|
الجنون
والتصوف: إيضاح السر
إيزابيل
كلارك*
مدخل
يؤلِّف هذا الموضوع
بين مجالين يحظيان مِن طرفي باهتمام مستديم.
فخلال حياتي كلِّها كانت للرياضة الروحية،
بمعنى الالتفات إلى العلاقة الأوسع التي
تترسَّخ فرديتي ضمنها – مع الله، أو أية
تسمية أخرى مقبولة – منزلةٌ مهمة جدًّا.
وبالمثل، فقد انخرطتُ طويلاً في العمل مع
أناس يعانون من مشكلات صحية ذهنية: أولاً
كمتطوعة لدَوْرٍ في نصرة المستفيدين من
الخدمات في أكثر من مجال، ثم، في السنوات
العشر الأخيرة، كاختصاصية نفسية إكلينيكية.
وخلال عملي كمعالِجة مع أناس يعانون من
الذهان استطعت أن أتفكَّر في التداخل بين
الذهان والروحانية، وأن أتصل بأولئك الذين
كتبوا في الأمر وبحثوا فيه. وبصفة خاصة،
اتصفتْ أطروحةُ مايك جاكسون ودراساتُه
اللاحقة التي تناولتْ بحثَه في مجال التداخل[1]
بالخصوبة؛ وكذلك كتاب بيتر تشادويك الخط
الفاصل، حيث أعانني التفكُّر في خبرته
عونًا خاصًّا في استخلاص النتائج من مرويَّات
الخبرات الصوفية النمط لدى الانهيار المبكر
التي كنت أسمعها من بعض المرضى الذين كنت أشرف
على علاجهم. كنت أعمل في سياق
ممارسة المعالجة الاستعرافية للذهان الناشئة[2] التي تشتغل على
مسلَّمة الاستمرارية في التعقُّل والاهتمام
بين التفكير الذهاني وغير الذهاني. وقد
ساعدني ذلك على استخلاص "معنى الجنون"،
وبالتالي، على جعل التعاطي مع الخبرات
المحيِّرة أسلس، والحصول، في الوقت نفسه، على
تعليل عقلي تطبيعي. وما أقترح طرحَه هنا هو
توسيع لتلك المقاربة، وليس نقضًا لها بأيِّ
حال من الأحوال. إذ إن التشديد على
الاستمرارية يضيِّع عامل الانقطاع في نوعية
الخبرة بين الذهان الناشط والحياة اليومية،
الأمر الذي لم يُحسَن تعليله ضمن إطار
المعالجة الاستعرافية. غير أن بوسع غالبية
المصابين بالذهان أن يتعرفوا إلى هذا التمييز
في الحال عندما يناقَش؛ والتشديد على ذلك
التعرُّف يساعد في تنمية حسٍّ بالسيطرة. وقد
تبيَّن اختصاصيون آخرون في الحقل هذا الأمرَ
واستفادوا منه علاجيًّا؛ ومنهم، على سبيل
المثال، نايجل ميلْس، الذي يشخِّص التمييز كـ"مركِّز"
ضد "مبدَّد".[3] وفي السعي إلى فهم
هذا الانقطاع في الخبرة لا بدَّ للتوازي مع
الخبرة الصوفية والروحية من أن ينطرح.
