|
رَوْحَنة العلوم تكامُلٌ منفتحٌ على الوجود
إن موت
الإنسان يتزامن مع الفصل التام بين العلم والثقافة.[2]
يُعَدُّ النهوضُ العلمي للأمم والشعوب أحدَ أهم أوجُه تطور النتاج الحضاري للإنسان. فالازدهار الفكري الناتج عن تبلوُر الوعي ينعكس في الطفرات العلمية والتكنولوجية، لأن العلوم التطبيقية هي التي تضع الأفكار موضع التجربة والاختبار، في حين أن الفكر الفلسفي الذي يطرح إشكاليات الوجود هو الذي يسبق النهضة العلمية التي تُعَدُّ أحد أهم أوجُه المدنية ويؤسِّس لها. وإذا ما أردنا أن نحلِّل الأفكار التي سادت خلال القرن العشرين، نجد أن الأفكار الانعزالية المنغلقة هي التي حرَّكت القرن الفائت بأسره، على الرغم من التطور المدني الآلي الهائل. فالعلوم لم تتمكن من الإفلات من الصراعات الإيديولوجية والعقائدية والمذهبية والسياسية، حتى إن الإشكاليات ما تزال دائرةً حول تسخير العلم والاقتصاد في سبيل الهيمنة والتوسع من خلال استخدام العلماء الجائر للعلم؛ وهو الأمر الذي خلق شعورًا بالحذر من "حيادية" العلم نفسه ومن "حقيقة" أحكامه وما ينجم عنها. من ذلك أن استخدام العلم والتكنولوجيا في سباق التسلح وإنتاج أسلحة الدمار الشامل وغيرها من الأسلحة الفتاكة، هذا عدا عن الدراسات الجارية على قدم وساق في ميدان علم الوراثة وما يمكن له أن ينتج عنها من محاذير أخلاقية، خصوصًا فيما يتعلق باستخدام الاستنساخ البشري لأغراض عسكرية – هذه كلها أمور تحتاج إلى خلفيات معيارية، أخلاقية بالدرجة الأولى، وهي لا تنفصل عن المنظومة القيمية للأفراد القيِّمين على الأبحاث نفسها. إن بشاعة الحروب، والدمار الذي يشهده العالم من جرائها، تجعل المفكر منَّا ينظر نظرة شكٍّ إلى استقلالية المضامين العلمية عن إستراتيجيات العمل المؤسساتي الخاضع، في نهاية الأمر، للقرارات السياسية وميزانيات الدول. لذا لا نبالغ إذ قلنا إن العلم قد تسيَّس تسييس العقائد والمذاهب والأديان، وذلك من خلال انخراطه في دورة العجلة الاقتصادية، من جهة، وعبر انخراطه في دواليب المؤسسات، من جهة أخرى، الأمر الذي جعله خاضعًا لنفوذ الأنانية السلبية للفرد وجشعه. في هذا السياق، تشير إيزابيل ستنغرس – وهي عالمة بلجيكية متخصصة في فلسفة العلوم، عملت سنوات طويلة في معالجة الإشكاليات الدائرة بين المفاهيم العلمية المعرفية والمفاهيم الاجتماعية – إلى أن "التمييز الذي يحصل بين الواقع والمحتمل والمتوهَّم يترجم لنا الفضاءات التي تظهر في حدودها القصوى علاقاتُ نفوذ السلطة داخل العلوم."[3] لذلك فإنها تخلص إلى نتيجة مُفادها إن السؤال الجوهري للفيزياء ليس في حقيقته إلا سؤالاً سياسيًّا واجتماعيًّا. وعلى الرغم من محاولات بعضهم الدائبة عدم ربط المعرفة والعلم بالقيم الأخلاقية، إلا أن الشواهد العملية وانتشار الاستخدامات اللاإنسانية للمنتجات العلمية تؤكد أنه لا يمكن بحال من الأحوال فصل العلوم عن مجريات الأحداث التاريخية المحيطة بها: إنها، أي العلوم، مرتبطة بالمجتمعات، من ناحية، كما هي مرتبطة بالحدث التاريخي، من ناحية ثانية؛ الأمر الذي يجعل القيم محدِّدًا محوريًّا مهمًّا فيها. من هنا فإن السلطة تستغلها وتجعلها طرفًا في الصراعات الدموية المحمومة. إن تسليط الضوء على الجانب السلبي للاستخدامات العلمية لا يريد أن يجنح بحال من الأحوال إلى وضع العلم في قفص الاتهام، بل حسبه أن يلفت الانتباه إلى أن تسخير العلم لأنانية الإنسان وسلبيته الانفعالية هي التي حوَّلت العلم من جانبه الإيجابي إلى جانبه السلبي. فالعلوم في وجهها الإيجابي قد تُستخدَم لترسيخ قضايا تخدم السلام