english

الصفحة التالية                  الصفحة السابقة 

نساء بالسواد
الفصل العاشر
ما بعد أوسلو، ما بعد رابين

غيلا سڤيرسكي

  

نصل الآن إلى رد فعل حركة "نساء بالسواد" على بدء عملية السلام مع الفلسطينيين... ومن ثم اغتيال إسحق رابين.

كان النصف الأول من العام 1993 مُثبطٍ للعزيمة بشكل أكثر. وقد بدأ بإبعاد 415 فردًا من أعضاء حركة "حماس" من إسرائيل في كانون الأول (1992)، والذين حاولوا البقاء على قيد الحياة تحت ظروف شتاءٍ قاسٍ في جبال لبنان. وكان آذار شهرًا داميًا على وجه الخصوص، حيث قُتل 15 إسرائيليًا، معظمهم من المدنيين، على أيدي فلسطينيين من الأراضي المحتلة انتقامًا لعملية الإبعاد. وفي أواخر آذار، وفي محاولة لمنع الإرهابيين من دخول إسرائيل، فرضت الحكومة "إغلاقًا" على الفلسطينيين المقيمين في الأراضي، مانعة إيَّاهم من الدخول إلى إسرائيل ومن السفر بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد جلب الإغلاق مشقَّة عظيمة على السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة: فَقَدَ أكثر من 100000 من العاملين داخل إسرائيل دخلهم[1]؛ وحِيل دون وصول الأطباء والمرضى عن المراكز الطبية؛ ولم يتمكن الأساتذة والطلاب من الوصول إلى معاهدهم التعليمية؛ وتقلَّص تدفق السلع الاستهلاكية، بما فيها الأغذية والأدوية، إلى حدٍّ كبير. وقد تم تخفيف هذا الإغلاق في النهاية، لكنه أبدًا لم يُلغَ كليًا، وكان يُعاد إلى وضعه السابق دوريًا، في محاولة لمنع الإرهاب أحيانًا، وأحيانًا أخرى كشكل من أشكال العقاب الجماعي جرَّاء الأعمال الإرهابية.

كان شهر تموز شهرًا سيئًا أيضًا، حيث حدث غزو إسرائيلي واسع النطاق لجنوب لبنان انتقامًا لقصف قوات حزب الله للبلدات الإسرائيلية الشمالية. وقد أجبر هذا الغزو السكان المدنيين على إخلاء جماعي للمنطقة، مما خلق موجة جديدة من اللاجئين، مؤقتًا على الأقل. كان "ميريتس"، الحزب الذي حصل على مقاعده بناءً على برنامج "السلام والحقوق المدنية"، جزءًا من الحكومة الائتلافية حينها، وأخفق في الجهر بوضوح طوال تلك الفترة – في الحقيقة، صوَّت الحزب مع الإبعاد الجماعي وساير انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى. كما أن حركة "السلام الآن" أيضًا لم تُبدِ ردًّا على هذه الأحداث، "تذرعًا بحججها الأمنية وتصميمها على البقاء ضمن الإجماع الوطني في إسرائيل"[2].

وقد أعربت حركة السلام النسائية عن إدانتها لهذه الأحداث في الوقفات الاحتجاجية، لكن وسائل الإعلام كانت تتجاهل صوت هذه الوقفات. وربما كانت الاحتجاجات الوحيدة الواضحة التي تردَّد صداها في ذلك الوقت كانت من "كتلة السلام"، وهي الصوت الأكثر تقدمية التي حاولت التقاط فترة تراخي حركة "السلام الآن" ومختلف منظمات حقوق الإنسان[3]. وانطلاقًا من هذا السياق المُثبِط للهمَّة، كان الإعلان في 29 آب العام 1993 مُثيرًا للصدمة: حصول اجتماع سرِّي بين ممثِّلين عن الحكومة الإسرائيلية مع ممثِّلين عن منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو، والتحضير من قِبل كلا الجانبين لانطلاق عملية سلام من شأنها أن تنهي الاحتلال. كان هذا تغيُّرًا مفاجئًا ومذهلاً من جانب الحكومة الإسرائيلية التي كانت لسنوات طويلة تتهم منظمة التحرير الفلسطينية بأنها منظمة إرهابية لا يمكن أن تفاوضها مطلقًا.

يبدو أن نشطاء السلام متفائلين طبيعيين – ربما هو متطلُّب لازم من أجل المسعى – وهي الطريقة الوحيدة الذي أستطيع بها أن أوضح رغبتنا الملحَّة للاعتقاد بأن السلام قد حدث في الحال. وأتذكَّر الشكوكية الأولية ودعوة الأصدقاء من أجل التكيُّف والبحث عن تعزيز إعلامي وملاقاتنا، في غضون ساعات، للإعلان السحري: الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. كان أمرًا استثنائيًا. فأخيرًا، ستُناقَش الرسالة المحمولة بوضوح بأن السلام وشيك. "تعالوا نفكر معًا". كنا توَّاقين جدًا للتصديق بأن هذا على وشك الحدوث!

كان يوم أحد، اليوم الذي تواردت فيه الأخبار. وصدف أن كنتُ مشاركةً في لقاء مع سكان فلسطينيين من نابلس كان قد تمَّت دعوتهم إلى القدس، وكانوا قد استضافوا يهودًا من القدس في نابلس منذ عدة شهور. كل هذا كان جزءًا من عمل رائع تواصل من قبل "مجموعة الحوار الفلسطينية/الإسرائيلية" (التي كان بعضٌ من "نساء بالسواد" منظمِّات فيها من الجانب الإسرائيلي). وعندما ترجَّلت العائلات النابلسية من الحافلات، حيينا بعضنا البعض بحماس، وبمعرفة منا أن أمرًا ما على قدر من الأهمية كان يحدث، ومن المفرح أن نكون قادرين على الاحتفال به سويَّة. وقد تمَّ التخطيط لمسيرة إسرائيلية–فلسطينية سلمية مشتركة في حي هادئ من أحياء القدس، بيد أن مزاج المسيرة تحوَّل حينها من الاحتجاج إلى الاحتفال. فقد جُلنا عبر الشوارع الخلفية الضيقة للقدس رافعين عاليًا لافتة باللغتين العبرية والعربية تقول: "نريد السلام"، متلمِّسين تزايد التوقعات لحلم مشترك، ربما، على أمل، أنه على وشك التحقُّق. كنا بضعة مئات تناولنا طعام العشاء سويَّة، وحين افترقنا في الحافلات في وقت لاحق من ذلك المساء، تعانقنا كما لو أننا على معرفة ببعضنا منذ عقود. وأتذكر الشعور بأننا كنا في فجر نهاية للمعاناة.

