|
العلمُ
والحكمَة–الرَّحمَة إنَّه ليدهشني أن كلَّ هذا العدد
الكبير من الناس المقتنعين بالطبيعة الشاملة
والموضوعية للمعرفة العلمية لا يوفِّرون
جهدًا لكي يجدوا في آخر مكتشفات العلوم
تأييدًا حصريًّا لآيات من أسفار الفيدا أو من
القرآن أو لعقائد أخذتْ بها المجالسُ الكنسية
في مرحلة ما من مراحل التاريخ. إن كوننا
هندوسًا أو يهودًا أو مسيحيين يتوقف، إلى
حدٍّ كبير، على المكان الذي اتفَّق لنا أن
نولد فيه. وإنه لأمر في غاية الصعوبة أن
نصدِّق بأن الحقيقة تتغير فجأة لدى عبور حدود
يعيِّنها نهرٌ أو سلسلةٌ جبلية تقابل حواجز
سياسية موروثة عن إمبراطوريات قديمة أو
معاصرة. ليست في حوزتي أية معطيات دقيقة حول
هذا الأمر، لكني أتصور أن 95% من الناس في
العالم على الأقل، أو ربما أكثر، يرتدُّون،
عاجلاً أو آجلاً – ولاسيما في مناسبات
الزيجات والجنازات – إلى الأديان التي
ورثوها عن أسلافهم – مع تنويعات ضئيلة على
الموضوع. وهذا مفهوم تمامًا لأنه، مثلما هو
الأمر بخصوص اللغات العادية، يُكتَسَب
الكثيرُ من لغتنا العاطفية–الدينية إبان
طفولتنا المبكرة، ونُحن نضفي معنًى على
أشواقنا الدينية الأعمق بمعونة هذه المقولات
الشعورية والفكرية المكتسَبة. والأرجح أن
القوم الذين يعتنقون مذهبًا أو عقيدة ما
اعتناقًا عارمًا سوف يعتنقون بالحماسة ذاتها
عقيدة أو مذهبًا آخر لو اتَّفق لهم أن يولدوا
في سياق ديني آخر. فالاعتراف بوجود الآخرين،
بوصفهم كائنات مفكرة وشاعرة ومستقلة، تنهمك
أحيانًا في اهتمامات غائية، لهو خطوة نحو
التحرر من الانشغال بالذات والاهتمام بالذات
– خطوة ذات شأن حاسم لليقظة الروحية. إن
التناغم مع البُعد الروحي لهو قطعًا تناغمٌ
مع نوعية من الذبذبات، وليس مع شكل معيَّن من
أشكال الجهاز الذي يبث الذبذبات. لم يكن من
السهل على بعضهم أن يقبل بأنه يجوز للمرء أن
يحظى بنقل دم من أولئك الذين يختلف لونُ
بشرتهم عن لون بشرته. وإنه لمن الأصعب بكثير
السماح لإمكانية التغذِّي الروحي أن تتمَّ من
تحت "الجلود" الدينية والعرقية. فيما يخص
حالتي، ولدت هندوسيًّا. ثمة الكثير مما ينطوي
على خير وحكمة في المنقول الهندوسي؛ وإني
لعلى يقين من أنه كان يمكن لي أن أختص بإرث
أسوأ! غير أن الهندوس لا يحتكرون الحقيقة أو
الحكمة أو البصيرة، ولا يجوز لهم أن يحتكروها.
يتمنَّى المرء أن ينمو، ويجاهد من أجل أن ينمو
– وجزء من ذلك هو أن ينمِّي ارتباطًا مع مستوى
وعي "لا يوجد فيه آخرون"، كما قال الحكيم
الهندي العظيم رامانا مهارشي (1879-1950). وهذا ليس
استبعادًا للآخرين في انهماك في الذات، بل هو
النظر من خلال "الآخر" في إدراك توحيدي.
