواعد بيانات ذكرياتنا التي لا يزال العلم يجهلها إلى تلك الأصقاع من قاع الوجود العميق إنما يجعلنا نعيد النظر في مسألة أن الإنسان بعد موته يستحيل إلى مجرد ركام من مواد لاعضوية تنحل إلى تراب من جديد. العقل البشري، حين يعبر مع قواعد بياناته mind data base إلى تلك الأعماق الماقبل أو المابعد زمكانية، قد يحصل على استمرارية وعي وإدراك مجردة عن المادة، كما هي مع "الله"!! نحن لن نصدق ما ورد في تلك الأساطير عن عوالم الآلهة وملكوت الله، لكننا سنعيد تحليل تلك الرموز الخيالية وما ورد فيها علها ترشدنا إلى ماهية وطبيعة "القاع" المابعد كوانتي الذي صدر منه هذا العالم. فخيالات الشعوب وأساطيرها قد تحمل في طياتها ملامح للنظام المشترك الذي يجمعها ضمن إطار ظواهر الباراسايكولوجي. تتدرج الميثولوجيا القديمة هي الأخرى بأعماق مختلفة وهي تقترب من عالمنا الحسي، نحتاج أن نختار أوضح الصور ومن نتصورها الأكثر عمقًا بغية دراستها. *** *** *** |
|
|