كان كل يوم من ذلك الأسبوع يحمل المزيد من الأخبار والشائعات عن التقدُّم نحو إحلال السلام، ومع كل يوم يمرُّ، كانت عبارة "منظمة التحرير الفلسطينية" تفقد بعضًا من مدلولها الشيطاني. لقد أذهلني أن الرأي العام الإسرائيلي يمكن أن يتحوَّل بهذه السرعة بخصوص هذه المنظمة المُزدراة، وهي شهادة على سلطة المؤسسة في إضفاء الشرعية. وأصبح شعار "أنت تصنع السلام مع أعدائك، وليس مع أصدقائك" هو شعار الاختيار لتبرير التغيُّر. ربما كان ينبغي أن يكون التصديق صعبًا، لكننا صدَّقنا. وبعد أربعة أيام، اجتمعت حركة "نساء بالسواد" في القدس في منزل جودي بلانك لمناقشة ما يعنيه هذا بخصوص الوقفة الاحتجاجية. لا بد أنه كان مساء بهيجًا، لأنني أتذكر أننا تناولنا العُقْديَّة – Pretzel: بسكويت مملَّح على شكل عُقدة (م) – وشراب الليمون، وليس القلَّة الزهيدة من المرطبات التي كنا نتناولها في كل الاجتماعات السابقة. وماذا عن قرار العشرين امرأة اللواتي اجتمعن؟ إقامة الوقفة الاحتجاجية يوم الجمعة القادم، بكل الوسائل، لكن – أخيرًا، أخيرًا – إضافة شعار جديد: "نعم للسلام".

تدبَّرت عنات هوفمان أمر زنانير بيضاء مكتوبٌ عليها بخط عريض "نعم للسلام". وكانت الوقفة الاحتجاجية في تلك الجمعة هي أكبر الوقفات التي كنا قد أقمناها منذ زمن طويل جدًا. كانت هناك صورة جميلة لهاجر في تلك الوقفة، طويلة وقوية مع ابتسامة تباهٍ هادئ ترتسم على شفتيها، حاملة لافتة "كفى للاحتلال" باللغة العربية في يدها، وراية "نعم للسلام" باللغة العبرية ملفوفة حول جبهتها. كان المزاج احتفاليًا في تلك الوقفة، وجاءت نساء كثيرات ممن لم يكنَّ قد حضرن منذ فترة طويلة. لقد أردنَ المشاركة في الاحتفال سويَّة مع مَنْ كنَّ قد عملن بجهد كبير من أجل السلام، وكان أمرًا جيدًا أن نكون معًا مرة أخرى. وعلى أية حال، لم يكن كل النساء مشاركات في الفرح. فبعضهن كان أكثر تشكُّكًا بمعاهدة السلام التي لم تكن قد سُجِّلت إلى حينها؛ لقد شعرن بأن هذه لم تكن وقفة احتجاجية وداعية، بل بالأحرى بداية المرحلة النهائية من الرحلة. وكانت نساء "الشرارة" Nitzotz، وهنَّ مجموعة منفصلة على الدوام، متردِّدات في لبس رايات "نعم للسلام" حين بدا لهنَّ كما لو أن عرفات، وهو ليس بطلاً لها، كان على وشك أن يبيع كل مخزون الشعب الفلسطيني. لكن مزاج أغلب النساء كان مبتهجًا.

في الثالث عشر من أيلول العام 1993، لم تتمكن الكثيرات منا من حبس دموعهن فرحًا وراحةً ونحن نراقب ما تبثُّه وسائل الإعلام عن توقيع "إعلان المبادئ" بين أمتينا على مرج البيت الأبيض في واشنطن... واللحظة المُؤثِّرة التي مدَّ فيها رئيس الوزراء إسحق رابين يده، بتردُّد أولاً، نحو الرئيس ياسر عرفات، ومن ثم أمسك كلٌّ منهما بيد الأخر بثبات وتصافحا. كانت تلك المصافحة الأولى، بتصميم أكثر مما هو بدفءٍ، هي الأولى من بين الكثير، ولحقتها الحماسة مع اقتناع في نهاية المطاف.

بدا هذا أنه إشارة واضحة. ففي الأسابيع التالية، اجتمعت "نساء بالسواد" في القدس عدة مرات لمناقشة مواصلة الوقفة الاحتجاجية. لقد أفَقْنا بعض الشيء من توقعاتنا المبتهجة الأولى. فقد فهمنا جميعًا أن عملية السلام لا يمكن أن تؤدي إلى وضع حدٍّ فوري للاحتلال أو لانتهاكات حقوق الإنسان. كنا نعلم جميعًا أن أحداث الشهور المقبلة يمكن أن تحضَّنا على العودة إلى الوقفة الاحتجاجية. لكن معظمنا كان يعتقد أن تصويتًا على الاستمرار سيحمل رسالة خاطئة للجمهور – جمهور رافض لعملية السلام أكثر مما هو مؤيد لها. وبالإضافة إلى ذلك، تقلَّص الحضور إلى الوقفة الاحتجاجية في الأسابيع الأخيرة بشكل لافت، رغم رسالتنا المُضافة "نعم للسلام". لقد توقفت نساء "الشرارة" عن الحضور كلِّية لعدم رغبتهن في دعم سلام اتخذ شكلاً معينًا. وهكذا، في العشرين من تشرين الأول العام 1993، صوَّتت "نساء بالسواد" في القدس على إنهاء الوقفة الاحتجاجية الأسبوعية. لم يكن الأمر سهلاً، كما عبَّرت روث كوهين عن ذلك بقولها:

أنا أشكُّ فيما إذا كانت امرأة واحدة وقفت في الوقفة الاحتجاجية لمدة خمسة سنوات ونصف لن تشعر بإحساس بالفراغ والأسف يوم الجمعة في الثاني والعشرين من تشرين الأول في الساعة الواحدة...[4]

في الأسابيع التالية، انتهت الوقفات الاحتجاجية في معظم المواقع في إسرائيل، بعد اجتماعات ومناقشات. فقط تل أبيب وكيبوتز ناحشوم أحسَّا بأهمية الاستمرار في الوقوف، ولم يتزحزحا قيد أنملة. "لم ننجز حتى الآن عملنا؛ الاحتلال لم ينتهِ بعد"، قالت يافا غافيش موضِّحة، وهي امرأة مُخضرمة من "نساء بالسواد" في تل أبيب واصلت الوقوف في الوقفة الاحتجاجية الأسبوعية سويَّة مع نساء أخريات مصمِّمات[5]. واجتمعت "نساء بالسواد" في القدس عدة مرات للتحدُّث بخصوص الصيغ البديلة، لكن لا شيء أسَرَ خيال المجموعة. وكانت إحدى الأفكار هي إقامة احتفال على الحدود في يوم إخلاء غزة وأريحا. وكسبنا الحق بالاحتفال، فأخبرنا بعضنا البعض جميعًا. لكن لم يُقَدَّر لهذه الخطة أن تتحقق أبدًا، بسبب أن الإخلاء كان يتأجل باستمرار حين كان ينشب نزاع أو آخر بين الجانبين، ومن ثم يمنع الجيش أيَّ تواجدٍ مدني في أي مكان بالقرب من الحدود. حسنًا، لقد كان لـ"نساء بالسواد" خبرة أكثر في النظر بتجهُّم أكثر من النظر بمسرَّة.

