فتاة تخشى الزواج

أنوثة مكتسبة وخوف من القضيب

 

أحمد الأغر جديد

 

المقدمة

1. تقديم:

سهاد فتاة عزباء، مسلمة، في الخامسة والعشرين من العمر، متوسطة القامة (162 سم) والقد. غالبًا ما نراها ما ترتدي ثيابًا جذابة متناسقة بشكل غير مبالغ به مع جسدها الذي يحمل معاني أنثوية واضحة. تتحدَّر من أسرة محافظة بعض الشيء. يعمل والدها في الجمارك ووالدتها في التعليم الابتدائي. لها شقيقتان وشقيق: سلوى، أكبر منها بسنتين، وسعاد، أصغر بثلاثة؛ أما وائل فيصغرها بثلاثة عشر سنة. وجميعهم متعلِّمون. تسكن سهاد في منزل مُكترى في بيروت، بعيدًا عن أهلها في طرابلس، مع شقيقتها الصغيرة وزميلتها.

التقيت بها في معرض الكتاب هذه السنة عندما اعترضتْ انشغالي بإنهاء عمل على الحاسوب وألقت عليَّ التحية. لم أميز في البداية فيما إذا كان الصوت القادم من خلفي ذكريًّا أم أنثويًّا. كانت تسريحة شعرها مرتفعة، وزينة وجهها تنم عن ذوق رفيع، وتفوح منها رائحة عطر الباريسي. لغتُها المفضلة للتواصل في العمل هي العربية الممزوجة ببعض الكلمات الفرنسية؛ ويظهر هذا خاصة عندما تريد التكلم في الأمور الحميمة.

نتيجة للتلعثم في حديثها دعوتُها لتناول فنجان قهوة لتريح أعصابها قليلاً حتى أستطيع أن أفهم تماما ماذا تريد من المؤسسة التي كنت أعمل بها (مؤسسة ألعاب تربوية للأطفال). وبدا عليها الارتباك في تصرفاتها، والتشتت في عرض مجموعة من المواضيع دفعة واحدة. تكلَّمتْ بلهجة غير واثقة؛ وكانت تعتمد على إظهار أنوثتها حتى تصل إلى ما تريد، وهو أن أتبرع لها ببعض الهدايا لصالح إدارة المعرض حيث كانت تعمل. انتهت سريعًا من تدخين سيجارة أمريكية وانصرفت على أن تعود بعد قليل.

لم تأتِ. وشاءت المصادفة في اليوم التالي أن نلتقي وقت الغذاء. كانت قد انتهت من تناول وجبتها، واقتربتْ من طاولتي، طالبة أن أشعل لها سيجارتها. قبلت ذلك بسرور، وجلسنا لنشرب القهوة مرة أخرى. وعندما عرفت أنني في السنة الرابعة من دراسة علم النفس أبدت – بحسب تعبيرها – "شوقًا للحديث مع إنسان عميق منذ زمن طويل". أبديت موافقتي واهتمامي، خصوصًا بعد أن طالعتْني ببعض الشكاوى الجسدية التي تعاني منها (ربو، انخفاض في الضغط، وهن نتيجة العمل). واتفقنا أن نلتقي عند انتهاء فترة المعرض. أخذت رقم هاتفي ووعدتني بالاتصال بي.

لم تتصل سهاد وانقضى أسبوعان قبل أن تفاجئني بزيارة إلى الجامعة. كانت الزيارة قصيرة جدًّا؛ وقد بدا عليها الارتباك التام ولمسة من الحزن تخيم على وجهها. حددت لي موعدًا، واختارت منزلي لتخبرني عن مشاكلها وعن سبب حزنها. رحَّبتُ باختيارها بهدوء، مع إحساسي بجدية طلبها هذه المرة.

2. تقنية الالتماس:

لقد كان اختياري لتقنية كارل روجرز في الالتماس مبنيًّا على عدة أمور: فالعميلة سهاد قد اختارت بنفسها أن تأتي إلى الاستشارة؛ كما أنني لاحظت لديها ارتباكًا في تصرفاتها، وتوقعت، نتيجة لذلك، أن هذه التقنية (التي تسمح للعميل بالتعبير الحرِّ المباشر عن مشاكله ومشاعره) قد تساعدها في تفريغ التوتر والارتباك، لا سيما وأن الثقة التي أبدتْها في اختيارها الحرِّ لمنزلي لإجراء المقابلات قد فتحت بابًا للثقة المطلوبة بين المعالج أو الملتمس–العميل. ومن جانبي، لم أشأ أن أغلق هذا الباب، أو أن أستغل الضعف الذي بدا عليها عند قدومها إلى جامعتي، باتباعي تقنية تُشعِر العميل بأنه أكثر ضعفًا. كما أن التناسق والتناغم الخارجي في مظهرها قد أوحى إليَّ برغبة في داخلها لحدوث مثل هذا التناغم في شخصيتها. إن هذه الرغبة داخلها في التناغم والتنظيم هي مفتاح أساسي للعلاج، بحسب تقنية روجرز: إنها توازي الرغبة في العلاج، التي هي بداية العلاج فعلاً. بدت سهاد متحررة نوعًا ما؛ ولذلك قد ترفض أن يطبَّق عليها علاجٌ يكون فيه المعالِج أو الملتمَس ممثلاً – بشكل قوي – للسلطة الأبوية أو الاجتماعية. "وشوقها للحديث مع إنسان عميق منذ زمن طويل" دليل على أنها ربما لا تجد في معارفها وأصدقائها من يصغي إليها ويستمع إلى حديثها؛ وهذه التقنية تعطي، مع الوقت، اطمئنانًا لدى العميل بأن كلامه مُصغى إليه، مما قد يساعده أكثر في التعبير عن مشاعره. ولهذا أيضًا كان اختياري لهذه التقنية.

اللقاء الأول – المشاكل والصعوبات التي واجهتني خلال الدراسة:

 قبل أن أتحدث عن الصعوبات والمشاكل، سأتحدث عن اللقاء الأول الذي ابتدأت معه هذه الصعوبات. لم تتأخر العميلة عن موعد اللقاء سوى بضع دقائق. دخلت وقد بدا عليها الحياد. رحَّبتُ بها، وطلبتُ أن نبدأ الجلسة. قمت بعرض لبعض الشروط (دون أن أسميها "شروطًا"، إنما أشياء يجب معرفتها): فهي حرة في اختيار مواضيعها وعرض مشاكلها والتعبير عن مشاعرها؛ ومهمتي ستقتصر على سماع وتسجيل ما تقول – لأنني "نسَّاء" بعض الشيء، كما قلت لها – كما أني غير معني بإعطاء الأحكام والآراء الاجتماعية الخلقية السلبية أو الإيجابية. أخبرتُها أن مدة الجلسة هي في حدود الساعة، وطلبت منها الجلوس أمام الطاولة، وجلست بشكل يتقاطع مع جلستها، ورفضت أن أسجل عبر آلة تسجيل، مفضلاً أن أكتب.

بدأت الجلسة بسؤال مني عن أيِّ شيء تريد أن تخبرني إياه؟ وبسرعة كان جوابها معبِّرًا عن انزعاجها من التدخين: "إنه بيخنقني وعم بيزيد من حالة الربو عندي" – رغم أنها ابتدأت بإشعال سيجارة. كما عبَّرتْ عن فشلها في التوقف عنه، أو حتى التخفيف منه، كلما قررت ذلك: "وبصير بزيده كلما أحسست بحزن وزعل." توقفت قليلاً، ثم أضافت" "زاد تدخيني من وقت ما بدأت أحكي مع عفيف." استفسرتُ عمَّن هو عفيف هذا. وهنا انطلقتْ في الحديث عنه حتى نهاية اللقاء حديثًا مشحونًا بشحنات عاطفية انفعالية، تخلَّله الكثير من الشرود والوصف والتأمل وبعض الإحساس بالحزن. وعفيف هذا شاب جذاب جدًّا، يعمل معها في نفس المؤسسة؛ التقت به في نهاية الصيف وأُعجِبَتْ به بسرعة. وكان حديثها مركزًا على العلاقة العاطفية التي مرت بها معه، وكيف "حلمتُ فيه ورسمت له صورة كثير أكبر مما هو". ولكن "بس زرت أهله... انقلب... وعندها حسِّيت بالضياع". توقفتْ قليلاً، نظرتْ بغضب، ثم تابعت: "الفراغ اللي كنت عم أعيشه هو اللي خلاني أرسم له صورة أكبر مما يستاهل." وتابعت تفريغها لمشاعرها: "كنت فاكرته ملتزم... طلع ما بيفهم بالدين. إنسان متحفظ وبدون أي مبرر... بس لأنو بيئته البيروتية بتقول له هيك... لأجله ما باخد واحد بيروتي... وبعدين هو بيحب المَرَه اللي بالبيت؛ وأنا ما بناسبُه مثل ما قللي لأنو متحررة، وهو بيخاف من هيك بنت".

