english Arabic dictionary of non-violence

نساء بالسواد

مقدمة[1]

"نساء بالسواد" لم يلبسنه حدادًا على مائير كاهانِ

Gila Svirsky: A Personal Website

غيلا سفيرسكي

 

الزمان: تشرين الأول 1990.

المكان: أورشليم/القدس.

المدينة برمتها تمردٌ يتحرق للنشوب، قبضةٌ مُحكمةٌ تفتش عن فكٍّ تلطمه. وبالنظر إلى مدينة ذات تاريخ بمثل هذا الطول من الصراعات الدموية بين أتباع مختلف الأديان، كانت القدس، كعهدها، مشدودةً كوتر إلى أقصى حد.

سياق هذا التوتر كان الانتفاضة، ثورة الفلسطينيين في وجه الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ يطالب بها الطرفان. منذ ما يُقارب السنتين، عاثت الانتفاضةُ خرابًا في الضواحي الفلسطينية المحيطة بالقدس وفي المناطق الداخلية من الأراضي المحتلة، لكنها، على نحو ما، لم تَدْنُ من هذا الصاعق الذي يسمَّى أورشليم. لم يكن سكان القدس، سريعو الاستثارة عادة، قد وجدوا بعدُ أدنى مسوِّغ للانخراط في هذا النزاع؛ وذلك كان إهانة لعزَّة نفس كلا الطرفين: كلاهما كان يتحين الفرصة لإثبات سخونة طبعه!

غير أن صدام حسين كاد أن يقدم ذريعة الحرب لمُواطِني القدس باحتلاله الكويت في الصيف، إذ لم يلقَ دعمُ الفلسطينيين لصدام صدًى طيبًا لدى الإسرائيليين. وكان اليهود اللبراليون هم أكثر مَن أحسوا بالإهانة، إذ شعروا أن منظمة التحرير الفلسطينية خانتْهم بدعمها رجلاً يتشدق جهارًا بفكرة قصف المدن الإسرائيلية بصواريخ حاملة لرؤوس كيميائية. فالكثير من اليهود اللبراليين ممن كانوا نشطاء سلام أوقفوا الاتصالات مع الفلسطينيين، وراحت مجموعاتُ الحوار تخبو شيئًا فشيئًا، حتى إن أحد قادة المعسكر المؤيد للسلام مع الفلسطينيين كتب في مقال صحفيٍّ شهير: "إذا أتوا الآن وطلبوني فلن يجدوني"[2]، قاصدًا أنه وضع حدًّا لمحاولته "التودد" إلى الفلسطينيين.

كان هذا هو السياق الذي تفجَّر فيه العنفُ أخيرًا، في 8 تشرين الأول 1990، عن تمرد عند جبل الهيكل في قلب القدس، حيث أمطر الفلسطينيون المتعبِّدين اليهودَ بوابل من الحجارة عند الحائط الغربي. رميُ الحجارة كان وسيلة الفلسطينيين للحيلولة دون مجموعة من المتطرفين اليهود والوصول إلى المسجدين على جبل الهيكل الذي تقدسه الديانتان كلتاهما. وسرعان ما ردت الشرطة الإسرائيلية بإطلاق النار على حشود رماة الحجارة، فقتلت 18 فلسطينيًّا وجرحت 150 آخرين – وهي، بلغة ملطَّفة، ردة فعل وحشية مفرطة. لم يستهن أحدٌ بما حدث، بل إن بعض الفلسطينيين فتشوا عن وسيلة للثأر. وسرعان ما حصل: قُتِلَ ثلاثة يهود طعنًا بالسكاكين في حيٍّ هادئ من أحياء القدس واثنان آخران في شمال إسرائيل. ثم بدا أن القنابل تنفجر في كلِّ مكان. ووسط هذا الاهتياج، اغتيل الحاخامُ العنصري كاهانِ في نيويورك.