وقد كتب لنا المؤيدون من الخارج يطلبون منا إرشادًا حول الوقفات الاحتجاجية التضامنية الخاصة بهم:

لقد سرنا على خطى مَثَلِكم الشجاع لسنوات أربع في بيركلي بوقفاتنا الأسبوعية كل يوم جمعة... والآن، وعلى ضوء الخطوات الواعدة نحو السلام التي أقدم عليها كلا شعبينا، نحن نعيد تفحُّص حاجتنا لوقفة احتجاجية، ونودُّ أن نجري اتصالات معكم الآن لسؤالكم عن كيفية عزمكم على المضي...[6]

وعلى أية حال، بينما كانت الأسابيع تطول، بدأت أفكار مقلقة تبرز بالتغاير حول اتفاقية أوسلو. فقد أصبح تطبيقها عرضة لتأجيل بعد تأجيل، وبدأت الشكوك تتقيَّح حول إخلاص الجانبين. كان الموعد النهائي للانسحاب يُمدَّد باستمرار، وكان الجيش يدعوه إعادة انتشار أكثر مما هو إخلاء. وبأية حال، كانت شروط هذه المرحلة الأولى وعدًا أقلَّ بكثير من سلام حقيقي. بيد أن "نساء بالسواد" في كافة أنحاء إسرائيل، ماضيًا وحاضرًا، التزمنَ مع بعضهن البعض: استئناف الوقفات الاحتجاجية إن تعثَّرت عملية السلام. وبعبارات قوية هادئة لروث:

إذا لم يكن المسعى الراهن لإيجاد حل عادل للنزاع الإسرائيلي–الفلسطيني على مستوى التوقعات، فسنستأنف، واحدة فواحدة، وقوفنا الأسبوعي ضد الاحتلال. ونأمل أن لا يكون هذا ضروريًا[7].

لكن الضرورة تبيَّنت بعد تأجيل طال كثيرًا، فدعت "نساء بالسواد" إلى وقفة احتجاجية في 10 كانون الأول 1993 تكريسًا للتعبير عن مخاوفنا. فحضرت أكثر من 100 امرأة من "نساء بالسواد" من كل أنحاء البلاد. وكانت هذه فرصة لإبداء التضامن مع عملية السلام، وشجب الأعمال الإرهابية التي يقوم بها المتطرفون من كلا الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، والمطالبة ببدءٍ فوري للانسحاب، والدعوة إلى شروط للسلام أكثر سماحة من أجل الفلسطينيين. كانت الرسالة أكثر تعقيدًا بكثير من "كفى للاحتلال"، لكنها حملت معتقداتنا بإخلاص. وكانت نساء "الشرارة"، حتى ذلك الوقت، بعيدات جدًا عن فلك وجهات النظر هذه لكي يُعدْن الكرَّة في الحضور، وركَّزن انتباههن في موضع آخر.

على امتداد هذه الفترة، واصلت نساء تل أبيب وكيبوتز ناحشوم وقفاتهما الاحتجاجية. وكان لهاتين الوقفتين الاحتجاجيتين امتياز كونهما الأكثر صمودًا، على نحو قاطع، من كل الوقفات الاحتجاجية، المتواصلة لمدة طويلة بعد البدايات والتوقُّفات في القدس، وبدون انقطاع حتى تاريخ هذه الكتابة. فالنساء الخمسة عشر من تل أبيب، والثلاثة من كيبوتز ناحشوم، أخذن على أنفسهم عهدًا بالاستمرار أسبوعيًا إلى حين انتهاء الاحتلال بالفعل. فبعد اتفاق أوسلو، أضافت تل أبيب لافتات جديدة إلى تشكيلتها المتزايدة من الشعارات، وكانت تشير إلى الشروط الهزيلة للاتفاقية الجديدة:

5% من السجناء مُطلَق سراحهم و5% من الأراضي مُعادة أيضًا: يساوي 5% سلام.

وأضافت إحدى المُتعَبات من المشاركات في تل أبيب لافتتها الخاصة: "أعطوهم دولة ودعونا نعود إلى البيت". وتقول ميري غورِن، من الوقفة الاحتجاجية في كيبوتز ناحشوم، إن الوقفة الاحتجاجية كانت تقصد "تشجيع عملية سلام أعمق"، ووضع حدٍّ للاحتلال بالكامل. وقد تم تحويل ساعة وقفتهن الاحتجاجية إلى الساعة الثانية بعد الظهر بدلاً من الساعة الواحدة بعد الظهر لكي يتسنى للفلسطينيين رؤية "نساء بالسواد"، وهم يمرون بالسيارات في تلك الساعة عائدين إلى منازلهم في غزة بعد صلاة الجمعة الخاصة في المسجد الأقصى في القدس. وبدأت النساء في هذه الوقفة الاحتجاجية أيضًا في رفع علمين عاليًا: علم إسرائيل وعلم الدولة الفلسطينية المستقبلية، على الرغم من أن هذا كان يثير حفيظة سائقي السيارات العابرة[8].

كانت إحدى الإشارات الأشد تعبيرًا عن تفرُّق "نساء بالسواد" هو المؤتمر الذي انعقد من قبلنا مع "ائتلاف النساء من أجل السلام" في نهاية كانون الأول العام 1993. فرغم القضايا الهامة التي أثيرت حول كيفية تحويل البوادر المتعثِّرة إلى سلام حقيقي، فإن 50 امرأة فقط من جميع أنحاء إسرائيل حضرن المؤتمر المنعقد في كيبوتز حاريل. ومع ذلك، اُختتم المؤتمر بوقفة احتجاجية صغيرة لكنها مُصمِّمة لـ"نساء بالسواد" على الطريق السريع الرئيسي بين القدس وتل أبيب.