وقد استطعت أن أفهم من حديثها أن عفيف هو مَن بادر بإنهاء العلاقة عندما أخبرها أنها "لا تناسبه"، وأنها "وحدة عايشة لحالها ومتحررة كتير". وعندما تحدثت سهاد عن ذلك الأمر كان واضحًا عليها الغضب والانفعال والانزعاج، حتى إنها راحت تطفئ السيجارة بعصبية واضحة، وأخذت تراقبني كيف أكتب، وبتوتر مستمر. وأردت أن تتابع تفريغها لهذه المشاعر، فسألتها عن النتيجة. وهنا تغير موقفها من الحزن الغاضب المنفعل إلى المستهزئ؛ ولكنها تابعت التفريغ ووصفته: "هو تافه... أفرغ وأتفه مما كنت متوقعة... حتى رفقاته كلهم تافهين مثله." وأضافت بعد فترة من السكوت: "كنت متوقعة أزعل كثير، بس تاني يوم كل شي راح." وأضافت: "أنا بعرف حالي... لما بنعجب بسرعة بواحد بنسى بسرعة."

عندما انتهت سهاد من تفريغ مشاعرها بدأت بالحديث عن نفسها، مبدية ثقة واعتدادًا لا يستهان بهما بالنفس، وأضافت موضحة: "أنا بحب الشخص اللي بتعلم منه... وعفيف مش هيك أبدًا... وبعدين رفقاته كلهم من طرابلس، وأنا ما باخد واحد من طرابلس... أنا بعرف حالي منيح بس أنفر من شخص ما بعود قادرة على أنو اتحمل ريحته."

 طالت الجلسة، فأردت إنهاءها، وسألتها عما إذا كانت تريد أن تضيف شيئًا آخر. وكانت كلماتها الأخيرة تدور حول شعورها بالانتصار: "انتصرت عليه... بس قلت له أخيرًا أنو واحد تافه." انتهت الجلسة. وكان أول تعليق لديها هو استغرابها من حديثها الطويل عن عفيف، على الرغم من أن هذا الموضوع عندها "كتير تافه" – كما علَّقتْ. وكانت ردة فعلي أن قلت لها: "فلنفكر إذن في ذلك."

تأويل اللقاء الأول – الانطباع الأول:

مع أن شكوى العميلة كانت في البداية جسدية (تدخين وربو) إلا أنها لم تلبث أن استبدلت بها أخرى انفعالية (حنق وغضب من عفيف). ويحتاج الأمر إلى قليل من الملاحظة حتى نعرف أن العميلة تعاني من مشكلة في الزواج، حيث إنها أبدت رفضها القاطع لإمكانية الزواج من أيِّ شخص من بيروت ومن طرابلس – علمًا أن مجال تنقُّلها الدائم هو بين هاتين المدينتين حصرًا.

إن اعتبار الإعجاب السريع، يليه النفور السريع، خاصية من طبيعتها قد يعطينا مؤشرًا على أنها قد تعرضتْ إلى الكثير من مثل هذه العلاقات في حياتها التي تنتابها فيها المشاعر المتنافرة. إن فترة 3 أشهر غير كافية لإنسان في مثل عمرها لكي يقع في غرام شخص آخر، ثم، وبسرعة، ينقلب حبه إلى كره عظيم – إلا إذا كان هذا الإنسان نفسه يعاني من مشكلة في تنافر المشاعر في دخيلته.

وعلى عكس ما قالت في ختام اللقاء بأن موضوع عفيف كان تافهًا، سنرى، فيما بعد، كيف أن هذه الحادثة وهذا الاستغراب كان بابًا تفتحه العميلة على داخلها لفهمه وتقبُّله أكثر.

الصعوبات والمشاكل:

حتى ذلك الوقت كنت أعتقد أن الأمور تسير وستسير على ما يرام. وعلى هذا الأساس، طلبتُ منها أن تحدِّد موعدًا جديدًا. وفعلاً حدَّدتْه بعد يومين فقط. وقبلت ذلك بسرور. إلا أنني حقيقة لم أفهم لماذا لم تأتِ إلى الموعد الجديد. اتصلتُ بها مستفسرًا، فقالت إنها مريضة ولن تستطيع الخروج، وأنها أوكلت إلى شقيقتها مهمة الاتصال بي، رغم أن شقيقتها لم تتصل أبدًا.

لم أبدِ لها انزعاجي، بل طلبت منها أن تكون حريصة في المرة القادمة على إخباري بذلك بنفسها فيما لو حصل أيُّ تأخير أو إلغاء للجلسات. تجاوبتْ مع هذا الطلب وحددتْ موعدًا جديدًا في نفس الموعد الأول، أي بعد خمسة أيام.

وكما المرة السابقة، لم تأتِ سهاد. فكرتُ طويلاً قبل أن أتصل بها. ثم حسمت أمري وفعلت. وكان الجواب عندها أن لديها الكثير من العمل غير المنجز بعد، وأنها طبعًا لن تستطيع أن تأتي. أسفت لذلك، وطلبت مني أن أتصل بها بعد ساعتين حتى تكون قادرة على تحديد موعد جديد. ولكنها هذه المرة لم ترد حتى على اتصالي.

لن أخفي شعوري بالغبن وقتها. ولكنني سرعان ما استعدت توازني وفسرت هذا السلوك (تهربها) بأنها تبدي مقاومة شديدة تجاه العلاج، على عكس ما بدا عليها سابقًا. لقد أصبح من المنطقي أن نفهم أن لدى هذه الفتاة مشكلة حقيقية – وإلا لما أظهرت مثل هذه المقاومة.

فكرتُ طويلاً في معاودة الاتصال، لكنني لم أتصل، وفضلت أن أنتظر ثلاثة أسابيع، حتى عادت سهاد واتصلت مرة أخرى. استقبلتُها بمودة وعتب خفيف. طلبت أن تراني خارج المنزل في أحد المقاهي. وعندما التقيت بها حاولت أن أعرف منها سبب ما حصل. كان ردُّها بأنها شعرت بعد الجلسة شعورًا معاكسًا لما شعرتْ به من راحة داخلها – شعرت وكأن شخصًا ما (أنا) قد احتلَّها وكشف جَوَّاها. وللتخلص من هذا الشعور احتاجت إلى 3 أسابيع حتى تصبح قادرة على مناقشة الأمر معي مرة ثانية. عبَّرتْ عن انزعاجها من التسجيل الذي كنت أقوم به، والوضعية التي جلست بها؛ ولكن، في الوقت ذاته، عبَّرتْ عن أن لديها الكثير لتخبرني إياه، وأنها لا تعرف ما يجب عليها فعله. فهي لن تتقبل تكرار الجلسات، كما حصلت سابقًا. وعند سؤالي لها عن الحل أجابتْني، وكأن فكرة مهمة خطرت على بالها للتو: "دعنا نلتقي ونتكلَّم عن مشاكلي، دون أن نتقيد بتقنياتك الصعبة. ربما وقتها أشعر بالراحة أكثر وأستطيع أن أستمر." أبديتُ موافقتي، على الرغم من أنني أعرف أن ذلك أمر عسير عليَّ؛ ولكنه كان السبيل الوحيد لجعلها تستمر في الحديث. واتفقنا على موعد، في منزلها هذه المرة. ولم أتأخر عليه.