وتصاعَد العنف. فمائير كاهانِ، اليهودي النيويوركي الذي غذى سعير الكراهية بين اليهود والسود، ثم يمَّم عنصريته شطر الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، جُندِلَ برصاص أحد الفلسطينيين، فهاجت عصابات كاهانِ في إسرائيل طلبًا للانتقام. تبادل الطرفان رمي الحجارة، واقتنى اليهودُ أسلحةً ناريةً واستخدموها، بينما شهر العربُ سكاكينهم، حتى لم يعد في إمكان المرء الذهاب إلى السوق في القدس دون أن يتوجس خشيةً ممن يقف إلى جانبه يشتري البندورة.

نُقِلَ جثمان كاهانِ بالطائرة إلى إسرائيل لإقامة الجنازة التي حُدِّد يومُ أربعاء موعدًا لها في القدس. كان يومًا مشئومًا، حيث صال في المدينة وجال مراهقون مشبعون بتعصب كاهانِ بحثًا عن عرب لإيقاع الأذى بهم. ولطالما تعرَّضتْ دورية رقابة "نساء بالسواد" أيام الجُمَع لاعتداءات من عصابات كاهانِ؛ لذا تساءلنا عما سيخلِّفه مقتلُ كاهانِ من أثر علينا. فيما مضى، تلقَّت العديدات من "نساء بالسواد" تهديداتٍ بالموت من جماعة كاهانِ، كما أفاق بعض نشطاء السلام ليلاً ليجدوا أبواب منازلهم تحترق. وذات مرة، كان كاهانِ قد بعث بعصاباته للاعتداء على دورية الرقابة، فانتهى الأمرُ إلى هرج من ضرب الهراوات والغاز المسيل للدموع. سبع منا كنَّ على "قائمة الاغتيال" الكاهانية، وعناوينهن وأرقام هواتفهن منشورة على الملأ لكي يستفيد منها مَن هبَّ ودبَّ من الإرهابيين المأجورين المتحمِّسين. فكيف يمكن لموت هذا الرجل الطافح كراهيةً أن يؤثِّر في حياتنا؟

في اليوم الذي تلا الجنازة استُدعيتْ "نساء بالسواد" لمقابلة رحَميم كومفورت، مفوض شرطة منطقة أورشليم. رحميم بالعبرية تعني "رحمة". "رحمة كومفورت"[3]: هو ليس بالاسم السيئ لرجل شرطة! ذهبتْ خمسٌ منا، واقتادونا إلى مكتبه، حيث وجدناه جالسًا من غير تكلُّف خلف مكتب كبير. أشار لنا بالجلوس على مقاعد مواجِهَة لمكتبه.

استهلَّ المفوض حديثه بنبرة رزينة: "أنا هنا لكي أطلب منكن إلغاء دورية الرقابة غدًا. لا آمركن بعدم التظاهر؛ فهذا حقكنَّ. لكنني أُعلِمُكنَّ بأن هناك فرصةً لأنْ تتعرَّضن للعنف غدًا أكبر من أي يوم جمعة آخر."

وقد لفت الانتباه إلى "الذكريات" المزمع أن يحتفل بها مختلفُ المتطرفين في اليوم التالي: شهر على مجزرة جبل الهيكل؛ أسبوعان على حادثة طعن الإسرائيليين في القدس؛ الاحتفال الشهري بيوم بدء الانتفاضة؛ والآن فترة الحداد الشعائرية على كاهانِ، الذي هدَّد مشايعوه بإحياء ذكراه طوال سبعةَ أيام من العنف ضد العرب و"الخونة" – دعاة السلام اليهود من أمثالنا. طلب منا المفوض، من أجل سلامتنا، أن نلغي الوقفة الاحتجاجية في اليوم التالي، وأن ندع يوم الجمعة هذا بعينه يمر على خير. قال إنه تلقى تقارير عن مؤامرات تُحاك للاعتداء علينا، وإنه لا يستطيع ضمان سلامتنا. لم تكن الصورة التي عرضها لنا بالصورة المشجِّعة. قال متذرعًا: "فقط هذه المرة."

أتذكر جلوسي هناك مع النسوة الأخريات – وكلهن نصيرات راسخات الإيمان بدوريات الرقابة – لكننا كنَّا نتنحنح متلعثمات. لم يكن من السهل علينا شرح هذا الأمر لمفوض شرطة، لكنْ لم يكن ثمة مفرٌّ من المحاولة.