بدء الوقوف احتجاجًا وتوقُّفه

خطَّ توقيع اتفاقية أوسلو الأولى نهاية معظم الوقفات الاحتجاجية لـ"نساء بالسواد"، بيد أن الكثيرات منا في القدس لم يستطعن صرف الذهن لسنتين أخريتين. لقد توقفت معظم النساء عن المجيء، لكن بعضنا استمر يعمل بكدٍّ خلال السنتين الأوليتين من عملية السلام، مع أن الحضور لم يكن يتجاوز الحفنة أبدًا. أما وقد كسرنا حاجز التابو على اللافتات الجديدة، فقد أضفنا إلى شعاراتنا "تفكيك المستوطنات"، "القدس: عاصمتين لدولتين"، "رفع الحصار"، و"الإفراج عن جميع السجينات السياسيات". بدأ بعض من هذا من قبل المنظمة الناشئة حديثًا "بنت السلام" Bat Shalom التي سعت إلى امتلاك روح وإخلاص حركة "نساء بالسواد" للقضية وتحويلها إلى قنوات جديدة، لكن معظم النساء في الوقفات الاحتجاجية الأخيرة كنَّ "نساء بالسواد" عنيدات. وكانت علامة من علامات العصر "تحية مرتبكة إلى "نساء بالسواد""، رعتها أربعة نساء يساريات أعضاء في الكنيست (نعومي غازان، يائيل دايان، تامار غوزانسكي، وعنات ماور)، اللواتي ارتأين أنه من المناسب تكريم حركة "نساء بالسواد" نظرًا لدورها في دفع عجلة السلام. وعُقِد في كانون الثاني العام 1994 في إحدى قاعات اجتماعات الكنيست لقاء أعاد أعضاء الكنيست تأطيره كحفلة عيد ميلاد سادس، حين فُوجئ الحاضرون بالمضيفات البارزات يوضحن أن بعض الوقفات الاحتجاجية لم تكن قد أقرَّت بعجزها حتى الآن. وكانت "نساء بالسواد" جمهورًا صلبًا لكي يُعبَث به.

كنا في الحضيض؛ ثمانية في الوقفة الاحتجاجية في القدس في الرابع من شباط العام 1994، عندما اُتِخِذ قرار مرة أخرى بالتوقف. لكن ذلك كان صالح لإبقاء الوقفة الاحتجاجية على نار هادئة، كما كان يبدو هناك دومًا مبرر مؤسف لنزع الملابس السوداء واستعادة النساء إلى ميدان الوقفة الاحتجاجية.

جاء المبرر الأول، والأكثر فظاعة، يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شباط العام 1994، حين تنامى إلى سمع الجمهور أن شخصًا يُدعى باروخ غولدشتاين، وهو متعصب من كاخ، فتح نيران مدفعه الرشاش لذبح المسلمين بينما كانوا ساجدين في الصلاة في "ضريح الآباء" Tomb of the Patriarchs في الخليل. وقد أوردت التقارير الإعلامية الأولية مقتل 50 – 60 عربي (الإحصاء النهائي استقر على 29 قتيلاً وربما أكثر من مئة جريح)، فأُصيب معظم الإسرائيليين بالذهول والرعب. لم تكن ثمة ضرورة لالتقاط سماعة الهاتف وإخبار أحد. فقبل الساعة الواحدة بعد الظهر تمامًا، تجمَّع حشد من "نساء بالسواد" في ميدان الوقفة الاحتجاجية، بلا لافتات، تاركات لملابسهن السوداء التعبير عن الصدمة والأسى والحداد، حيث لا يمكن لأية كلمات أن تُعبِّر عن الصدمة. لكننا لم نكن وحدنا في الوقفة الاحتجاجية في ذلك الحين. فقد اندفعت أفواج من الرجال والنساء تلقائيًا إلى الوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء إسرائيل، واقفين معًا بأسى، مصدومين بهذه الجريمة الشنيعة. وفي القدس، ربما كنا 500 نتشارك مشاعر اليأس، في محاولة لإيصال شيء ما من مشاعرنا إلى الفلسطينيين واليهود الآخرين والعالم.

شكَّلت الحكومة الإسرائيلية لجنة تحقيق قضائية لدراسة ملابسات المأساة. ومع أن اللجنة أدانت العمل بما لا يدع مجالاً للشك، إلا أنها تجنبت إعطاء جواب قاطع حول مسألة الظروف. لقد كان الجيش الإسرائيلي مسؤولاً عن الأمن في الخليل، وشهد رئيس الأركان حينذاك (إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل لاحقًا) أمام اللجنة أن عملية القتل حدثت "كبرق في يوم صافٍ". كان هذا إجمالاً أمرًا مروِّعًا. وكان لزامًا عليك أن تكون نعامة رأسها في الرمال (أو تملك سمعة تريد حمايتها) لكي لا ترى سُحُب العاصفة تتجمع. فتقرير "بتسيلم" الموثَّق بخصوص الاستمرار في عدم تطبيق القانون على المستوطنين الإسرائيليين بدقة أكبر يوصل مشاعري حول المسألة. إذ يَخْلُص التقرير إلى استنتاج بأن

ما قام به غولدشتاين لا يمكن النظر إليه كفعلٍ لشخص فردي مقصي عن بيئته. إنه الثمرة المُرَّة لسنوات طويلة من الأفعال المُعيبة وحالات الإخفاق [من جانب السلطات الإسرائيلة][9].

لقد ألقت المذبحة في الخليل بظلالها الرهيبة على كامل نسيج العلاقات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ودعا الكثيرون إلى إيقاف مفاوضات السلام. كانت هذه واحدة فقط من الالتواءات التي رُمِيَتْ في طريق عملية السلام؛ فقد كانت الأعمال الإرهابية المتكررة من قبل المتطرفين الفلسطينيين ضد السكان المدنيين في إسرائيل التواءًا آخر بالتأكيد. وفي الحقيقة، بعد توقيع اتفاقات أوسلو، كان هناك ارتفاع مثير في عدد القتلى والجرحى من المدنيين من كلا الجانبين من قبل أولئك الذين رفضوا عملية السلام. وكمحصلة، أصبحت موجات متناوبة من الأمل واليأس مرض مستوطِن في معسكر السلام خلال سنوات عملية السلام.