وبقيامي بهذه الموازاة لا أريد بأيِّ حال
الإسهاب في تعليل الفوارق، أو الأسى والأذى
الحقيقيين جدًّا الناجمين في معظم الخبرات
الذهانية. ولكي أترك جانبًا، بصفة مؤقتة،
محتوى الخبرة، أود أن أطرح أن لدينا، كبشر،
سبيلين إلى طريقتين متمايزتين في ملاقاة
الواقع (الداخلي والخارجي): أولاهما إحاطتنا
اليومية السوية بالواقع، التي تمرُّ من غربال
مبانينا، وبالتالي، ذاكراتنا وتوقعاتنا.[4]
وهذه الإحاطة دقيقة، متكيِّفة تكيُّفًا
جيدًا مع الحياة اليومية، لكنها، بطبيعتها،
مقيِّدة. والثانية هي إحاطة بالكلِّ غير
مقيَّدة، تُلمَح في الخبرات الأوْجِيَّة
والإبداع، لكنْ لا يتم الغوص فيها إلا في
الخبرات الصوفية التامة، وبعض الحالات
المحرَّضة بالعقاقير، والذهان. ومثل هذه
الأحوال كثيرًا ما ينجم عنها فقدانٌ للذات في
الكلِّ الأوسع (السرمدي، الإله/الإلهة، إلخ)
أو في علاقة شديدة مع هو/هي/ذاك. النماذج
الاستعرافية
أقترح طريقتين للنظر
إلى ما يجري هنا استعرافيًّا، بهدف تحصيل فهم
أوضح للسيرورة التي تنجم عنها الغبطةُ عند
بعضهم، والرعبُ والكربُ عند بعضهم الآخر،
وكلاهما – وهذا مهم – عند بعضهم الثالث. لقد
سبق أن ذكرتُ الخبرةَ العادية بوصفها مقيَّدة
بالمباني، بالمعنى الذي قصده كِلِّي. ولقد
شخَّص بانِّستر – أحد أتباع كِلِّي –
الذهانَ كحالة من البناء غاية في التسيُّب.
ومن جانبي أقترح أن المرء، كلما دخل هذه الحال
دخولاً تامًّا، فإنه يخلَّف وراءه منظومة
المبنى في كيفية أدائها المعتادة، الدقيقة.
لذا فإني أشير إلى هذه الحال بوصفها "تتعدى
منظومة المبنى" أو "غير مبنية". ثمة طريقة أخرى لفهم
ما يجرى استعرافيًّا، وذلك بالرجوع إلى نموذج
تيسديل وبرنارد في المنظومات التحتية
الاستعرافية المتفاعلة (1993). وهذا نموذج
معالجة معلومات مركَّب للاستعراف، يستند إلى
بحث موسَّع في سيرورات الذاكرة والتفكير،
أقترح استخلاصَ عدد من عناصره الرئيسية.
ولسوف أتوفَّر هنا على اثنتين من المنظومات
التحتية وعلى مستودعات الذاكرة المرتبطة
بهما: المنظومة التضمينية والمنظومة
القضياتية. تمثِّل المنظومة التحتية
القضياتية الذهنَ المنطقيَّ، القادرَ على
التمييز الدقيق، الذي تُرمَّز محتوياتُ
ذاكرته ترميزًا لفظيًّا. وهو يستطيع أن يتخذ
نظرةً إلى الظواهر موضوعيةً، لا تنطق عن
الهوى، ويتعلَّم بهذه الطريقة الكثيرَ عن
البيئة. ولعل ثمة تَقابُل تقريبي بين هذا
الوجه من وجوه الأداء البشري والقشر الدماغي
الجديد، أي الأقسام الجديدة من المخ، مع أن
الترابطات ضمن المخ تجعل التحقُّقَ من تصريح
كهذا يكاد يكون متعذرًا. أما المنظومة
التحتية التضمينية، من جانب آخر، فتتناول
إدراك الكلِّ، وبمعنى انفعالي. ومنظومتُها
الذاكرتية ترمَّز ترميزًا حيًّا في عدة
كيفيات حواسية، واهتماماتُها ليست الدراسة
المتجردة عن الهوى للعالم الخارجي، بل دراسة
عالم الذات الداخلي، وبصفة خاصة، قيمتَه،
وكلَّ تهديد لبقائه أو منزلته. وهنا أيضًا،
ربما كانت هذه المنظومة التحتية تمثل
المستويات الأقدم والأعمق للمخ، على سبيل
التبسيط المفرط الإجمالي لموضوع مركَّب. إن مَفْهَمَة كِلِّي
تتقاطع مع مَفْهَمَة تيسديل، باعتبار أن لبَّ
مباني كِلِّي ينتمي قطعًا إلى المنظومة
التحتية التضمينية، في حين أن المزيد من
التمييزات المحيطية يتم على الصعيد القضياتي.