بادرت عناة هوفمان إلى الكلام، فأخبرت المفوض أن "نساء بالسواد" هو تجمُّع بلا قيادة رسمية وأننا لا نستطيع اتخاذ قرارات بالنيابة عن المجموعة. بدا الأمر بسيطًا جدًّا حين قالتْه، لكنْ تبيَّن أنه مفهوم يصعُب على مفوض شرطة أن يستوعبه. أجل، إنها مجموعة ذات التزام كبير ونشاطات منظَّمة، لكنْ لا، لا قيادة رسمية عندنا. أدلينا جميعًا بدلونا وحاولنا أن نشرح، لكنه لم يستوعب الأمر، وكنتُ على يقين من أننا نُشبِعُ فكرته النمطية عن النساء الضعيفات المترددات – لكن ما كانت باليد حيلة.

أخيرًا، وضعنا التفسيرات جانبًا وانتقلنا إلى الجزم. قلنا للمفوض إن واجب الشرطة حماية المهدد بالاعتداء، لا ترك الشوارع نهبًا للمجرمين. وأتذكر أن حيا شالوم ذكرتْ أن النساء، قياسًا، حقيقاتٌ أن يُحمَينَ من الاغتصاب، لا أن يؤمرن بالابتعاد عن الشوارع! لعل كومفورت رجل لمَّاح جدًّا، لكنه لم يستوعب الأمر مطلقًا، حتى أُسقِطَ في يدنا أخيرًا. وعدناه بأن ننقل كلامه إلى أخواتنا الرقيبات في القدس، لكننا لم نستطع أن نعده بأكثر. لم تَرُقْ له إجاباتُنا، لكنها كانت أفضل ما نستطيع.

غادرتُ مركز الشرطة مصدومةً بما سمعتُ من المفوض. طوال ثلاث سنوات من الرقابة ارتسمتْ في ذهني صورةُ أحدهم يقود سيارة على مقربة منا ويقذفنا برمانة يدوية، مثلما ألقى متطرِّف يميني يهودي قبلئذٍ بسبع سنوات في مظاهرة أخرى للسلام في القدس برمانة، فأودت بحياة شخص وجرحت العديد من الآخرين. وقد انتزعت "نساء بالسواد" نصيبًا أكبر من العداء من غيرها من مجموعات السلام، ربما لكونهن نساء.

اجتمعنا في الشارع الريحي خارج مبنى الشرطة، وخطَّطنا لتفعيل شبكة هواتف "نساء بالسواد" والاتصال بأكبر عدد من النساء يمكن تبليغهن تلك الليلة. واتفقنا على نقل رسالة المفوض نقلاً أمينًا، بكلِّ تحذيراته المشئومة، وعلى إضافة أن حضور وقفة الاحتجاج في اليوم التالي قرار شخصي على كلِّ امرأة أن تتخذه بنفسها. تفرقنا، فشعرت بوطأة هائلة على صدري وأنا أغادر المكان. وفي البيت، أجريت الاتصال الذي أطلق الشبكة الهاتفية، ثم صرفتُ الأمسية أنقِّب في خواطري.

وأنا في عملي في اليوم التالي، ظلت عيناي شاخصتين في ساعة الدوام طوال الصباح، في انتظار الواحدة بعد الظهر، للالتحاق بدورية الرقابة، مسكونةً بهواجس الشر كعهدي أبدًا. وعند الواحدة إلا ربعًا، غادرتُ مكتبي مرتديةً الأسود وتوجَّهت نزولاً إلى شارع رامبان، متلفِّتة خلفي طوال الطريق تحسُّبًا. وعندما بلغت ساحة باريس، ميدان رقابتنا التقليدي، وجدتها طافحة بمناصري كاهانِ لابسين قمصانهم الصفراء، وعليها رمز القبضة، وهم يصيحون ويومئون إلى كلِّ شيء يسير على مقربة ويظهر لهم أشبه بهيئة يجتمع فيها السواد والأنوثة. درت حول الميدان وتوجهت إلى موقعنا البديل القريب. ولدهشتي، كانت مجموعة صغيرة من النساء قد تجمَّعن، والتجهم بادٍ على وجوههن.

