|
الفصل الرابع لماذا نساء؟
لو كان لي أن أكتب هذا الفصل اليوم لكان مختلفًا جدًا، ولكان تفحّص بعمق أكثر الطبيعة النسوية للحركة الراهنة وجدول أعمالها الأوسع. GS2006 حين باشرت الحركة النسوية المعاصرة في إسرائيل، لم تتعرض معظم الناشطات النسويات مطلقًا لمسألة الصراع بين إسرائيل والعرب[1]. ففي السبعينات، حين بدأت هذه الحركة، لم تفكّر أغلب الناشطات النسويات أبدًا بهذه القضية، في حين أنهن في الثمانينات أعملن التفكير بها واتخذن قرارًا مدروسًا بتجنبها. ورغم أن للإيديولوجيا النسوية العالمية موقفًا مناصرًا للسلام على الدوام، فإن الكثير من الناشطات النسويات الإسرائيليات (مع بعض الاستثناءات الملحوظة) أحسسن بأن الحركة الإسرائيلية الوليدة لن تنجو أبدًا من العواقب إن هي تبنّت هذا الموقف المثير للجدل. ففي تلك السنوات (وحتى اليوم إلى حدّ ما)، يُنفِّر "الحديث عن السلام" الكثير من الإسرائيليين الذين قد يكونون مهتمّين، بطريقة ما، بجدول أعمال أكثر ضيقًا للمساواة من أجل النساء. وبالتالي، ورغم أن التضارب الإيديولوجي كان واضحًا ومحزنًا، فقد التمست الناشطات النسويات في إسرائيل سُبلاً للتعتيم على القضايا الجيو-سياسية وتسليط الضوء على حقوق النساء من منظورها الضيق، تاركين قضايا السلام لمنظمات السلام، وإقصاء هذه القضايا عن جدول أعمال النشاط النسوي العام. قبل انطلاق الانتفاضة، كان هناك ثلاث منظمات نسائية إسرائيلية مُكرّسة لـ "السلام والتعايش" هي: TANDI (حركة النساء الديمقراطيات في إسرائيل)؛ وGesher؛ والفرع الإسرائيلي لـ WILPF (عصبة النساء الدولية من أجل السلام والحرية). وكانت نسبة المشاركات في هذه المنظمات من الإسرائيليات العربيات أعلى بكثير من الإسرائيليات اليهوديات اللواتي أتين من الأوساط النسائية الملتزمة بالعمل السياسي والمنخرطة فيه إلى حدّ كبير. ومباشرة بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي (في كانون الأول 1987)، ظهرت فجأة سبع منظمات سلام نسائية أخرى، وتمكّنت هذه المنظمات من تجنيد العديد من النساء اللواتي لم يكنّ قبل ذلك ناشطات سياسيًا على الإطلاق. وهذه المنظمات هي Shani (نساء إسرائيليات ضد الاحتلال)؛ ومنظمة النساء من أجل السجينات السياسيات؛ ولباس السلام؛ وNeled (نساء إسرائيليات من أجل التعايش)؛ وReshet (الشبكة النسائية من أجل تقدّم السلام)؛ وتحالف النساء والسلام؛ و"نساء بالسواد". (للمزيد من الوصف الموجز لهذه المنظمات، أنظر الملحق). وأضحت منظمات السلام النسائية هذه، والمعروفة عمومًا بحركة السلام النسائية الإسرائيلية، هي الجزء الأكثر حيوية ومثابرة في معسكر السلام في إسرائيل؛ وذلك في المؤتمرات والتجمعات والمحاضرات والاستعراضات والنشاط الإنساني وكذلك على ما يبدو في سلسلة لا تنتهي من الوقفات الاحتجاجية. وغالبًا ما خلّف هذا التنوّع المذهل ووتيرة النشاط شعورًا لدى النساء بأن العمل من أجل السلام قد سيطر على كل مجالات حياتهن. لماذا حدث هذا؟ لماذا شعرت النساء في إسرائيل بضرورة وجود حركات ومنظمات خاصة بهنّ، عندما بدأت الانتفاضة، بدلاً من العمل ضمن البنى التقليدية المختلطة للجندر الاجتماعي. لقد كُتِبَت كتب كثيرة، وسيكتب أيضًا الكثير، حول الترابط بين النساء وبين السلام بشكل عام، لكن هذا يقع خارج نطاق هذا الكتاب. وقد أُولي بعض الانتباه أيضًا للدور البارز للنساء الفلسطينيات في كفاحهن من أجل الاستقلال، لكني لن أعالج هذا الموضوع ههنا. لأن ما أبتغيه هو إلقاء نظرة على الترابط النوعي بين الانتفاضة وبين النشاط السلمي للنساء الإسرائيليات: لماذا شعرت النساء الإسرائيليات بضرورة إيجاد حركة خاصة بهنّ، كحركة "نساء بالسواد" على وجه التحديد؛ وكم كان هذا مختلفًا عن المنظمات المختلطة؛ ولماذا ألهب هذا الأمر مثل هكذا ولاءًا مشوبًا بالعاطفة؟ كان شعورًا بأننا غير مرئيات في أطر السلام الأخرى قبل الانتفاضة، كان عدد النساء الناشطات في مجال العمل من أجل السلام في إسرائيل أقل بكثير من عدد الرجال، ومعظمهن كن يعملن في منظمات مختلطة، وليس في مجموعات نسائية مستقلة[2]. لكن منذ اندلاع الانتفاضة، بدا وكأن النساء أصبحن يشكّلن الغالبية في صفوف منظمات السلام المختلطة، بالإضافة إلى تأسيس حركة سلام خاصة بهنّ. فلو ذهبت إلى أية مظاهرة للسلام تقريبًا في إسرائيل، وسواء كان قوامها 30 شخصًا في زاوية شارع في حيفا أو 100000 شخص في الميدان البلدي في تل أبيب، لرأيت غلبةً واضحةً للنساء في الشارع. وقد سمعت بعض الباحثين يبدون هذه الملاحظة[3]، رغم أني لم أعثر على معطيات حولها بطريقة أو بأخرى. أما السبب الذي حفّز النساء للعمل أثناء الانتفاضة فسنعالجه في الحال. لأنه أولاً، وهذه هي النقطة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، كانت النساء يشكلن على الأغلب مجرد بيادق في حركة السلام، وقلّة منهن ترأسن منظمات السلام القائمة أو مثّلنها علنًا. لقد كانت حركة "السلام الآن"، وما تزال، منظمة السلام الأكبر والأبرز في إسرائيل، لكن غياب النساء كان جليًا إلى حدّ كبير على منبر المتحدثين باسمها في السنوات