في الرابع من أيار العام 1994، وُقِّعت معاهدة "أوسلو 1" رسميًا في القاهرة، بعد أن رفض الرئيس عرفات، بشكل مسرحي، التوقيع على الخرائط في حفل الافتتاح إلى حين إجراء تعديلات إضافية. حسنًا، ما كان سيئًا بالنسبة للسلام، كان جيدًا بالنسبة للحفاظ على الوقفات الاحتجاجية. ففي منتصف العام 1994 كنا 15 – 30 امرأة تواجدنا على أساس غير منتظم في القدس. لقد كنا مجموعة عاقدة العزم، لكنها صغيرة جدًا، وكان الاعتراف الدولي بنا أكثر إحراجًا. ففي هذا الوقت بالضبط، قرَّرت مدينة سان جيوفاني داسو منح جائزتها السنوية للسلام لناشطات السلام الإسرائيليات والفلسطينيات. فأُرسِلت روضة جميل بصير ممثِّلة للنساء الفلسطينيات وإيفون دوتش ممثِّلة لـ"نساء بالسواد" إلى إيطاليا من أجل المراسم، حيث اكتشفن بدهشة أن من بين مستلمي الجائزة السابقين ميخائيل غورباتشيف، بيريز دي كويلر، ديزموند توتو، وسونيا ليخت المعارضة اللاعنفية من صربيا. وكانت المفاجأة أيضًا هي الجائزة نفسها: فِطِر إيطالي نادر تشتهر به هذه المدينة. وفاوضت روضة وإيفون بتسوية إقليمية حول الفطر، وبقرار سُليماني – نسبة إلى سُليمان (م) – حكيم، توصلوا إلى تركه دون أن يُمَس مع ناشطة السلام الإيطالية لويزا مورغانتيني.

وقد تم إفساد السنتين 1994 و1995 بصراع عنيف ضارٍ بين القوى المؤيدة للسلام والمعارضة له، من كلا الطرفين. وكانت إحدى الفترات الفاصلة المُبهِجة هي معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن التي وُقِّعت في السادس والعشرين من تشرين الأول العام 1994. وكانت هذه المعاهدة ضمن الإجماع الإسرائيلي كليًا، حتى في أوساط اليمين، وسلام يمكن أن يُحتَفل به بكل ما في الكلمة من معنى.

لكن السلام مع الفلسطينيين كان أشق: كان يعني التخلي عن أراضٍ احتلتها إسرائيل، ولن يصغي المستوطنون المسيحيون إلى شيء من هذا القبيل. وبالمقابل، لن تصغي قوى الرفض الفلسطينية إلى كل ما يتعلق بوجود دولة إسرائيلية على الأراضي الفلسطينية السابقة. وهكذا صِيغ تحالف غير مقدس بين المستوطنين الإسرائيليين و"حماس" الفلسطينية على مذبح المقاومة المشترك لعملية السلام، رغم أن كلتا المجموعتين أنكرت بشدة أية أهداف أو مصالح مشتركة. وبتزامن، صعَّدت كلتا المجموعتين من هجومهما على السلام. فقام المستوطنون بأعمال خطيرة من العصيان المدني: إعاقة حركة المرور داخل إسرائيل، الاستيلاء على مواقع مستوطنات جديدة في المناطق المحتلة وبناء غير قانوني عليها. وابتكرت حماس مفهومًا أكثر رعبًا للاحتجاج: منفذو العمليات الانتحارية، شباب مسلمون متدينون، كان يتم تجنيدهم لحمل حقائب مملوءة بـ 30 – 40 باوند من TNT وتفجيرها في مناطق مزدحمة بالإسرائيليين: حافلات، مواقف باصات، أسواق،... إلخ. وكان لا بد لقوى السلام من أن تقوم بعمل صائب ما لكسب الكثير من الرافضين لسلوك مثل هكذا أسلوب مُهلِك.

"الرؤية والاستراتيجيات؟"

بالتوازي مع الأحداث المؤيدة والمعارضة للسلام طوال عام 1994، كانت الوقفة الاحتجاجية تُقام تارة وتختفي تارة أخرى، ترانا حينًا ولا ترانا أحيانًا أخرى، وعندما ترانا، نكون بأعداد متناقصة على نحو واضح. كان هذا هو الوقت الذي قررت فيه "نساء بالسواد" في إسرائيل عقد مؤتمر دولي. وقد عاب بعض "نساء بالسواد"على المنظِّمات عقد مؤتمر في حين أن الوقفة الاحتجاجية قد ذَوَت وعملية السلام كانت تبدو أقلَّ شبهًا بالسلام وأكثر شبهًا بشكل جديد من الإخضاع، لكن الكثيرات منا شعرن بأن الوقت مناسب. لم تكن الفكرة من أجل الاحتفال بإنجازات "نساء بالسواد" في إسرائيل وفي كافة أنحاء العالم فحسب، بل خصوصًا للتفكير بشأن استراتيجيات جديدة وكيفية تعميق تأثيرنا.

انعقد المؤتمر في نهاية كانون الأول العام 1994. وربما كان الجزء الأكثر أهمية لهذا الاجتماع هو سماع القصص المُلهِمة التي روتها أكثر من 300 ناشطة من 23 بلدًا، من أستراليا إلى زامبيا، متحدِّثات وفق الترتيب الأبجدي. وقد دعونا المؤتمر النساء، الحرب والسلام: الرؤية والاستراتيجيات، وعلِمنا ما كانت الناشطات الأخريات يعملن – لسن رئيسات وزارات وأعضاء برلمانات، بل نساء من القاعدة مثلنا – من أجل تقدم مسيرة السلام في جميع أنحاء العالم.

وكأسلوب للإقرار ببعضٍ من العمل المدهش لهؤلاء النساء، ولإعلان قصصهن للآخرين، قررت "نساء بالسواد" في إسرائيل منح جائزة "نساء بالسواد" للسلام. وكان هذا أيضًا إقرار ضمني بأن للحركة الإسرائيلية لـ"نساء بالسواد" منزلة لمنح الجوائز للآخرين – افتراض لا يقبله أيٌّ كان في بادئ الأمر. أما بالنسبة للمتلقين، فقد كان من العسير اختيارهم من بين العديد من المجموعات الجديرة، لكن الجائزة مُنِحت أخيرًا لثلاثة مجموعات من المنظَّمات. وأقتبسُ من نص شهادات جائزتهن كوسيلة للإحاطة بثقب صغير جدًا في العمل الاستثنائي لتلك المجموعات:

آ. مركز القدس من أجل النساء، وهو الذراع الفلسطيني للمنظمة الإسرائيلية–الفلسطينية المشتركة، رابطة القدس:

تُمنَح جائزة "نساء بالسواد" للسلام لمركز القدس من أجل النساء في القدس الشرقية لشجاعتهن في الحفاظ على الحوار مع النساء الإسرائيليات المتشابهات التفكير معهن رغم الاحتلال والاضطهاد المتواصلين. ففي صراعهن من أجل السلام والعدالة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، ضربن مثلاً في مجتمعاتهن. وفي استعدادهن للعمل جنبًا إلى جنب مع النساء الإسرائيليات، بدلاً من الاستسلام إلى الميل لتحويل العدو إلى شيطان، بترفُّعهن عن الألم وغضب الصراع السياسي. إننا نكرِّم هؤلاء النساء الفلسطينيات بسبب قوتهن في الشدائد وإيمانهن الراسخ بالسلام.