فبحسب نموذج تيسديل، لا يسيطر أيٌّ من هاتين
المنظومتين التحتيتين، وإنْ يكن لا غنى عن
التواصل الميسَّر بينهما من أجل أداء حسن.
وبينما يتواصل المستوى التضميني مباشرة مع
منظومة إثارة الجسم ويتأثر بها كثيرًا فإن
المنظومة القضياتية تقع على مسافة أبعد من
هذه المنطقة الانفعالية، وبالفعل، يمكنها أن
تتعطَّل مؤقتًا من جراء حالة من الإثارة
العالية. أودُّ هنا أن أطرح أن
طريقة مبسَّطة (لعلها مفرطة جدًّا في التبسيط!)
في فهم الانشعاب بين هاتين الطريقتين في
اختبار العالم بلغة المنظومات التحتية
الاستعرافية المتفاعلة يمكن أن تتم على النحو
التالي: ربما كانت الحالة اليومية، العلمية،
حالةً تعمل فيها المنظومتان التحتيتان
التضمينية والقضياتية معًا على نحوٍ لطيف
متوازن، بينما الحالة الروحية/الذهانية حالة
تكون فيها المنظومتان مفترقتين، بحيث تنقاد
المنظومة بالدرجة الأولى للمنظومة التحتية
التضمينية. إن خصائص هذه المنظومة التحتية
تتعامل مع كلِّيات نسبيًّا غير متمايزة وليس
بمقدورها أن تتدبَّر أمر التمييز الدقيق؛ فهي
مفرطة في الانفعال، وتتأرجح بين انشعابات
حادة، من نحو الغبطة والرعب، أو، بما ينبو
نوعًا ما عن مفارقة، اللاانفعال أو ما يتعدى
الانفعال. وهي مركزيًّا تتعلق بالذات
وبالتهديدات التي تتعرض لها الذات. القوة
التعليلية لهذا النموذج
أنا
على وعي من أن هذا كلَّه أدْخَل في باب
التنظير، لكن التِماسَ القوة التعليلية
للنموذج يفيد في تعليل المظاهر المحيِّرة
لكلا الأعراض الذهانية والخبرة الروحية. إن
العمل ضمن المباني، أو بين المستويين
القضياتي والتضميني، يمثل الأداء البشري
السويَّ. وتحتاج غالبية الناس إما إلى نوع من
الزعزعة وإما إلى سيرورة مصمَّمة بعناية
لنقلهم إلى حالة أخرى. وهذه قد تكون أزمةً، أو
شعيرةً أو طقسًا دينيًّا مصمَّمًا لنقل
الوعي، أو عقارًا أو رياضةً تأملية. أما الشخص
المصاب بالذهان فإن الحاجز الذي يجعل بلوغَ
هذا النوع من الخبرة عسيرًا سائبٌ إلى حدِّ
الخطر. وحيثما
يتم اجتياز الحاجز في الرياضة الروحية عادةً
ما يكون اختبارُ الكلِّ بلا وسيط اختبارَ
غبطة، على حدِّ ما نتبلَّغ. وفي ذلك أحاجِج أن
هذا الشوط حاضرٌ أحيانًا (وليس دومًا قطعًا)
في الخبرة الذهانية، يشهد على ذلك تشادويك،[5]
وقد صادفتُها في مرويَّات أناس عالجتُهم. ومن
الممكن ألا يرد ذكرُها في الأدبيات إلا
لمامًا بسبب قلة الاكتراث بالسؤال عنها في
المقابلات المتعارَف عليها؛ وإسقاطُ الخبرات
ذات المغزى الشخصي، باعتبارها من ظواهر المرض
أو من إنذارات وقوعه، لا بدَّ أن ينزع إلى كبت
الإفصاح عنها. غير أني على بيِّنة بالقدر نفسه
من أن العديد من الانهيارات الذهانية لا
تمرُّ عِبْرَ شوط الغبطة هذا. فالخبرة
المميِّزة للذهان يمكن أن تُفهَم بلغة فَقْدِ