الإثنتي عشر الأولى من وجودها. (ونلاحظ أيضًا غياب اليهود من أصل مزراحي – أي من البلدان الإسلامية – وغياب العرب). وقد تأسست حركة "السلام الآن" في العام 1978 من أجل تأييد المرونة الإسرائيلية خلال مفاوضات كامب ديفيد مع مصر، لكن حتى التسعينات لم تصبح النساء جزءًا منتظمًا من أولئك الذين كانوا يوجّهون تجمعاتها. ولأكن واضحة تمامًا هنا: لقد لعبت النساء دورًا أساسيًا في داخل الحركة، حيث ترأست جانيت آفياد حركة "السلام الآن" لسنوات، كما كان لنساء أخريات أدوارًا رئيسية في وضع سياسة الحركة وفي صنع قرارها. لكن عندما كان الأمر يصل إلى اعتلاء المنصة والتحدّث علنًا إلى الجموع المحتشدة، فإنه لم يكن لدى حركة "السلام الآن" امرأة على الإطلاق، أو امرأة متحدّثة، أو وسيط نسائي غير مُسمّى، أو مجرد امرأة لتغني أغنية السلام في نهاية المطاف. حيث لم يكن هناك لوائح جدّية بأسماء خطيبات أناث مثلما كان الحال مع الخطباء الذكور، فقد كنّا غير مرئيات. مثلاً، هناك تفصيل صغير لا يتم الاستشهاد به إلا نادرًا، فمعروفة تمامًا قصة "رسالة الضباط" الشهيرة التي سجّلت ولادة حركة "السلام الآن". والتي كانت رسالةً علنيةً موجهةً إلى الحكومة الإسرائيلية وموقّعةً من قبل 350 من ضابط الاحتياط في الجيش يحثّون فيها رئيس الوزراء، بيغن آنذاك، على اغتنام الفرصة وصنع "السلام الآن". وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي تربط فيها كتلة من ضباط الاحتياط حافز الجنود للقتال باستعداد الحكومة لمواصلة سياسات سلمية. لكن ما هو معروف على نحو أقل هو حقيقة أن اسم الملازم الأول يائيل تامير (يولي)، التي كانت أحد ضباط المجموعة المؤسِّسة ومنظِّمة رئيسية في الحركة، قد شُطِب من القائمة قبل نشرها. لماذا؟ لأن الملازم أول تامير امرأة. لقد شعر الضباط الرجال أن وجود امرأة بينهم سيُقلل من تأثير تراصفهم الذكوري[4]. وقد شرعت حركة "السلام الآن" في إدماج النساء (واليهود المزراحيين والعرب) في قائمة الخطباء حوالي العام الثالث من عمر الانتفاضة[5]. وكان بعض من هذه الدمقرطة انعكاسًا لقرار الحركة بالتواصل مع اليهود غير الغربيين ومع القطاعات السكانية غير المميزة، ولا بد أن بعضًا من هذا كان ذو علاقة أيضًا بالشكاوى المتواصلة التي قدّمها الكثيرون، ومن ضمنهم "نساء بالسواد"، إلى قادة "السلام الآن". لكن لفترة طويلة تجنّبت حركة "السلام الآن" تغيير أنماطها، مما أشعر النساء بالعزلة. إلاّ أن هذا لم يمنع مجمل أعضاء معسكر السلام - سواء كنّ من النساء أم من أعضاء المنظمات اليسارية الأكثر راديكالية - من حضور تجمّعات حركة "السلام الآن". فالكلّ كان يتفهّم ضرورة حشد العدد. لكن هذا أيضًا لا يمنعني من الاعتراف بحقيقة أن حركة "السلام الآن"، وبسبب حجمها وقربها من المؤسسة السياسية والعسكرية، تمارس التأثير الأكبر والمباشر على تغيّرات سياسة الحكومة أكثر من كل حركات السلام الأخرى. وقد يدّعي التيار اليساري الراديكالي، عن وجه حق، بأن الراديكاليين هم الذين وضعوا جدول الأعمال الذي تم اعتماده لاحقًا من قبل حركة "السلام الآن"، أو أن حركة "السلام الآن" قد تقوقعت في مؤسسة. لكن بأي حال، لا شيء من هذا يقلّل من مساهمتها البارزة في العمل من أجل السلام. ورغم هذا، حين اندلعت الانتفاضة لم يُلاحظ وجودٌ للنساء وسط قيادة حركة "السلام الآن"، ناهيك عن الأحزاب السياسية أو الكنيست. حيث تعتبر نعومي خزان، وهي باحثة في السلام وعضو في الكنيست، أن غياب النساء عن المشهد هو أحد العوامل الرئيسية في نهوض النشاط النسائي من أجل السلام: .... حيث تمت الحيلولة دون تبوأ النساء مناصب قيادية في المنظمات السياسية الأخرى... لأنه أمر حاسم بالنسبة للنساء امتلاك السلطة للتعبير عن أنفسهن سياسيًا. ولهذا السبب انجذبن نحو هذه الحركات الجديدة[6]. وفيما يتعلق بالنساء في السلطة: لقد تم تآكل تمثيل النساء في الحياة السياسية في إسرائيل لعدة سنوات، ونجد الآن أن الكثير من القنوات الرسمية تُغلَق في وجه النساء... فأية امرأة ترغب جدّيًا في التعبير عن آرائها عليها القيام بذلك من خلال عملية برلمانية إضافية، ولهذا السبب نرى كل هذه المجموعات[7]. هذا الحجب المطبق على النساء في الحياة السياسية الإسرائيلية هو أحد أهم الأسباب التي تكرّر ذكرها والمتعلقة بالحاجة التي شعرت بها النساء لتنظيم مجموعات خاصة بهن. وكانت النساء اللواتي انضممن إلى الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد" واعيات لهذا الحجب بالتأكيد، وساخطات عليه بشدة. لكن هذا ليس سوى جزء من القصة. براعم فتّحها الانتفاضة يُنوَّه أحيانًا إلى سبب آخر لتزايد نشاط النساء خلال الانتفاضة، وهو سبب ذو علاقة بطبيعة الانتفاضة نفسها. فمن الواضح أنها كانت انتفاضة شعبية، شارك فيها الأطفال والنساء مشاركة كاملة. ولم يكد يمضِ شهر واحد على الصراع (في الثالث من كانون الثاني 1988)، حتى قُتلت امرأة فلسطينية في الانتفاضة، حيث أطلق الجنود الإسرائيليون النار عليها فيما كانت تحاول إنقاذ طفل من بين يدي جندي كان ينهال عليه بالضرب. وكان لهذا أثر قوي على المشاهدين