ب. مشروع زيارة الأماكن الصعبة، مشروع مشترك لـ"بيت النساء" في تورينو ومركز التوثيق في بولونيا وجمعية النساء الإيطاليات من أجل السلام:

في مشروع زيارة الأماكن الصعبة، تسافر النساء الإيطاليات إلى البقاع المضطربة في الكرة الأرضية، مثل يوغسلافيا السابقة والشرق الأوسط. وتحمل النساء رؤية للسلام من خلال مبادراتهن التضامنية وبرامجهن الإنسانية وتمكينهن النساء المحليات. هذه هي قصة تجسير الاختلافات القومية عبر منظور نسوي، وقد استفدنا في الشرق الأوسط إلى حد كبير من حضورهن. إننا نكرِّم هؤلاء النساء الإيطاليات من أجل البلوغ إلى ما وراء حيواتهن الخاصة والعمل على تخفيف ألم ومعاناة الآخرين.

جـ. وثلاثة مجموعات من المنظَّمات في يوغسلافيا السابقة:

-       "نساء بالسواد" – بلغراد:

لقد حافظت هؤلاء النساء الشجاعات على معارضتهن للسياسة العسكريتارية لحكومتهن، في مواجهة العداء والخطر، لإبقاء معارضة مناهضة للحرب نابضة بالحياة في صربيا. ونحن نكرِّم هؤلاء النساء لشجاعتهن في الجهر بالحديث وصون التضامن مع نساء كرواتيا والبوسنة–هِرسك، موضِّحات لهن أن لديهن حلفاء وأصدقاء ضمن صربيا، والإبقاء على الأمل حيًّا في هذه المنطقة التي مزقتها الحرب.

-       مجموعة الضغط Lobby النسائية، وهو ائتلاف من "بيت النساء المستقلات" و"مركز ضحايا الحرب من النساء" و"الحملة المناهضة الحرب":

لقد عملت هذه المجموعات بشجاعة ومهارة في ظل ظروف شاقة جدًا. ونرغب أن نكرِّم كلاً من هذه المجموعات، وأن نعمل معًا، تمامًا كما اتحدن معًا لمعارضة الحرب في هذه المنطقة، ولمساعدة ضحايا تلك الحرب: النساء المغتصَبات، العائلات المشتتة، البيوت المُدمَّرة. إننا نثني على جهودكن وشجاعتكن.

-       ميديكا Medica، "مركز علاج النساء المُصابات بصدمة، في زينيكا – البوسنة والهرسك:

لقد عانت نساء البوسنة – الهرسك من حالات رعب يستحيل تصورها بسبب الحرب في هذه المنطقة، وقلوبنا جميعًا تنفطِر من أجلهن. ففي مواجهة ذلك العنف، امتلكت بعضٌ من هؤلاء النساء القوة للمجيء معًا للمساعدة على العناية بجراحهن، الجسدية والعاطفية، وتقديم المؤازرة تجاه الصدمة، والبحث عن مَعين لا ينضب من الرقة داخل الألم. إننا نعبِّر عن التقدير لقوتكن، ونكرِّم شجاعتكن، ونتعهَّد بتضامننا معكن لوضع حدٍّ لهذه الجرائم ضد الإنسانية، وضد المرأة على وجه الخصوص.

حَفِلتْ مراسم الجائزة بأكثر من الدموع والقصص المُلهِمة: كانت أيضًا لحظة من الشعور بقوة هذه الحركة العالمية للنساء التي تصوغ مثالاً للاعنف ومواجهة الظلم والقول "لا" لكل أشكال العنف و"نعم" لعالم السلام والشجاعة الأخلاقية.

كانت الخطة الأصلية هي اختتام المؤتمر بوقفة احتجاجية جماعية يرتدي فيها المشاركون من كل أصقاع العالم ملابس سوداء ويحملون لافتات تستنكر العنف في بقاعهم العالمية. لكن الأحداث الراهنة باغتتنا، كالعادة. حدث هذا في وقت كانت فيه مستوطنة يهودية في الأراضي المحتلة خارج القدس تمامًا تستولي على أرضٍ محاذية لقرية الخضر الفلسطينية، في محاولة لضمِّ أراضٍ أكثر قبل أن تسلبها منهم معاهدة سلام قادمة. وكانت تحصل مواجهات عنيفة مع الجيش. وبروح "نساء بالسواد"، اتخذ المشاركون في المؤتمر قرارًا باستبدال مراسمنا المغلقة المُخطط لها بوقفة احتجاجية بالقرب من موقع المواجهات، قدر الإمكان. وفي الظهيرة، بدأنا رحلتنا في حافلات وسيارات مُستأجَرة. فأوقفنا الجنود عند حواجز الطرق ورفضوا إدخالنا. لا مشكلة، قُلنا، وترجلنا هناك. وشكَّلنا صفًّا طويلاً من النساء على جانب الطريق، جميعنا مرتديات السواد وحاملات لافتات "كفى للاحتلال"، "تفكيك المستوطنات"، "كفى لانتهاكات حقوق الإنسان"، وغصن زيتون في يد كل منا أيضًا.

كان تقاطع الطرق يعجُّ بالفوضى، تعرقله شاحنات وسيارات وحافلات ومِشكال من المستوطنين والفلسطينيين والجنود. وقد رآنا الكلُّ على جانب الطريق، وكلُّ واحد كان لديه ما يقوله، حسنًا وسيئًا، وكلُّ واحد حصل على غصن زيتون في استجابة. صاح المستوطنون "خونة!" للذين قدموا لهم غصن زيتون. وقال سائق حافلة فلسطيني: "أنا أدعم حماس"، حين قُدِّم له غصن زيتون آخر. بدا الأمر ككل ساذج على نحو سخيف، وأحمق، وطفولي حتى. "شكرًا لكنَّ"، غمغم أحد العمال الفلسطينيين وهو يمر بنا في طريق عودته إلى الأراضي. لقد أحدث ذلك فرقًا. وحاول الجنود إقناعنا بالمغادرة، لكننا تشبثنا في موقعنا. وحاولت مجموعة من متطرفي كاخ ترهيبنا، لكننا كنا عصيات على الترهيب. وبقينا، نحن الـ 300 امرأة من كافة أنحاء العالم، نعبِّر عن رسالتنا ونوصلها: لا بد من إنهاء العنف. أخيرًا، تسلَّقت عدة نساء، من بلدان وأديان مختلفة، الجدار الممتد على طول الطريق وتَلَيْنَ صلاة من أجل السلام، مواجهات الاضطراب الحاصل. من الصعب أن تسمع كلمات الصلوات الملفوظة بلغات أجنبية وسط ضجيج السيارات والناس، لكن الرسالة كانت واضحة. صاح أحد الجنود بنا، وكان ينظر بفضول: "الرب لا يستطيع سماعكن؛ إنه بحاجة إلى جهارة صوت أكبر!". فأجابت النساء بصوت واحد: "إنه يسمع برهافة!".

