|
الاستثنائية الأمريكية وملامح الانبعاث الأمريكي الجديد
في آخر مرة زرتُ إحدى غرف الدردشة على الإنترنت، كانت مُحاوِرتي فتاةٌ أمريكيةٌ سبق لي أن تحاورتُ معها في عدة مواضيع. هذه المرة رحت أبحث عن موضوع جديد للحوار، لكنها بادرتني بالسؤال التالي: "ألا تتفق معي أن أمريكا هي البلد الأفضل في العالم؟" فاجأني السؤال، ولم أدرِ كيف أجيب عنه: هل أستسلم لمشاعري المفعمة بالغضب على كلِّ ما هو أمريكي أم أختار أن لا أنقاد لحالة انفعالية بعيدة عن العقل، بل أتحلَّى بمزيد من الموضوعية؟ بعد لحظات، وجدت مَخرجي في السؤال التالي: "لماذا يجب أن تكون أمريكا البلد الأفضل في العالم؟" وكانت إجابتها جاهزة: "بفضل القيم الأمريكية ذاتها." عدت للإجابة بسؤال آخر: "كم هي أمريكا اليوم بعيدة عن قيمها؟" وبدا لي أن سؤالي قد أزعجها، فقالت: "عليك أن تتفق معي، وإلا فلا تحاورْني بعد الآن!" لم أجد أمامي إلا أن أخبرها بأنها اختارت ذلك فعلاً! ورحت أتساءل عن التحولات في الحياة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول: بدا لي أن هذه الأحداث، التي هزت مدينتي نيويورك وواشنطن، قد هزت معها وجدان الشعب الأمريكي. ولعل الأمريكيين لا يرون في أحداث ذلك اليوم المشئوم اعتداءً على حياتهم وأمنهم واقتصادهم فقط، بل اعتداءٌ على قيمهم الأمريكية ذاتها أيضًا. هل تزعزعت ثقةُ الأمريكيين في "استثنائيتهم" التي طالما اعتبروها سمةً أساسيةً ميَّزتْ الطابع الأمريكي، منذ وصول حجاج سفينة Mayflower مطرودين من ديارهم من جراء الاضطهاد الديني، مرورًا بعهد الآباء المؤسِّسين، وصولاً إلى اليوم الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة قوة فوق عظمى hyper-puissance؟ أليس من المفارقة أن فرنسيس فوكوياما نفسه، صاحب خطاب "نهاية التاريخ"، يرى في أحداث الحادي عشر من أيلول علاماتٍ على نهاية الاستثنائية الأمريكية، وأنها لم تبقَ لها غير فرص ضئيلة، باحثًا عن شروط الانبعاث الأمريكي الجديد؟[2] هل يؤيد الكثير من الأمريكيين منطق إظهار القوة، لعلَّه يحول دون زعزعة الثقة بتلك "الاستثنائية" الأمريكية؟ وإذا كان منطق القوة قد يحقق اليوم بعض التوازن النفسي للأمريكيين، وبعضًا من الثقة في النفس ربما، فماذا عن لحظة العقل؟! أليست قادمةً لا محالة لتفرض نفسها بعد أن يستيقظ الأمريكيون من وقع الصدمة وينتهي دور العسكر؟ إن لحظة العقل هذه تقتضي البحث الجدي والتحليل العميق لتلك الأحداث الاستثنائية في تاريخهم الاستثنائي. لعل ما يذهل الأمريكيين اليوم هو عدم قدرتهم على فهم ما يعتقدونه اعتداءً على الحرية والديموقراطية وقيم العالم الحر الذين حمَّلوا هم أنفسَهم مهمةَ التبشير بها عبر تصديرهم لها من خلال النموذج الأمريكي. لقد كان الاعتقاد أن الولايات المتحدة ستكون الفرصة الثانية لبشرية تحررت من القمع والاضطهاد، حتى إن فيلسوفًا كجون لوك كتب يومًا: "في البدء كان العالم أمريكا." لكن الثورة الأمريكية التي ألهمت أوروبا في القرن الثامن عشر لم يكن لها صدى يُذكَرُ في ثورات القرن العشرين التي استُلهِمَتْ، في غالبيتها، من فكر ماركس ولينين وابتعدت عن التعاليم الليبرالية للثورتين الأمريكية والفرنسية، تمامًا كما ابتعد الأمريكيون أنفسهم عن مبادئ ثورتهم. لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية، إذن، أن تصدِّر نموذجها الديموقراطي إلا من خلال ما بات يُعرَف بالسلام الأمريكي Pax americana، أو السلام المفروض بالقوة العسكرية، فكانت القوة العسكرية صفة ملازمة للسياسة الأمريكية الراهنة. غير أن النموذج الأمريكي مافتئ يلقى المقاومة: بالقدر الذي يحاول فيه الأمريكيون تصدير نموذجهم يلقى هذا النموذج رفضًا من المجتمعات ذات التاريخ الطويل التي تعتبر