الإسرائيليين، خصوصًا على النساء الأخريات. فمشاهد الأطفال وهم يتعرضون للضرب، ومشاهد النساء اللواتي يتقدّمن رماة الحجارة، والفقر والقهر، وما نَجَم عن خطايا المجتمع الإسرائيلي، سواء كلامبالاة أو كممارسة؛ أثار مشاعر قوية في أوساط النساء الإسرائيليات؛ مشاعر كان بعضها بدافع موقف دفاعي متزايد، وبعضها الآخر بدافع الشفقة. وكانت هذه متراكبة مع محنة أن "رجالنا" - أخوتنا، وأبناؤنا، وآباؤنا – هم الذين اُرسِلوا لقمع المراهقين والنساء وسواد الناس. وسواء اعتبر المرء رماة الحجارة الفلسطينيين مقاتلين من أجل الحرية أم لم يعتبرهم، فإنه من المؤكد أنهم لم يكونوا قواتًا مسلحة، لذلك صعّد إرسال القوات المسلحة الإسرائيلية لقمعهم مشاعر معقّدة من الارتباك، إن لم يكن من الخجل. وقد عبّرت غاليا جولان، الباحثة المشاركة مع نعومي خزان والناشطة النسوية وفي حركة "السلام الآن"، عن ذلك أيضًا كالتالي: ربما خاطبت الانتفاضة النساء بطريقة لم تفعلها الحروب الأخرى. لأنها لم تكن هذا حربًا يصنعها الأزواج والأبناء فحسب، ولم تكن حرب جيوش، إنما تمرد نساء وأطفال. وهذا ما خاطب ربما قلوب النساء[8]. لا أدري إن كانت لدى النساء مشاعر متميزة بخصوص السلام، إن كانت هناك حساسية خاصة تجعلنا ننبذ المواقف العدائية، ونركن إلى الأمومة والرعاية ومقت المعاناة. فالآراء عبّرت عن كلا الاتجاهين[9]. لكن الواضح أن الانتفاضة فتّحت الكثير من البراعم بالنسبة للنساء في كل مكان، سواء كنّ ناشطات نسويات أم لا، فاستدعت الجانب الإنساني في الصراع. وقد أبدى أحد الصحفيين (الذكور) ملاحظة مثيرة حول هذا الأمر: في حين أن حركة "السلام الآن" والحركات اليسارية الأخرى كانوا يركزون جهودهم على ما كان يفعله الاحتلال بالمجتمع الإسرائيلي، دخلت ناشطات السلام النسويات المناطق المحتلة في الأيام الأولى من الانتفاضة لمعاينة ما كان يفعله الاحتلال بالسكان المحليين، والإعراب عن التعاطف مع معاناتهم، وعن الرغبة في تفهم الفلسطينيين والحوار معهم، بشكل شخصي[10]. فقط قلة من نشطاء السلام الذكور كانوا منشغلين بهذا النوع من العمل من أجل السلام. التحقت النساء بالوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد" لدوافع مختلفة. كان بعضهن، وخصوصًا اللواتي جئن من جماعات يسارية أكثر راديكالية، قد سبق أن تبنى القضية الفلسطينية لسنوات عديدة، فانتهز فرصة الانتفاضة لرفع حجم مطالبته بتقرير المصير للفلسطينيين. أما دوافع الأخريات اللواتي كنّ قادمات حديثات نسبيًا على النشاط السياسي (وقبل أن يصبحن أكثر تسيسًا في الوقفات الاحتجاجية) فكانت إنسانيةً وأكثر إبهامًا (من أجل إنهاء العنف) وذاتيةً (لحماية أحبّاءنا). وقد تحدثنا جميعًا عن "فساد الاحتلال"، بمعنى ما فعله الاحتلال بنا نحن الإسرائيليون. لكنه لم يُسلّم بحق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم في تلك المرحلة المبكرة سوى البعض فقط. لذلك كان شعار "إنهاء العنف" نافعًا لكلا المعسكرين: الأكثر إنسانية من جهة والأكثر إيديولوجية من جهة أخرى. وقد جمع الكثير من المحللين هذه الأسباب معًا حين عددوا دوافع النشاط السلمي للنساء الإسرائيليات. فنعومي خزان قالت: إنه ليس صراع دبابات، بل صراع بشر. ولقضايا تقرير المصير والمساواة معنى خاص بالنسبة للنساء[11]. وعلى نحو مشابه، لاحظت رونيت لينتين، التي كتبت تحليلاً واضحًا لحركة السلام النسائية في إسرائيل، أن النساء الإسرائيليات تمكنّ من "الوصول إلى تناغم بشأن المواضيع النسوية على وجه التحديد في تلك المرحلة المعينة من الصراع العربي - الإسرائيلي: الظلم، تقرير المصير، الكرامة الإنسانية، العدالة والأمن[12]. وتعتقد ديبي ليرمان جازمة، وهي من المشاركات في الوقفات الاحتجاجية في تل أبيب، أن حركة "نساء بالسواد" كانت، تحديدًا، ردًّا نسويًا على الواقع السياسي[13]، رغم أن الكثير من النساء الأقل تآلفًا أو التزامًا بالحركة النسوية دعونها "ردًّا إنسانيًا". لكننا كنا جميعًا ممثَّلات في الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد" وحافظنا على تعايش ودّي. بالنسبة للبعض، فجّرت تحسسات نسوية محددة خلال الاحتلال الإسرائيلي طاقتهن للعمل. لكن المشاركة في الوقفات الاحتجاجية في كافة أنحاء إسرائيل زادت من نسبة النساء اللواتي جئن من المراكز التي كانت تعالج أزمات الاغتصاب، ومن ملاجئ النساء اللواتي تعرّضن للعنف، ومن الخطوط الساخنة ذات العلاقة بصحة المرأة، ومن مجموعات مكافحة الإباحية. فاللواتي كنّ تتحسسن قضية العنف ضد النساء طبَقن الدرس على كل أشكال العنف والقهر القائمة. لقد كتبت عدة نساء تحليلات ممتازة (كنعومي خزان، وإيريلا شادمي، وسيمونا شاروني، من بين أسماء أخرى)، وأشرن جميعهن إلى ربط وضع النساء في إسرائيل بالصراع الجاري وبالعسكرة المتزايدة للمجتمع[14]. وقد رأى عدد من المراقبين أن العنف الأسري قد زاد على نحو درامي في إسرائيل مع محاولات إخماد الانتفاضة الفلسطينية. كما لاحظت راشيل أوسترويتز أن الاغتصاب والعنف ضد النساء الإسرائيليات آخذ في التزايد، وليس لديّ أدنى شك في أن