المَعالِم بسبب الانحراف خارج متناوَل
منظومة المبنى. وإن الخاصية اللازمنية للخبرة
الصوفية التي كثيرًا ما يَرِدُ ذكرُها تبيِّن
أن الزمن واحدٌ من المعايير التي تضيع في هذا
الانتقال. وفي حالة بلوغ الخبرة الصوفية عن
طريق الرياضة الروحية (أو، كما يحدث مرارًا،
لدى وقوعها عفويًّا، لكنْ ضمن سياق روحي يضفي
معنًى عليها في نظر المختبِر)، فإن تدبُّر
الانتقال بعد الاختبار إلى الواقع المبني يقع
عمومًا (لكنْ ليس دومًا) بصورة طبيعية بعد
فسحة زمنية قصيرة. وعندما يتم تحقيق هذه
الحالة بعينها بتعاطي عقار فإن العودة إلى
الحالة السوية تقع كذلك عندما ينتهي مفعول
العقار (ولكنْ ليس دائمًا). في
الذهان (وفي خبرات العقاقير التي تنحرف عن
مسارها، أو تغور في الذهان)، لا تحدث العودة
السوية، فيجد الأفرادُ أنفسَهم عالقين فيما
يتعدى متناوَل مبانيهم أو منظوماتهم التحتية
القضياتية، محاولين العمل في العالم؛ فلا غرو
أن يكون هذا الأمر شديد الصعوبة. فالحدود
المألوفة بين الناس والأحداث والزمن والمكان
لا تعود في متناولهم كما كانت في السابق.
عندئذٍ يبدو التخاطر سويًّا؛ فيما يستطيع
أناس آخرون قراءة أفكار الفرد، لا بل – وهذا
هو الأسوأ – التدخل في هذه الأفكار. وتتكاثر
المصادفات – كلُّ شيء مترابط وكلُّ شيء فاقد
الترابُط؛ كلُّ شيء ممكن ولا شيء ممكن. وإذا
كان هذا الواقع الجديد باعثًا على الحبور إلى
حين قصير فإن الخبرة المتواصلة تصيِّره
مرعبًا: يحاول مكابدُه اليائس أن يعلِّل
البيئة غير المألوفة، متشبثًا بأية ارتباطات
تُتاح له. وبهذه الطريقة تولد التوهُّمات،
التي عادةً ما تعود بأصلها إلى المرحلة
المبكرة للانهيار. وعند امرئ آخر يُختبَر
انحلالُ الحدود المعتادة والاهتمامات
الداخلية بوصفه اتصالاً خارجيًّا، فيسمع
الشخص أصواتًا. وبذلك يتشوَّش التفكير
السويُّ – أو، على حدِّ تعبير الطبيب النفسي،
يختل. منطق
اللامنطق بدأت
في الفقرة السابقة ترسيم الطريقة التي يحاول
بها المرء الذي يواجه الواقع بدون توسُّط
منظومة المبنى، أو بدون الاستفادة من
المنظومة القضياتية، تعليلَ هذا الواقع. وفي
كلا المادة الذهانية ومرويَّات الخبرة
الروحية والخواطر الدينية من مختلف الأديان
يمكن تمييز منطق موازٍ مختلف بشكل ملفت للنظر
عن المنطق المطبوع والعلمي، وكثيرًا ما يكون
مناقضًا له. ولعل هذا المنطق الموازي كان
ومازال يُفهَم ويُستعمَل في ثقافات أخرى وفي
أزمنة سابقة. وربما يعود هذا إلى كوننا قد
اكتسبنا، عِبْرَ العلم، سيطرةً غير مسبوقة
على العالم المادي، وأوجدْنا لأنفسنا، في
الشمال الموسِر على الأقل، راحةً وأمانًا
أعظم من اللذين عرفهما أسلافُنا. لقد بلغ
منطقُ العلم من كشف الأسرار مبلغًا جعلنا
نحطُّ من شأن منطقة الخبرة الإنسانية
برمَّتها التي تقع فيما يتعدى متناوَل منطقه.