اللقاء الثاني:

استقبلتني سهاد بخليط من الحذر والترحيب، وقد بدا عليها بعض التوتر. وبعد جملة قصيرة من الأحاديث العامة، بدأت سهاد تخبرني أن هناك شخصًا اسمه خليل (وهنا سأسميه أنا خليل الأول) قد تقدم للزواج منها منذ عشرة أيام تقريبًا. بدا عليها بعض التردد والتوتر. حثثتها على متابعة الحديث فقلت: "وماذا أيضًا؟" وهنا استطردتْ في شرح علاقتها القديمة به، وقالت واصفة اياه: "إنه شيعي... لطيف جدًّا، حتى إنه بليد... أحيانا بتحكي معه كتير، وبتحسه ما بيهمه أمرك... وهذا الشيء الأساسي اللي خلاني أتركه." وحتى الآن لم أستطع أن أرى السبب الأساسي الذي يجعلها ترفض الزواج منه والذي بدا واضحًا من ترددها. ثم تابعت تشرح: "أهلي مش راح يوافقوا عليه. كنت بحبه من زمان، وراح بعدها... وهذه الصيفية رجع... كنت أنا في المستشفى... كان عندي نوبة ربو... عبَّر لي عن الكثير من الحب والاحترام." وصمتت قليلاً، فتابعتُ عنها: "وما الذي حصل بعدها؟" أجابت: "راح، وما عاد رجع لَحَدْ هلق، وطلب إيدي بشكل غير رسمي." وصمتتْ قليلاً، فتابعت: "وما المشكلة إذن؟" هنا أجابتني سهاد إجابة غريبة بعض الشيء: "بخاف من أنو تزعل أمه مني. أنا كتير بحبها وهو كتير بحبني."

عادت هنا سهاد لتقول إن خليل الأول، عندما عرض عليها مشروع الزواج، فتح عينيها على فكرة أنها باتت في سنٍّ يجب عليها أن تفكر في الزواج. وعندما رحل ولم يأتِ إلا بعد ثمانية أشهر [من شهر 6 سنة 2000 حتى شهر 2 سنة 2001] أكملت قائلة: "يمكن أنا حبيته لعفيف حتى عبِّي الفراغ اللي صار معي بعد ما راح خليل [الأول]."

انتهت الجلسة دون أن تستطيع سهاد أن تبتَّ في أمرها. وقد بدا عليها الحزن نتيجة لذلك، كما انتابتها فترات من التوتر والقلق والحيرة.

تأويل اللقاء الثاني:

بدأت هنا المشكلة تتضح أكثر فأكثر. فسهاد لا تستطيع أن تقرر في أمرها؛ كما أن هناك بيئة محافظة تمنعها من الارتباط بشخص من غير دين، أو حتى من غير طائفة. بدت سهاد في حاجة ماسة إلى أن تقرر؛ كما أن السبب الذي أعطته غير مقنع تمامًا، وكأن هناك شيئًا آخر وراء هذا التردد في الموضوع.

وهناك أمر آخر، وهو أن سهاد تعاني من ربو، من دون أن يكون هناك سببٌ عضويٌّ لذلك. ونحن نعلم أن مثل هذه الأمراض قابلة لأن تكون أعراضًا لأمراض نفسية مختبئة ومكبوتة.

لم يكن هذا اللقاء غنيًّا جدًّا – وهذا ما توقعته. فالحذر والمقاومة لازالا باديين عليها، وخصوصًا عندما اختبأت وراء جوابها عن عدم رفضها لخليل الأول – هذا الجواب الغامض.

اللقاء الثالث:

استطعنا أن نحدد موعدين ثابتين في الأسبوع. وكنت أنتظر هذه المرة أن تكمل سهاد حديثها عن خليل الأول. استقبلتني العميلة هذه المرة بارتياح أكبر، ودخلت مباشرة في الحديث، متابعة ما كنَّا بدأناه في اللقاء الماضي.

مضى بعض الوقت دون أن تستطيع أن تقرر شيئًا عن خليل الأول. فحاولت، من خلال أسئلتي القليلة، أن أركز على أمر هام، وهو أنها لا تعطي سببًا واضحًا لرفضها له أو قبولها به. سألتها: "هل يمكننا أن نحدد أكثر سبب هذا التردد؟" فطأطأت سهاد رأسها وقالت: "أنا بحب شخص ثاني، اسمه خليل كمان. [خليل الثاني]... خليل هادا أنظف ما خلق الله على الأرض. بحسه أستاذ وأنا بتعلم منه... وهو الوحيد اللي قدر يقرِّب علي."

خليل الثاني هذا شاب في الثلاثين، فلسطيني يعمل في حقل السياسة، قوي البنية، أسمر. حاولت أن أعرف المزيد عنه، فسألتها عن مكان إقامته الحالي؟ "هو ساكن هلق بالأردن. ومع أنه بعيد، بس أنا ما بقدر أتزوج أو حب غيره." قالت ذلك، وقد بدا عليها الكثير من الارتباك والضعف. وخليل الثاني هذا مسيحي، قومي عربي. والسبب في فشل علاقتهما، كما قالت: "كان كتير لجوج، ودائمًا يطلب أنو يقرِّب علي. وأنا ما كنت أقدر أنو كمِّل معه كل شي. طبعًا هدا الشي كثير أثر علينا. وكمان كان يقلِّلي إني ما كنت أعرف كيف أحترمو كما يجب." وسألتها عما إذا كانت قد لقيت معارضة من أهلها، كونه من غير دين. فأجابت: "طبعًا. لو أني كمَّلتْ معه كان لازم أترك أهلي، وأنا ما قدرت أتركهم."

شعرت هنا أن العميلة قد تعبت كثيرًا، وتوتَّرتْ كثيرًا، ودخنت كثيرًا. وأبدت هي رغبة بسيطة في التوقف عن الكلام عندما نظرت إلى الساعة. فقررت أن أوقف الجلسة أو اللقاء، على أن نتابع فيما بعد.

تأويل اللقاء الثالث:

تعرفت، حتى الآن، على ثلاث من علاقات سهاد: لم تكن أيٌّ منها تحمل مقوِّمات النجاح، أو حتى الاستمرار. فهي تعلم أن أهلها محافظون وأنها غير قادرة على التحرر منهم؛ ومع ذلك نراها دائمًا تختار الشخص غير المناسب لتفكِّر في الزواج منه! وإذا اختارت شخصًا ظروفه الدينية والاجتماعية مناسبة (عفيف)، نراها غير قادرة على احتماله، وتهرب منه كذلك.

إن التبرير الذي قدَّمتْه سهاد عن فشلها في تقرير أمرها مع خليل الأول قد لا يكون غياب خليل الثاني – الذي من الممكن ألا يعود – بينما نجد أن هناك دافعًا قويًّا داخلها يمنعها من الابتعاد عن أهلها والانفصال عنهم. وهذا ما تجسِّده سهاد في ذهابها إلى أهلها في طرابلس – هذه العادة التي شهدت أنها لم تغيِّرها منذ أكثر من 7 سنين (أي منذ أن أتت إلى بيروت)، وأنها غير قادرة على ذلك، مهما كانت الظروف.

هذا الارتباط المبالَغ فيه بأهلها يحمل عوارض ومؤشرات لهذا الاضطراب والتجاذب العاطفي الذي تعاني منه العميلة: فهي، من ناحية، تريد أن تدخل في علاقات عاطفية بغضِّ النظر عن الشروط التي يفرضها الأهل؛ ومن ناحية ثانية، لا تستطيع أن تتخلَّى عنهم.

ظهرت بعض المؤشرات لدى العميلة تدل على أن لديها رفضًا لإتمام العلاقة الجنسية. فقد قالت: "طبعًا لا... ما قدرت أعمل كل شي معه."