ولسوف يُحزنني أن أكون مجرَّد هندوسي عند
مماتي، محصورًا في ذاتيَّتي المتعيِّنة
بطوارئ التاريخ والجغرافيا. الماضي موجود
دومًا معنا وفينا، لكن الرؤيا المقبلة لا
بدَّ لها من أن تتأسَّس على نوع من القدرة على
الطيران بحرية خارج أجواء الماضي. قالت
المرأة: "يا رب، أرى أنك نبي. تعبَّد آباؤنا
في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن المكان الذي
فيه يجب التعبُّد هو في أورشليم." قال لها
يسوع: "صدِّقيني، أيتها المرأة، تأتي ساعةٌ
فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في
أورشليم. [...] ولكن تأتي ساعة – وقد
حضرتِ الآن – فيها العباد الصادقون يعبدون
الآبَ بالروح والحقِّ. فمثل أولئك العباد
يريد الآب. إن الله روح؛ فعلى العباد أن
يعبدوه بالروح والحق." (إنجيل يوحنا 4: 19-24) الأهم،
في الأمور الروحية، هو كيفية تأثر طبيعة
الشخص باللاهوت أو الفلسفة أو الطقس الذي
يجده ذلك الشخص ملهِمًا. فالشخص لا يجوز أن
يُستبعَد من هذه الاهتمامات – لا المرء نفسه
ولا الآخرون. الحوارات الدينية البينية جيدة،
ولعلها مفيدة؛ أما الحوارات بين الحجيج
الروحيين فالأرجح أن تكون مثمرة أكثر بكثير،
وعلينا أن نحرص على عدم تجميد الأديان
والمؤمنين فيها. فالأمر المهم قطعًا هو رؤية
"الشخص" من وراء الدين والتواصل معه.
والأمر ليس أن نقرِّر، مثلاً، أنهم يهود
وأننا جَيْنيون، بل هو بالأحرى أن نفهم أن
بعضنا قادم من خلفية وموروث يهوديين، فيما
بعضنا الآخر نال تأهيلاً جَيْنيًّا.[1] ولعلنا، في
أحسن أحوالنا، أن نتمنَّى الوصال مع الحقِّ
أو الله، الذي، على حدِّ قول حكمائنا جميعًا،
ليس يهوديًّا ولا جَيْنيًّا. فإذا كُتِبَ
علينا أن ننحصر إلى الأبد في عدم التواصُل
بعضنا مع بعض إلا كهندوسي مع مسيحي، وليس كشخص
مع شخص، أشك في قدرتنا على التواصُل يومًا
كشخص مع الشخص. حين
تقوم الأديان بعملها في الإصرار على أولوية
الشخص على أية منظومة – لاهوتية أو
ميتافيزيائية أو اقتصادية أو سياسية –
ولأنها تقوم بهذا العمل، فإنها تنشغل
انشغالاً طبيعيًّا بتأهيل أناس حكماء رحيمين.
وحين ينخرط مثل هؤلاء القوم في العلم، أو في
أيِّ نشاط آخر، فإنهم يهتمون اهتمامًا
طبيعيًّا بسعادة الكائنات كلِّها، بما فيها
الأرض – ليس كتعميمات فكرية وحسب، بل
وكعلاقات محسوسة. وفيما نحن نستلهم رائيي
الماضي وأنبياءه الحكماء ونأخذ عنهم
وصاياهم، لن ننشغل بخلاصنا الشخصي وحسب، بل
كذلك بتنوير أولئك الذين سوف يستقبلون انبلاج
الفجر بالأناشيد بعد أن يكون الموت قد
غيَّبنا عن هذه الدنيا. إن تنمية شخص شمولي –
شخص يكون أقرب فأقرب إلى الشخص الأول الكوني،
فيكون أقل "أنا هذا" أو "أنا ذاك"
وأكثر "أنا هو" – هي دعوة الأديان
جميعًا، بحيث يتسنَّى لنا أن نقوم من بين
الأموات، كما أبدع القديس بولس في القول (الرسالة
إلى أهل إفسُس 4: 13)، حتى "نصير الإنسان
الكامل ونبلغ القامة التي توافق سَعَة المسيح". وكما هو
الأمر بين مختلف الأديان، كذلك هو بين الدين
والعلم. فنحن في حاجة إلى البحث في خيرة
الأشواق وأكثر الحقائق شمولية في كليهما.
