|
إضاءات
في آخر مرة زرتُ إحدى غرف الدردشة على الإنترنت، كانت مُحاوِرتي فتاةٌ أمريكيةٌ سبق لي أن تحاورتُ معها في عدة مواضيع. هذه المرة رحت أبحث عن موضوع جديد للحوار، لكنها بادرتني بالسؤال التالي: "ألا تتفق معي أن أمريكا هي البلد الأفضل في العالم؟" فاجأني السؤال، ولم أدرِ كيف أجيب عنه: هل أستسلم لمشاعري المفعمة بالغضب على كلِّ ما هو أمريكي أم أختار أن لا أنقاد لحالة انفعالية بعيدة عن العقل، بل أتحلَّى بمزيد من الموضوعية؟ بعد لحظات، وجدت مَخرجي في السؤال التالي: "لماذا يجب أن تكون أمريكا البلد الأفضل في العالم؟" وكانت إجابتها جاهزة: "بفضل القيم الأمريكية ذاتها." عدت للإجابة بسؤال آخر: "كم هي أمريكا اليوم بعيدة عن قيمها؟" وبدا لي أن سؤالي قد أزعجها، فقالت: "عليك أن تتفق معي، وإلا فلا تحاورْني بعد الآن!" لم أجد أمامي إلا أن أخبرها بأنها اختارت ذلك فعلاً!
مع أنَّ الدين الإسلامي مصدر للعلاقة الإيمانية والروحية مع خالق الكون ومنبع للقيم الأخلاقية، يواجهنا اليوم سؤالٌ ملح: هل ما نريد من الإسلام هو "الدين" فقط أم أشياء أخرى؟ جوابًا عن هذا السؤال نقول: ليس من مهمَّات الدين الإجابةُ على تساؤلات الحياة كلِّها – بمعنى أنه ليس "سوپرماركت" يمكن لنا أن نتبضَّع منه لتلبية مختلف حاجات الحياة الدنيوية – لأن "بضاعته" الرئيسية هي العبادات والطاعات والأذكار، أي ما يشكل عماد الحياة الإيمانية دينيًّا، وكذلك الحض على فعل الخير واجتناب فعل الشر (جوهر الأخلاق)؛ لكن ليس من صميم الدين تدبير الأمور الدنيوية. لذلك لا بدَّ للمتديِّن من أن يفكر في الدنيا بقدر ما يفكر فيها غير المتديِّن؛ فالدنيا لا ترتبط بجوهر الدين وأسُسه، وإنما بقضاياه الثانوية العرَضية.
يُعَدُّ النهوضُ العلمي للأمم والشعوب أحدَ أهم أوجُه تطور النتاج الحضاري للإنسان. فالازدهار الفكري الناتج عن تبلوُر الوعي ينعكس في الطفرات العلمية والتكنولوجية، لأن العلوم التطبيقية هي التي تضع الأفكار موضع التجربة والاختبار، في حين أن الفكر الفلسفي الذي يطرح إشكاليات الوجود هو الذي يسبق النهضة العلمية التي تُعَدُّ أحد أهم أوجُه المدنية ويؤسِّس لها. وإذا ما أردنا أن نحلِّل الأفكار التي سادت خلال القرن العشرين، نجد أن الأفكار الانعزالية المنغلقة هي التي حرَّكت القرن الفائت بأسره، على الرغم من التطور المدني الآلي الهائل. فالعلوم لم تتمكن من الإفلات من الصراعات الإيديولوجية والعقائدية والمذهبية والسياسية، حتى إن الإشكاليات ما تزال دائرةً حول تسخير العلم والاقتصاد في سبيل الهيمنة والتوسع من خلال استخدام العلماء الجائر للعلم؛ وهو الأمر الذي خلق شعورًا بالحذر من "حيادية" العلم نفسه ومن "حقيقة" أحكامه وما ينجم عنها.
مدخل إلى راهن التفكير في الاجتهاد يواصل هذا المبحث أعمالاً سابقة للكاتب. إلاَّ أن القصد من استئناف التفكير في الموضوع الاجتهادي هو محاولة المزيد من توضيح المفاهيم وإثارة بعض القضايا ذات الصبغة الإجرائية في ضوء الوقائع العالمية الراهنة والتغيرات التي شهدتْها مجتمعاتُنا الإسلامية وما ينتظرها من تحديات في المستقبلين القريب والبعيد. فهل الاجتهاد فكر أم منهج عام، يختلف من عصر إلى عصر آخر ومن سياق واقع مجتمعي بعينه إلى سياق واقع مجتمعي مغاير، أم هو فكر ومنهج معًا؟ وكيف نعمل على تحرير العمل الاجتهادي (أي العمل الاجتماعي) من مسبق المفاهيم المسقَطة على وقائعنا العربية والإسلامية الراهنة بمشترك الفعل المعرفي والممارسة الديموقراطية العامة، اللذين لا يقطعان مع التراث بتعلَّة ضرورات التحديث ولا يتورطان في ماضوية منغلقة على ذاتها تناصب العداء لمجمل مشاريع التحديث الراهنة والممكنة مستقبلاً؟
التطور والتقدم مسار شامل يطال مناحي الحياة جميعًا، سواء الفكرية أو العلمية أو السياسية أو الاجتماعية أو حتى الفنية وغيرها. وما قد نراه من تقدُّم بعض المجتمعات على أحد المسارات الجزئية دون غيره أو أكثر يجب أن نتعاطى معه من خلال مفهوم "التفوق الجزئي" المرتهَن لظروفه الصحية الشرطية، وليس كتعبير عن تطور حقيقي وتحضُّر شامل للمجتمع نفسه. لنعد إلى الوراء قليلاً، إلى المجتمعات الأوروبية في أثناء المخاض التنويري وما سبقه من تلاحقات ثورية (بالمعنى الحقيقي للكلمة) غيَّرتْ في المفاهيم والعلوم السائدة والراسخة، حتى طالت مفاهيم من ضمن الإرث الأرسطي نفسه الذي نَمَتْ أجيالٌ وعاشت في كنفه وماتت إبَّان قرون طوال.
لو كان هناك علماء فلك عرب في سبعينيات القرن الماضي، وشاركوا في إعداد الرسالة الكونية التي حملتْها المركبة الفضائية Voyager، لأصبحت السيدة فيروز "سفيرتنا إلى النجوم" فعلاً، لا بتعبير مجازي جميل وحسب على طريقة الشاعر الكبير سعيد عقل. لقد حُمِّلتْ مركبتا Voyager 1 وVoyager 2، اللتين أُطلِقَتا في آب وأيلول سنة 1977، رسالةً موجهةً إلى الحضارات الكونية التي تقطن كواكب حول نجوم أخرى في مجرة درب التبانة the Milky Way التي تضم نجمنا الشمس. وتتضمن هذه الرسالة كلمة تحية منطوقة بـ55 لغة من لغات البشر، بدءًا من اللغة الأكادية القديمة لمملكة سومر، وانتهاءً بلغة Wu، لغة الأقلية في الصين، مرورًا باللغة العربية وغيرها من اللغات.
|
|
|