اللقاء الرابع:

في هذا اللقاء كانت أمامي مهمة الاستفسار عن علاقتها بوالديها. فهي، حتى الآن، اكتفت باشارات خجولة عنهما، ولا تزيد عن وصفهم بـ"بسطاء، لطفاء، ومحافظون". عند وصولي كانت سهاد تعدُّ غداءها الذي كان كلُّه يتألف من الخضار (سلطة). ظننت في البداية أنها تتبع نظام حماية أوما شابه ذلك، فسألتها عنه؛ ولكنها أعلمتني أنها لا تأكل اللحوم أبدًا: "أنا لا أقدر على أكل اللحمة أبدًا – وحتى أنني أكره جدًّا أن أشم أو أرى أية قطعة لحمة في السوق، أو حتى أي حدا عم ياكل لحم." وقد عبرت عن ذلك بانفعال شديد، مترافق بحركات وتعبيرات باليدين والوجه.

قابلتُ ذلك بحياد وتأمل، ربما فهمتْه سهاد على أنه استفسار خجول. وأكملت اخباري بعد أن هدأت قليلاً: "أنا كمان لا آكل أي شيء يتعلق بالخاروف... لا لبنة ولا حليب ولا جبنة... وكمان ما بقدر شم ريحتهم أبدًا." وأضافت تقول: "أنا بعرف أنو هدا غلط، ويمكن أن يسبب لي ترقُّق في العظم، كما حصل مع عمتي؛ بس أنا ما بقدر أبدًا."

وهنا أثير فضولي ودفعتها إلى استرجاع ذكرى في الطفولة مرتبطة بذلك. وعندما انتهت من تفكيرها استطاعت أن تتذكر حادثة في طفولتها عندما كانت في عمر الست سنوات في إحدى النزهات برفقة أهلها في تركيا، وقالت: "شفت مرة خاروف عم يدبحوه... وكانوا عم يعملوا هيك بطريقة كتير شنيعة... كان الدم عم يسيل على الحشيش... وبتذكر وقتها أنو خفت كتير وصرت أبكي." وعندما انتهت سألتني مباشرة عما إذا كان لهذا الموضوع علاقة بهذه الحادثة التي ذكرتْها، وأيضا استدركت مباشرة نفسها، حتى قبل أن أتكلم، مشيرة إلى أن سؤالها كان "غبيًّا"، كما قالت، على الرغم من أنني شعرت أنها تربط الموضوعين، لأول مرة (ما دل على هذا أنها جلست بعدها وصمتت مدة دون كلام).

قاطعتُ صمتَها سائلاً إياها عن علاقتها بوالديها: "أخبريني قليلا عن والديك؟" وكالعادة، كان الجواب عاديًّا: "بسيطين ولطفاء ومحافظين بعض شوية... بس، على فكرة، هم ما كانوا هيك من زمان... بس ما بعرف ليش فجأة انقلبوا من حوالى عشر سنوات وصاروا محافظين."

وعندئذٍ طلبت منها أن تشرح لي أكثر عن نوعية التعاطي معهم. بدأت أشعر، من خلال كلامها، أنها على غير وفاق فكري معهم ("ما بتفق معهم بشي، بس بحبهم") وأن الرابط الذي يربطها بهم هو رابط عاطفي يقوى مع حدوث الأزمات داخل المنزل – كمرض أختها سلوى في السنة الفائتة – ويخبو في الأوقات العادية: "أحيانًا بشتقلهم كثير، وبحس إني بحبهم، وما بقدر أتركهم... بس ما بعرف ليش ما بقدر أحكي لهم أي شي خاص." ثم أضافت أنها على وفاق شبه دائم مع أبيها، ولكنها تعاني غالبًا من مشاكل مع أمها. كانت سهاد قد أعطتني مثلاً عن الفترات التي تقوى فيها العلاقة، فسألتها مستفسرًا: "ومتى تشعرين أن العلاقة سيئة معهم؟" فأجابت: "أكثر هذه الفترات كانت في مراهقتي. وقتها عانيت من مشاكل من ورا أنو صدري كبر بسرعة كتير. وما كنت حس أنهم مهتمين ليشرحوا لي أو يحكوا معي... كنت أتمنى أنو يحكوا معي، بس ما كان هذا يحصل كتير... ومن هداك الوقت حسِّيت أنو في حاجز بيني وبينهم عم يمنعني من ان أحكي لهم أي شي خاص."

نطقت العميلة بهذه الجمل، وبدا عليها أنها تشعر ببعض الذنب لأنها راحت تخبرني بأمور غير جيدة عن أهلها. وهذا ما فهمتُه عندما أنهت الحديث بالجملة التالية: "هذا كل شي عندي عن هدا الموضوع، وأنا أصلاً بوتِّرني الحديث عنه." وهنا حاولت أن أوضح لها أن تلك المشاعر والعواطف إنما هي ما تشعر به هي، وأن عليها أن تفهم أنها لم تقله إلا لأنها تشعر به هكذا، كما هو، وأن هذا الاختلاف بين الأجيال طبيعي أكثر الأحيان. فالأجيال تختلف والأفكار تتغير مع الزمن.

تأويل اللقاء الرابع:

 لقد كان هذا اللقاء غنيًّا جدًّا. فقد ظهرت بداية بعض المشاكل النفسجسمية. فهناك حادثة أو صدمة في الطفولة (حادثة الخروف) جعلتها تمتنع عن تناول كل ما ينتجه الخروف. إن هذه المشاكل الصحية الجسدية ذات البعد النفسي تعود لتؤثر سلبًا على نفسيَّتها؛ فقد ظهر أن لديها قلقًا تجاه موضوع ترقُّق العظم الذي أصيبت به عمتها نتيجة لذلك.

بدأتْ في هذا اللقاء تتوضح، شيئًا فشيئًا، صفات العلاقة مع والديها – هذه العلاقة التي تحمل الكثير من التجاذب العاطفي، وخاصة تجاه الأم. كما تجلَّى أيضًا دور الخوف من الانفصال عن الأهل في حسم أمرها أخيرًا تجاه خليل الأول بالرفض – الأمر الذي عرفته منها على الهاتف قبل الجلسة عندما اتصلتْ لتؤكد الموعد، ولكنها لم تأتِ على ذكر أي شيء عنه خلال اللقاء – والانصياع لأوامر أمها التي قالت لها إنها قد لا ترفض هي الموضوع، ولكن أباها حتمًا سيرفضه.

هناك مسألة هامة، وهي مشاعر الذنب التي انتابتها في نهاية اللقاء نتيجة للتفريغ الذي حصل معها عن أهلها، مع أن من الواضح أن الاختلاف بيِّنٌ بينها وبين أهلها، وأنها لا تتحمل وحدها ذنب ومسؤولية مشاعرها السلبية التي عبَّرتْ عنها.

اللقاء الخامس:

بدأت التساؤلات تكثر لديَّ حول هذا التجاذب العاطفي مع أسرتها، وقررت أن أحاول فهمه منها أكثر بتركيز أسئلتي، أو بتوجيهها للحديث في مواضيع تخص الأسرة – لولا أن حدث لها حادث هام هذه المرة أخبرتني به في بداية الجلسة، بل قبل بدايتها عند استقبالها لي على الباب بقولها: "اتصل بي خليل [الثاني]... هو هون في بيروت." انتظرتُ حتى جلسنا وتابعتُ حديثها بالاستفسار: "ماذا بعد؟" وكان حديثًا سريعًا مرتبكًا ومترافقًا بحركات يدين مضطربة وانفعالات بادية على وجهها: "طلب يشوفني... وطبعًا نزلت مثل المجنونة، وشفته... هو جاي زيارة على بيروت واتصل بي... رحت عنده على المركز، وكنا لحالنا." وصمتت قليلاً، فشعرت بأنها تريد أن تخبرني شيئًا آخر، فاستتبعت بسؤالي: "وأيضا؟" تابعت: "قرَّبْ علي... بس كمان ما قدرت... قال لي: "بعدِك بهاي العادة..." بس أنا ما قدرت...".

كانت سهاد في هذه اللحظة في قمة ارتباكها، وبدا عليها بعض الحزن. سألتها لماذا، مع أنني أعرف أنها لن تجيب بوضوح، كعادتها. إلا أنها فاجأتني بجوابها: "أنا وحدة ما بعرف أعمل سِكْسْ... ما بقدر أعمل سِكْسْ مع أي حدا... منيح هيك." وأكملت: "حاولت كتير... وخليل الثاني حاول معي كتير... بس أنا بكرهه، بخاف منه، وما بقدر قرِّب عليه."

