|
إبستمولوجيا
نعيش في عالم من العجائب: عالمٍ أعجب عجائبه
أنه كوَّننا، حتَّى صار عالمًا عجيبًا آخر
كوَّناه نحن – ومازلنا نفعل. يدهشني كثيرًا
أن الناس، بسبب العادة ربما، باتوا يفتقدون
على نحو كبير حسَّ الاندهاش. أليس غريبًا أن
شروق الشمس كلَّ يوم ودورة القمر كلَّ شهر
قمري ونجوم السماء (التي ما عادت تُرى كثيرًا
على كلِّ حال)، وأن الأشجار والأنهار
والجداول، وأن العصافير والطيور والحيوانات
المختلفة، وأن الصخور والجبال والحجارة، وأن
كلَّ ما صَنَعَه الإنسانُ أيضًا، لم يعد مصدر
دهشة؟ أليس غريبًا أننا لا نُدهَش لطيران
الطائرة ولنور المصباح الكهربائي؟! فإذا كان
يمكن لآيات الطبيعة ألا تكون مبعث دهشة لأنها
موجودةٌ أبدًا ولأننا اعتدنا على وجودها منذ
صغرنا، فكيف لا نُدهَش لروائع أعمال الإنسان؟ لا نتناول
في هذا البحث مشكلة التوقيت أو التقويم، لكن
حديثنا سيتركز على مفهوم الزمن. ولإيضاح
الفارق بينهما، نسوق المثال التالي عن
التوقيت: من المعروف أن الوحدة الأساسية
البنيوية في الكون هي المجرة؛ والمجرة galaxy
هي تجمُّعٌ من عدة مئات من آلاف ملايين النجوم.
أما النجم فهو الجسم الكوني الذي يطلق طاقته
من ذاته بفعل التفاعلات النووية الاندماجية
في باطنه. على أن ما يهمنا هنا هي الكيفية التي
تموت النجوم وفقًا لها. ففي أحد النماذج ينفجر
النجم في نهاية حياته انفجارًا مأساويًّا
هائلاً، في ما يُعرَف بـ"المتجدِّد الجبار"
Supernova،
ويضيء كلَّ المجرة التي ينتمي إليها، حتى يصل
إشعاعُه إلى أقاصي الكون. إضافة أخرى لا بدَّ
منها، تتعلق بواحدة لقياس المسافات في الكون
هي السنة الضوئية. إن السنة الضوئية، لا
كما قد يوحي المصطلح للوهلة الأولى، هي واحدة
لقياس المسافة؛ وهي تساوي المسافة التي
يقطعها الضوءُ خلال سنة زمنية كاملة، مرتحلاً
بسرعته المعهودة البالغة 300,000 كم/ثا. إبان العقود الثلاثة الأولى من
القرن العشرين، أدَّت الفيزياء الذرية وما
تحت الذرية subatomic
إلى إعادة نظر جذرية في العديد من المفاهيم
والأفكار الأساسية عن الواقع، الأمر الذي
أحدث تغييرًا عميقًا في نظرتنا إلى العالم: من
نظرة ديكارت ونيوتن الآلتية mechanistic إلى نظرة كلانية holistic وإيكولوجية – نظرة تبيَّن
أنها شديدة التساوق مع نظرات الحكماء
والصوفية من العصور والمنقولات كافة. بيد أن قبول الفيزيائيين
للنظرة الجديدة إلى الواقع في بداية القرن
العشرين لم يكن سهلاً من أيِّ وجه. فقد
وَضَعَهم استكشاف العالم الذري وما تحت الذري
على تماس مع واقع غريب وغير متوقَّع. ففي
كدحهم من أجل القبض على هذا الواقع الجديد،
أدرك العلماء متألمين بأن مفاهيمهم الأساسية
ولغتهم وطريقتهم في التفكير برمتها لم تعد
صالحة لتوصيف الظواهر الذرية. لم تكن
مشكلاتهم فكرية وحسب، بل هي بمثابة أزمة
وجدانية شديدة، بل وجودية حتى، إذا جاز القول.
لكنهم، في النهاية، كوفئوا بتبصرات عميقة في
طبيعة المادة وفي علاقتها بالعقل البشري.
مستمرة...
|
|
|