سياسة القبضة الحديدية هي التي خلقت هذا الجو وشرعنته[15]. وكان التفسير هو أن العنف أصبح الطريقة لحلّ المشاكل: حيث ليس بوسع الجندي الإسرائيلي الذي يضرب متظاهرًا في الصباح أن لا يضرب ابنه أو زوجته في المساء. لكني لم أجد بحثًا يقدم الدليل على هذه الادعاءات، رغم أنه، بالغريزة، من منطقي أن يقترن السلوك العنفي في أحد المجالات بكل مجالات التفاعلات الشخصية والعلاقات المنزلية. ومن جهة أخرى، أخبرني أحد جنود الاحتياط الإسرائيليين، ممن كانوا يقومون بحراسة المحتجزين الفلسطينيين في سجن غزة، أن الانتفاضة كانت حدثًا عظيمًا بالنسبة لزواجي. فأنا أفرغ كل عدوانيتي بالسجناء، ومن ثم أعود إلى منزل عائلتي في نهاية الأسبوع وقد ارتحت تمامًا. وأنا شخصيًا لا أثق بأن هذا الجندي قد "استنفذ" عدوانيته على الفلسطينيين. على كل حال، وأيًّا كانت حقيقة الترابط بين مختلف أشكال العدوان، إلا أن مناقشة هذا الموضوع لم يأخذ حيزًا هامًا في خطاب "نساء بالسواد"، ولم يكن دافعًا رئيسيًا لنشاط معظم النساء؛ ولا كانت كذلك مشاعر الأمومة أو الرعاية هي التي جعلت النساء ينخرطن في العمل من أجل السلام، رغم أنها مهّدت ربما الطريق لنشاط بعضهنّ. لأنه من جهة أخرى، شعر معظمنا أننا كنساء لدينا رسالةً حول الوضع الجيوسياسي، وأن حركة "نساء بالسواد" هي إحدى سبل إيصال هذه الرسالة. بنى وصيغ "نساء بالسواد" كانت حركة "نساء بالسواد" تُدار بطريقة تختلف تمامًا عن منظمات السلام المختلطة، وقد وجد معظم النساء أن هذا الاختلاف يتلائم مع ميولنا. لذلك، سألخص البنى والصيغ المختلفة (لهذه الحركة) في ثلاث نقاط هي: أولاً، شكل الوقفة الاحتجاجية للتظاهر: والتي كانت فكرة لامعة، نرفع القبعات احترامًا لأولئك الذين تفكّروا فيها. حيث لم تكن فكرة ارتداء النساء للأسود والوقوف بصمت تكتيكًا بسيطًا وسهل التنفيذ فحسب، بل كان يمنح رمزيةً قويةً للحدث لأنه كان يشير بوضوح إلى الحداد، والكرامة، والضمير. كما كان يمكن تنظيم هذه الوقفات الاحتجاجية ببساطة بعيدًا عن مراكز المدينة. كذلك قدّرت النساء أيضًا الطبيعة الهادئة واللاعدوانية لوقفات الاحتجاج. فلم يكن لزامًا عليك أن تكون مندفعًا أو أن تصرخ أو أن ترفع الشعارات البرّاقة. فقد أدركنا جميعًا، وبشكل تدريجي، أن التزامنا باللاعنف هو مصدر قوتنا. فكلما مارسنا اللاعنف، كلما شعرنا بالتمكّن من خلاله وبأننا الأقوى حتى في نظرتنا إلى الغرباء. ثانيًا، الطبيعة اللاتراتبية للحركة: حيث كل النساء أندادًا. فكم هو باعث على الراحة أن لا تجد شخصًا ما آخر يخبرك بما عليك القيام به. لأن عدم وجود قائد يعزّز الالتزام الفردي ويزيد من حسّ المسؤولية الجماعية. ففي اليوم الماطر يزداد عدد النساء في الوقفات الاحتجاجية عما هو عليه في اليوم اللطيف، لأنهنّ لا يرغبن في إشعار اللواتي حضرن بأنهنّ وحيدات. كلاّ لم تكن لدينا قيادة رسمية، ولا حتى ناطقة رسمية، ولا حتى لجنة توجيه رسمية. كانت قائمة الهاتف الأكثر تطورًا في هياكلنا المؤسساتية، وهذه كانت مختلفة في كل وقفات الاحتجاج. وخلال فترات العنف الشديد، توافقت بعض الوقفات الاحتجاجية للتعامل مع متطلبات ملحّة (كطلب حضور الشرطة، وشراء عدّة إسعافات أولية، والتأكّد من أن امرأة واحدة من الحاضرات على الأقل تمتلك خبرة في مجال الإسعافات الأولية...)، لكنه كان بوسع أية امرأة حضور اجتماعاتنا. وإن أراد قائد الشرطة التحدّث مع "قائدتنا" أو اللقاء بها، فستذهب مجموعة من النساء - أيًا كان ممن يريد - وستشارك المجموعة كلها في الحديث. وإذا رغبت وسائل الإعلام إجراء مقابلة مع "الناطقة باسمنا"، فسنتشاور فيما بيننا عمن هي أفضل من بوسعه أن يمثّلنا في تلك القناة المعينة. وكان من المتوقع أن تستهل كل "امرأة بالسواد"، ملاحظاتها، في الحديث عن الوقفات الاحتجاجية، بعبارة: "أنا أُمثّل نفسي فقط، فهناك العديد من وجهات النظر المختلفة وسط نساء بالسواد." وفي النشرة الإخبارية لـ "نساء بالسواد" التي قمت بتحريرها لمدة سنتين، كان كل إصدار يتضمن الكلمات التالية: "هذه النشرة الإخبارية هي مبادرة فردية، ولا تمثّل بالضرورة وجهات نظر نساء بالسواد ككل". ثالثًا، وفيما يتعلق باتخاذ القرارات في الوقفات الاحتجاجية، وسواء كانت هذه الوقفات غير رسمية أم في الاجتماعات، غالبًا ما كانت حركة "نساء بالسواد"، شأنها شأن أي حركة، مدعوّةً لاتخاذ قرارات تتعلّق بقضايا رئيسية مثل: هل يتوجب على الوقفة الاحتجاجية رفع العلم الإسرائيلي؟ هل لزامًا علينا إضافة شعارات جديدة؟ هل من المسموح انضمام الرجال إلينا؟. وهذه المسائل كانت مقلقة جدًا وخلافية بالقوة. لكن ثقافة النقاش والسعي للوصول إلى إجماع في اتخاذ القرارات تطور في كل الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد"، وهذا ما حال دون التصادم، وكان داعيًا للمشاركة الكاملة، كما كان مبعث اعتزاز عظيم بالنسبة لنا. وكما لاحظت نعومي خزان بعد مراقبتها إحدى هذه الاجتماعات: كنت متأثّرة جدًا بالكيفية التي كنّ يصغين فيها إلى بعضهن البعض، ومن الدعم المتبادل، ومن غياب التنافس. لقد شاركت حوالي 60 امرأة، وسألت كل امرأة تقريبًا سؤالاً أو عبّرت عن رأيها[16]. لقد كانت إحدى الفرضيات الضمنية القابعة خلف كل قراراتنا هي عدم تبنّي أي أمر من شأنه أن يستبعد أي فريق من النساء عن الوقفات الاحتجاجية. وهذا ما ساهم بالفعل في خلق مناخ داعم لاتخاذ القرار. كما كان هناك مبدأ أساسي آخر هو شكل المناقشة بحد ذاته. فالوقفات الاحتجاجية الكثيرة طوّرت نظامًا أسميناه بـ"صُنع حلقة"، وهو يأخذ شكل الدوران حول الغرفة وإتاحة المجال لكل امرأة للتعبير عن رأيها من دون مقاطعة. وليس من المبالغة القول ،عمومًا، أنه لم تتم مقاطعة النساء اللواتي كنّ يتكلمن وأنه كان هناك احترام أساسي لكل وجهة نظر. لا أعرف كيف توصّلنا إلى هذه الصيغة من اتخاذ القرار، ولا كيف كان ممكنًا أن يكون لدى "نساء بالسواد" مثل هذه الصيغة الودّية من اتخاذ القرار، رغم أننا جميعًا قادمات من ثقافة معارك عاصفة حول كل القضايا التافهة؟! لعل النساء الآتيات من دوائر النشاط النسوي قدّمن بعضًا من القواعد الإجرائية الأساسية (مثلاً: عدم السماح لأي كان بالتحدّث مرة ثانية إلى أن تتحدث كل امرأة ترغب بذلك للمرة الأولى). وربما لأن النساء اللواتي عزّزن ما يكفي من الثقة بين بعضهن البعض خلال مسار الوقفات الاحتجاجية تمكن من تخفيف شكل الدوافع الأنوية للمناقشة. وخاصة على ما يبدو، تجاوز عقدة أن الرجال مُثقَلون بأوهام أنهم وحدهم الأقوياء والعازمون والحاسمون، الذين ليس لديهم متّسع من الوقت للتأمل، ناهيك عن التردد. لكن، ومهما كان الباعث، فإن مناخ المناقشة كان مفتوحًا وعميقًا، حيث كان يمكن مرارًا سماع نساء يصرِّحن بأنهن غيّرن وجهات نظرهن على ضوء النقاط التي أُثيرت. ذلك هو السبيل الذي جعل قراراتنا تعزّز شعورًا قويًا من الولاء للمجموعة. كانت "نساء بالسواد" حركة غير متجانسة من حيث الخلفية والالتزام السياسيين. ورغم أن الوقفات الاحتجاجية في تل أبيب وحيفا كانت تتألف من مخضرمات في النشاط النسوي والعمل من أجل السلام، فإنه، وبالنسبة لمعظمنا، كانت الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد"، عملاً سياسيًا في المقام الأول. حيث من الواضح أن بنية وصيغة الحركة جعلتا من الممكن أن تعمل المخضرمات والمبتدئات، الراديكاليات الملتهبات حماسة والليبراليات المسترخيات، معًا وبشكل متناغم. وفي أغلب الأحيان، كانت المبتدئات والليبراليات هنّ اللواتي يغرسن مفاهيمهن للبنية، في حين استطاعت المخضرمات والراديكاليات تجاوز المضامين الأكثر سياسيةً. وثمة المزيد عن ذلك الأمر لاحقًا. هل كانت "نساء بالسواد" حركة نسوية؟ العديدات من مؤسسات حركة "نساء بالسواد" كن من أوائل الناشطات النسويات المتحمسات، لكن معظمهن لم يكنّ كذلك. وكانت الوقفات الاحتجاجيات في تل أبيب وحيفا تتألف بشكل خاص من الناشطات النسويات، بينما لم تكن الوقفات الأخريات كذلك. وبالتالي، إحصائيًا، كانت الناشطات النسويات أقلية في الأشهر والسنوات الأولى للوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد". وقد تغيّر هذا الواقع تدريجيًا خلال سنوات الوقفات الاحتجاجية ومع نمو وعينا النسوي. على أي حال، استاءت الكثير من النساء من تصنيفهن كـ "ناشطات نسويات"، وكان هذا سببًا كافيًا بالنسبة لنا للسعي لنتجنّب هذا اللقب في معظم الوقفات الاحتجاجية. ومع ذلك، ورغم أن حركة "نساء بالسواد" لم تُعرِّف نفسها أبدًا كحركة نسوية، إلا أن مواضيع النشاط النسوي شقّت طريقها في النهاية. وهناك دليل جدير بالاعتبار للدلالة على أن الوعي النسوي بدأ يخترق حركة "نساء بالسواد". فكثير من الدراسات المتعلقة بحركة السلام النسائية الإسرائيلية، بما فيها التحليلات الحادة لسيمونا شاروني، تُظهر سعيًا واعيًا من أجل خطاب نسوي في أوساط "نساء بالسواد"[17]. على سبيل المثال، وفي الوقفة الاحتجاجية الأولى، قرابة يوم المرأة العالمي (في آذار 1988)، حضرت مجموعة من النساء إلى الوقفة الاحتجاجية في القدس وهنّ يحملن بالونات تحمل شعارات نسوية. ولم يتساءل أحد عن حقّهن في استخدام الوقفة الاحتجاجية لإضافة بند يتعلق بقضايا النساء. وفي يوم المرأة العالمي الثاني، بعد سنة، جاشت الوقفة الاحتجاجية المهرجانية بـ 160 امرأة، وأُضيفت لافتات تتعلق بالمناسبة. وكانت هذه مبادرة من قبل الوقفة الاحتجاجية ككل. أمّا المثال الآخر فكان الرسالة التي أُرسلت من قبل المؤتمر الوطني لـ "نساء بالسواد" إلى المشاركين الإسرائيليين والعرب في مؤتمر مدريد للسلام الذي عُقد في تشرين الأول عام 1991. وقد جاء في جزء من هذه الرسالة: نلاحظ بأسف أن تمثيل النساء أقل من المستوى المطلوب في كل الوفود؛ فنحن نعتقد أن المشاركة المتزايدة للنساء من شأنها تعزيز الجهود على نحو هام باتجاه الحوار والسلام. وكان هذا بالتأكيد بيانًا لنساءٍ واعيات لأنفسهن كقوة من أجل "الحوار والسلام"، إن لم تكن رسالة نسوية بكل معنى الكلمة. لكنني أعتقد أن أفضل دليل أتى من المؤتمر الوطني لـ "نساء بالسواد" الذي يُعقَد سنويًا. فمع كل مؤتمر، استكشفت الكثير والكثير من الجلسات العلاقة بين الاحتلال وبين النشاط النسوي. وفي الحقيقة، كان المنظور