لم أفهم منها إلام يعود بالضبط هذا الضمير المتصل (ه)، فسألتها: "مين؟ خليل الثاني؟" وأجابت بعصبية شديدة: "لا... هو... هداك الشي اللي عندكم بَسْ أنتو منه."

حقًّا لقد فاجئتني سهاد هنا. فهي الفتاة الخجول التي لا تتكلَّم عن أمورها الجنسية إلا بتحفظ. إلا أنني استطعت أن أتقبَّل وأفهم موقفها عندما أردفت قائلة: "وخصوصًا أنو صار إلي زمان مبطلة... وأصلاً ما عم حس بشي أبدًا... بس خليل الثاني يغيب ما عاد بحس بشي أبدًا... ولكن بس يقرِّب علي بحس بحالي بولع... ومع هيك ما بقدر كفِّي معه للآخِر...".

وهنا فكرت أنه من الضروري أن أعرف إذا ما كان السبب الرئيسي لانفصالها عن خليل الثاني هو أمر العلاقة الجنسية أم سفره خارج لبنان، فسألتها عن ذلك. عندئذٍ ارتبكت ولم تقدر أن تشرح لي ما هو السبب الحاسم. قابلت ذلك بتعبيرات على وجهي تدل على أنني لم أستطع أن أفهم السبب الحقيقي، فقطعتْ استرسالَها غير الفعال في إفهامي وقالت: "بصراحة، الحادثة التي تعرضتُ لها السنة الفائتة أثَّرتْ عليَّ كثيرًا."

هذه "الحادثة" باختصار، كما روتْها لي، حادثة اختطاف كانت قد تعرضت له السنة الفائتة عندما كانت عائدة إلى بيروت في الساعة 10 ليلاً مع ابن عمِّها في سيارته. تعطلتْ السيارة في منتصف الطريق تقريبًا. وبينما هما يهمَّان باكتشاف العطل، انقضَّ عليهما رجلان ضخمان – وهما بالمناسبة فلسطينيان – وكادا أن يغتصباها، لولا أن ابن عمها دافع عنها، فضرباه حتى اعتقدا أنه مات، فخافا وهربا. قالت لي: "صرت كل ما أشوفه [خليل الثاني] شم منه نفس ريحتهم، وأنفر منه، وأعمل معه مشاكل بلا سبب – حتى زعل وبطَّل."

وبدأت دمعة وراء أخرى تسقط من عيني سهاد، واستمرت في ذلك حوالى الخمس دقائق. تركتها حتى تفرغ غضبها وحزنها دون أن أتفوه بأية كلمة. وعندما هدأتْ بعض الشيء، سألتُها فيما إذا كانت قادرة على متابعة اللقاء؟ فردت بأن لا مانع لديها – إلا إذا كانت قد "طوشتني" بأحاديثها. "طبعًا لا"، كان جوابي. وتابعت سائلاً إياها: "ماذا كنت تشعرين عندما كنت ترينه بعد الحادثة؟" أجابت: "أحيانًا كنت أتخيله واحد منهم وأغمض عيوني... ما عدت روح لعنده على المركز كثير، صرت أكره الفلسطينيين، وهو صار يطلب مني أنو أجي لأجل أنو يخلصني من عقدتي... "يا ريته لم يطلب مني كل هذا أصلاً... يا ريته ما طلب مني أن أعمل معه شي كان أحسن."

كان قد مضى على اللقاء هنا أكثر من ساعة وعشر دقائق، كما أن سهاد كانت قد هدأت قليلاً. فاختتمت اللقاء، محاولاً أن أشرح لها أنه كون الذين اختطفوها فلسطينيين فهذا لا يعني أن كل الفلسطينيين سيئين؛ كما أنه لا يعني أن خليل الثاني هكذا.

تأويل اللقاء الخامس:

ربما أطلت في الحديث عن اللقاء الخامس؛ ولكنه كان غنيًّا جدًّا. وكان واضحًا أن السبب في صراحة سهاد هذه المرة، أكثر من غيرها، هو أن الألم الذي كانت تعانيه من جراء هذه العلاقة مع خليل الثاني كان أكبر من الألم الذي ستعاني منه عندما ستفصح عن مشاعرها بهذه الصراحة.

إن الاشكالية التي كانت تعاني منها سهاد، كما بدت لي قبل الحادثة، تتلخَّص كالتالي: هل تسمح لنفسها بمغامرة جنسية مع هذا الشاب لتجذب اهتمامه، وتُرضي رغباتِه، وتجازف باحترامه لها كفتاة مستقيمة (كما تعلمت ذلك من أهلها)؟ أم أنه ينبغي عليها أن تبقى متحفظة وتجازف باهتمامه لها؟ هل تجرؤ على معارضة قيم ورغبات أهلها فتثير غضبهما؟ أم أنه من الأفضل لها أن تنسحب من أرض المعركة؟ وهكذا أتت الحادثة لتعطيها مبررًا قويًّا – حسب منطقها – للانسحاب من أرض المعركة.

ولكن الطريقة التي انسحبت بها سهاد ة التي عبَّرتْ عنها ("أنا وحدة ما بعرف أعمل سِكْسْ")، والخوف من القضيب الذي كان لديها، يدلان على أن للمشكلة أبعادًا أعمق من تلك التي قلناها قبل قليل، دون أن ننفي صحة ما قلناه؛ أبعادًا ربما تتعلق بأفول عقدة خصاء لديها منذ الطفولة.

اللقاء السادس:

الحلم الأول:

كان هذا اللقاء سريعًا وقصيرًا. هكذا أرادتْه سهاد. فقد استدعتْني خارج الوقت المحدَّد للجلسة، وقالت إنها تريد أن تحدِّثني عن حلم رأتْه في ذلك اليوم.

عندما وصلتُ كانت سهاد في المطبخ، وقد بدا عليها الفرح بعض الشيئ، كانت مهتمة لأن تريني شيئًا في المطبخ. رأيت صحنًا من اللبنة، وقد أخذت وقتًا لكي أعرف أنه لبنة! فسهاد أضافت اليها الكثير الكثير من الشطَّة والنعناع اليابس والزيت حتى تغير لونُها ورائحتها. أخبرتني أنها تستطيع أن تأكلها الآن، وأنها سعيدة بذلك لأنها يساعدها من التقليل من الخوف من الإصابة بترقُّق العظم.

أثار المشهد اهتمامي، وقلت لها إن ذلك جيد إذا لم تكن هناك من طريقة تساعدها على تقبُّل أكل اللبنة. انتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن الحلم الذي وصفتْه بـ"الجميل الغريب". كان الحلم كالتالي:

رأيت نفسي مستلقية في سريري – وكنت عارية تمامًا. وفجأة أحسستُ أن هناك شيئًا ما يلامس جسمي. كان منظره غريبًا مُبهَمًا. إنه رجل، لكنه كان هلاميًّا ضبابيًّا. لم أستطع أن أرى أو أن أشعر بأيِّ تفصيل من تفاصيل جسمه الدخاني تقريبًا. استمرَّ بمداعبتي، وشعرتُ كأنني نمت معه. غمرتْني سعادة، وأحسست بنفس الشعور الذي أحسُّه عندما يلامسني أحدهم في الواقع. استيقظت دون أن أحتلم، ولكن الإحساس استمرَّ معي لبضع ثوان بعد أن اختفى، وانتهى الحلم.

حاولت أن أستفسر عن بعض نقاط الحلم، وأن أعرف شكل هذا الشخص. فلم تستطع سهاد أن تصفه؛ فقد كان أشبه بـ"شبح"، كما قالت. ثم سألتها بشكل مباشر: "هل شعرتِ بالـ"أورغاسم" [ذروة النشوة]؟ فأجابت بلا، وبأنها أصلاً لم تشعر به كثيرًا؛ فالعلاقات التي كانت تقوم بها لم تصل إلى هذه المرحلة المتطورة.

لم تُرِدْ سهاد – لسبب ما – أن تكمل الجلسة. فقد تذرَّعتْ بموعد عمل آخر، وطلبت مني تفسيرًا مباشرًا للحلم؛ فأجبتها أنه يجب عليَّ أن أفكر فيه قليلاً، ثم آتيها بتفسيره لاحقًا.

تأويل اللقاء السادس:

إن حادثة اللبنة هذه كانت مهمة جدًّا بنظري. فهي، من جهة، تطور لمستْه لدى العميلة في تعاطيها مع مخاوفها: ففي حين كانت ترفض في بداية الجلسات أن تقترب من أي مكان توجد فيه لبنة أو جبنة، نراها الآن تحاول أن تتغلب على ذاتها، وتوجِد حلاً بسيطًا لمشكلتها؛ كما أنها، من جهة ثانية، تدل على إشارة صريحة من اللاوعي لديها على أن ما فسَّرناه سابقًا عن موضوع رفضها لكلِّ ما ينتجه الخروف (على أنه ناتج من حادثة ذبح الخروف في صغرها) كان غير كافٍ لفهم هذه النقطة. إن اللون والرائحة هما الأساس هنا، وليس كون اللبنة هي منتج من الخروف فقط. لقد استطاعت سهاد أن تأكل اللبنة فقط عندما تغير لونُها ورائحتها.

هنا أشير إلى افتراض لا أدري ما مدى صحته: وهو أن للَّبنة لون السائل المنوي لدى الرجل نفسه؛ كما أن الرائحة القوية النفاذة لبعض أنواع الجبن توازي في نفاذها رائحة هذا السائل. ولكن هنا يبقى السؤال: هل حقًّا أنها تعرف لون ورائحة هذا السائل؟

إن هذا الربط يفتح أمامنا المجال لتأويلات جديدة. وإذا ما ربطنا ذلك بالتفسير الذي وجدته للحلم والذي أراه كالتالي: لقد حمل الحلم رمزًا مختلطًا؛ فهذا الرجل الشبحي الهلامي الدخاني، يرمز إلى اختلاط الأنيموس Animus بالظل Shadow لديها. والحلم، كما نعرف بحسب يونغ، يمثل الحقيقة أي الواقع الداخلي كما هو، لا كما يفترضه المرء – وهو حالة لا يريد الوعيُ أن يعرف شيئًا عنها، أو لا يقبل حقيقتها وواقعها (الظل). إذًا سهاد في حقيقة واقعها الداخلي – الذي ربما يرفضه واقعها الخارجي الشعوري ولكن لا يمكننا أن نفصله عنه – ترغب في الممارسة الجنسية الكاملة؛ ولكن، ربما نتيجة لهذا الاختلاط لديها الذي لا تعرف كيف تحدِّد معالمه وشكله، نراها ترفض ذلك في الواقع الخارجي الواعي.

لقد أدى الحلم هنا وظيفته التعويضية، وهي الوظيفة الأسمى، لأن هذه الأحلام التعويضية تحتوي على إدراكات وعواطف وأفكار يترك غيابُها في الواعية فراغًا، يملؤه الخوف بدلاً من أن يملأه الفهم الواعي. وبهذا يكون الحلم قد عوَّضَ عن غياب الرغبة لدى سهاد في الواقع، وحاول بذلك أن يوازي هذا الخوف والرفض الحاصل لديها من مغامرة الرغبة التي عادت إلى الواقع في هذه الفترة مع عودة خليل الثاني.

إن ربط هذه المعطيات يؤدي إلى استخلاص فكرة أن لدى العميلة رفضًا خارجيًّا للقضيب ولكلِّ ما يمتُّ إليه بصلة، وبات يجب عليَّ أن أبحث، من الآن فصاعدًا، عن جذور هذا الرفض في لاوعيها وفي ماضيها.

اللقاء السابع:

الحلم الثاني:

 لقد اكتفيتُ في هذا اللقاء بأن أوضح لها جانبًا من حلمها، وهو ما يخصُّ أن لديها الرغبة في داخلها لأن تقيم علاقة كاملة مع أحدهم، ولكنها ربما لا تستطيع ذلك، لأن ذلك يتعارض مع قيمها، أو بالأحرى قيم أهلها، وأن الحلم هنا جاء ليعوض نقص الرغبة لديها الذي كانت تشعر به خلال فترة ما قبل رجوع خليل الثاني.

ابتدأت سهاد اللقاء بتوتر وارتباك. وقج عَزَتْ ذلك إلى حالتها التي وصفتها كالتالي: "لا – مش

معقول – الحالة التي عم أمر فيها غريبة... تصوَّر أنو خليل حكا معي وقال أنو بدو ياني وأنو بيحبني من زمان... كان عم يحاول نسياني... والآن صار بدو يتزوجني." ولم أستطيع أن أميز في البداية عن أيِّ خليل تتكلم، الأول أم الثاني، فسألتها: "خليل الثاني؟" وأتى الجواب غريبًا جدًّا: "لا... خليل الثاني رحل منذ يومين – خليل هذا غير الاثنين...". تابعت الحديث سائلاً إياها: "وما قصة خليل الثالث هذا؟"

بدأت تشرح لي تاريخ علاقتها بخليل الثالث الذي كان صديقها منذ الصغر. لقد تربيا بعضهما  مع بعض تقريبًا، بحكم الصداقة والقرابة بين العائلتين. وخليل الثالث هذا مسلم سني مثلها، ولكنه يحمل بعض الأفكار الشيوعية المتحررة؛ أشقر, قوي البنية، وهو يدرس الآن الطب في سنته الأخيرة في تركيا التي يعرفها جيدًا من الرحلات المشتركة بين العائلتين منذ زمن طويل.

وعندما انتهت من الشرح سألتُها: "وما رأيك أنتِ؟" أجابتني والحيرة بادية على وجهها: "لا أعرف... أهلي موافقين كتير على الموضوع، وعم يشجعوني كتير... بس...". وتوقفت، فأكملتُ جملتها: "بس ماذا؟" أجابت: "بس... ما بعرف كيف... خلو – وهو اسم الدلع – خلو متل أخي... وأنا لا أشعر تجاهه بأي شي غير ذلك... ولا أقدر أن أعتبره حبيبي أو زوجي... بحبه كتير، وبس يغيب بشتقله... بس متل أخي، عرفت كيف؟"

قالت ذلك بارتباك. ورددتُ على السؤال بسؤال آخر، محاولاً أن أعرف منها أو أن تزيد في الموضوع شرحًا: "هل هذا هو السبب الوحيد برأيك؟" أجابت: "يعني كيف بدي قلك... مثلاً ما بقدر أتخيل حالي عم نام معه أو حتى أنو شوفه عاري." لاحظت هنا أن لديها وعيًا بهذه النقطة مع خليل الثالث، فحاولتُ أن أنقل هذا المعنى إلى علاقاتها الأخرى، فسألتها عما إذا كانت تستطيع أن تتخيل أنها تنام مع شخص آخر؟ وكان ردها بعد التفكير بعض الوقت (وكأنها تحاول أن تفتش عن مثال ما) وتابعت: "نعم... عفيف، مثلاً. في البداية تخيلت معه أنني أستطيع ذلك... في البداية فقط."

تابعت استفساري عن الموضوع فسألتُها: "لماذا، برأيك، لا تستطيعين أن تري خليل الثالث عاريًا؟" وهنا فلننتبه جيدًا إلى جوابها: "لا أعرف... أنا لم أره إلا مرة، وذلك عندما كنَّا في تركيا صغيرين، تقريبًا بعمر 5 سنوات... رأيته واقفًا يبول على الحائط في الطريق. وعندها ذهبت لعند والدتي وصرت أصرخ وأضرب الأرض برجلي، وقلت لها: "بدي مثل اللي عند خليل!" ولكنها قامت بتوبيخي وضربي لأنني أكثرت من الصراخ. وهذه هي المرة الوحيدة التي شفته عاريًا فيها." وهنا لم أشأ أن أعلِّق أو أعقِّب على كلامها، لأنني أحسست أنه كلام مهم، ويحتاج إلى المزيد من التفكر فيه.

وقبل أن ينتهي اللقاء قالت لي: "لقد أعجبني تفسيرك للحلم. وأريد أن أحكي لك عن حلم ثان حلمته البارحة أيضًا." وكان الحلم كالتالي:

حلمت أنني أحضِّر نفسي للذهاب إلى مكان ما. عندئذٍ دقَّ جرس الباب. فتحت الباب ووجدت هدية صغيرة متروكة أمامه، دون أن أجد صاحبها. فتحت الهدية – وكنت سعيدة المزاج – ووجدت دبًّا صغيرًا، جميلاً، يحمل بيده شمسية صغيرة مغلقة. كما أني وجدت سعرًا على الهدية، وكان على ما أذكر 12790، وبدأت ألعبُ معه بفرح. وفجأة بدأ الدب يكبر ويكبر. وأذكر أنني لم أعد في البيت وإنما في فضاء أوسع. وبدأ الخوف يتملَّكني شيئًا فشيئًا. وأخذ الدب يلاحقني بشمسيته التي تحولت سيفًا، وراح يكبر أكثر، حتى حَجَبَ ضوء الشمس عنِّي، فسقطتُ أرضًا وأنا خائفة جدًّا. وهنا انتهى الحلم.

تأويل اللقاء السابع:

ظهر بداية في هذا اللقاء خليل الثالث الذي يطلب الزواج منها. وخليل هذا ظروفه مناسبة، ولديه نقطة هامة في صالحه، وهي قبول أهلها له. ولكن ما هي الحجة هذه المرة؟ ومن خلال بحثنا عن الحجة ظهرت حادثة هامة عظيمة جدًّا في طفولتها، نستطيع من خلالها – حادثة التبول – أن نربط بين الكثير من الظواهر السابقة. فسهاد تعرَّضتْ في طفولتها في عمر الخمس سنوات – وهو العمر الذي يكتشف فيه الجنسان تميزَهما واحدهما عن الآخر – إلى توبيخ ومعارضة شديدة بإزاء رغبتها القوية آنذاك في امتلاك قضيب. إن في ذلك لإشارة هامة إلى إمكانية كبت هذه الرغبة لديها على حساب تمثُّلها لأنوثة ستبقى ناقصة ما لم تتَّحد بالجنس الآخر (الذكر)، موضوع رغبتها السابقة – هذا الاتحاد الذي لم يُكتَبْ له النجاح حتى الآن.

 لم أستطع أن أجد تفسيرًا منطقيًّا للحلم الثاني، سوى أن هناك وضعية ارتياح للشمسية الصغيرة التي ترمز إلى قضيب صغير، وربما إلى بَظْرٍ مخصيٍّ، ووضعية خوف وانزعاج وهرب من قضيب كبير كالسيف يحاول إيلامها.

اللقاء الثامن:

أتيت إلى اللقاء حائرًا، بعد فشلي في تفسير حلمها الثاني. وكنت أفكر كثيرًا في ما سأقوله لها إذا ما سألتْني – وهي ستسألني حتمًا. دخلت إلى منزلها محاولاً اخفاء ارتباكي. وبينما كنت أهمُّ بالجلوس قمت بمحاولة لتهدئة توتُّري قليلاً، وبدأتُ أكتب تاريخ الجلسة بتروٍّ، وشردتُ قليلاً في التاريخ الذي لا أدري لماذا كتبته هذه المرة على الشكل التالي: 01 4 15، مع العلم بأني، في الحالة العادية، أكتب التاريخ على الشكل التالي: 01-4-15. وقرأت الرقم أمامي كالتالي 15401.

وهنا باغتتْني فكرةٌ أعتقد أنها خرجتْ من لاوعيي بسرعة شديدة، لم تسمح لي بالتفكير بها في وعيي، وسألتها مُعلِنًا ابتداءَ اللقاء: "ماذا يعني لك تاريخ: 90-7-12؟" فوجئت سهاد كثيرًا بسؤالي، وفكَّرتْ طويلاً قبل أن تجيبني: "لا أذكر تاريخ اليوم بدقة، ولكني أذكر أننا في الشهر السابع من عام 1990 خرجنا في نزهة مع جماعة كشفية إلى هضاب الكورة، وأذكر أنني أصبتُ بصدمة قوية في تلك الرحلة، لدرجة أنني استفرغت كثيرًا." وسألتُها متابعًا إياها في الحديث: "لماذا؟" أردفتُ: "كنَّا نتنزَّه – أنا وصديقتي – في إحدى استراحات الرحلة – وكنَّا قد ابتعدنا قليلاً عن الحافلة. وفجأة رأيتُ شخصًا غريبًا ومخيفًا، وعنده الكثير من الشعر على وجهه وجسمه. لم أفهم تمامًا ماذا كان يعمل، ولكنه كان نصف عارٍ، وكانت يده ممدودة إلى منطقة ما بين الفخذين. وبعدها رأيت بقعًا بيضاء على يديه – استطعتُ أن أراها لأن بشرته كلنت سمراء غامقة. ولا أعرف لماذا خفتُ كثيرًا وقتها، لكنني صرتُ أصرخ وهربت من خوفي." أوقفتُ الحديث، وقد بدا عليها الكثير من الارتباك، مترافقًا بحركات وجه ويدين مضطربة واتساع في حدقة العين.

عندما انتهتْ من حديثها تنفستْ الصعداء. ولا بدَّ أن هذه الاشارة التي انبعثت من لاوعيي قد ساعدتْني كثيرًا، كما قد ساعدتْها. قررتُ أن أتابع الحديث في نفس السياق، وأن أربط هذه الحادثة بموضوع خوفها من القضيب، وسألتُها عن ماذا جرى مع خليل الثالث. وأجابتْني، بعد أن بانت الحيرة والحزن في عينيها: "يمكن أن أقبل... أهلي عم يضغطوا علي كتير... وأبي خاصة... وهو بدو يجي على لبنان في هذه العطلة خصوصي من شان يشوفني... وماني عارفه شو بدي قله وأحكي معه... شو رأيك، بقبل؟" سألتْني طالبة العون. وأنا طبعًا لا أستطيع أن أجيبها، لا نفيًا ولا قبولاً. فكررتُ عليها السؤال ذاته: "وما رأيكِ، هل تقبلين؟" هنا سهمت سهاد، وبعد بعض التلعثم أجابت: "يا ألله... ما كانوا يفهموا أنو ما بقدر أتزوجه... ولا أنام معه... وبعدين إذا هم موافقين يعني لازم أنا وافق." وسألتها: "هل ذلك لازم فعلاً؟" فأجابت "والله ما بعرف شي... كل اللي بعرفه إني مش عارفة كيف بدي أفهمه هذا الأمر... لآن أهلي مش راح أقدر أحكي معهم بشي من هذا النوع... مش متعودة... يعني أحكي إله أحسن."

بدا لي هذا الحلُّ الآن مناسبًا قليلاً لأنها، وإن لم تستطع حتى الآن أن تحلَّ مشكلتها، إلا أنها ابتدأتْ بقبول فكرة الحديث عنها إلى العالم؛ أي أنها ربما بدأت تتقبل هذه المشكلة الآن، ولم تعد تخاف منها كما في السابق. طبعًا لم أبدِ لا رفضي ولا موافقتي على فكرتها، لأنها بدت أصلاً مقتنعة بها."

تأويل اللقاء الثامن:

لن أستطيع أن أفسِّر ما حصل معي؛ فقد لا أكون موضوعيًّا. لكنني أرى أن تفسير الحلم الثاني بات واضحًا بعض الشيء. فسهاد تعرضت في سنِّ المراهقة – هذه الفترة التي لم تكن فيها على ودٍّ مع أهلها – إلى صدمة بَدَتْ، بحسب حديثها، قوية. وهذه الصدمة، على ما يبدو، أن قد أثرت كثيرًا على سلوكها. فهي، كما نعلم، لا تستطيع أن تأكل أي شيء أبيض اللون، كلون السائل المنوي الذي رأتْه على يد هذا الرجل المخيف. كما ساهمت في تعزيز هذا الرفض الخارجي للقضيب الذي تعاني منه العميلة.