العالمي من خلال القضاء على الفقر ومشكلات التغذية والحفاظ على البيئة الطبيعية إلخ. يواجه العالمُ اليوم، من دون شك، تحدياتٍ إنسانيةً ومصيريةً بالغة التعقيد. فالكوارث البيئية والحروب الحاصلة تعكس شدة عداء الإنسان للطبيعة وحدَّة عنف الإنسان تجاه الإنسان. الأمر الذي يرمي بنا في تخلُّف دامس سببه، بالدرجة الأولى، إحلال الانفعالات محلَّ الوعي وإغفال الجانب الروحي والقيمي في حياة الأفراد والجماعات. من هنا فإن المصالحة بين العلم والثقافة والروح واجب حضاري وإنساني يضعنا أمام مسؤولية طرح رؤية جديدة منفتحة على الوجود، تحدد علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالكون، وما يتمخض عنهما من مفاهيم جديدة عن الزمن والمكان، بحيث يصبح العلم أداةً إيجابيةً تحقق مزيدًا من الانسجام بين الكائنات والكون، وتصبح التقنية إستراتيجية لتحقيق كيفيات الوجود، وبذا تتحول من نمط إنتاجي إلى تجلٍّ وانكشاف، بحيث يغدو الإنسان مستودعًا للطاقة الكونية، لا هوية محدِّدة له، ويصبح الانفتاح الدائم صفة ملازمة لوجوده. في ظل هذه الرؤية، فإن إرادة السيطرة لا يكون لها معنى بتاتًا إلا في ذاتها، فتتلاشى الصراعات. كما أن إشكاليات العلم والمعرفة والحقيقة والسياسة والسلطة تتخذ معاني أخرى. ولن تعود المسألة مسألة تحديد مواقع الحقيقة؛ بل إن مفهوم "الحقيقة" ذاته سينعكس في مجموع الإستراتيجيات والسيرورات التي يتم بفضلها إنتاج القيم وتحديد نظام الخطاب وسياساته. يقودنا هذا الطرح إلى إعادة النظر في مسألة علاقة العلم بالخبرة الروحية للكائن الإنساني، وذلك لأن الروح هي المحفِّز للانطلاق في عالم التطور: فالوعي الكوني هو الذي يُمِدُّ الكائن بالفكر والحدس؛ والروح هي التي تعبِّر عن واقع الحياة وانطلاقها لبلوغ ذروة الإبداع بفعل الطاقة الكامنة فيها، متجاوزةً بذلك كلَّ انغلاق مادي، محققةً تطورًّا مستمرًّا وحرية لامتناهية. وأولى الخطوات في هذا الاتجاه تتجلَّى من خلال رأب الصدع بين الثقافة والعلم وبين العلم والروح، لأن جوهر المظاهر المادية، كما يؤكد ندره اليازجي، ليس إلا تجليًّا للروح في كلِّيتها على مستوى كوكبنا الأرضي. وهنا يتحقق وجود الإنسان من خلال مرتكَزين أساسيين هما: المرتكز العلمي والمرتكز القيمي/الأخلاقي/الروحي. فإذا تمَّ للإنسان ذلك، يتخطَّى أنانيته ويسخِّر العلم لخدمة الوجود والكون، فيتناغم مع الكلِّيات، و"يرى" عن طريق العلم الوجود في كثرته وتنوع صور تجلِّياته وتفاعلاتها العلمية، كما "يرى" بالروح أن الوجود كلٌّ متكامل موحَّد[4]. هذا التكامل بين العلم والروح هو ما يمكن لنا أن نسمِّيه بـ"وحدة الكثرة"، وهي الوحدة القائمة على التعددية والتنوع من خلال ضمِّها الوحدات الأخرى وجمعها، لكن دون أن تختزلها. وفي هذا المنحى، فإن الإنسان الكوني التعددي ليس مَن يتقن لغات عدة ويطَّلع على ثقافات متنوعة، بل هو الكائن الذي يوحِّد بين الثقافات، بحيث يتمتع بالقدرة على اكتناف التنوع ضمن كينونته الإنسانية نفسها. *** *** *** [1] كاتبة لبنانية. مدونتها: http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com؛ إيميلها: marwa_kreidieh@yahoo.fr. [2] Basarab Nicolescu, La transdisciplinarité – manifeste, Éditions du Rocher, Monaco, 1996, p. 119. [3] Isabelle Stengers, La guerre des sciences aura-t-elle lieu ?, Les empêcheurs de penser en rond, Paris, 2001. [4] Dominique Terré-Fornacciari, Les Sirènes de l'irrationnel : quand la science touche à la mystique, Albin Michel, Paris, 1991.
|
|
|