وأقترح هنا أن لهذه المنطقة الأخرى منطقَها
الخاص، الذي يفرض نفسه أكثر حتى، وإنْ يكن
الإمساكُ به أصعب. إنه
منطق الأنماط البدئية؛ منطق الأساطير
والحكايات – المليء بالمفارقات وحسِّ السر.
العلم يميِّز: الأشياء تكون "إما ... وإما".
أما في ذلك العالم فيمكن لشيئين متناقضين أن
يكونا صحيحين في آنٍ واحد: عالم " كِلا ... و
...". في القَصَص النمطي البدئي، من نحو
حكايات الجنِّ التراثية، يُضفى على عتبات
العبور العادية في كلِّ حياة إنسانية، مثل
مغادرة المنزل "سعيًا وراء الحظ"، والحب
والزواج، والموت، مغزًى كونيٌّ. فللفرد في
المسيحية، وكذلك في غالبية المنقولات
الدينية، قيمةٌ جليلة وتافهة في آنٍ واحد في
سياق الكلِّ: الله قصيٌّ ومتعالٍ ومهتم
بالفرد في الآن نفسه. إن
بالإمكان التبسُّط في هذه المفارقات إلى ما
لا نهاية. وثمة هنا توازٍ ملفت مع سمة مميزة من
سمات الخبرة الذهانية. فيقين المرء بأهميته
الشخصية العظيمة – بأنه يسوع المسيح أو متصل
بالملكة، على سبيل المثال – عنصرٌ مشترك بين
المنظومات التوهُّمية، على حدٍّ سواء مع
اليقين بالتفاهة الشخصية، التي كثيرًا ما
تتعزَّزُ بالهلوسات السمعية التي تحطُّ من
شأنه. والثيمة المشتركة هنا تخص الذات، وموقع
الذات في الأسرة، في المجتمع، وفي الكوسموس.
فمبنى الذات من بين المفاهيم التي لا بدَّ من
ضياعها في العبور، الأمر الذي يمكن أن يقود
إلى شعور منعِش بالوحدة والترابط، بقدر ما
يقود إلى الحيرة وضياع الذات. وإن ثيمة الذات
ترتبط بالاهتمام المركزي للـ"منظومة
التحتية التضمينية" لتيسديل، المذكورة
أعلاه، الذي هو الذات وقيمتها والمخاطر التي
تتهددها. وفي وسعي أن أحاجج هنا أن الثيمات
التي تتصف بها المادة الذهانية، سواء على
هيئة أصوات أو توهُّمات، تتعلق بقضايا قيمة
الذات، والمقبولية، والجنس، والأهمية
الشخصية – التي تمتُّ جميعًا بصلة إلى فهم
الذات. والمفارقة التي يتصف بها منطق ما يتعدى
المباني هي أهمية الذات وتفاهتها في آن واحد. هذا
الأمر، في المنقولات الدينية، سرٌّ ينبغي
التفكُّر فيه؛ وهو يُختبَر اختبارًا سويًّا
كعنصر إيجابي، سواء على هيئة نفي الذات في
البوذية، أو التأكيد المسيحي على محبة الله
للفرد. وهذه الأفكار تختلف عن الثيمات
الذهانية في حذاقتها ومرونتها بالأحرى، وليس
في مضمونها. فالتوهُّمات المهيبة تتثبَّت على
الأهمية الجليلة للذات، بينما الأصوات
الاضطهادية تشنِّع وتسحق. والفرد نفسه يمكن
أن يختبر كليهما، لكنهما لا يوضَعان نوعًا ما
على الكفة نفسها من الميزان. وإني لأتفق مع
الكتَّاب العديدين، بمن فيهم لينغ وبيتر
تشادويك (المذكور سابقًا)، الذين يقترحون أن
صحَّة ذات الفرد الذي يكابد الخبرة أو عدمَها
تنبئ إن كان الأمر حدثًا مؤقتًا، داعمًا
للحياة، روحيًّا، أو انهيارًا ذهانيًّا
مؤذِيًا، ليس منه مخرجٌ سهل. وضع
النموذج في نصابه الصحيح لا
ينفي هذا النموذج عن هذه الظواهر مظهرًا
جسمانيًّا من خلال اختلالٍ ما في أداء المخ.