النسوي يعمّ مؤتمر "نساء بالسواد" الدولي في كانون الأول عام 1994، بدأً من الجلسة الافتتاحية ("عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية: وجهات نظر نسوية")، مرورًا بالعديد من ورشات العمل ("السلام، اللاعنفية والنوع الاجتماعي، "اللاعنفية في النظرية النسوية"، "تثوير الأمومة نحو ثقافة سلام"، و"وجهات نظر نسوية في عصر السلام وعصر العالم الجديد"، على سبيل المثال لا الحصر). لذلك لم يكن النشاط النسوي للمشاركات في الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد" مصادفة، ولم يكن الأمر عصيًّا على التفسير. ومن وجهة نظري، رفعت العناصر التالية من مستوى الوعي النسوي للمشاركات في حركة "نساء بالسواد": أولاً، الشتائم الجنسية وتلك الموجّهة للجندر ساعدت على تنبيه النساء إلى حقيقة أننا عرضة للهجوم ليس بسبب آراءنا السياسية فحسب، بل بسبب آرانا بشكل عام. حيث المرأة القوية أو تلك التي تعتنق وجهة نظر سياسية تصنف بالعاهرة. وردّ الفعل الشوفيني الأكثر تهذيبًا كان: "عدن إلى المطابخ". وهذا من الصعب ألا يفَسَّر كدلالة على أن هناك شيئًا مشوهًا يتعلق بالعلاقة بين النساء والرجال في المجتمع. وبكلمات أحد الصحفيين الذين شهدوا ذلك: ينبغي فقط على المرأة أن ترتدي الأسود وأن تذهب إلى ساحة باريس لكي تصبح على الفور ناشطة نسوية متحمسة[18]. ثانيًا، واقع أن وسائل الإعلام تجاهلت فعليًا الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد"، في حين أن مظاهرات مختلطة أصغر وأقل إثارة للاهتمام كانت تستقطب اهتمام وسائل الإعلام. وعندما وجدت وسائل الإعلام طريقها إلينا (بتأثير من رؤيتها ظهور "نساء بالسواد" في وسائل الإعلام الأجنبية)، غالبًا ما كانت تطرح أسئلةً محرِجة. فأحد المراسلين الذكور سأل في مقابلة[19]: هل تحبين اللون الأسود في خزانة ثيابك؟. لكن واقع كون المرء مُهمَلاً أو مُتَفَّضَلاً عليه سيدفع دومًا، وفي النهاية، أية امرأة تحترم نفسها؛ لأن تهبّ واقفة ولأن تُدلي بدلوها. ثالثًا، لم تكن صيغ وبنى ومبادئ "نساء بالسواد" (الوقفة الاحتجاجية، اللاعنف، اللاتراتبية، الإجماع في اتخاذ القرار...) باعثة على الراحة بالنسبة لنا فقط، بل كانت مفضّلة حتى على صيغ وبنى ومبادئ منظمات السلام المختلطة. فالكثيرات منا لم يكنّ أبدًا من قبل ناشطات في منظمات نسائية محضة، ووجدن في الأمر تغيّرًا يُحتَفى به. رابعًا، كنا نقيم، حتمًا (برأيي)، ترابطًا بين الحرب وبين قهر النساء. وقد ساعدتنا بعض الناشطات النسويات من بيننا على ملاحظة هذا الترابط كنبيلة اسبانيولي وداليا ساشز من الوقفة الاحتجاجية في حيفا: فالحرب تخلق وتُشرع معايير للتمييز ولقهر النساء والأقليات الأخرى على المستويات الشخصية والسياسية والاجتماعية. فبالنسبة لنا نحن النساء على كل الجوانب، هذا ليس نصرًا. لأننا ندفع الثمن[20]. وتنسب حنان عشراوي إلى الانتفاضة مساعدة النساء الإسرائيليات على الربط بين الجندر الاجتماعي وبين القضايا الجيوسياسية: أعتقد أن العامل الحاسم في انبثاق وعي النساء الإسرائيليات - في خلق الرابط بين قضايا الجندر الاجتماعي والقضايا الوطنية/السياسية - جاء مع الانتفاضة. فالدور البارز الذي لعبته النساء الفلسطينيات كان، بطريقة ما، تحدّيًا للنساء الإسرائيليات اللواتي حاولن التواصل معنا من منطلق النشاط النسوي... ودافعًا للعمل معًا لتحقيق جداول أعمال مشتركة - كتقرير مصير النوع الاجتماعي وتقرير المصير القومي[21]. خامسًا، رُوِّع الكثير منّا من عسكرية رسالة "السلام الآن". حيث مُرِّر البعض منها مغلَّفًا، كضرورة تسويق التماس السلام في مجتمع نضالي، لكن الكثير منها كان متجذِّرًا في التوافق الأساسي لـ "السلام الآن" مع الحلول العسكرية، وإيمانه بأن الجيش الإسرائيلي ترياق لأعداء إسرائيل[22]. وهناك بعض الأمثلةعلى ذلك: فقد أولت قيادة "السلام الآن" الذكورية اهتمامًا بنشر الرتب العسكرية لأعضائها لإثبات أنهم لم يتهرّبوا من أداء الواجب؛ كما ويفاخر الأعضاء القياديون في "السلام الآن" علنًا بأبنائهم الذين أدّوا دورًا قتاليًا (قلّة منهم نكصت عن أداء الخدمة في الأراضي المحتلة، لكن معظمهم لم يفعل ذلك)؛ كما عكست خطابات وإعلانات حركة "السلام الآن" موافقتهم الافتراضات الضمنية بأن الحروب تحلّ الصراعات فعلاً، وأن القوة - مع السلام - هي أفضل وسيلة للدفاع. ونتساءل هل كان من الضروري حقًا بالنسبة لأبرز قياديي حركة سلام أن تُصدر بيانًا أثناء أزمة الخليج تدعم فيه عنف بوش العسكري في العراق؟ فحسب تعبير تسالي ريشيف، الناطق باسم حركة "السلام الآن": نحن لسنا معارضين لهذه الحرب - من الغريب تمامًا أن حركة سلام لا تعارض الحرب... نحن لم نجادل مطلقًا بأنه لا يجب على إسرائيل أن تخوض حربًا ]أو أنه[ ليس هناك شيئًا يمكن تسميته بالحرب المبرَّرة - وهذه الحرب، من وجهة نظرنا، هي حرب مبرَّرة[23]. ألم يكن بوسع حركة "السلام الآن" تصوّر ردٍ على عنف العراق غير القصف الهائل؟ ألم يتذّكر أحد من حركة "السلام الآن" أنه لا يوجد منتصر في الحرب؟ ومرة ثانية، تتلمس نبيلة وداليا بشكل جيد الموقع البديل لحركة السلام النسائية: نحن الآن مقتنعات إلى حد كبير وبقوة أنه ليس بوسع الحروب حلّ الصراعات، لأنها تخلق مجرد وهم بالقوة وبالانتصار، مما يخلق المزيد من المشاكل والصراعات. فيواصل هذا الوهم دورة الموت والدمار والهيمنة العسكرية الذكورية[24]. طوال الانتفاضة، لم تقم حركة "السلام الآن" بواجبها في إدانة هدم منازل عائلات الإرهابيين. ومؤخرًا، بعد سلسلة التفجيرات الانتحارية داخل إسرائيل، دعا الناطق الرئيسي في اجتماع حاشد في القدس (الكاتب البارز ديفيد غروسمان) مثل هذا الهدم للبيوت بـ "الشر الذي لا بد منه"[25]. لقد كان الوعي المتنامي للفروقات بين حركة "السلام الآن" وحركة "نساء بالسواد" عاملاً مهمًا في تدعيم موقفنا تجاه الصراع وعنصرًا مهمًا في تطوير قناعاتنا النسوية. الرسالة الثانية، غير المخفية كثيرًا كانت رسالة "نساء بالسواد" هي "كفى للاحتلال". والوسيط كان نساءً يرتدين الأسود ويقفن وقفة احتجاجية كل أسبوع. أما الرسالة الكامنة فكان الوسيط بحد ذاته: تلك الأمهات المستقلات والحازمات. وكانت إيريلا شادمي، من "نساء بالسواد" في القدس، من أوائل من تفهم هذا الأمر حين كتبت: ... قد تبدو ]الوقفة الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد"[ فعلاً احتجاجياً بسيطًا وذو رسالة واضحة. لكن هناك تحت السطح مستوى آخر يقول بأن الرسالة ليست بالكلمات بل الفعل: وأن الواسطة هي الرسالة. فاالجمع غير التقليدي بين كوننا نساء، ونعمل في الحقل العام، وننخراط في النضال يقوِّض الفهم التقليدي للمرأة وللنضال السياسي، ويُعيد تعريفهما[26]. انضمّت إيريلا، وهي ضابط برتبة مقدّم في الشرطة الإسرائيلية، إلى الوقفة الاحتجاجية بعد أيام فقط من تقاعدها المبكّر من سلك الشرطة. وكمنظّرة نسوية راديكالية، ساعدنا تحليلها لحركة "نساء بالسواد" على فهم عميق لجذور معارضتنا حيث: تسحب حركة "نساء بالسواد" البساط من تحت أقدام الرموز القديمة، المؤسَّسة على الأنوثة السلبية التابعة، والتي يختبىء شرفها وراء الأبواب، وتُحدث صدوعًا في الجدار الفاصل بين ميدان النشاط العام الخاصّ بالرجل، وذلك الشخصي الذي يخص المرأة. فمفهوم الأنوثة يتعارض مع مفاهيم يُعتّقد أنها تنافسية ومتناقضة - كالسياسة والعلنية - وهذا ما يذكّر بما يُؤثِر التاريخ الإنساني والإسرائيلي تناسيه - دور النساء في مجالات النضال الاجتماعي والوطني. وبهذه الطريقة، تحول "نساء بالسواد" دون تحقق هذه المفاهيم التقليدية، وتكسر الصورة التقليدية للأنوثة وتعيد تعريف مفهومها وسياقها الاجتماعي[27]. وهكذا، كان الوعي النسوي لحركة "نساء بالسواد" ينمو من خلال مسار الوقفات الاحتجاجية، وسواء كان بسبب ردود الفعل ضدنا أو عبر تحليلنا الخاص للوضع السياسي. وكلما اتسع وعينا النسوي، اتسع معه فخرنا بما نقوم به وازدادت جرأتنا بالنسبة لم يتعلق بقناعاتنا. وليس مفاجئًا ما أثرناه من مشاعر حادّة لدى بعض المتفرجين حيث: يكفي حضور إحدى الوقفات الاحتجاجية لفهم أفضلية الـ"نساء بالسواد" على مهاجميهم. لأنه من السهل فهم الخوف الذي تثيره رؤية مجموعة من النساء يرتدين الأسود، متّقدات الذهن وجريئات، في أوساط أولئك المعتادين على النظر إلى المرأة كمخلوق ضعيف وأدنى منزلة، كفريسة سهلة، يلائمها المنزل وتستحق الترويض بالإذلال والتهديد والبصاق والضرب الفعلي[28]. هناك أمر ما يتعلق بالنساء القويات ويدفع صنفًا معينًا من الرجال لإبداء مواقف متطرّفة: رؤية الأسود: فما هو الأمر المتعلق بـ "نساء بالسواد" الذي يدفع الناشط الكاهاني العادي (من كاخ) لأن يُرغي ويُزبِد ويخرج عن طوره؟ أليس هو يا ترى سياستهن ومثابرتهن العنيدة، وتكبّرهن المتبجّح، وشعورهن بتآخ لا يدع أي مجال للرجال[29]. لأنه لم ينظر إلى الـ "نساء بالسواد" كقويات وأبيّات فحسب؛ ففي شتى المجالات، كان هذا ما أصبحناه. رجال بالسواد في الوقفات الاحتجاجية ولأن حركة "نساء بالسواد" اُتهِمت بمعاداة الذكور، فإني سأُعلن ببساطة وبصوت مسموع أننا لسنا كذلك. فقد آن الأوان للمجموعات النسائية المحضة ألاّ تدافع عن نفسها بخصوص هذا الموضوع. حيث كان هناك وبانتظام بعض المشاركين الذكور في الوقفات الاحتجاجية (انظر الفصل التالي)، لكن في القدس وفي حيفا وفي تل أبيب، رحّبنا بوقوف الرجال معنا في الوقفات الاحتجاجية مرّة في السنة، وكل عام في أوائل حزيران، من أجل إحياء الذكرى السنوية لاحتلال الضفة الغربية وغزة. وكانت المرة الأولى التي دعينا فيها الرجال للانضمام إلينا بعد سنتين ونصف من بدء الوقفات الاحتجاجية، في الثامن من حزيران عام 1990. ومنذ ذلك الحين، وكلما أحيينا تاريخ احتلال المناطق في حزيران، كنا ندعو الرجال لأن يرتدوا الأسود وينضموا إلى الوقفة الاحتجاجية، وكانوا يلبّون الدعوة بأعداد كبيرة جدًا. إن إقحام الرجال في أُخوية الوقفات الاحتجاجية بدا، بطريقة ما، وكأنه يمنحهم الفرصة لولادة جديدة. وقد شعرنا جميعنا بالسعادة من أجلهم. ترجمة: غياث جازي تدقيق: أكرم أنطاكي *** *** ***