هناك ملاحظة لأينشتاين تقول إن "العلم بلا
دين كسيح، والدين بلا علم أعمى" (من مقالته
"العلم والدين"). ومقدار الارتياح إلى
سماع هذا الكلام وإيقاده للقلب يجعلنا نميل
إلى قبوله في حماسة. غير أن إلقاء نظرة عليه
وعلى ملاحظة موازية للربِّ كرشنا في الـسمكهِيا
كَريكا (القرن الثاني بعد الميلاد) يكشف عن
تباينات لافتة للنظر تمامًا بين المنظورين
الشرقي والغربي إلى المعرفة والعلم. ففي معرض
كلامه على بوروشا وبركريتي – اللذين يجوز لنا
أن نترجمهما بـ"الروح" و"الطبيعة"
– يقول الرب كرشنا: "بوروشا من دون بركريتي
كسيح، وبركريتي من دون بوروشا عمياء." المسافة
الفاصلة بين القولين من حيث الزمن والمكان
والثقافة هي من الاتساع، والعقلان اللذان
صدرا عنهما هما من الأصالة، بحيث لا بدَّ لنا
من الاحتفاء بالتشابُه الموفَّق. لكننا إذا
نظرنا إلى القولين عن كثب، سنكتشف عالمًا
قائمًا بذاته من الاختلاف. مهما يكن غير ذلك
مما نفهمه من استعارتي "أعمى" و"كسيح"،
فإننا قطعًا نربط ما بين البصيرة والوضوح
والنور والإشراق وبين نقيضها العماء. جميع
المعلِّمين الكبار يقولون، بطريقة أو بأخرى،
بأن لدينا عيونًا لكننا لا نبصر، وبأن لدينا
آذانًا لكننا لا نسمع. الرؤية الواضحة من
سمات الحكمة. أما الكساح، من ناحية أخرى،
فينطوي على العجز عن العمل، نقص في الإرادة،
انعدام المقدرة، القصور في الحركة وفي
الانخراط. لذا
فإننا يمكن لنا أن نفهم أينشتاين القائل بأن
الرؤية – البصيرة، الحكمة، الوضوح، الإشراق
– تأتي من العلم؛ بينما النية والعمل
والإرادة والعاطفة تأتي من الدين. أما في نظر
الربِّ كرشنا، من ناحية أخرى، فإن البصيرة (برجنا)
والمعرفة (جنانا) والحكمة والاستنارة (بودهي)
تنتمي إلى مجال بوروشا؛ في حين أن العمل
والحركة والعاطفة – عالم الطبيعة الغليظة
واللطيفة برمَّته – تنتمي إلى بركريتي. لعلنا
أن نتفق جميعًا، بِمَن فينا أينشتاين (لو
قيِّض له أن يكون هنا ويقبل الانضمام إلينا
مستعملاً اللغة نفسها)، على أن عالم العلم
برمَّته ذو متات إلى بركريتي، التي تعني
حرفيًّا "الطبيعة"، والتي تحاول العلوم
الطبيعية دراستها. أما الدين، من ناحية أخرى،
فالمتفَّق عليه أنه يتعامل مع الروح ومع ما
يفوق الطبيعة. وهذا يطرح بعض الأسئلة الهامة
حول مفهومنا لكلٍّ من العلم والدين وحول ما
نتوقع من كلٍّ منهما، وكذلك حول التباينات في
وجهات النظر بين الشرق والغرب. كيف لنا
أن نصالح ما بين هاتين العبارتين المتشابهتين
من حيث المسمع، والصادرتين عن عقلين عظيمين
جدًّا؟ من شأن المفارقة أن تقودنا إلى
الاستنتاج بأن أحد الجانبين على حق بينما
الآخر على خطأ. قد يكون لمثل هذا النوع من
الاستنتاج تبريره في مسائل تتناول تناقضات
عادية؛ أما المفارقة العميقة فلا تطرح
تناقضًا يستوجب إزالته بمجرد اختيار أحد
طرفيه وترك الآخر. فمثل هذه المفارقات مرارًا
ما يذكِّرنا بمحدودية اللغة والمنطق والفكر
حينما يتعلق الأمر بالأشياء المهمة حقًّا.