ولم يكن هذا التحول في حجم الدب–اللعبة والشمسية–القضيب سوى دلالة على تدرُّج مشكلتها مع تقدم الزمن، حيث إن هذه الرغبة التي تُشعِرُها بالفرح لامتلاك قضيب قد تطورتْ مع الزمن إلى مشكلة تظلِّل عليها حياتها، وتوقِعُها في المشاكل والحزن والرفض لامتلاك القضيب، وحتى الخوف منه.

وقد ظهرتْ لديها مباشرة بوادر لاواعية تدلُّ على فهم أكبر الآن لمشكلتها وقبول لذاتها من خلال الحلِّ الذي افترضتْه بالحديث عن حقيقة ما تشعر به، لأول مرة، إلى خليل الثالث عندما تراه في عطلة نهاية الأسبوع. كما أن هذا التدرُّج الزمني يعبِّر أيضًا عن جدوى استبطانها لذاتها أو لنقل تفكُّرها العميق في مشكلتها.

اللقاء التاسع:

أتى هذا اللقاء بعد فترة انقطاع دامت عشرة أيام، وذلك بناءً على طلبها. فهي قد أرادت مدة من الزمن حتى تستطيع أن تنهي موضوعها مع خليل الثالث. أتيتُ إلى منزلها، وأنا أتوقع أن يكون لديها الكثير لتخبرني به. ومنذ اللحظة الأولى التي استقبلتْني بها بدأتْ تُخبِرُني عمَّا حصل معها حتى دون أن أسألها: "قلت له... كان كتير لطيف معي... وفهمني وسمعني كتير." سألت: "وماذا قلتِ له؟" أجابت: "قلت له إنني لا أحمل الآن أية مشاعر تجاهه، وأنني لا أقدر أن أنام معه، أوحتى أشوفه عاريًا... بس هو كان كتير منيح معي، وقال لي: "أنو هدا الشي طبيعي وأنو ممكن يتغير مع الزمن والعشرة."" وأضافت بتساؤل قلق: "هل صحيح أنو ممكن أن يتغير هذا الشي." فأجبتُها: "ممكن... ولكن إذا كانت لديكِ الرغبة الحقيقية في ذلك والوعي الكافي لتغييره."

وبدأت هنا تسألني، وتسأل نفسها، عن الكيفية التي سيتغيَّر معها ذلك. وأعادت جوابي السابق على نفسها، وراحت تفكر فيه، ثم قالت: "يعني لازم يكون عندي الرغبة الكافية حتى أقدر أخلص من خوفي ورفضي أنو كمِّل أية علاقة جنسية مع الآخر." وأجبتُها أن ذلك صحيح، فأكملت بتساؤل: "يعني لازم جرِّب أعمل شي قبل ما أتزوج؟... ما بقدر هلق أعرف إذا كنت بقدر أعمل هيك." وتابعت: "ما بعرف... فكرت كتير بالموضوع، وأهلي ضغطوا علي كتير... وأنا قلت لأبي إني قبلت حتى ما أزعله، بس أنا حقيقة مش قبلانة كتير."

وهنا حاولتُ أن أستوضح عما إذا كان السبب هو الذي ذكرتْه سابقًا؛ أم أن هناك شيئًا ما في شخصه يمنعها من الارتباط به. فقالت لي: "لا أبدًا... هو كتير منيح، وظروفه كتير مناسبة، وأهم شي أنو بيحبني كتير... هو بس هداك الموضوع."

وهنا شعرت أن العميلة تحاول أن تستبصر الحلَّ لمشكلتها، ولكنها لم تستطع حتى الآن. وبين أن أتركها تصل بنفسها إلى الحل أو أن أساعدها قليلاً، خطر لي أن أطرح لها عدة حلول. فقلت لها: "ممكن إنك تجربي تخطبيه فترة، ويمكن خلالها أن تقرري أكثر." فأجابتني: "لا... ما بعتقد هيك منيح، لأنو الخطبة هي فرصة للتعرف على بعضنا... ونحن نعرف بعضنا منيح." وتابعت أنا: "ممكن أن تقومي بزيارة له في تركيا، مثلاً... من ناحية، تكوني قد أخذت إجازة بسيطة من العمل المرهق الذي تقومين به؛ ومن ناحية، تجربين العيش معه وحدكما ولفترة قصيرة." وبدا أن هذا الحل أو الاقتراح نال اعجابها، وبدأت تفكر فيه. وتابعت الحديث: "وليس ضروريًّا أن يحدث بينكما أي شيء، ولكن المهم هو أن تتركي لنفسك حرية التصرف، وأن تكوني واعية لكلِّ ما تشعرين به وأنت هناك." قاطعتْني هنا سهاد وأضافت: "خصوصًا أننا هناك لن نكون وحدنا فقط؛ فأخته تسكن معه في نفس المنزل."

لم أشأ أن أزيد عليها الخيارات، وفضلتُ أن أتركها تفكِّر في هذا الحل الذي رحَّبت به كثيرًا. وأحسستُ هنا أن سهاد، وإن لم تبدأ تمتلك القدرة الكافية على حلِّ مشاكلها، إلا أنها الآن باتت تحتفظ بوعي أكبر لمشاكلها ورغباتها وهي تسعى إلى حلِّها – وخصوصًا بعد أن أخبرتني عن حلمها الثالث وهو:

حلمت أنني في المكتب عند مديري في العمل، وهو كبير في العمر. وبعد قليل رأيت نفسي أمارس معه الجنس. كنت سعيدة، وكانت رائحته، كالعادة، عطرة. ولا أدري لماذا كنَّا في غرفة صغيرة، وباب الغرفة كان مفتوحًا، ومن الخارج أرى فضاءً أوسع وأجمل. انتهيتُ، أو توقفتُ، لا أذكر وذهبتُ إلى الباب. لم أغلقه، إنما استمتعتُ بالنظر إلى الطبيعة الجميلة من هناك.

انتهى اللقاء. وقلت لها إنني سأتصل بها لأخبرَها عن تفسير الحلم، وأنها – إن أرادتْ أو شعرتْ بعد الآن أنها في حاجة إلى ان تراني وتخبرني عما يحصل معها – فأنا جاهز دائمًا.

تأويل اللقاء التاسع:

نلاحظ في هذا اللقاء أن عملية الاستبصار لدى العميلة قد بدأت فعلاً. ولكن لا يمكننا القول إنها استطاعت أن تستبصر مشكلتها، لكنها بدأت بفهم ذاتها أكثر. والحلم الذي حلمتْه أكبر دليل على ذلك: فالعميلة استطاعتْ هذه المرة أن ترى صورة واضحة أكثر عن الأنيموس خاصتها. فهو الكبير الذي تتعلَّم منه، وذو "الرائحة العطرة". وكما قلنا سابقًا فللحلم وظيفة تعويضية؛ وهذا ما بدا من خلال قدرتها على ممارسة الجنس معه. ولم تستطع العميلة أن تحدِّد ما إذا كانت قد أكملت الممارسة أم لا، ولكنها، على الأقل، قد تقبَّلتْ ذاتها أكثر وشعرتْ بالسعادة أكثر. وعلى المستوى الرمزي فالغرفة الضيقة، بحسب يونغ، ترمز إلى اللاوعي الشخصي، وهنا نقول إن هذا التعويض قد حَصَلَ على مستوى اللاوعي الشخصي؛ وأيضًا الفضاء الأوسع يرمز إلى اللاوعي الجمعي Collective Unconscious، لم تدخل فيه هذه المرة، ولكنها اكتفت بالانبهار والاستمتاع برؤيته. إن في هذه الرمزية دلالة واضحة على رغبة لدى العميلة على ولوج أبعادٍ أعمق في شخصيتها. كما أنني أرى فيه رمزًا إلى إمكانية تحقُّق ذلك. إذن، العميلة لم تدخل أكثر في لاوعيها الجمعي، ولم تفهم ذاتها كليًّا، ولكنها وضعت الخطوة الأولى على طريق ذلك – وهذا بحدِّ ذاته أمر جيد.

*** *** ***

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود