|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
البالوعات تلفظ قاذوراتها كانت الوقفات الاحتجاجية لـ "نساء بالسواد" في القدس تُقام بما يُعرَف عمومًا بساحة باريس (مع أنها رسميًا تُسمّى ساحة فرنسا)، عند تقاطع خمسة طرق، ويبعد مسير 10 دقائق عن مركز المدينة و5 دقائق عن المقر الرسمي لرئيس الوزراء. وكان موقع الوقفات الاحتجاجية مقابلاً للكلية الفرنسيسكانية Terra Sancta من جهة وفندق الملوك من جهة أخرى - بين القدس السماوية والقدس الأرضية، كما كنت أفكّر أحيانًا أثناء مواجهة اللحظات التأملية الطويلة. وخلال سنوات الوقفات الاحتجاجية، كان سكان القدس غالبًا ما يشيرون إلى التقاطع بـ "ساحة نساء بالسواد"، مما كان يثلج صدورنا، إذ اقتنعنا أخيرًا أنه كلما كان حضورنا لافتًا أكثر كلما ازداد التأثير الذي نبتغيه. وقد لاحظ الناس وجودنا بالفعل قبل وسائل الإعلام بوقت طويل.
إنَّ في الإنسان، في مراحل حياته المختلفة، استعدادًا ذاتيًّا للسلوك العنفي أو اللاعنفي. بيد أن هذا الاستعداد، في حدِّ ذاته، لا يجعل الإنسان موصوفًا بالعنف أو اللاعنف، لأنه مجرد استعداد محض. فيدا الإنسان ورجلاه، مثلاً، آلتان من آلات استعمال العنف، ولكن وجودهما في الإنسان لا يعني أن الإنسان عنيف، بل يعني استعداده لممارسة العنف بواسطة اليدين أو الرجلين. هذا الاستعداد الفطري في الإنسان – نزوعه إلى اللاعنف أو العنف – يظل مرهونًا، إلى حدٍّ ما، بطبيعة المؤثرات الخارجية التي تضغط على الإنسان سلبًا أو إيجابًا. فنوع المؤثر الخارجي، من جهة، والاستعداد النفساني لتقبُّله، من جهة ثانية، هما اللذان يحددان، في الغالب، السلوك المتوقع للإنسان، سواء كان سلوكًا سويًّا أو سلوكًا غير سوي. فالمؤثرات الخارجية التي تضغط على الإنسان وتتحكم في سلوكه قد تكون مؤثرات سلبية وقد تكون مؤثرات إيجابية: أما المؤثرات السلبية الضاغطة فهي تدفعه دفعًا نحو العمل العنفي، بينما المؤثرات الإيجابية تحثه على العمل اللاعنفي وترشده نحوه.
إنَّ "المناضلين" السياسيين، في جماعات العنف وغير العنف، في العالم أجمع، منتمون إلى ديانات مختلفة، ومصادرهم الإيديولوجية والفكرية متنوعة هي الأخرى. وكل واحدة من هذه الجماعات تتكئ على منظومة إيديولوجية أو "لاهوتية" خاصة بها، تبني عليها خطاباتها الدينية والسياسية. أما السبب الحقيقي لفشل السلام فيعود إلى الاختلاف في المنطلقات والمفاهيم والبُنى الإيديولوجية التأسيسية للأطراف المتنازعة؛ أي أن المعركة الدائرة هي، في واقع الأمر، معركة معنى. من هنا فإن الخوض في الفروع أو في السلوكيات المبنية على المعتقد والإيديولوجيا غير مُجْدٍ في حدِّ ذاته، لأنه عندما تتم المقاربات في ظلِّ غياب المصطلح المتفَق عليه فإن الحوار يفقد قيمته ويتحول إلى عسف متبادل.
ما الذي يدعونا إلى التساؤل عن معنى اللاعنف؟ هل هو غموض هذا المفهوم أم فعاليته في التاريخ؟ هل هو وجود عدد قليل من النظريات والمدارس الفكرية التي تتبنَّى مفهوم اللاعنف، أم أن الأمر لا يطرحه أصلاً إلا المتسامحون الذين يتبنون هذه الممارسة؟ وأية جدوى من الفعل اللاعنفي في تغيير التاريخ؟ في عبارة أخرى، هل يمكن لنا أن نؤثر في حركة التاريخ ونغير مساره دون أن نلجأ إلى العنف الثوري؟ إن اللاعنف هو طريقة معينة في الفعل تعتمد قوة الحق في المحاجَجة والإقناع بدلاً من العنف والقوة المجردة. والأشخاص الذين يمارسون أفعالاً غير عنيفة هم "لاعنفيون" non-violents، حتى دون أن يطَّلعوا على مفهوم اللاعنف نظريًّا، وذلك في معزل عن الاعتبارات المذهبية والإيديولوجية التي تبرِّر مثل هذا اللاعنف. لكننا ينبغي أن نميز، قبل كلِّ شيء، بين فعل يبدو خاليًا من العنف وبين فعل لاعنفي حقًّا، وذلك برسم الحدود التي تفصل بين الفعلين والابتعاد مطلقًا عن الأفعال الإجرامية والحربية.
إنَّ مبدأ اللاعنف، الذي بشَّر به، منذ قديم الزمان، ومارسَه حكماءٌ من نحو البوذا ومو تسُه والمسيح وبعض الرواقيين، وفي العصر الحديث، جمهرةٌ من مؤسِّسي المذاهب أو الفلاسفة، قد مَنْهَجَه غاندي في القرن العشرين لتحقيق غايات سياسية واجتماعية (تحرير الهند من السيطرة الإنكليزية، إلغاء نظام المراتب الاجتماعية castes، المصالحة بين الهندوس والمسلمين). فبحسب تعبير القس الأمريكي مارتن لوثر كنغ: "المسيح أعطى الروح، وغاندي بيَّن كيفية استعماله." وبذا فإن الفنون التي استُكمِلَ إتقانُها قد ثبتتْ فعاليتُها في الهند، فأصبح اللاعنف، بدلاً من أن يظل مثاليةً غير قابلة للتطبيق في الظاهر، أداةَ نضال ذات قوة هائلة. وقد مورِسَ منذئذٍ في بلدان عديدة، وبالأخص في أيرلندا في الكفاح من أجل الاستقلال، في الولايات المتحدة في مطالبة السود بحقوقهم المدنية وبالمساواة العرقية، في إيطاليا ضد البؤس في صقلية، وفي فرنسا ضد حرب الجزائر.
قال قائد قوات الاحتلال لعمدة القرية الجبلية: "نعلم أنكم تخبئون خائنًا. فإذا لم تسلمه إلينا سوف نتحرش بك وبقومك بكلِّ ما أوتينا من وسائل." كانت القرية تخفي بالفعل رجلاً بدا صالحًا وبريئًا وكان محبوبًا من الجميع. ولكن ماذا كان بوسع العمدة أن يعمل الآن وسلامة القرية في خطر؟ لم تؤدِّ أيامٌ من المناقشات في مجلس القرية إلى نتيجة. لذا أخذ العمدة أخيرًا الأمر على عاتقه مع الكاهن، فقضى الاثنان ليلةً كاملةً يفتشان في الكتب المقدسة، حتى توصلا أخيرًا إلى النص الذي يقول: "خيرٌ لكم أن يموت رجلٌ واحد عن الشعب ولا تهلك الأمَّة بأسرها." وهكذا سلَّم العمدة الرجل البريء الذي تردَّد صدى صراخه عبر القرية وهو يُعذَّب ويُعدَم. |
|
|