لقد كان من عادة نيلز بوهر أن يقول بأن ضدَّ
حقيقة عظيمة هو حقيقة عظيمة جدًّا هي الأخرى. التشخيص
الأساس في الشرق للوضع البشري هو أن مأزقنا
برمَّته ينشأ من الجهل (أفديا). فالسبب الأصلي لمصاعبنا جميعًا
هو الجهل: منه ينشأ، بحسب الفيدنتا،
اللَّبْس بين الذات واللاذات، أو بين نِتْيا
(الأبدي) وأنِتْيا (الزائل) والتشبث بعالم أنِتْيا.
وبذلك ينشأ الخوف والهوام ودُكخا (الألم)
ومايا (الوهم) وأسميتا (الأنانية). لقد
رأى البوذا غوتاما وشنكرا وبَتَنْجَلي
وسواهم من معلِّمي الهند العظام جميعًا أن
أصل مشكلاتنا هو الجهل. فإذا عرفنا حقَّ
المعرفة، فإن العمل السليم سوف يستتبع ذلك في
صورة طبيعية. وإذا كانت البصيرة تقود إلى
العمل وتتحكم فيه وترشده، إذ ذاك يسود النظام
السليم – داخليًّا وخارجيًّا على حدٍّ سواء.
بعبارة أخرى، حين يرى بوروشا – الوعي، الروح،
الرؤية (وهي الوظيفة الوحيدة لبوروشا الرائي،
بحسب بَتَنْجَلي) – بركريتي ويقودها، تحصل
اليقظة، الاستنارة، الحرية، موكشا (الانعتاق)،
نيرفانا، وما شابه. وإلا فإن الشخص
يتقيَّد بـدُكخا ومايا وأسميتا وكليشا
(العوائق). أما في الأديان الغربية الكتابية
فالوضع مختلف تمام الاختلاف: فالمشكلة
البشرية الأساسية لا تُعتبَر الجهل، بل الإرادة
الذاتية. وفي صورة عامة، إن قولنا، من وجهة
النظر الكتابية، إننا في انتظار الانخراط في
العمل السليم ريثما نعرف حقَّ المعرفة لهو من
قبيل تبرير الذات. فالله قد أوحى بما ينبغي أن
يُعرَف؛ ونحن نعرف ما هو العمل السليم.
ومشكلتنا هي في عدم رغبتنا في طاعة الوصايا
والقيام بالعمل السليم. نريد أن نركب رأسنا
ونتصرف وفقًا لإرادتنا، بدلاً من العمل
بمشيئة الله. جاء في كتاب اللاهوت الجرماني:
"لا شيء يحترق في جهنم إلا الإرادة الذاتية."
(الفصل 34) وإن مكابدة الصليب – طريق المسيح –
التي لا خيار فيها برمَّتها لتتلخَّص في
كلماته الأخيرة في بستان جبل الزيتون: "أبَّا،
يا أبتِ، إنك على كلِّ شيء قدير، فاصرف عنِّي
هذه الكأس. ولكن لا ما أنا أشاء، بل ما أنت
تشاء." (إنجيل مرقس 14: 36) في
الشرق، الحاجة، من أجل تدارُك الوضع البشري
العام، هي إلى المعرفة الحق، لأن المعرفة
السليمة تقود إلى العمل السليم. أما في الغرب،
فالحاجة هي إلى العمل السليم – إلى طاعة
مشيئة الله؛ فذلك هو تعريف الإيمان بحسب
القديس بولس – إذ إن العمل السليم يقود إلى
المعرفة السليمة. وحين يتكلَّم فيفيكانندا
على الجمع بين العلم والدين، فإن للعلم، في
نظره (على غير ما يرى أينشتاين)، متاتًا إلى
بُعد العمل، بينما اليوغا يتصل ببُعد
الإدراك والبصيرة الحق. ينتمي
أينشتاين – في هذه النقطة على الأقل – إلى
الموروث الكتابي إلى حدٍّ كبير؛ فلا غرو أن
يصنف الدين في خانة العمل والحركة والنية وما
شابه. فالبصيرة في نظره تنتمي إلى جهة العلم –
بما هو دراسة لرقصة بركريتي، وهو نفسه جزء من
بركريتي. أما في نظر الربِّ كرشنا، فالبصيرة
تُنال عبر ممارسة رياضة يوغا الروحية
العملية. وباتباع الرياضة المعتادة، في وسعنا
أن نوسِّع استعمال اليوغا ليشمل أيَّ
طريق روحي – بما يمكن أن يشمل العلم حتى كطريق
روحي في نظر أولئك الذين يسلكونه تحدوهم تلك
النية. يمكن للمرء أن يقول حينئذٍ إن لدينا في
العلم والروحانية نوعين مختلفين من المعرفة
أو البصيرة، وليس المعرفة من جهة والإيمان من
الجهة الأخرى – اللهم باستثناء معنى باطنيٍّ
عميق للإيمان، وهو معنى لطيف وحقيق بالاهتمام.
ثمة نوع معيَّن من المعرفة في العلوم ونوع آخر
من المعرفة في الرياضات الروحية، كاليوغا
والتصوف والزِنْ أو الصلاة القلبية. غير أن
طبيعة البصيرة والمعرفة والإدراكات المتصلة
بالأمر في مجال العلم مختلفة تمامًا عنها في
عالم الروحانية. وفي وسع المرء أن يستقي
الأمثلة من الممارسة الفعلية لكلٍّ من العلم
والروحانية؛ لكن ليس هاهنا مجال تناولها
بالتفصيل.[2] إن
القصد من الرياضات الروحية كافة – وهي شيء
غير الأديان – هو الربط بيننا وبين الأبعاد
الروحية (اللامادية، أي التي ليست من طبيعة
بركريتي، بما فيها المستويات المادية
اللطيفة). وهذا التناغم مع الأبعاد الألطف
للوجود ممكن فقط بتنقية إدراكاتنا العادية
وبتهدئة الذهن. إن المطلوب في التأمل، كما في
أية صلاة جدية، هو الحضور في السكينة وإسكات
الجسم والذهن والانفعالات، بحيث يستطيع
المرء أن يصغي إلى سقوط بتلة وردة، إلى صوت
الخواطر وهي تنشأ، وإلى الصمت بين الخواطر. إن
نشوء الخواطر والانفعالات هو جزء من لعبة
بركريتي؛ ومشاهدة هذه اللعبة في سكينة تامة،
دون أيِّ اضطراب، تنتمي إلى مجال بوروشا. فمن
دون حضور بوروشا الرائي، تبقى بركريتي عمياء،
تائهة في الحركة والعمل المائجين؛ لكن بوروشا
يحتاج إلى بركريتي من أجل النشاط القصدي.
والحكيم، متيقظًا دون اضطراب، وذاتُه
متمركِزة دون أن يكون متمركزًا على ذاته، لا
يفعل شيئًا، أو بالحري لا يفعل شيئًا يخصه هو
أو من أجل ذاته، لكن كلَّ شيء يتم من تلقاء
نفسه (وهذا هو جوهر الطاوية الصينية). فكما قال
المسيح: "إن الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله
من عندي، بل الآب المقيم فيَّ يعمل أعماله."