ففي حالة تعاطي العقاقير، هناك سبب فيزيائي
بسيط؛ وبالفعل يمكن لبعض الرياضات النسكية،
مثل الصوم، أن توجِدَ شرطًا فيزيائيًّا
أوليًّا للأحوال الصوفية في سياق الرياضة
الروحية. وهذا النموذج يقدِّم فهمًا
نفسانيًّا متمِّمًا لخبرة الشخص الذي يعاني
من الذهان، بوصفه شخصًا يحاول أن يعلِّل
العالم، شأنه في ذلك شأن البشر جميعًا، لكنْ
مع زوال المَعالِم. وهذا يندرج في تقليد تطبيع
بسط الأعراض الذهانية في المعالجة
الاستعرافية للذهان. وبالفعل فإن التشديد على
التداخل مع الخبرة الروحية يستقدِم الذهان من
المنطقة الباردة للغريب وغير القابل للفهم
التي كان يؤول إليها. وإن أمِّية مجتمعنا
البارزة في مجال الخبرة الروحية يسهم بقسط في
المزيد من عزل الشخص المصاب بالذهان. ويلحظ
ريتشارد وورنِر[6]
أنه في المجتمعات التي تثمَّن فيها خبرةُ
العالَم الروحي/الذهاني يكون إنذارُ الأناس
الذين يشخَّص عندهم فصامٌ أحسن بكثير منه في
المجتمع الغربي. وهذا البحث يثبت صحة أهمية
سياق روحي وثقافي متعاطِف في تحديد نتيجة
المواجهة مع غير المبني، سواء سُمِّي خبرة
روحية أو ذهانًا، تصوفًا أم جنونًا. سأختتم
بالقول إن هذه الطريقة في النظر إلى الأمور
تترتب عنها نتائج على سحب المعرفة على
الانقطاع – أي على الروحي والفائق للطبيعة.
وقد سبق لي أن رسمت الخطوط العريضة لنمط
المنطق الذي أراه يمت بصلة إلى هذه الناحية:
منطق "كِلا ... و ..."، وليس "إما ... وإما".
فإذا تمَّ تبنِّي هذا المنظور، يتطلب
استقصاءُ غير المبني متابعةً باستبقاء هذا
المنطق في الذهن، بكلِّ ما يترتب عنه من
مؤقتية ومفارَقية جذريتين. أما البسط الأوسع
لهذا الموضوع فهو يخرج عن نطاق هذا البحث. ***
*** *** *
إيزابيل كلارك اختصاصية نفسية إكلينيكية
ممارِسة في جناح الصحة، قسم المعالجات
النفسية وقسم إعادة التأهيل في ساوثامبتون.
(المحرر) [1]
جاكسون 1997. [2]
راجع مثلاً تشادويك وآخرون 1996 وكنغدُن
وتوركنغتُن 1994. [3]
ميلْس 1997. [4]
من أجل عرض واضح لنظرية كِلِّي في المنشآت
راجع: بانِّستر وفرانسيلا 1971. [5]
تشادويك 1002 و1997. [6]
الشفاء من الفصام
1985. |
|
|