ذاكرتها الجمعية أساسًا لهويتها. فكان من العسير على الأمريكيين أن يفهموا التناقض الناشئ بين منطق الذاكرة ومنطق الاختيار، بوصفهما مفهومين مختلفين لبناء المجتمع: فالولايات المتحدة تعتبر نفسها جماعةً اختارت نفسها بنفسها أكثر من كونها أمةً ذات ذاكرة مشتركة؛ والحديث هنا يدور على "العقد"، أي قواعد التفاهم التي توصلت إليها مختلف الجماعات التي توافدت على أمريكا إبان أكثر من خمسة قرون خلت دون الاعتماد على تراث واحد بعينه. وربما لهذا السبب تلقى فكرةُ التحالف الدولي، الذي نجحت الولايات المتحدة أكثر من مرة في حشده وراء حملاتها العسكرية، حماسًا من قبل الأمريكيين باعتباره ينسجم مع ثقافتهم السياسية حول قيام المجتمع السياسي على "عقد" يقبله طوعًا كل مواطن ومع مفهومهم عن مجتمع الاختيار الحر. فما هذا التحالف الدولي ضد "الإرهاب" غير نوع من "العقد" ينضم إليه كل طرف مختارًا أن يكون مع أمريكا لإنقاذ قيم الحرية والعدالة والديموقراطية. إنه الاختيار الحر للمجتمع الحر! لكن الإدارة الأمريكية مضت ضد الإرادة الدولية في حربها على العراق، وفشلت إلا في حشد "تحالُف" من دول يكاد لا يكون لها وزن يُذكَر في السياسة الدولية. الأمر الذي يؤكد أن فكرة التحالف ذاتها لا تعني للإدارة الأمريكية إلا مجرد محاولة لتجنب خسارة مماثلة لتلك الخسارة التي مُنيت بها في ڤيتنام، هناك حيث كانت كل التفاصيل قد رُسِمَتْ في دقة، لكن النتيجة النهائية صدمت الأمريكيين: لقد خسرنا الحرب! هكذا كانت التجربة الأمريكية تكتيكا ناجحًا وإستراتيجية (عسكرية) أقل نجاحًا، لدرجة الفشل في أحيان كثيرة، مادام النموذج الأمريكي، من جراء النزعة الپراغماتية المسيطرة على صانعي سياسة الولايات المتحدة، قادرًا على رؤية التفاصيل، لكنه عاجز عن رؤية الصورة الكلية الشاملة. وعلى الرغم من أن بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية ترافَق مع تشكُّل الكيانات فوق القومية supranational entities وتعزيزها، ممثلةً بالأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى، إلا أن المشاركة الدولية للولايات المتحدة في شؤون العالم لم تعد منسجمةً والمعايير الدولية، والتعارض اليوم هو على أشده. ذلك أن هذه الكيانات تقتضي التخلِّي جزئيًّا عن أساس مهم للهوية الوطنية، ألا وهو السيادة، لصالح تلك الكيانات، وهو ما لا ينسجم مع المنطق الأمريكي الراهن. الشعب الأمريكي اليوم بات معنيًّا مباشرةً بالسياسة الخارجية الأمريكية، ذلك أنه دفع ثمنًا باهظًا للتعارض بين ديموقراطية أمريكا الداخلية وبين مسؤولياتها الإمپريالية؛ وهو اليوم يمتلك فرص توفير شروط الانبعاث الأمريكي الجديد، وعليه تقع مسؤوليةُ إحداث تحولات جذرية في السياسة الخارجية الأمريكية لتكون امتدادًا منطقيًّا لسياستها الداخلية. فمهما كانت فرص الحسم بيد العسكر فإن النصر النهائي على "الإرهاب" هو في يد الشعب الأمريكي مادام هذا "الإرهاب" من نتائج السياسة الأمريكية المعمول بها تجاه العالم في محاولة تفرُّدها في تصريف شؤونه بما يخدم مصالحها الضيقة. إن أيَّ انبعاث أمريكي يضمن للأمة الأمريكية استقرارها وديمومة خصوصيتها واستثنائيتها بات رهنًا للاختيار بين قيادة عالم أكثر أمنًا وسلامًا واستقرارًا أو البقاء رهنًا لأحداث أكثر عنفًا وتفجرًا. وربما كان على الأمريكيين أن يتذكروا كلمات حكيمهم أرنولد نيبور حين قال ذات يوم: إن القوة نفسها التي وسَّعت نفوذنا إلى خارج القارة قد أوقعتنا بدورها في شبكة واسعة من تاريخ فيه إرادات أخرى تسير في اتجاهات متعارضة مع اتجاهاتنا ستعرقل لا محالة كلَّ ما نتشوق إليه. إننا في بساطة لا يمكن أن نشق طريقنا، حتى لو اعتقدنا أنه هو الذي سيجلب السعادة للجنس البشري. *** *** ***
|
|
|