(إنجيل يوحنا 14: 10) وفي غير مكان، يقول الكتاب:
"الرب يحارب عنكم وأنتم هادئون." (سفر
الخروج 14: 14) إن اللب
من كلِّ رياضة روحية هو الحرية من الأنية
الأنانية المعزولة والعازلة، بحيث يستطيع
المرء أن يرى بوضوح أكبر ويتواصل مع الكل
تواصلاً أكثر فأكثر محبة وإيثارًا. فلا معنى
للبصيرة أو للحكمة أو للحقيقة مطلقًا ما لم
تعبِّر عن نفسها في المحبة والرحمة. لقد قال
الحكماء في المنقولات الكبرى قاطبة، بآلاف
مؤلَّفة من الطُّرُق، بأن المحبة هي خاصية
أساسية من خواص الكون؛ لا بل إنها ليست خاصية،
بل مكوِّنٌ أساسي من مكوِّنات الحقِّ الأسمى.
الـرِغْ فيدا يقول: "في البدء فاض الحب."
(10، 129: 4) والعهد الجديد يؤكد: "الله محبة: من
أقام في المحبة أقام في الله وأقام الله فيه."
(رسالة القديس يوحنا الأولى 4: 17) والتنقيب عن
هذه المحبة العظمى في قلب الكون نفسه هو، في
آنٍ معًا، بداية الطُّرُق الروحية ونهايتها،
معبَّرًا عنها كخدمة ورأفة ورحمة، وفي المآل،
كوحدة مع الكائنات قاطبة. ففي النشيد الأخير
نفسه من سِفْر "الفردوس" في الكوميديا
الإلهية، يعبِّر دانتي عن رؤياه للسماء
العليا: هناك
كانت إرادتي ورغبتي مندغمتين
في المحبة – تلك
المحبة التي تحرِّك الشمس
والنجوم الأُخَر. إن كلَّ
المنقولات الكبرى، بطُرُق مدهشة الاختلاف،
ذهبت إلى أن الحقَّ الأسمى – أكان يسمَّى
الله، "المبدأ الأول"، "العقل الأصلي"،
برهمن (حرفيًّا، "الواسع")، أو في بساطة
"هو" – هو الحقيقة وهو المحبة. وفي
أيامنا، ذهب المهاتما غاندي – بما يكاد أن
يقترب من معادلة روحية عملية (المطلوب هو
الوعظ بها أقل والعمل بها أكثر) – إلى أن الله
= الحقيقة = المحبة. وقد جاء في كتاب اللاهوت
الجرماني: "كما أن الله هو الخير البسيط
والمعرفة الباطنة والنور، فهو، في الآن نفسه،
إرادتنا ومحبتنا وبرُّنا وحقيقتنا – أكثر
الفضائل كافة بُطونًا فينا." إن
تحقيق هذه الحقيقة، التي أُنعِمَ بها على
أعمق الحكماء بصيرةً من البلدان والثقافات
قاطبة، ليس شيئًا يمكن أن يخضع للتجريد
الذهني أو يُعلَّب أو يُحزَم في صرَّة. فهذه
البصيرة تتطلَّب اكتسابها وعيشها والاحتفاء
لها على نحو موصول. وفقط عندما وحيثما يصير
هذا التحقيق شيئًا عيانيًّا، نجد فيضًا من
حياة الروح. الرياضات الروحية معنيَّة جميعًا
بالتكامل وبالكلِّية – وبصفة أخص بالتكامل
بين الحقيقة والمحبة. فالمحبة مطلوبة لمعرفة
الحقيقة، ومعرفة الحقيقة تعبِّر عنها المحبة.