كانت طريقة صائبة لاختتام مؤتمر للناشطات من أجل السلام من القاعدة النسائية.

اغتيال رابين

بإلهام من أمثلة نساء من بلدان أخرى، عادت نساء القدس إلى الوقفة الاحتجاجية المنتظمة في أوائل العام 1995. واخترنا حينها الوقوف على طول "خط اتصال" مروري مطروق بكثافة في المدينة؛ وهو الحد الفاصل بين القدس اليهودية والقدس العربية، خارج جدران "المدينة القديمة" بالضبط. ورغم أن هذا الموقع كان يعرِّضنا إلى تشكيلة واسعة من المتفرجين، فلسطينيين ويهود، فإن أعدادنا تقلَّصت بشدة. فقد كنا 10 – 15 امرأة حينذاك، وأحيانًا أقل، وكانت اللافتات دومًا أكثر عددًا من النساء اللواتي سيحملنها.

ومع التوقيع الوشيك على الجزء الثاني من عملية السلام، والمعروفة بـأوسلو 2، اتخذ حجم القوى المناهضة للسلام أبعادًا جديدة ومُقلقة. فقد دعت الاتفاقية، التي وُقِّعت في الثامن والعشرين من أيلول العام 1995، إلى إخلاء عاجل للقوات الإسرائيلية من كل المدن الفلسطينية الرئيسية في الأراضي المحتلة، وهو احتمال أصاب المستوطنين بالذعر. فرؤيتهم لـ "إسرائيل الكبرى" كانت على وشك أن تكون مُجلاة إلى الشتات. فأخذت بعض احتجاجات التيار اليميني سمة التحريض ضد الزعماء الحكوميين والتشجيع على العصيان. كما اضطلع عدة حاخامات أرثوذكسيين بمركز الصدارة، فأصدروا مراسيم دينية تُحرِّم على الجنود إطاعة الأوامر بإخلاء المناطق المحتلة، ونعتوا رابين وبيريز بـ "الخونة". بل أن أحد الحاخامات ألقى لعنة على رابين، آمرًا "ملائكة الدمار بقتله". وحاول حاخام آخر مهاجمته في حشد عام. وكان هناك دومًا أعضاء من كاخ، الخارجون عن القانون منذ الاهتياج القاتل لباروح غولدشتاين، و"إيال" Eyal، فرعه الجديد والأكثر شرًّا، والذي أخذ على نفسه عهدًا بتنفيذ أعمال دموية انتقامية وضد الخيانة.

ربما كانت الشرعية الأعظم التي مُنِحت لهذه المجموعات هو الحشد الجماعي ضد اتفاقية أوسلو 2 التي عقدها حزب الليكود في أوائل تشرين الأول. لقد تظاهر الآلاف، وحمل العديد منهم دُمى تُمثِّل رابين في الزي الرسمي لـ SS النازية، وهتف الكثيرون من الحشد "رابين خائن". كان مستوى الكراهية حادًا، وتفجَّر ليلة السبت الساعة 11:14، في الرابع من تشرين الثاني عام 1995، في حشد لـ"السلام الآن" في تل أبيب. وأُطلقت النار على رابين من قبل إيغال عامير، وهو طالب شريعة في السابعة والعشرين من عمره، والذي أراد، حسب تعبيره، "شلَّ عملية السلام المزعومة".

كانت هذه طلقة أخرى تردَّد صداها حول العالم، لكن بحدة أكبر بكثير في إسرائيل. لقد كان لها تأثير علينا جميعًا، محبي رابين وكارهي رابين، وما بينهما. لقد تجادلنا نحن الإسرائيليون بصخب دومًا، بل وبعنف، مع بعضنا البعض، لكن فكرة قتل رئيس الوزراء بدت أنها إطلاق العنان لبعض قوى الفوضى والرعب العميقة التي لا أحد كان على استعداد للتسليم بوجودها في دواخلنا. وكان يُقال إنه لم تجرِ حادثة اغتيال سياسي ليهودي من قِبل يهودي آخر في إسرائيل على الإطلاق، وهو بيان كاذب كبير لأنه يتجاهل الـ 36 حادثة قتل سياسي نُفِّذت في فلسطين/إسرائيل ما بين الأعوام 1880 و1997[10]. ويُقال إن "اليهود لا يقتلون اليهود"، وهي ملاحظة مثيرة للضحك وعنصرية، حيث أنها أيضًا تتجاهل جرائم القتل المنظَّمة وحوادث قتل الزوجات والصديقات من قِبل "أصدقائهن" الرجال. لكن الإسرائيليين يستجيبون غَرَزِيًّا لهذه الأساطير، مهما كانت مغلوطة. وكان هناك إدراك أكثر دقة وعُمقًا لخسارة براءة لخسارة وطنية، والانتقال إلى عالم إطلاق النار على بعضهم البعض، والابتعاد عن مفهوم الشجار البسيط ضمن العائلة.

كان لوقع هذه المشاعر المعقدة أثرًا عميقًا على الشارع. لقد قُورِن هذا الاغتيال باغتيال جون ف. كينيدي، وربح رابين بوهج المقارنة. وقد غذَّت وسائل الإعلام صورة رابين الجديدة: "سيِّد الاستقامة"، "رجل النهضة العبرية"، "القوة الداخلية الحادة"، وببساطة، "بطلي"[11]. كان هذا هو الوضع، ما عدا بضعة عناوين بارزة حملت دفقًا من الأسى ما لبث أن تحوَّل إلى إعجاب. وكانت الأسطورة تتعزَّز أكثر بتوظيف العالم الغربي في الحفاظ على عملية السلام، ودورها اللاحق في تغذية تلك الصورة. وأُقيمت جنازة لتأبين "رجل السلام" حضرها معظم أقوى الزعماء في العالم.

