|
علم نفس الأعماق
عندما
يتوازن المذكَّرُ والمؤنث تكون هناك سيولةٌ،
علاقة، دفقٌ من الطاقة، وحدةٌ، كلِّية.
ولعلَّ خير ما يوضِّح هذه السيولة والتوازن
هي الصورة الطاوية للعلاقة وللتكاملية التي
لا ينفصم عراها بين الـيِنْ والـيَنْغ.
وبعبارات أوسع، المؤنث هو النموذج الحاوي
للطاقة: قابلاً، رابطًا، لاحمًا الأشياء
بعضها إلى بعض؛ والمذكَّر هو النموذج الناشر
للطاقة: ساعيًا إلى التمدُّد والتوسع نحو ما
هو أبعد. وعلى نحو أخصٍّ، يعكسُ المؤنثُ
الحِواءَ الغريزيَّ وقيمَ العاطفة (القلب)
خاصةَ الوعي؛ بينما يعكسُ المذكَّرُ خصائصَ
السعي، وتعيين الأهداف، والتنظيم، والتمييز
خاصةَ الوعي، المرتبطة عمومًا بالذهن أو
بالعقل. ولقد عاشت النسوة آلاف السنين أقرب
إلى النموذج الأول؛ والرجال عاشوا أقرب إلى
الثاني. أما الآن فثمة دافعٌ عميق إلى
الموازنة بينهما في أنفسنا وفي ثقافتنا. ثمة
حاجة ماسَّة إلى تلطيف الإفراط الحالي في
التشديد على القيمة المذكَّرة بجهد واعٍ
لاستدماج القيمة المؤنثة.
1.
تقديم: سهاد
فتاة عزباء، مسلمة، في الخامسة والعشرين من
العمر، متوسطة القامة (162 سم) والقد. غالبًا ما
نراها ما ترتدي ثيابًا جذابة متناسقة بشكل
غير مبالغ به مع جسدها الذي يحمل معاني أنثوية
واضحة. تتحدَّر من أسرة محافظة بعض الشيء.
يعمل والدها في الجمارك ووالدتها في التعليم
الابتدائي. لها شقيقتان وشقيق: سلوى، أكبر
منها بسنتين، وسعاد، أصغر بثلاثة؛ أما وائل
فيصغرها بثلاثة عشر سنة. وجميعهم متعلِّمون.
تسكن سهاد في منزل مُكترى في بيروت، بعيدًا عن
أهلها في طرابلس، مع شقيقتها الصغيرة
وزميلتها. التقيت
بها في معرض الكتاب هذه السنة عندما اعترضتْ
انشغالي بإنهاء عمل على الحاسوب وألقت عليَّ
التحية. لم أميز في البداية فيما إذا كان
الصوت القادم من خلفي ذكريًّا أم أنثويًّا.
كانت تسريحة شعرها مرتفعة، وزينة وجهها تنم
عن ذوق رفيع، وتفوح منها رائحة عطر الباريسي.
لغتُها المفضلة للتواصل في العمل هي العربية
الممزوجة ببعض الكلمات الفرنسية؛ ويظهر هذا
خاصة عندما تريد التكلم في الأمور الحميمة. نتيجة
للتلعثم في حديثها دعوتُها لتناول فنجان قهوة
لتريح أعصابها قليلاً حتى أستطيع أن أفهم
تماما ماذا تريد من المؤسسة التي كنت أعمل بها
(مؤسسة ألعاب تربوية للأطفال). وبدا عليها
الارتباك في تصرفاتها، والتشتت في عرض مجموعة
من المواضيع دفعة واحدة. تكلَّمتْ بلهجة غير
واثقة؛ وكانت تعتمد على إظهار أنوثتها حتى
تصل إلى ما تريد، وهو أن أتبرع لها ببعض
الهدايا لصالح إدارة المعرض حيث كانت تعمل.
انتهت سريعًا من تدخين سيجارة أمريكية
وانصرفت على أن تعود بعد قليل. لم
تأتِ. وشاءت المصادفة في اليوم التالي أن
نلتقي وقت الغذاء. كانت قد انتهت من تناول
وجبتها، واقتربتْ من طاولتي، طالبة أن أشعل
لها سيجارتها. قبلت ذلك بسرور، وجلسنا لنشرب
القهوة مرة أخرى. وعندما عرفت أنني في السنة
الرابعة من دراسة علم النفس أبدت – بحسب
تعبيرها – "شوقًا للحديث مع إنسان عميق منذ
زمن طويل". أبديت موافقتي واهتمامي، خصوصًا
بعد أن طالعتْني ببعض الشكاوى الجسدية التي
تعاني منها (ربو، انخفاض في الضغط، وهن نتيجة
العمل). واتفقنا أن نلتقي عند انتهاء فترة
المعرض. أخذت رقم هاتفي ووعدتني بالاتصال بي. لم
تتصل سهاد وانقضى أسبوعان قبل أن تفاجئني
بزيارة إلى الجامعة. كانت الزيارة قصيرة
جدًّا؛ وقد بدا عليها الارتباك التام ولمسة
من الحزن تخيم على وجهها. حددت لي موعدًا،
واختارت منزلي لتخبرني عن مشاكلها وعن سبب
حزنها. رحَّبتُ باختيارها بهدوء، مع إحساسي
بجدية طلبها هذه المرة.
يؤلِّف هذا الموضوع
بين مجالين يحظيان مِن طرفي باهتمام مستديم.
فخلال حياتي كلِّها كانت للرياضة الروحية،
بمعنى الالتفات إلى العلاقة الأوسع التي
تترسَّخ فرديتي ضمنها – مع الله، أو أية
تسمية أخرى مقبولة – منزلةٌ مهمة جدًّا.
وبالمثل، فقد انخرطتُ طويلاً في العمل مع
أناس يعانون من مشكلات صحية ذهنية: أولاً
كمتطوعة لدَوْرٍ في نصرة المستفيدين من
الخدمات في أكثر من مجال، ثم، في السنوات
العشر الأخيرة، كاختصاصية نفسية إكلينيكية.
وخلال عملي كمعالِجة مع أناس يعانون من
الذهان استطعت أن أتفكَّر في التداخل بين
الذهان والروحانية، وأن أتصل بأولئك الذين
كتبوا في الأمر وبحثوا فيه. وبصفة خاصة،
اتصفتْ أطروحةُ مايك جاكسون ودراساتُه
اللاحقة التي تناولتْ بحثَه في مجال التداخل[1]
بالخصوبة؛ وكذلك كتاب بيتر تشادويك الخط
الفاصل، حيث أعانني التفكُّر في خبرته
عونًا خاصًّا في استخلاص النتائج من مرويَّات
الخبرات الصوفية النمط لدى الانهيار المبكر
التي كنت أسمعها من بعض المرضى الذين كنت أشرف
على علاجهم.
|
|
|