حملنا لافتات "أنهوا الاحتلال" وشكلنا صفًّا على طول الحاجز المقابل لشارع الملك جورج، أحد شرايين القدس الرئيسية. كان حوالى ثلاثين من ضباط الشرطة قد سبق أن تجمعوا على مقربة منا. نظرنا، نحن النساء، في خوف بعضنا إلى بعض. وقفت إيثل إلى جانبي، وقالت كل منا للأخرى في هدوء وإيجاز إنها جَزِعَة. قالت إحدى النساء إنها طلبت من ابنتها ألا تأتي اليوم. وقالت أخرى إن علينا ألا نُخْلي الشوارع لقطاع الطرق. وأخرى قالت جهرةً إنها مرعوبة. نظرنا جميعًا بعضنا إلى بعض. أعتقد أننا جميعًا كنا نشاطرها الرأي.

في أيام الجمع العادية، يمكن للنساء أن تمشين الهوينى في أي مكان إبان نصف الساعة الأول من وقفات الاحتجاج؛ لكن "نصابنا" لا يكتمل إلا في النصف الثاني من الوقفة. يوم الجمعة ذاك كان مختلفًا. ففي غضون 15 دقيقة، لم يكتمل النصاب وحسب، بل كانت هناك من النساء أكثر ممن يأتين عادة. يا للعجب! جميعنا، وقلوبنا تقفز من حناجرنا، واجمات أكثر من أية مرة سابقة في وقفاتنا الاحتجاجية، لكن بإصرار لا يقوى على زجره متنمِّرون. همستْ إيثل في أذني: "يا لها من مجموعة!" – وهو ما تصادى مع ما كان يعتمل في ذهني. تلقينا سيل الشتائم والإيماءات الفاحشة المعتاد من السابلة ("عاهرات!" "عودوا إلى مطابخكن!")، لكن الشرطة أبقت أشقياء كاهانِ بعيدين عنا خمسين مترًا. ألقى أناسٌ أشياء من سياراتهم، لكنْ لم ينفجر شيء. وواصلت النسوةُ وقوفهن في إباء.

وتساءلتُ: كيف سلكنا هذه الطريق؟ كيف تحوَّلنا تدريجيًّا من مدرِّسات، عاملات اجتماعيات، سكرتيرات، موظفات إداريات، وربَّات منزل عاديات إلى نساء بهذه الشجاعة؟ لقد سبق لنا أن استمددنا من دوريات الرقابة جرعةً من الشجاعة أكبر مما سلبتْنا إياه إرهاقًا. وفكَّرت مرة أخرى: يا لها من مجموعة!

مجموعة من "نساء بالسواد" في وقفة احتجاج (عدسة: يائير غيل).

تحفل مجموعات السلام اليهودية التي تشكَّلتْ في إسرائيل في أثناء سنوات الانتفاضة بالكثير من قصص العمل والإخلاص. غير أن لـ"نساء بالأسود" قصةً خاصة: هي ليست قصة شَجاعة عند الملمات فحسب، بل قصة أخوات – على الرغم من الخصومات السياسية – وقصة دأب: دأب بات رمزًا لكلِّ مَن تاق للسلام في الشرق الأوسط – فلسطينيين وإسرائيليين وحلفاء. وبالتالي، مع كل ما يليق من احترام وإعجاب بجميع الذين كرَّسوا أنفسهم للسلام في الشرق الأوسط، فإن قصة "نساء بالسواد" هي التي أود أن أرويها في هذا الكتاب.

* * *

ترجمة: غياث جازي

مراجَعة: ديمتري أڤييرينوس


[1] مقدمة كتاب للناشطة الإسرائيلية من أجل السلام غيلا سفيرسكي بعنوان: ذودًا عن السلام: قصة نساء بالسواد في إسرائيل، 1996، ستعمل معابر على نشره تباعًا بالاتفاق مع المؤلِّفة. (المحرِّر)

[2] يوسي ساريد، "لا تطلبوني"، هاآرتس، 17 آب 1990.

[3] "كومفورت" comfort تعني بالإنكليزية "سلوى" أو "راحة". (المحرِّر)

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود