|
في البحث عن "الإله" المفقود: جمعة الآلام السورية
"الإله" المفقود في كتاب الليل قصةً مؤلمةً حصلت في معتقل "أوشفيتز" الرهيب، أنقلها هنا بشِعريَّتها راجيًا من القارئ الكريم ألا يأخذها بحَرْفيَّتها. في أحد الأيام، تمَّ جمع المساجين ليشاهدوا شنق مجموعة من المعتقلين، وبينهم طفلٌ نحيلٌ في الثانية عشرة من عمره. سحب الجنود الكرسي من تحت قدمي الطفل، لكنه لم يختنق بسرعة، ولم يكن له من الوزن ما يكفي لتنكسر عنقه، فظل معلقًا في الهواء ينازع دهرًا قبل أن يخلِّصه الموت. أحد المساجين قال بصوتٍ مضطرب: "أين هو الله؟" لكن لا مجيب! وبعد بضع دقائق من الصمت الخانق، والطفل المنازع ما زال حيًا، ودموعه المالحة تنهمر من عيون الجميع، يكرِّر السائل تساؤله بإلحاح: "أين هو الله؟"، فيجيب قلب الكاتب: "إنه معلَّقٌ على المشنقة!". بريد "الله" إن سألني أحدٌ اليوم: "أين هو الله في سوريا؟" لأجبت: "إن كان الله رحيمًا، فلا يمكن إلا أن «يسكن» في جسد عفاف المهشَّم، وجلد مصطفى المتفحِّم، وحنجرة ابراهيم المبتورة، وورود غياث الذابلة، ودموع كل ضحية!" فمنذ زمنٍ بعيد، لم يعد الله يجلس كثيرًا في الكنائس والجوامع، لأنه ملَّ رائحة البخور وضجيج الخطب حين لا تعرف إلا لغة الخوف أو الوعيد، كما سئم ألحان تلك الترانيم التي كَنَسَتِ الإنسان كما يُكنس الغبار، وضَجِر من أصوات الأجراس والمؤذنين حين صارت حبوبًا مخدرة... منذ زمنٍ بعيد، وجد الله بيوتًا أنسب من المذابح القديمة، لأنه كان رحيمًا أكثر من كونه "متديِّنًا"، وفضَّل على المعابد الشوارعَ الطويلة، والمقاهي المكتظة بالحالمين، وجروح المشردين، كما أحب أطراف الأزقة، حيث يجلس المتسولون، ويسترق بائعو الورود النظرات بصمت... منذ زمنٍ بعيد، هجر الله مذابحه القديمة، وكتب على أحد جدران حمص عنوانه الجديد: "بيتي مآسي السوريين، وخيم لاجئيهم، وقلوبهم الفسيحة!". العرش الفارغ في الجمعة العظيمة منذ ألفي عام، صلبوا يسوع الناصري – بحسب الإيمان المسيحي – ومعه لصَّان. وفي الجمعة العظيمة من العام الماضي، تجاوز عدد الشهداء الذين سقطوا برصاص الأمن في سوريا، وللمرة الأولى، المئة! عندها، تأبَّط الله حمص ورحل ليسكن شارعًا وزقاقًا وخيمة، تاركًا للطائفيِّين أصنامهم، فصار عرشُ الله فارغًا، لأنَّ القلب صار مذبحَه ومحرابه، وصار الله ألفةً في كل غريب، وحياةً في كل شهيد، ووطنًا في كل لاجئ، ولم يعد الله مُلْكًا لأحد، وصار الجرح إلهيًا، والنصرُ إنسانًا يعشق الحرية. سؤالٌ مُلِحٌّ صرخ معلَّقٌ من الناصرة على خشبة: "إلهي إلهي لمَ تركتني؟"، ورفع ناشطو كفرنبل لافتةً كتبوا عليها: "يسقط النظام والمعارضة... تسقط الأمة العربية والإسلامية. يسقط مجلس الأمن... يسقط العالم... يسقط كل شيء" (14-10-2011). لم يسقط كل شيء، وبقي العالم وبقيت الأمة، وبقي السؤال يتردد إلى يومنا هذا: "لمَ تركتني؟". رجلٌ استضاف عائلةً من دينٍ آخر، صارت بلا مأوى، في بيته الصغير، فكانت إنسانيِّته جوابًا على السؤال الملحِّ، ولو غير كافٍ... مِلْحٌ وموسيقى هناك في الجلجلة، حيث تجمَّع المئات ليشاهدوا ناصريًا معلَّقًا على الخشبة، هناك حيث اختنقت الأصوات وتعالى النحيب، هناك حيث صفَّق بعضهم، وأغمض آخرون عيونهم، هناك حيث تجمَّع "الشبِّيحة"، هناك حيث انهالت نيران المدافع على المتظاهرين الوافدين من دمشق، هناك حيث قامت ألف طائفةٍ وطائفة، هناك حيث كانت نظرات الأطفال مالحة، هناك حيث أَحرق العسكر محاصيل الذرة، هناك حيث اغتُصِبت نساءٌ في معمل السكر، هناك حيث انقرضت بابا عمرو إلا من الذاكرة، هناك حيث أمطرت السماء ألف صمتٍ وكلمة، هناك، شاهدتُ عصفورًا ما زال يغرِّد للحرية، وإلهًا لا يملك سياطًا، ووطنًا يبحث عن سكَّانه... الإله المُستعاد عندما سقط في الجمعة العظيمة أكثر من مئة شهيد، وصار الألم طحينَ السوريين، وصار المشرَّدون عنوان الله الجديد في سوريا، واليتامى أحباءه، والمظلومين أصفياءه، طالب اللهُ الدينَ مجدَّدًا ألا يكون ديكتاتورًا، وألا يكون انغلاقًا، وصار من واجب الدين أن يحتفل بالإنسان، أمؤمنًا كان أم لا، وصار بإمكان الإنسان أن يحب بحرية أكثر، لأنه هكذا أحب الله العالم! ٭ راهب يسوعي من سورية. |
|
|