يقول كرشنا في البهغفدغيتا (7: 17): "عارف
الحقيقة يحبني بحرارة" – لا بل ويقول: "فقط
عبر المحبة الدائمة يمكن لي أن أُعرَف
وأشاهَد في صورتي [الكونية] الحقيقية،
ويُدخَل فيَّ." (11: 54) وأظن أن المعلِّم
إكْهَرْت هو القائل: "ما نوهَب إياه في
المشاهدة نمنحه في المحبة." وهناك ملاحظة
أقرب إلينا يقولها الأرشمندريت فاسيليوس من
جبل آثوس: "إذا لم تنكشف حقيقتُنا في
المحبة، فهي كاذبة. وإذا لم تَفِضْ محبتُنا من
الحقيقة فهي لا تدوم." (من نشيد الدخول) بالطبع،
يمكن للبحث عن المحبة أن يصير مجرَّد أمنية
شخصية في إيجاد الراحة والأمان، مثلما أن
البحث عن الحقيقة يمكن له أن يصير، إلى حدٍّ
كبير، تلاعُبًا تكنولوجيًّا بالطبيعة في
خدمة العسكريين أو الصناعيين – في خدمة الخوف
والجشع. فكلما جرى الفصل بين الحقيقة والمحبة
فإن النتيجة هي الوقوع في العاطفية المائعة
أو في العقلانية الجافة التي يقع فيها الطلاق
بين المقدرة والرحمة. والانحياز يحمل في
ثناياه دومًا بذور العنف والخوف. وهكذا، باسم
"إلهنا المحب"، قُتُل أناس كثيرون، كما
طُوِّرَ الكثير من الأسلحة الفتاكة بناءً على
التزام بـ"المعرفة المحض". لكن هذا ليس
خير ما في الإنسانية – سواء في العلم أو في
الدين. فالبشر المتكاملون، من كلِّ الثقافات
والعصور، فتشوا عن كلا الحقيقة والمحبة،
البصيرة والمسؤولية، الحكمة والرحمة.
فالنفس، فوق الذهن، تسعى إلى الكلِّية؛ وبهذا
يمكن لها أن تتصل بالحكمة وبالرحمة. كيف
ينبغي لنا الآن أن نعيد صَوْغَ عبارة كلٍّ من
أينشتاين والربِّ كرشنا؟ هل لنا أن نقول، على
سبيل المثال، بأن "البصيرة من غير عمل رحيم
كسيحة، والرحمة من غير حكمة عمياء"؟ جميع
الحكماء قالوا، على كلِّ حال، إن البصيرة
الحق تتفتح تفتحًا طبيعيًّا عن الرحمة
والمحبة، مثل أريج الوردة. وقولنا إن بوذا –
امرؤ لديه ملَكة التمييز – عديم الرحمة هو من
قبيل الجمع بين نقيضين. إن أية
مصالحة حقيقية بين العلم والروحانية لا يمكن
لها أن توجد في تعايُش بين مجرَّدات ذهنية.
فالحقيقة الروحية – على غير الحقيقة العلمية
– هي دومًا مسألة إدراك مباشر، هو كلِّي
بالدقة لأنه يكشف عن "دقائق الخصوصيات"
بالمعنى الذي يقصده وليم بليك أو بَتَنْجَلي،
الذي يقول في اليوغا سوترا (1: 49): "المعرفة
المتحصَّل عليها استدلالاً وقياسًا تختلف عن
المعرفة المباشرة [المتحصَّل عليها في حالات
الوعي العليا] لأنها تختص بموضوع معيَّن."
وهذه هي علة تشبث المنقولات الكتابية باختبار
إله هو شخصٌ واحدٌ أحَدٌ – أو بوروشا فيشيشا،
بلغة اليوغا سوترا (1: 24). لا بل إنه قد يكون
أنه، في حالات أعلى من حالات الوعي، ينتقل
الإدراك من إدراك دقائق الخصوصيات الراسخة في
الكلِّية إلى إدراك الوحدة غير المتمايزة،
بحيث إن ما يبقى هو الرؤية المحضة من دون
رؤية أيِّ شيء سواها. وأية تكن الخبرة في هذه
الحالات السامية على قمة الجبل، إذا جاز
القول، تبقى الرؤيا الروحية مسألة إدراك
مباشر. إن نظرة
أينشتاين إلى الله لا تقوم على لقاء من نمط
أنا–أنت لدقائق الخصوصيات العيانية. فهو يجد
أن من المتعذَّر المصالحةَ بين العلم
والإيمان في إله شخصي. هو ذا يقول، على سبيل
المثال، في "العلم والدين": إن
المصدر الرئيسي للنزاعات الحالية بين
فَلَكَيْ العلم والدين يكمن في هذا المفهوم
عن إله شخصي. [...]
