|
قيم خالدة
إنَّه ليدهشني أن كلَّ هذا العدد
الكبير من الناس المقتنعين بالطبيعة الشاملة
والموضوعية للمعرفة العلمية لا يوفِّرون
جهدًا لكي يجدوا في آخر مكتشفات العلوم
تأييدًا حصريًّا لآيات من أسفار الفيدا أو من
القرآن أو لعقائد أخذتْ بها المجالسُ الكنسية
في مرحلة ما من مراحل التاريخ. إن كوننا
هندوسًا أو يهودًا أو مسيحيين يتوقف، إلى
حدٍّ كبير، على المكان الذي اتفَّق لنا أن
نولد فيه. وإنه لأمر في غاية الصعوبة أن
نصدِّق بأن الحقيقة تتغير فجأة لدى عبور حدود
يعيِّنها نهرٌ أو سلسلةٌ جبلية تقابل حواجز
سياسية موروثة عن إمبراطوريات قديمة أو
معاصرة. ليست في حوزتي أية معطيات دقيقة حول
هذا الأمر، لكني أتصور أن 95% من الناس في
العالم على الأقل، أو ربما أكثر، يرتدُّون،
عاجلاً أو آجلاً – ولاسيما في مناسبات
الزيجات والجنازات – إلى الأديان التي
ورثوها عن أسلافهم – مع تنويعات ضئيلة على
الموضوع. وهذا مفهوم تمامًا لأنه، مثلما هو
الأمر بخصوص اللغات العادية، يُكتَسَب
الكثيرُ من لغتنا العاطفية–الدينية إبان
طفولتنا المبكرة، ونُحن نضفي معنًى على
أشواقنا الدينية الأعمق بمعونة هذه المقولات
الشعورية والفكرية المكتسَبة. والأرجح أن
القوم الذين يعتنقون مذهبًا أو عقيدة ما
اعتناقًا عارمًا سوف يعتنقون بالحماسة ذاتها
عقيدة أو مذهبًا آخر لو اتَّفق لهم أن يولدوا
في سياق ديني آخر. فالاعتراف بوجود الآخرين،
بوصفهم كائنات مفكرة وشاعرة ومستقلة، تنهمك
أحيانًا في اهتمامات غائية، لهو خطوة نحو
التحرر من الانشغال بالذات والاهتمام بالذات
– خطوة ذات شأن حاسم لليقظة الروحية.
مارتن هيدغِّر (1889-1976) فيلسوف ألماني كبير، انصبَّت أبحاثُه بخاصة على علم الأونطولوجيا أو علم الكائن الوجودي، وهو يُعتبَر أحد أساطين الفلسفة الوجودية. وتتراوح الموضوعات التي عالجها ما بين الكينونة الصاعدة مع شروق الشمس والكينونة المنحدرة إلى هوَّة الموت. يطرح هيدغِّر
أسئلة أكثر مما يقدِّم أجوبة. وتدور أسئلته
حول عصرنا هذا وتاريخه ومجتمعاته، وذلك على
مرحلتين: الأولى: ما شأن الكائن؟ ثم، ما شأن
التكنولوجيا، وماذا يعني لنا المستقبل
وكينونتنا ذاتها بإزاء المدنية التكنولوجية
التي هي في تصاعُد مستمر والتي تقدِّم
للإنسان، للمرة الأولى، وسائل تعجِّل في موته
ودمار العالم؟ ويحفزنا هيدغِّر بأسئلته على
مجابهة وضع العالم المتردِّي وعلى إيجاد
الأجوبة والحلول اللازمة لإنقاذه من التلوث
والدمار. وهو بذلك يدلِّل على أن له مكانته
الكبرى بين عظماء المفكرين الذين توجَّهوا
بأسئلتهم إلى العالم والبشرية، بدءًا
بأفلاطون ومرورًا بهيغل ونيتشه وسواهما. من أشهر أعمال
هيدغِّر: الكينونة والزمن (1927)، ما هي
الميتافيزياء؟ (1929)، مدخل إلى
الميتافيزياء (1935)، جوهر الحقيقة (1943)، دروب
لا تؤدي إلى مكان (1950)، مقاربة إلى
هولدرلِن (1951)، دراسات ومحاضرات (1945)،
وسواها. وفيما يلي يطَّلع القارئ على مقال
عنوانه "لماذا نحب البقاء في الريف؟"
وعلى أربع علامات أو "قصائد" لهذا
الفيلسوف الكبير. مخطَّط
الورقة
*** إن
سؤال الفرد يظل جوهريًّا بنظر الفكر الفلسفي
والسياسي المعاصر. ولعل استعادة التفكير في
الفرد محاولة لفهم الإنسان، باعتباره كائنًا
يتشكَّل على أساس الوحدة والفرادة أو
التميُّز – تلك التي تجعله يمتلك وجودًا
مستقلاً على نحوه الخاص، وجودًا يتميز
بخصوصية تمنحه هويته المستقلة التي تقف على
الحدِّ المتناهي للإنسان.
|
|
|