[1]كان هناك بعض الاستثناءات الهامة، لكن الاتجاه الضاغط في حركة تحرّر المرأة في إسرائيل - وما زال عمومًا - هو تجنّب قضية السلام. ولإلقاء نظرة عامة آسرة على السنوات الأولى، أنظر جيلبرت فينكل، تاريخ حركة تحرر المرأة في إسرائيل، مخطوطة غير منشورة، حزيران 1981؛ أو جيلبرت فينكل:, “Von der Kibbuz: Bewegung zum Schweigemarsch” in Argument-Sonderband 176,، 1990، ص 56 - 80. [2] من أجل بيانات حول الموضوع، أنظر جادي وولفسفيلد، سياسة الاستفزاز: المشاركة والاحتجاج في إسرائيل، ألباني: جامعة نيويورك الرسمية، 1988. [3] أنظر ناعومي خزان، النساء الإسرائيليات والنشاط السلمي، في الدعوة إلى تنفيذ المساواة: النساء في إسرائيل، باربارا سويرسكي ومارلين ب. سافير (تحرير)، نيويورك: مطبعة بيرغامون، 1991، ص 153. [4] استنادًا إلى مقابلة مع يولي تامير في 21 حزيران 1996. [5] ُتخِذ هذا القرار الاستراتيجي في كانون أول 1988 (أنظر كامينر، سياسة الاحتجاج، ص 110 - 114)، لكنه استغرق وقتًا لتطبيقه. وقد ساعد كوفمان، اضطلع ببعض مهمات التنظيم في حركة "السلام الآن" في سنوات الانتفاضة الثلاثة (1989 - 92)، حركة "السلام الآن" على تنويع نفسها جماهيريًا وأسهم ببعض ملاحظاته في مقابلة في 20 حزيران عام 1996. [6] راندي جو لاند، سلام منفصل؟، جيروزالم بوست، 29 حزيران 1989. [7] توم هندلي، الوقفات الاحتجاجية سوداء وبيضاء، ليست القضية، شيكاغو تريبيون، 17 تموز 1990. [8] ميشال سيلا، خمس سنوات من الورود والبيض الفاسد، دافار، كانون الثاني 1993 ]بالعبرية[. [9] انظر، على سبيل المثال، بيتي ريردون، الجنسانية ونظام الحرب، نيويورك: مطبعة كلية المعلم، 1985؛ أدريان هاريس وإينيسترا كنغ (تحرير)، تأرجح سفينة الدولة: نحو سياسة نسوية سلمية، بولدر، سان فرانسيسكو، ولندن: مطبعة ميستفيو؛ وسارة بوديك، التفكير الأمومي: نحو سياسة للسلام، نيويورك: مطبوعات بالانتين، 1989. [10] يوران هارباز، إنهم لا يطلقون النار، إنهم لا يصرخون، Kol Ha`Ir، 10 آذار 1989. [11] راندي جو لاند، سلام منفصل؟. [12] رونيت لينتين، المرأة - ناشطة السلام التي ليست هناك: النساء الإسرائيليات والفلسطينيات يعملن من أجل السلام، مركز بحوث معهد السلام الإيرلندي، جامعة ليمريك ]غير مؤرّخ، لكنه صدر عام 1995[، ص 26. [13] في مقابلة في الثاني من أيار 1996. [14] انظر نعومي خزان، "مساواة في النوع الاجتماعي؟ وليس في نطاق الحرب!"، الديمقراطية الإسرائيلية، مجلد 3، عدد 2، 1989؛ إيريلا شادمي، "الاحتلال، العنف، والنساء في المجتمع الإسرائيلي"، نشرة الأخبار الوطنية لـ "نساء بالسواد"، عدد 5، ربيع 1993؛ سيمونا شاروني، "الجبهة المنزلية كساحة معركة: النوع الاجتماعي، الاحتلال العسكري، والعنف ضد النساء"، النساء والاحتلال الإسرائيلي: سياسة التغيير، تامار ماير (تحرير)، لندن ونيويورك: روتليدج، 1994، ص 121 - 137؛ وثانية، سيمونا شاروني، "كل امرأة هي منطقة محتلة: السياسات العسكرية والجنسانية والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني"، مجلة دراسات النوع الاجتماعي، مجلد 1، عدد 3، ص 447 - 462، 1992 (إصدار خاص: النوع الاجتماعي والقومية). [15] راشيل أوسترويتز، "نساء خطرات: حركة السلام النسائية الإسرائيلية"، في نداء النساء اليهوديات من أجل السلام: كتيب للنساء اليهوديات حول الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، ريتا فالبيل، إيرينا كليبفيسز، ودونا نيفيل (تحرير)، إيثاكا، نيويورك: كتب فايربراند، 1990. [16] يورام هارباز، "إنهم لا يطلقون النار، إنهم لا يصرخون". [17] انظر سيمونا شاروني، البحث عن مخاطبة نسوية جديدة، تشالنج، مجلد 4، عدد 5، أيلول - تشرين الأول 1993. [18] ليفن، نيري، رسالة من الجبهة: اليسار الإسرائيلي الجديد: إنه يبدو مثل استعادة للقدس، كوتيرت راشيت، 20 نيسان 1988 ]بالعبرية[. [19] آرنون لاتبيد، مجرد سؤال، دافار، 31 تشرين الأول 1991 ]بالعبرية[. [20] نبيلة استانبولي وداليا ساشز، "عملية السلام: النساء الإسرائيليات والفلسطينيات"، بريدجز، مجلد 2، عدد 2، خريف 1991، ص 112 - 119. [21] النشاط النسوي ما وراء الناطقة: حديث صريح مع حنان عشراوي، مس ماغازين، مجلد 2، عدد 5، آذار/نيسان 1992، ص 14 ـ 17. أجرت المقابلة رباب هادي، وهي مؤسِّسة مشاركة في اتحاد روابط النساء الفلسطينيات في أمريكا الشمالية. [22] يقدّم روفن كامينر في سياسة الاحتجاج، دراسته الرائعة عن حركات الاحتجاج الإسرائيلية خلال الانتفاضة، تقييمًا فطنًا ومتوازنًا لنقاط قوة ونواقص حركة "السلام الآن". [23] فيرنون لويب، "قضية خسارة"، محقق فيلادلفيا: المجلة اليومية، 11 شباط 1991. [24] نبيلة اسبانيولي وداليا ساشز، "عملية السلام: النساء الإسرائيليات والفلسطينيات". [25] كان هذا في حشد لحركة "السلام الآن" في التاسع من آذار في مركز مدينة القدس، بعد تعاقب التفجيرات في القس وتل أبيب وعسقلان التي أزهقت أرواح ما يقارب السبعين شخصًا. [26] إيريلا شادمي، "السياسة عبر الباب الخلفي"، هاآرتس، 24 شباط 1992 ]بالعبرية[. [27] المرجع السابق. [28] نيري ليفن، "رؤية السواد"، ص 25 ]بالعبرية[. [29] المرجع السابق، ص 24.
|
|
|