في كفاحهم في سبيل الخير الأخلاقي، ينبغي على
معلِّمي الدين أن يتحلوا بقامة روحية تؤهلهم
للتخلِّي عن عقيدة الإله الشخصي، أي التخلِّي
عن مصدر الخوف والأمل الذي وضع في الماضي كلَّ
هذا السلطان الهائل في أيدي الكهنة. وفي
جهادهم لا بدَّ لهم من أن يستفيدوا من تلك
القوى القادرة على تنمية الخيِّر والحقيقي
والجميل في الإنسانية نفسها. وهذه، جزمًا،
مهمة أصعب، لكنها مهمة أجدر بما لا يقاس. أية
كانت المصاعب التي قد يجدها أينشتاين في
مفهوم الإله الشخصي، فإن الإدراك الروحي ليس
والتعميم أو التجريد الفلسفي أو العلمي من
نوع واحد. إن باسكال أشد إخلاصًا للفهم
الكتابي لله الذي قاده اختبارُه إلى اتخاذه
أبدًا عبارة "إله إبراهيم وإسحق ويعقوب –
لا إله الفلاسفة والفقهاء" شعارًا
شخصيًّا، لأن الله، في نظره، هو مسألة خبرة،
وليس مسألة استدلال من قضية فلسفية أو فرضية
علمية. كلا
الإدراكات الروحية المباشرة الفائقة للحس،
من ناحية، والتنظير والاختبار العلميين
المتعقِّلين والتجريدات الفلسفية المقابلة،
من ناحية أخرى، يمكن لهما، من حيث المبدأ، أن
يتعايشا في الشخص نفسه – مهما كانت ندرة
الأمثلة الفعلية على هذا الأمر. ففي نَفْس
الشخص التام نفسه تتجلَّى الحاجة إلى حدوث
المصالحة – بحيث يمكن للعمل القصدي أن يتمَّ
من دون تمركز على الذات، وتزدهر الفردية من
دون أنانية، وتتحقق الوحدة مع الكل من غير
فقدان للفَرادة. وبالعودة
إلى مفارقتنا، هل لنا أن نقول إن "الدين من
غير معرفة علمية غير فاعل، لكن العلم من غير
إدراك روحي عديم المعنى"؟ هناك
تظهر ضرورة اللجوء إلى حضور السرِّ أو العودة
إليه، والتعويل عليه، فوق كلِّ شيء وأكثر من
أيِّ شكل، علميًّا كان أم دينيًّا. فلأختمْ
مرة أخرى بإيراد عبارة لأينشتاين (أفكار
وآراء): أجمل
شيء في وسعنا أن نختبره هو السر المبهم. إنه
منبع كلِّ فنٍّ وعلم حقيقيين. [...] إن معرفة أن ما يستعصي
علينا موجود حقًّا، متجلِّيًا بوصفه الحكمة
الأسمى والجمال الأبْهر اللذين يمكن
لمَلَكاتنا الكليلة أن تدركهما في أكثر
صورهما بدائية وحسب – هذه المعرفة، هذا
الشعور، هو من التديُّن الحقيقي مركزُه. ***
*** *** ترجمة: ديمتري
أفييرينوس * رافي رافندرا أستاذ علم
الأديان المقارن والفيزياء في جامعة
دالهاوزي، كندا. آخر مؤلَّفاته العلم
والمقدَّس. [1] الجينية من أديان الهند؛
أسَّسها جينا (الملقَّب بـ"مهافيرا")
في القرن السادس ق م. غايتها الارتقاء
بالإنسان إلى الانعتاق من دورة الولادات
والميتات، وأداتها في ذلك ومبدؤها الأساسي
اللاعنف، أي كفُّ الأذى عن المخلوقات كافة،
حيِّها وجمادها. (المحرِّر) [2] فليراجع القارئ كتابي العلم
والمقدِّس للوقوف على هذه المسائل بشيء
من التفصيل. |
|
|