لقد فعل ذلك فعله. فكل الذكريات عن فترة رابين في "تكسير عظامهم" تم نسيانها، أو وُصِف كـ"محارب تحوَّل إلى صانع للسلام"، وتبدى رابين للعيان كشهيد يهودي جديد معادلٍ في وزنه لكل الشهداء المسلمين الذين قدموا حيواتهم للحيلولة دون المصالحة. لقد ثمَّن الكثيرون منا الجانب من رابين الذي توصَّل إلى إدراك أن القوة لا تحل الصراع، وكنا ممتنين له على تغيير وجهات نظره السياسية. لكن كان من الإفراط القول إننا كنا معجبين بعمق بمواقفه تجاه السلام، إلى حين أطلق عليه النار macho anima قاسٍ حتى بعد تغييره للُبابه.

لكن من أنا لكي أُماحك حول ذكرى رابين في حين بدت آثار مقتله لا يعتريها الشك؟ ففي الأيام اللاحقة للاغتيال، شهدنا حالة من اللاشرعنة المفاجئة والحادة للقوى المناهضة للسلام. وبحدود الذاكرة، كانت هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها هذه القوى في حالة انهزام، إذ لم يعد مقبولاً التحدث علنًا ضد اتفاقيات أوسلو. كان الوضع آمنًا بالكامل – نعم، آمنًا – لكي تضع علنًا دبوسًا يرمز إلى السلام، أو ملصقًا على سيارتك معبِّرًا عن السلام، بدون خشيةٍ من أن يتهشَّم أنفك أو تتحطم المرايا الجانبية لسيارتك. ولم نعد، نحن الناشطات في معسكر السلام، نشعر بأننا خارجات على القانون أو مَوْسومات بمِيْسم أو مزدرَيات بسبب آرائنا السياسية؛ وفي الحقيقة، كنا موضع ثناء صراحةَ بسبب آرائنا. لقد بدأت العودة إلى الشرعية بعد انتخاب رابين، لكنها تضاعفت عشرة أضعاف بعد اغتياله. لم نكن ندرك حتى كم كنا نشعر بالتهميش إلى حين أصبح السلام "في الداخل". وقد أخذ بعضٌ من هذا التحول أشكالاً متطرفة – تحويل المتدينين عمومًا، والمستوطنين خصوصًا، إلى شياطين – لكن البندول تأرجح أخيرًا على مؤشِّر أكثر اعتدالاً واستقرارًا: لقد كسبت عملية السلام أقلية صغيرة لكنها ذات شأن من الإسرائيليين، فشكرًا لهالة رابين بعد اغتياله. لقد بدا وكأن الفصل الختامي لكفاح ثمانية سنوات قد اقترب من نهايته.

لكن الحياة، بالطبع، ليست بتلك البساطة أبدًا. فما يبقى في إسرائيل من ميراث الاغتيال هو دعم عام ومُبهم للمصالحة مع الفلسطينيين. وقد منح العام 1996 نصرًا انتخابيًا لبنيامين نتنياهو، زعيم المعارضة لعملية السلام في أوسلو. ورغم أنه كان حتى على نتنياهو أن يتملَّق كاذبًا المفاوضات مع الفلسطينيين، فإن بعضًا من شركائه في تحالفه (وحتى بعض زملائه من قادة حزبه) استخدموا الفيتو على فكرة التسوية الإقليمية ذاتها. ومنذ تاريخ هذه الكتابة، ما تزال الرؤية للسلام معلَّقة إلى ما أبعد من متناولنا. وتواصل ثلاثة مجموعات صغيرة جدًا من النساء الجريئات وقفة احتجاجية منتظمة.

بيد أن ذكرى "نساء بالسواد" تعيش في قلوب الكثير من النساء في كافة أنحاء إسرائيل، اللواتي على أتمِّ الاستعداد لارتداء الزي الأسود والعودة إلى الشوارع لاتخاذ موقف ضد الحرب والاضطهاد والاحتلال حينما تتطلَّب وجهة النظر تلك التوكيد.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***

    
 

horizontal rule

[1] رغم أن الفلسطيني، من الأراضي المحتلة، المتوسط الدخل، الذي كان يعمل في إسرائيل أثناء الانتفاضة – في البناء والزراعة عمومًا – لا يكسب أكثر 5000 $ سنويًا، إلا أن هذا أكثر بكثير مما كان سيكسبه محليًا – حيث معدل الدخل السنوي للفرد في غزة  2400 $. فلم يكن في غزة بنية تحتية اقتصادية على الإطلاق – لم يستخدم ولا مصنع أكثر من 15 عاملاً – وكان الوضع بنفس القدر من السوء تقريبًا في الضفة الغربية. فلا الحكومات الليكودية ولا العمالية قامت بما من شأنه تطوير البنية التحتية الفلسطينية المحلية خلال 26 سنة من الاحتلال. وأثناء الإغلاق، بلغت البطالة أحيانًا نسبة مذهلة (60 – 70%)، سابرة أغوارًا جديدة من الفاقة والاضطراب والغضب. ويواصل الإغلاق الدوري للأراضي لعبة الخراب مع السكان في الأراضي المحتلة.

[2] سيمونا شاروني، البحث عن محادثة نسوية جديدة.

[3] كانت منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية الرئيسية المتحدِّثة علنًا في ذلك الوقت هي: جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل، بتسيلم، موكيد Moked – مركز الدفاع عن الفرد، أطباء من أجل حقوق الإنسان، اللجنة العامة ضد التعذيب في إسرائيل، حاخامات من أجل حقوق الإنسان، وعمال الخط الساخن.

[4] روث كوهِن، نساء بالسواد يتراجعن، "التحدِّي"، العدد 22، (المجلد 4، العدد 6) تشرين الثاني-كانون الأول، 1993.

[5] في مقابلة أجريتُها في 8 نيسان 1996.

[6] مراسلة شخصية، جوديث بيرلويتز، بيركلي، كاليفورنيا، الولايات المتحدة الأميركية، غير مؤرَّخة، لكنها في أواخر العام 1993.

[7] روث كوهِن، نساء بالسواد يتراجعن.

[8] في مقابلة أجريتها في 2 نيسان 1996.

[9] بتسيلم، تطبيق القانون بالقوة على المدنيين الإسرائيليين في الأراضي المحتلة، ص 127.

[10] ناخمان بن يهودا، اغتيال رابين في سياق الجريمة السياسية من قبل اليهود، 1997، مخطوطة غير منشورة.

[11] يورام بيري، أسطورة رابين ووسائل الإعلام: إعادة بناء الهوية الإسرائيلية الجماعية، 1997، مخطوطة غير منشورة.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود